أرشيف التصنيف: حوارات

تدشين “العبور المبدع” وسط رسوم تشكيلية

[et_pb_section bb_built=”1″][et_pb_row][et_pb_column type=”4_4″][et_pb_text]

تدشين “العبور المبدع” وسط رسوم تشكيلية

الديري: قد يراوغ المجاز أو يزيد الغموض لكنه لا يخفي الحقائق

البلاد: هدير البقالي

غالباً ما تتم اللقاءات وجها لوجه، أو عبر وسيلة إلكترونية بالفاكس أو الإيميل، أو عبر رسالة تبعث بالبريد، لكن ما حدث مع “$”، أنها أرسلت عبر “الموبايل” رسالة نصية إلى الناقد علي الديري الذي كان متواجداً خارج البحرين، فالتكنولوجيا الحديثة لم تعد عائقا معرقلاً، إضافة إلى أن الديري لم يرفض/ يعتذر عن الإجابة، علما أنه كان على متن الطائرة وقت عودته للوطن حينما أرسل نص الإجابات.
والديري يوقع اليوم بغاليري الرواق، كتابه الموسوم بــ “العبور المبدع”: استراتيجيات التفكير والتعبير، باستخدام المجاز” مع عرض مجموعة من رسوم الكتاب للتشكيلي عباس يوسف. وفيما يلي نص الحوار:

حوار البلاد

ما موضوع كتابك “العبور المبدع”؟
بالمعنى الضيق “العبور المبدع” ليس كتاباً، لكنه ورشة للكتابة، ورشة تدريب تأخذك إلى جرأة الكتابة. ليست هناك نصائح ولا تعليمات ولا خطوات ولا خطة. هناك عملية حيوية مليئة بالمتعة والخيال نسميها دينامكية الكتابة، ورشة هذا الكتاب تدخلك مباشرة إلى قلب هذه العملية، عبر استراتيجية اللعب بالمجازات (التشبيهات، الاستعارات، الكنايات، القصص، الحكايات، الأمثال). لن يقول لك الكتاب كيف تستخدمها، لكنه سيجعلك تستخدمها بطلاقة ومرونة وأصالة، وتلك هي شروط الإبداع.

كيف يقرأ علي الديري حضور المجاز في اللغة؟
دعيني أقرأه أولا في سؤالك، أنت استخدمت الـ (حضور). نحن نفهم هذا الفعل من خلال تجربتنا المادية المباشرة، فنقول حضرت المحاضرة وحضرت الفصل. فأنت هنا استخدمت شيئاً مألوفا ومعروفا لتري من خلاله شيئا غير معروف أو مألوف وهو (حضور المجاز في اللغة).
اللغة تحضر الأشياء والعالم إلى وعينا، تلك وظيفتها التي لا يكف الفلاسفة وعلماء اللغة عن الجدل حولها، ويزداد هذا الجدل حين يتعلق الأمر بالمجاز. أنا أتبنى الفكرة التي تذهب إلى أن المجاز مسألة عقلية لا لغوية. العقل لا يحضر الأشياء إلا عبر أشياء أخرى أكثر ألفة لديه، وهذا هو معنى المجاز. أن تحضر شيئا من خلال شيء آخر، وحين تحضره يمكنك أن تراه وتتواصل معه وتتمكن منه وتألفه.
الجسد هو الأكثر ألفة لوعينا، أنفك ويدك ولسانك ورجلك وعينك كلها جسدك وخبرتك المادية بها تجعلك ترى الأشياء والأفكار والعالم من خلالها. العقل يشتغل إذن بطريقة يجتاز بها جسده ليصل إلى ما يريد. ولغته مركبة وفق مقاس جسده ومحيطه الذي يتحرك فيه.

لمَ كل هذا الاهتمام بالمجاز؟
لأن المجاز الذي أنا معني به ليس فرعا من فروع البلاغة القديمة بل هو نظرية من نظريات العقل وعلوم الذهن والخيال. توسع حقل المجاز وموضوعه فاتسع الاهتمام به. المجاز يضم عائلة هي التشبيه والاستعارة والأمثال والكناية. لا أنظر للمجاز على أنه فن بلاغي لتجميل المعنى وتفخيمه وزخرفته، هو آلية من آليات عمل العقل وإدراكه، وهو استراتيجية خطابية لقول الحقيقة وآلية إقناعية وإعلامية لتعميم قناعات معينة. وبهذا التوسع صرت تعبر حقولا معرفية كثيرة حين تشتغل في المجاز.

كيف تربط اللغة العلمية “لغة الاختراع” بالمجاز؟

علينا أن نفهم المجاز على أنه آلية من آليات الخيال، لا يمكنك أن تدرك حقائق العلم من غير خيال، في الخيال أنت لا تغادر الواقع، أنت توسع حواسك الإدراكية لتستوعبه. والمجاز هو آلتك لتوسعة خيالك. في كتاب (بنية الثورات العلمية) كان مجاز الثورات السياسية هو أداة خيال توماس كون، ليرى كيف تشتغل النظريات العلمية وكيف تتطور وكيف تتغير. كيف يحدث الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر(paradigm). لم يكن مجازا عابرا أو مجازا توضيحيا هامشيا، بل كانت بنية الثورات السياسية والاجتماعية هي العين التي رأى من خلالها بنية الثورات العلمية، والمجاز عين.

هل ثمة فوارق في المجازات جغرافيا؟ بمعنى كيف تؤثر البيئة في المجاز؟
الجغرافيا هي المكان والإنسان يألف مكانه ويرى من خلال مكانه، لو رجعنا إلى المعجم العربي، فسنجد مألوفات البدوي من الخيمة والناقة هي التي كان من خلالها يرى ويقول فيصنع لغته، ولغتنا الفلسفية مأخوذة من هذه اللغة، لذلك لا يمكن أن تلعب بأي مفهوم فلسفي من دون أن تلعب بمعانيه الحسية المجازية التي جاء منها، وهذا ما يسميه طه عبدالرحمن التأثيل. وإحدى أهم مشكلاتنا في فهم مفاهيم المدارس الفلسفية والنقدية الحديثة، تكمن في أننا نعتقد أن معانيها المفهومية لا علاقة لها بأصولها الحسية التي جاءت منها. بل إننا نقوم باجتثاث المعاني المعجمية والتداولية للكلمة العربية كي نجعلها تتطابق مع مفهوم مترجم من لغة أخرى. الجغرافيا تمد المفاهيم بأرض قوية للعب والتصرف والإبداع. لكن عليك أن تجتاز هذه الجغرافيا كي تعبرها نحو جغرافيات غير مكتشفة، وبهذا العبور المبدع تتسع جغرافيتك ومفاهيمك وثقافتك ولغتك وحضوراتك في العالم.

إلى ماذا تخلص قراءات الديري في المجاز؟ وعلى أي النهايات تقف؟
المجاز استراتيجية عبور، تخلصك من وهم ما أنت فيه وهو نهاية الأشياء ومنطقة الثبات، ويأخذك دوما إلى مناطق جديدة، تفتحك على حقول معرفية ومجالات عمل ومفاهيم جديدة دوما. أستمتع بالفلسفة وهي تبتكر مفاهيم الحياة من الحياة نفسها، من حواس الإنسان وجسده، وأجد متعة في تحليل الخطاب وهو يعلمك كيف تفكك منطق الخطابات المبنية بمجازات تتوفر على درجة عالية من الإقناع الجماعي، وأتأمل في مجازات الكلام اليومي وأرى كيف يخلق مناخات تواصل وتنافر، وأرقب الخطاب السياسي وأرى كيف يسوس الحياة العامة. وأستمتع كذلك بتحويل هذه الأفكار إلى ورش عمل، وكتابي (العبور المبدع) هو ورشة عمل حول المجاز وطريقة استثماره في تطوير مهارات الكتابة.
لنقل أن اشتغالي على موضوع المجاز فتحني على علوم كثيرة وتخصصات معرفية متعددة وأنشطة عمل تطبيقية.

أين يقف المعنى إن كان الكلام كل الكلام “مجازا”؟ أليس نصك مجازا أيضا أي إنه أيضا غير أصيل وغير حقيقي؟
المعنى لا يقف، المعنى سيال ومتحرك ومتغير، ذلك بفضل طبيعته المجازية، وهذه الطبيعة هي أصالته وحقيقته. هذا لا يعني أنه لا توجد حقائق في العالم ولا يوجد واقع ولا توجد أشياء ولا يوجد خارج. لا يوجد كلام يمكن أن نعتبره هو الأصيل وهو الحقيقي وهو القادر… المجاز يقول لك حين ترى السماء وما وراءها، فأنت ترى حقيقة السماء وما وراءها من خلال حقيقة الأرض، وترى حقيقة الروح من خلال حقيقة الجسد، أي إنك ترى حقائق العالم من خلال حقائق أخرى، فتظل حقائق الأشياء نسبية أي منظورا لها من خلال نسبتها لشيء.

أي حقيقة تلك التي نخاف منها لنختبئ خلف المجاز نصا ونقدا؟
المجاز يكبر الحقائق لا يصغرها لنختبئ، لكنه أحيانا أو كثيرا، حين يستخدم في النصوص الإبداعية فإنه يجعلها أكثر غموضا كي لا تنكشف بسهولة، وحين يستخدم في النصوص السياسية والإعلامية فإنه يرواغ حقيقة ما. مهمة النقد تفكيك هذه المجازات، وهو لا يمكنه أن ينجز هذه المهمة إلا حين يفهم طريقة عملها في صياغة الحقيقة.

http://www.albiladpress.com/

[/et_pb_text][et_pb_image _builder_version=”3.0.100″ saved_tabs=”all” src=”https://awalcentre.com/Aldairy/wp-content/uploads/2009/06/untitled4.bmp” show_in_lightbox=”off” url_new_window=”off” use_overlay=”off” always_center_on_mobile=”on” force_fullwidth=”off” show_bottom_space=”on” global_module=”1838″ /][/et_pb_column][/et_pb_row][/et_pb_section]

حوار مع عصام عبدالله

حاورته « الوقت » في سياق ندوة بجمعية المنتدى.. المفكر عصام عبدالله:

«تنويريونا» لم يرفعوا الوصاية عن العقل.. وحين الحسم لم يحسموا

 

من منا لم يردد مرة واحدة على الأقل في حياته كلمة ”عولمة” و”حداثة”، دلالة على مفاهيمية عصر جديد أخذ يكتسح. لكن هل سألتم أنفسكم أين نقف بالضبط على رقعة هذا العصر* اسمعوا الدكتور عصام عبدالله، أستاذ الفلسفة الحديثة بجامعة عين شمس والمتخصص في علم تاريخ الأفكار، ماذا يقول. ”نعيش النسخة الثانية، المزيدة والمنقحة من النقد الكانطي” نسبة إلى آخر فلاسفة عصر التنوير الألماني عمانويل كانط. لكن ماذا يعني ذلك؟ اسمعوا إليه مرة أخرى. ”إنها مرحلة نقد النقد، حيث غدا السؤال ما هو قدر التعددية والاختلاف داخل التعددية والاختلاف” بحسب تعبيره. كلمات شائكة ما من شك، لكن في هذا الحوار الذي أجرته معه ”الوقت” بواسطة البريد الإلكتروني قبيل مجيئه إلى البحرين بمناسبة مشاركته يوم أمس الأول في ندوة بجمعية المنتدى ذات التوجه الليبرالي، يجيب عصام عبدالله إسكندر عن كل الإشكالات التي ترافق طرح هذا النوع من الأسئلة. وهذه مقتطفات:

New Picture (6)

دعني أدخل على سيرة تكوينك الفلسفي، كيف صرت مختصاً في الفلسفة؟

– نشأت يتيماً محملاً بكل الأسئلة الميتافيزيقية، عن معني الموت والحياة والوجود وما بعد الوجود، وعلاقة الأرض بالسماء واستكشاف المجهول والخفي (البحث عن الحقيقة)، فقد عرفت فيما بعد أن كلمة ”الحقيقة” باللغة اليونانية، كما أضاءها هيدجر هي (انكشاف الخفي والمحتجب).

في المدرسة الابتدائية وكانت (إنجليزية) درست في الصف الثاني قصة بعنوان ”الغواص” تدور أحداثها في البحرين حول غواص ماهر اسمه ”حامد” أحب بنت شيخ الصيادين وكانت رائعة الجمال، وطلب أبوها مهرا عبارة عن لؤلؤة نادرة غالية الثمن، وقد لاقى هذا الحامد المسكين أهوالا في أعماق الخليج، لكنه نجح في النهاية في اقتناص هذه اللؤلؤة وتزوج من محبوبته. ولك أن تتخيل ما تركته هذه القصة في نفس وعقل ووجدان طفل عمره سبع سنوات (وكانت مقررة على كل المدارس الإنجليزية في مصر وقتئذ). لقد عرفنا معني الحب والتضحية والمثابرة والمغامرة والإرادة والتنوع والتعدد والاختلاف.. من دون كلمة إنشائية واحدة تشرح هذه المعاني أو تنظر لها!.

تعرفنا على أنواع وألوان وأحجام للأسماك واللآلئ، وكيف نبحر إلى أعماق الأشياء ولا نقف فقط عند سطوحها، وأن الحياة هي رحلة مليئة بالتحديات والأهوال والانتصارات أيضا، وأن الحب قيمة سامية تتطلب التضحية والعطاء وركوب الصعاب.

كل القضايا الفكرية سياسية

المهم أنني اكتشفت موهبتي في الرسم بسبب هذه القصة، فقد كان علينا أن نلون بعض الرسومات للأسماك وقوارب الصيد. وفي الصف الأول الثانوي قررت أن أدرس الفلسفة وأتخصص فيها بعد أن اكتشفت عصر النهضة الأوروبية من خلال منهج التاريخ المقرر علينا، وهو العصر الذي اكتشف فيه الإنسان الأرض والسماء معاً، عصر الكشوف الجغرافية والثورة الكوبرنيقية والنزعة الإنسانية، وعظماء التاريخ: ليوناردودافنشي، مايكل انجلو، ميكيافيللي، مارتن لوثر، جوردانو برونو، بومبوناتزي، جاليليو، مونتيني، إرازموس، سرفانتيس، وغيرهم.

وبالفعل كانت رسالتي في الماجستير حول ”الفكر اليوتوبي في عصر النهضة الأوروبية” أو قل ”المدن الفاضلة” من خلال علم اجتماع المعرفة عند كارل مانهايم، وكل يوتوبيات النهضة عند توماس مور، فرنسيس بيكون، كامبانيللا، ورابليه هي جزر نائية رائعة الجمال توجد في أعالي البحار، وهي تشبه الجزر التي كان يغطس حولها حامد ويصطاد اللؤلؤ.

ثم تخصصت في الدكتوراه في علم تاريخ الأفكار وما بعد الحداثة، ودارت أبحاثي بعد الدكتوراه حول ”الآخر”، ”التسامح”، و”الرشدية اللاتينية في إيطاليا”، و”العقيدة المجردة”، فضلا عن مؤلفاتي الفلسفية الخالصة حول أعلام الفكر الفلسفي المعاصر: ”جاك دريدا : ثورة الاختلاف والتفكيك”، ”يورجن هابرماس”، ”إيمانويل ليفيناس”، و”الأسس الفلسفية للعولمة” وهو أحدث كتاب لي صدر في يناير/ كانون الثاني ,2009 عن المجلة العربية بالمملكة العربية السعودية.

في معظم كتاباتي أمزج الفلسفة بالعلوم الإنسانية الأخرى كعلم الاجتماع، علم النفس، والتاريخ، ولم تغب عنها السياسة قط، فكل القضايا الفكرية هي قضايا سياسية داخل الفكر كما يقول ألتوسير.

الاختلاف هو الهدف

كيف تصف المشهد الفلسفي اليوم على مستوى العالم؟

– لأنه يتطلب إلماما واسعاً وعميقاً بالمياه الجوفية المحركة لعالم اليوم، إن إحدى التحولات الفكرية الأساسية، هو التحول من ”الوحدة” إلى ”التعدد”، وصار التعدد والاختلاف هو الهدف، أما الوحدة فيعترف بها فقط من خلال النظر إلى الاختلافات أو من خلال وضع التمايزات في الاعتبار، وهذا يبدو فيما احتلته ”الهوية” من أهمية متزايدة ومتنامية، وما يتعلق بها من مفاهيم مثل: ”الآخر”، ”الخصوصية”، ”الكونية”، ”الحوار”، ”التواصل”، ”الصراع”، ”الاعتراف”، ”التسامح”، ”الديمقراطية”، ”الليبرالية”، ”التعدد”، ”الاختلاف”، و”العولمة”.. الخ.

ديمقراطية الأخ

الأمر الثاني انتفت صفة القداسة عن الكلمات، في عصر العولمة وما بعد الحداثة، ولا يوجد مفهوم مطروحاً للتداول والنقاش على بساط البحث لا يطاله النقد أو غير قابل للنقد، فنحن نعيش الموجة الثانية من ”النقد” الكانطي أو النسخة الثانية (المزيدة والمنقحة) وهو ”التفكيك” الدريدي، ويتميز عن النقد بأنه ”نقد للنقد”، كما أنه التطبيق العملي ”للنقد المزدوج” حسب صديقنا عبدالكبير الخطيبي، فأصبح السؤال هو: ما قدر التعدد والاختلاف داخل التعددية والاختلاف؟.. ماذا تعني كلمات مثل ”تعدد”، ”تنوع”، و”اختلاف” أساسا؟.. وماذا يعني الانتخاب اليوم بعد أن كبلت الدول الديمقراطية بالاتفاقيات الدولية؟.. هل نحن على أبواب ”ديمقراطية الأخ” التي حذرنا منها فلاسفة الاختلاف؟

ما أبرز الفاعلين على مستوى هذا المشهد؟

– فلاسفة ما بعد الحداثة، أو قل فلاسفة الاختلاف في فرنسا، ميشيل فوكو، جيل دولوز، جاك دريدا، وجاك لاكان وغيرهم، بالتوازي أحيانا والتقاطع أحياناً أخرى مع الألماني ”يورجن هابرماس” شيخ الفلاسفة في العالم، وتكشف جهودهم الفلسفية المهمة عن أن الأمور ليست كما تبدو لنا، وإنما هي تمضي من دون توقف نحو ”التماثل” و”التشابه” لا التعدد والاختلاف، وهنا مكمن المفارقة، وإن شئت المراوغة، فهي تقر وتعترف بالتعدد والاختلاف والتنوع، ولكن من أجل إلغائه ودمجه في ”وحدة ” هي ”وحدة معنى” أو ”هوية مبنى”، حسب تعبير عبدالسلام بن عبدالعالي.

العالمية إلغاء للغيرية

إن ”منطق الشبيه والمثيل” The Same – Exemplar إذا استعملنا لغة دريدا في ”سياسات الصداقة” هو منطق شمولي استعلائي يرفض الآخر وينبذ الاختلاف. وقد دشن فيلسوف الغيرية إيمانويل ليفيناس النقد الجذري لفكرة الشبيه، ذلك أن تحويل الذات إلى موضوع أو في التعامل مع الآخر كموضوع يعد عملاً تعسفياً. وسبق لإدوارد سعيد في كتابه ”الاستشراق” الصادر العام 1978 أن نبه إلى أن تحويل الذات إلى موضوع يحط من إنسانية الآخر، وهو رفض لحقه في الوجود كانسان له تاريخه وثقافته وطريقته الخاصة في الحياة.

ويري أنه إذا ما كانت هناك من أخلاق خالصة فهي تلك الأخلاق التي لا تبغي امتلاك الآخر لأن كل معرفة هي سيطرة. وهي الفكرة نفسها التي دافع عنها ”ليفيناس” حين تحدث عن ضرورة الحفاظ على مسافة أو قطيعة بين الأنا والآخر، فكل معرفة سلطة وكل سلطة عنف.

من هنا دعا إلى أخلاق تتأسس على المسؤولية تجاه الآخر، أو ما يسميه ليفيناس بعلاقة ”وجه – لوجه” وليس ”كتف – لكتف” التي تسود المجتمعات الشمولية. وهي فكرة أو تقليد لا يسود الفلسفة الغربية وحسب ولكن أيضاً كل المجتمعات القبائلية والعشائرية والأبوية، التي تمجد ”الأخ” وتعلي من شأن ”الأخوة”.

فقد حذر دريدا في كتابه ”سياسات الصداقة” وفي كتابه ”مارقون” من الديمقراطية المقبلة، ودعا إلى نبذ منطق الأخ والشبيه. يقول ”لا خطر على الديمقراطية المقبلة إلا من حيث يوجد الأخ، ليست بالضبط الأخوة كما نعرفها، ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، وتسود دكتاتورية سياسية باسم الأخوة”.. فالدعوة إلى الأخوة العالمية اليوم، على سبيل المثال، قد تلغي الغيرية وكل حق في الاختلاف، وهو ما تنبهنا إليه الفلسفة.

مرت على مصر تيارات فلسفية كبرى، وتمثلتها شخصيات ثقافية وسياسية هي اليوم جزء من تاريخ الثقافة العربية. كيف تؤرخ لهذه التيارات والشخصيات؟

– أغلب القضايا الفكرية المثارة اليوم، كان يفترض أن يكون النزاع حولها قد حسم منذ عهد مضى، وهذه المجموعة البسيطة من الأفكار والمفاهيم المتناثرة في كتابات المثقفين الجذريين، كان ينبغي أن تكون قد استقرت لدينا منذ ما يقرب من القرن، علي الأقل.

وهنا يبدو المأزق الحقيقي الذي تعرض له أكبر مشروع ثقافي للتغيير الاجتماعي في القرن العشرين، الذي لم يتوافق أبرز فرسانه – الدكتور فؤاد زكريا تحديدا – مع حركة التاريخ في المجتمع العربي، ومع هذا، أصر في شجاعة علي الإمساك براية العقلانية والتنوير، والإبقاء عليها مرفوعة عاليا، رغم عواصف المتعصبين وسطوة المتعملقين.

ففي بداية القرن العشرين، كانت العلمانية مشروعا متكاملا، يقف في مواجهة مشروع إسلامي آخر، كان موجودا بصورة أكثر تواضعا، وأقل عنفا وعدوانية. وتركت العلمانية أثرها في أجيال عدة (لطفي السيد، سلامة موسى، وطه حسين، لويس عوض، زكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا وغيرهم)، وهو أثر ضمني، بل إن جزءا كبيرا من الثقافة العامة لمصر طوال الثلاثة أرباع الأولى من القرن العشرين كانت تصطبغ بالصبغة العلمانية، ولا يكاد يوجد مفكر مهم في تلك الفترة إلا وكان له نصيب منها، ولم تكن هناك حاجة للمجاهرة بالعلمانية على اعتبار أنها موجودة ضمنا، لأن المواجهة الحادة بينها وبين التيارات الإسلامية لم تكن قائمة حتى أوائل السبعينات.

البحث عن مخرج

أما الصيغ الفكرية التي كانت مطروحة آنذاك، فقد تمثلت (عمليا) في صيغتين أساسيتين – وهاتان الصيغتان كانتا موجودتين أصلا منذ نهاية القرن التاسع عشر. الصيغة الأولى عرفت بالتوفيقية، أما الصيغة الثانية فهي الابنة الشرعية للأولى، وهي صيغة ”إما.. أو”.

غير أن هذه التوفيقية، لم تكن – في التحليل الأخير – توفيقا متوازنا أو متكافئا بين طرفين، وإنما كانت في حقيقتها، انحيازا وتغليبا وترجيحا لطرف على حساب الطرف الآخر، كما يقول الأنصاري في كتابه العمدة السالف الذكر، وإخفاء هذا الانحياز والترجيح خلف قناع توفيقي ظاهري، ناهيك عن التوتر الخفي الذي ظل كامنا داخل الصيغة التوفيقية، حتى حانت الفرصة، وبرز في العلن ذلك الانشطار الحاد بين عنصري المعادلة.

بيد أن التكوين الفلسفي لفؤاد زكريا ومزاجه النقدي، فضلا عن حسه التاريخي، كان يأبى الصيغتين معا، ومن ثم كان لابد من البحث عن مخرج: لا هو توفيقي، ولا هو (إما.. أو). وهنا تحديدا سنعثر على أهم ”لحظة” من اللحظات المضيئة النادرة في منتصف القرن العشرين، لحظة لم ندرك بعد ”أبعادها” ودلالاتها، لأننا ببساطة لم ندرسها بما فيه الكفاية، كما أن الأحداث اللاحقة طمست معالمها!

فقد كانت هناك صيغة أخرى طرحت على المستوى السياسي والاجتماعي، هي صيغة ”التحرر والاستقلال”، سعى فؤاد زكريا إلى تأصيلها على مستوى الفكر والثقافة، التي ظلت على مختلف المستويات الأخرى مجرد ”شعار”.. وكأنه عليى موعد مع ”نيتشه” الذي لم تبق من أقواله في أذن فؤاد زكريا سوى عبارة ”كن نفسك”.

وتلك كانت مفارقة، تسترعي الانتباه والتأمل، بين ”الفكر والواقع” في هذا المنعطف التاريخي، إذ إن ما آمن به فؤاد زكريا وسعى إلى تأصيله بالفعل كان يتناقض عمليا مع مجريات الأمور في الواقع المصري الذي ”أبى” بدوره أن يتنازل عن الصيغة التوفيقية، بل وعاد بها إلى مكونتها الأولى وهي صيغة (إما.. أو).

ملامسة الجدار المكهرب

كيف هو وضع الدرس الفلسفي في الجامعات العربية؟

– سؤالك محرج، لأنه يلامس الجدار المكهرب لتخلف العالم العربي في قمته، يا صديقي: الفلسفة والأصالة صنوان، وأنت في مجال الفلسفة لا تملك إلا أن تكون نفسك، وليس مجرد مسخ شائه. المشكلة في العالم العربي أننا نعاني من ”التشرقية”، والمصطلح لألبرت حوراني وليس لي، وهي بكلمة واحدة (انعدام الأصالة). والفرد التشرقي هو الذي يعيش في الوقت نفسه، في عالمين أو أكثر من دون أن ينتمي إلى أي منهما. وهو الذي يتمكن من تلبس الأشكال الخارجية المشيرة إلى تملك جنسية معينة أو دين أو ثقافة، من دون أن يملكها بالفعل.

”وهو الفرد الذي لم تعدله قيمه الخاصة ولم يعد قادرا على الخلق بل على المحاكاة فحسب. وحتى المحاكاة لا يقوم بها بشكل دقيق، لأنها هي أيضا تقتضي نوعا من الأصالة. إنه إنسان لا ينتمي إلى أي مجتمع ولا يملك أي شيء خاص به”. ولتوضيح هذه الفكرة سأستعين بالدراسة الرائدة لصديقي الدكتور محمد جابر الأنصاري المعنونة بـ ”الفكر العربي وصراع الأضداد”: فما حدث منذ بواكير النهضة العربية وحتى السبعينات من القرن العشرين كان ”تلفيقا” وليس ”توفيقا”، مما أدى في النهاية إلى حالة الانشطار الحاد التي نعيشها اليوم، بين التيارات الإسلامية وأنصار المشروع العلماني (الليبرالي).

وحتى أعلام النهضة والتنوير والحداثة، من أصحاب المشروع العلماني، لم يكونوا أصلاء تماما، وحسب هشام شرابي في كتابة ”البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر”، فإن ”الخاصية الرئيسية للوعي ”المحدث” هي نزعته إلى تحويل النماذج إلى أصنام. وهذا اتجاه نلاحظه في المجتمع العربي من خلال الطريقة التي يتم بها تلقف العلم واللباس والإنتاج الفني وحتى النظريات السياسية كنماذج مرشدة. ويتصف هذا الوعي المنمذج بنزعتين مترابطتين ومتعاضدتين هما المحاكاة والامتثال. هكذا تثبت الأفكار والأعمال والقيم والمؤسسات أو تنقض، لا اعتمادا على نهج نقدي مستقل، (وهو جوهر الفلسفة)، بل اعتمادا على نموذج خارجي باستمرار”.

لذلك لا أستغرب تحول معظم أساتذة الفلسفة في المدارس والجامعات العربية اليوم إلى مجرد ”دعاة”، بينما تعاني القلة القليلة منهم، وتناضل من أجل البقاء، في جو خانق يكفر الفلسفة والفلاسفة، وفي أفضل الأحوال يستهزأ بهم. كما أنني لم أفاجأ بتجفيف منابع التعليم من الفلسفة في مختلف البلاد العربية.

والتفكير في حد ذاته مقلق، وإعمال العقل غير مرغوب فيه، والنقد مرفوض من الساسة ورجال الدين على السواء. والفلسفة هي كل ذلك، لأنها ضد الزيف والتفاهة والقبح والادعاء، ادعاء الحقيقة المطلقة، كما أنها ضد القهر والظلم بكل صوره. فقد دفع سقراط حياته ثمنا لقول الحقيقة ودفاعا عن حرية الرأي، ورفض ديكارت قبول الأشياء كما هي، ودافع كانط عن الكرامة الإنسانية بإعلاء قيمة العقل والنقد.. والقائمة تطول، ولكنها تخلو بالقطع من أي فيلسوف عربي، منذ ابن رشد.

شرق ومغرب

كيف تقارن الدرس الفلسفي في الجامعات المصرية اليوم بالدرس الفلسفي في الجامعات المغربية؟

– لا وجه للمقارنة، هناك حركة فلسفية نشطة في المغرب العربي، واطلاع واسع على ما يحدث في الغرب، والانتقال من مرحلة النقل والترجمة إلى التأصيل والإبداع. والسبب في رأيي يعود إلى فهم الوظيفة الجديدة للفلسفة منذ السبعينات من القرن الماضي، بينما لاتزال الفلسفة بخطابها العمومي والشمولي يطن عندنا.

ما النشاط العام الذي يمكنك أن تمارسه أنت اليوم في الميدان العام بصفتك مختصا في الفلسفة؟

– إلى جانب تدريس الفلسفة في كلية الآداب جامعة عين شمس، في أقسام: الفلسفة والاجتماع والنفس والتاريخ والإعلام، فأدير وحدة لدراسات الحضارات المعاصرة بالجامعة، كما أنني عضو بالمجالس القومية المتخصصة (شعبة العلوم الاجتماعية) وهي تتبع رئيس الدولة مباشرة. وكاتب صحافي، لي مقال أسبوعي بموقع إيلاف الإلكتروني وجريدة روز اليوسف المصرية. ومستشار ثقافي وعلمي لعدد من مراكز الأبحاث والدراسات في مصر والإمارات العربية.

أشارك أيضا في الكثير من اللقاءات الفكرية والمؤتمرات العلمية والندوات الثقافية، والفضائيات، بما في ذلك الالتحام اليومي مع قضايا الراهن وهموم الواقع، وعلى سبيل المثال: قضايا المواطنة، والدولة المدنية، والديمقراطية، والمرأة، استشراف مستقبل النظام العالمي، والتعليم والتنمية المستدامة.. إلى آخر هذه الموضوعات التي أصبحت غذاء يوميا على مائدة المثقفين العرب.

التنوير لم يلامس سوى القشرة

كيف تراجع وأنت المختص بتاريخ الفلسفة، فكر رجالات عصر النهضة العربية، اليوم؟

– يعرف كانط التنوير بأنه: ”هجرة الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول وحده عن وجوده فيها. والقصور (عدم الرشد) هو حالة العجز عن استخدام العقل، والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره لأن العلة في ذلك ليست في غياب ”العقل”، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، من دون قيادة الآخرين.. لتكن تلك الشجاعة على استخدام عقلك بنفسك، ذلك هو شعار التنوير”.

المغزى الأساس للتنوير إذا، هو القدرة على التفكير بشكل ذاتي مستقل. وكأن جوهر التنوير في كل زمان ومكان، هو تأهيل العقل لبلوغ (حالة الرشد) من دون وصاية اللاهوت ورجال الدين، والثورة على البنى الأبوية البطركية، بتعبير هشام شرابي.

وهذا يفسر جزئيا لماذا فشلت حركة التنوير في العالم العربي (في القرن الماضي) وحتى اليوم، لأنها ببساطة لم تحقق الهدف الأساس لبلوغ العقل العربي الرشد وهو: رفع الوصاية عن هذا العقل، وعن التفكير المستقل والإبداع الحر.

وعلينا أن نعترف بشجاعة أن حركة النهضة العربية لم تؤثر سوى في القشرة الخارجية للعقل العربي، بفضل احتكاك روادها الأوائل بالغرب، ووجود الاستعمار الغربي في المنطقة في الوقت نفسه، كما يقول نادر قريط، فما أن غادر الاستعمار عقب الحرب العالمية الثانية، وارتفع شعار – وشعور زائف – ”بالتحرر والاستقلال” على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حتى عادت (ريما لعادتها القديمة) واستعادت قوة الموروث سيطرتها على العقل من جديد، فيما نشهده اليوم من مختلف أشكال الوصاية على العقل باسم الدين تارة والإيديولوجيا تارة أخرى، والقانون الممتزج بالدين (الشريعة) تارة ثالثة.

شجاعة كانط

في العدد الجديد (90) من مجلة ”فكر وفن” الألمانية، مقاربة مهمة حول مفهوم القانون في العالم الإسلامي والغرب، وهو مفهوم مختلف عليه حتى الآن: فالقانون في العالم الإسلامي هو ”الشريعة”، ولا يوجد استعداد للقبول بالمفهوم العصري له، كما هو متبع في الدولة المدنية العلمانية الدستورية الحديثة، وهذا الانقسام في الرأي حول مفهوم واحد (للقانون وتطبيقاته)، يتجلى أساسا في القضاء، كما جاء في افتتاحية المجلة.

بيد أن العقل الذي بلغ (الرشد والنضج)، وأصبح عقلا مستقلا ومسؤولا، يراجع نفسه بنفسه ويقيم أخطاءه باستمرار، من خلال القوانين العقلية والدساتير المدنية، وهذا المعنى يغيب، أو يغيب عادة، عند معظم المثقفين العرب في تناولهم لفكرة التنوير، وهو: شجاعة ”كانط” وجرأته في إخضاع العقل أيضا للنقد – وليس ”تقديس” العقل وعبادته كما يفعل البعض عندنا – لدرجة أنه عنون كتابه بـ ”نقد العقل الخالص” العام ,1787 وهذه الشجاعة تحديدا هي إحدى سمات التنوير وعلاماته على مر العصور.

من هنا تحمل كلمة ”نقد” شحنة فلسفية دائما، والنقد بالمعنى الفلسفي لا يعنى فضح العيوب ولا إبراز التهافت وإنما إثبات حدود الصلاحية. والعقل الناقد (الناضج) المستقل، يمارس النقد على ذاته أولا، قبل أن يمارسه على الآخرين، أو بالأحرى، يمارس عملية مزدوجة ومتوازنة، فيما أسماه صديقنا الراحل عبدالكبير الخطيبي بـ ”النقد المزدوج”.

الحقيقة المزورة

هل تاريخ الفلسفة هو شيء آخر غير الفلسفة؟

– هيجل هو أول من رأى الوحدة بين الفلسفة وتاريخها، فالفلسفة وتاريخ الفلسفة كل منهما مرآة للآخر. ودراسة هذا التاريخ هي دراسة الفلسفة ذاتها، ذلك أن تاريخ الفلسفة لا يهتم بوقائع وأحداث خارجية، إنما هو لحظات حلول الفكر المطلق في التاريخ.

تاريخ الفلسفة ليس مجرد عرض لآراء مضت وانقضت، لأنه ببساطة لا توجد آراء في الفلسفة.. الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، إنها معرفة ضرورية، فهي معرفة وليست رأيا أو سردا لآراء. وحسب هيجل: ”ليس الإنسان هو الذي يصنع الفلسفة، بل إن الفلسفة من خلال الإنسان تصنع ذاتها”.

وقد زرع نيتشه الشك في عبارة (أنا أفكر) لديكارت، كما لاحظ ميلان كونديرا، حين أكد على أن: ”الفكرة تأتي عندما تريد هي لا عندما أريد أنا؛ لذلك فإنها حقيقة مزورة تلك التي تدعي أن الفاعل ”أنا” ضروري للفعل ”أفكر”. من هنا يمكننا أن نفهم عبارة ”جوته”: ”أن الفلسفة (والشعر) في الزمان وفوق الزمان”.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=160872

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=161268

حوار محمد الجاسم2

محمد عبدالقادر الجاسم: «2-3»

أن تكون مستقلاً يعني أن تكون غامـضاً وصـاحب أجندة مخفية

 

يرى أن الدستور هو تقنين لواقع المجتمع، لذلك لابد أن نرجع إلى أصل الدولة وأصل العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية قبل وضع نصوصه. ويجد أن هناك صراعاً دائماً بين مشروع الدولة الديمقراطية في الكويت وبين مشروع الحكم القائم على توارث الإمارة. وأن تعاظم IMG_5661القوة الدينية في الكويت يعود إلى استقواء الحكومة بها وبالقبيلة لضرب حركات التحرر الليبرالي التي نشطت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وأن أثمان هذا الاستقواء باتت باهظة لتيار يطلب ويطلب ولا يعطي. المحامي محمد عبدالقادر الجاسم، رئيس تحرير صحيفة «الوطن» الكويتية سابقاً، ومقدم برنامج «مجلس» في قناة «الحرة» سابقاً أيضاً، ومسؤول موقع «جسر المعرفة» حالياً، وهو مشروع ثقافي متخصص في القانون، حيث يحتوي على ترجمة مجانية لمجموعة من قرارات هيئات قضائية فرنسية هي المجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة ومحكمة النقض، إضافة إلى بعض قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

الحوار مع خلفيات الجاسم السياسية والقانونية، فتح إشكالات متعمقة بشأن ما سبق، وبشأن جوانب أخرى يبدو بعضها شديد التقارب مع الأوضاع السياسية الخليجية الأخرى، ويبدو بعضها الآخر أكثر تمايزاً..

* لماذا ارتدت الدولة على القبيلة في انتخابات مايو/ أيار 2008؟

– من الصعب تقديم سبب أكيد، لكن عن طريق التحليل يوجد احتمالان، هناك من كان يسعى إلى نقل الكويت إلى مشهد سياسي آخر، بمعنى خلق مواجهة بين الطائفة الشيعية والحكومة، فلما ظهر موضوع تأبين عماد مغنية، كان رد فعل الحكومة عنيفاً جداً، إلقاء قبض وإحالة للمحاكم. تأبين عماد مغنية يخرج عن الملاءمات السياسية في دولة مثل الكويت، لكنه لا يخالف القانون. لم يكن تأبين مغنية جريمة. هو أمر خاص بمن قاموا بعمل التأبين. من باب الملاءمة السياسية هو يلائمهم أو لا يلائمهم. قد يكون فيه جرح لشعور المجتمع، لكن هذا يرجع في تقديره لأصحاب الشأن. مع ذلك نجد أن الدولة أو الحكومة استنفرت في مواجهة تيار التأبين وافتعلت قضية نتج عنها تحفز طائفي، رغم أن الطائفية في الكويت في حالة خمول دائم. كان لهذا قدرته على عزل القبائل؛ لأنها وبحكم أسباب عدة، لن تتحرك هي والتيار السني لمناصرة الطائفة الشيعية.

بعد أن فرضت الحكومة أجندتها في مسألة التأبين، تفرغت للقبائل، فخلقت أزمة مع القبائل، فكان من الطبيعي ألا ينتصر الشيعي للقبيلة، ولا ينتصر من نسميهم «السنة الحضر» إلى القبيلة، فتم الاستفراد بالطائفة الشيعية ثم الاستفراد بالقبيلة، ثم صدر مرسوم أثناء الانتخابات، يحظر التجمعات ويتيح لرجال الشرطة الدخول إلى الديوانيات. والديوانيات في الكويت وحدة نسق سياسي. في أحد التجمعات السياسية (ندوة نسائية للانتخابات)، فوجئت بدخول رجال الأمن إلى داخل الندوة وهذا أمر خطير.

إذاً، كان هناك مخطط لخلق حالة من الفوضى في الكويت تؤدي إلى وقف الانتخابات، ثم صدور أوامر أميرية أو غيرها بتعليق الحياة في البرلمان، رد الفعل الشعبي إزاء كل هذه الحركة كانت واضحة وحاسمة، لذلك تم التراجع عن المشروع وتم الإفراج مباشرة عمن سجن في قضية التأبين، وتم وقف مداهمات القبائل ولم يوقع الأمير المرسوم المتعلق بالمداهمات. تفسيري الخاص أن ما حصل كان مخططاً للانقلاب على الدستور، وأنا غير مقتنع بأن الأمر مجرد تخبط في معالجة الأمور كما تدعي الحكومة.

* هل يرجع غياب روح الدستور التي هي روح المجتمع الكويتي القديم، إلى اختلاف العلاقة الاقتصادية وموازين قوتها بين الحكم والشعب؟

– هو استقلال الحكومة بمصادر الدخل. هذا الاستقلال حصل بعد تولي مبارك الصباح الحكم وليس بعد السالم. لما تمكنت الأسرة من الحصول على عوائد النخيل في البصرة، هذه العوائد منحتهم استقلالية عن التجار، وبالتالي تمكن مبارك الصباح من حكم الكويت بشكل مطلق. زادت الضرائب وتحدى التجار، ما أدى إلى هجرة ثلاثة من أشهر تجار اللؤلؤ من الكويت انتقلوا إلى البحرين. هو الاستقلال وليس الاقتصاد الريعي الذي يمثل أول انفصال لمشروع الدولة عن مشروع الحكم. الاقتصاد الريعي، ورعاية الدولة للمواطن من المهد للحد، تخلق اتكالية وحالة سلبية لدى المواطن، بحيث يفقد الاهتمام بمصيره ومستقبله. الشعب الكويتي كثير التذمر، ولكن غير مستعد لإحداث تغيير؛ لأن أموره المعيشية مضمونة ومصانة في نهاية المطاف، وبالتالي لا توجد مبررات لتشكيل لوبي أو للضغط السياسي أو الانضمام للجماعات السياسية للتحرر. الاقتصاد الريعي أثر على همّة المواطن أكثر ما أثر على العلاقة بمن يستخدم العوائد النفطية، هل الحكم هو الذي يستخدم العوائد النفطية، أم مجلس الأمة أم الكتل السياسية؟

الكتل السياسية هي التي تقرر منح المرأة حق التقاعد بعد مرور 15 عاماً بمنح راتب كامل، الكتل السياسية هي التي تدفع باتجاه إسقاط القروض عن المواطن، وهي التي تدفع باتجاه زيادة الرواتب، وهي التي تحاول أن تستغل الثروة في سبيل موازنة المواطنين، بينما تقف الحكومة دائماً ضد هذا النوع من استخدام هذا النوع من الجوانب المالية.

* ما علاقة الاقتصاد الريعي بالفساد؟

– الفساد أمر طبيعي بمعدلات ترتفع وتنخفض. مررنا بأوضاع استثنائية في الكويت فترة الصراع على الحكم قبل تولي الشيخ صباح مقاليد الحكم. هذا الصراع السياسي أوجد بيئة مواتية لخلق الحلفاء، ومن يتحالف مع الشيوخ لابد أن يكون له نصيب، وبالتالي تعددت وتعددت مراكز الفساد، وتم غض النظر عن أوجه كبيرة من مناطق الفساد بسبب الصراع على الحكم.

الآن على المستوى الآخر، الشخصية الممثلة في البرلمان هي نقابة انتقائية كويتية، وتفقد الصدقية، لدرجة أن السؤال الاستجوابي في مجلس الأمة له ثمن، والجواب له ثمن. هناك معلومات متداولة عن دور بعض أعضاء مجلس الأمة في موضوع السلاح والعمولات التي يتقاضونها. فالبرلمان نفسه صار أحد مستنقعات الفساد في الكويت لا الحكومة وحدها. الجنسية الكويتية كما يردد بعض أعضاء مجلس الأمة أنها تباع بـ 70 ألف دينار من خلال بعض النواب. من يراقب من؟ لا توجد رقابة على أعضاء مجلس الأمة مع الأسف. ممارستهم العمل التجاري فاقت الحدود، حتى أصبحت العضوية في مجلس الأمة وسيلة للاقتراض. لاحظنا في الانتخابات الأخيرة ارتفاعاً هائلاً لكلفة الحملة الانتخابية، وعليك أن تتخيل من يصرف مليوناً أو مليونين أو ثلاثة ملايين أو خمسة ملايين دينار من أجل الوصول إلى عضوية البرلمان. من الذي يملك 4 أو 5 أو 10 ملايين يصرفها في الانتخابات؟ ماذا يريد في المقابل؟ هل هي مجرد خدمة للوطن؟

* دعوت إلى إحياء تراث عبدالله السالم، صباح السالم، وجابر الأحمد، بوصفهم الآباء النموذجيين لتحقيق مبدأ انفصال مشروع الحكم عن مشروع الدولة. ما الذي يعوق تحقيق هذا الانفصال اليوم؟

– الحكم في عهد الثلاثة كان محايدا. اليوم أصبح الحكم طرفاً في كل الصراعات السياسية في البلد. هذه هي الإشكالية. الدور الدستوري للحاكم هو حكم الدستور نفسه، هذا ما نريد عودته. لا نريد أن نلمس الحكم في العمل اليومي. رغم إخفاقات عهد الشيخ صباح السالم رحمه الله والشيخ جابر الأحمد وحتى الشيخ سعد العبدالله، إلا أن لهؤلاء الثلاثة شعبية كبيرة. هذه الشعبية لم تتحقق إلا نتيجة لوجود علاقة اجتماعية خاصة بعيداً عن المسار السياسي. اليوم هذه الشعبية غير متوافرة بسبب أن النظام لم يعد محايدا.

* لكنك حمّلت صباح السالم وجابر الأحمد جزءا من مسؤولية عدم انفصال مشروع الحكم عن مشروع الدولة؟

– نعم في مقال لي بعد وفاة الشيخ جابر الأحمد، أشرت إلى الإخفاقات في عهده. بل هناك مسؤولية أكبر إذا أردنا أن نحاكم التاريخ، فالصراع داخل الأسرة الحاكمة وترهل الدولة بدأ في عهد الشيخ جابر الأحمد. الفترة من 2003 إلى 2006 كانت الأسوأ في تاريخ الكويت. هي فترة المؤامرات والدسائس والصراع على الحكم..

* هل حدث تحول في موقف محمد الجاسم، موقف المعارض أو الموالي أو المحايد، خصوصا لو وضعنا في الاعتبار مرحلة عملك في رئاسة تحرير الوطن ومرحلة ما بعد الوطن؟

– من الخطأ توصيف الأمر في إطار المعارضة والموالاة. لنقل إن العقلية العربية بشكل عام لا تعرف الاستقلالية. لكن في الميدان السياسي دائما أنت مع أو ضد. وعندما تستقل فأنت غامض ولك أجندة مخفية. أنت تبدو مستقلاً لكنك في الحقيقة متواطئ مع أو متواطئ ضد. بالنسبة لي منذ بداية اهتمامي بالشأن السياسي أيام الجامعة، منذ كان عمري 17 سنة، رفضت الانضمام إلى أي جماعة سياسية في الجامعة. حتى أني شكلت قائمة مستقلة لخوض الانتخابات الجامعية. بطبيعتي الشخصية صعب أن أعمل تحت سيطرة جماعة. الآن استقلاليتي تعطيني المجال لانتقاد الحكم والمعارضة في الكويت والدول العربية. أن تنتقد الطرفين فأنت متقلب. لا يوجد استيعاب كونك مستقلاً وأنك تنتقد الخطأ كما تراه في صف المعارضة أو السلطة أو الحكم.

في كتابي ”المثلثة الديمقراطية”، والذي أعتقد أنه قدمني للجمهور بشكل مناسب العام .92 منحني الكتاب وصف المعارض لكني لم أسع لأكون معارضا أبداً. أنا أسعى لإبداء رأيي. لو رجعت إلى هذا الكتاب وقلبت صفحاته الأولى ستلقى أنني أتكلم عن حقي في إبداء رأيي. هذا ما أؤمن به الآن. تجبرك الظروف على ملائمات معينة. فلما عملت في جريدة الوطن لم يكن ذلك الوقت متاحا أمامي انتقاد الحكم، ليس بسبب عملي في الوطن تحديدا، وإنما لأنه لم تكن هناك أي صحيفة كويتية تجرؤ على انتقاد الحكم. مقابل ذلك أنا انتقدت وبشدة وبجرأة غير مسبوقة ما يمكن تسميتهم أو وصفهم برموز وطنية. أنا لا أقدس الأشخاص. انتقدت أحمد الخطيب والدكتور أحمد السعدون وعبدالله النيباري وأحمد الربعي، كما انتقدت غيرهم.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=153598

حوار مع محمد الجاسم

في حوار الوقت مع محمد عبدالقادر الجاسم: «1-3»

الاستقواء بالقبيلة والدينيين لمواجهة حركات التحرر الليبرالي .. والأثمان باهظة

IMG_566788

يرى أن الدستور هو تقنين لواقع المجتمع، لذلك لابد أن نرجع إلى أصل الدولة وأصل العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية قبل وضع نصوصه. ويجد أن هناك صراعاً دائماً بين مشروع الدولة الديمقراطية في الكويت وبين مشروع الحكم القائم على توارث الإمارة. وأن تعاظم القوة الدينية في الكويت يعود إلى استقواء الحكومة بها وبالقبيلة لضرب حركات التحرر الليبرالي التي نشطت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وأن أثمان هذا الاستقواء باتت باهظة لتيار يطلب ويطلب ولا يعطي. المحامي محمد عبدالقادر الجاسم، رئيس تحرير صحيفة «الوطن» الكويتية سابقاً، ومقدم برنامج «مجلس» في قناة «الحرة» سابقاً أيضاً، ومسؤول موقع «جسر المعرفة» حالياً، وهو مشروع ثقافي متخصص في القانون، حيث يحتوي على ترجمة مجانية لمجموعة من قرارات هيئات قضائية فرنسية هي المجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة ومحكمة النقض، إضافة إلى بعض قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

الحوار مع خلفيات الجاسم السياسية والقانونية، فتح إشكالات متعمقة بشأن ما سبق، وبشأن جوانب أخرى يبدو بعضها شديد التقارب مع الأوضاع السياسية الخليجية الأخرى، ويبدو بعضها الآخر أكثر تمايزاً..

* سأحاول تلخيص فكرة كتابك «روح الدستور» وأتمنى أن يكون قريباً من روح الكتاب. اعتمدت في هذا الكتاب على الرجوع إلى المجتمع الكويتي، الذي كان مجموعة من العائلات المهاجرة تراضت فيما بينها على تنصيب أو انتخاب أحد أفرادها ليكون حاكماً. وقع الاختيار على أحد أفراد عائلة آل صباح. في البداية، لم تكن الأمور تبلورت أن يكون الحكم وراثياً في هذه العائلة. كانت السلطة تعتمد على روح التشاور والاتفاق والتفويض من قبل جماعات العائلات المهاجرة التي شكلت المجتمع القديم كما سميته، من دون استفراد ومن دون قهر ومن دون غلبة.

سؤالي هو، ما السبب الذي يدفعك اليوم إلى التذكير بهذه الروح في قراءتك للدستور الكويتي. ما الذي يجعل محامياً يفتح ملف الروح لا ملف القانون، خصوصاً أننا قد اعتدنا أن يذكرنا المحامون بالقوانين لا بروحها؟

– النصوص الدستورية لا يمكن أن تقبل كنصوص جامدة. نصوص الدستور في أي دولة، هي في الغالب تقنين لواقع المجتمع مع التطلع للمستقبل. الدساتير التي تُزرع في تربة غير صالحة، لا يمكن أن تؤتي ثمارها. الدستور وثيقة ذات مضمون سياسي واقتصادي واجتماعي، لابد من وجود واقع سابق لهذه النصوص. من يضع الدستور يستلهم فلسفة الدولة القديمة أو المجمع القديم، ليرسم ملامح المجتمع الجديد. لذلك لكي نفهم الدساتير، لابد أن نرجع إلى المجتمع القديم، إلى أصل الدولة وأصل العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن خلالها نستطيع أن نفهم الدستور ونحكم أيضاً على مدى توافق هذه النصوص الدستورية مع واقع المجتمع، وبالتالي مدى صلاحيتها في تنظيم هذا المجتمع. الرجوع إلى المجتمع القديم هو أساس لفهم النصوص الدستورية، خصوصاً في مجتمع هادئ مثل المجتمع الكويتي لم يشهد انقلابات ولا ثورات ولا تكتلاً جذرياً في العلاقات السياسية.

* لاحظت في محاولتك لتفسير مواد هذه النصوص، أن المادة الرابعة التي تنص على أن «الكويت إمارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح..» قد استغرقت معظم صفحات كتاب «روح الدستور» (من صفحة 171 إلى صفحة 337)، هل تجد أن هذه المادة تشكل قلب الدستور أم أنها تمثل إشكالاً محورياً في الدستور الكويتي؟

– الإطالة في شرح هذه المادة يرتبط بشرح عشر مواد أخرى وردت في قانون توارث الإمارة. المادة (4) تشير إلى قانون توارث الإمارة، فكنت مضطراً إلى شرح جميع نصوص توارث الإمارة وهي 9 مواد.

قلب الدستور .. أم إشكال محوري

* ماذا تشكل المادة (4)، هل هي قلب الدستور؟

– قلب الدستور هو المادة (4) والمادة (6). وربما أنا أشرت في الكتاب، إلى أن التسلسل الأمثل لمواد الدستور هو أن تأتي المادة 6 في موضع المادة 4 ثم تأتي المادة 4 في موضع المادة .5 الدستور الكويتي حاول أن يقيم نظاماً فريداً حين قال في المادة 6 إن نظام الحكم ديمقراطي السيادة فيه للأمة مصدر القوة، وفي الوقت نفسه في المادة 4 يشير الدستور إلى أن زمام الحكم أو الحكم في ذرية مبارك آل صباح. التوفيق بين الديمقراطية وسيادة الأمة والحكم الوراثي صعب جداً. كي تخلق نظام حكم يعطي كل ذي حق حقه، يعطي الأمة حقها بأن تحكم نفسها وتعطي الأسرة الحاكمة حقها التاريخي بالقيام بدور ما في إدارة الدولة.

* هذا الترتيب الذي تراه أنت الآن ربما تفرضه متغيرات حدثت لاحقاً في الحياة السياسية الكويتية، وربما لم تكن حاضرة في لحظة وضع الدستور. هل تجد هناك متغيرات تفرض إعادة هذا الترتيب؟

– المتغيرات واقعية لا تستدعي أي تعديلات في الدستور. عندما وضع الدستور كانت الأسرة الحاكمة تضم العديد من الشخصيات ذات الخبرة السياسية. كما كانت العلاقات داخل الأسرة الحاكمة متوازنة، باعتبار أن هذه الأسرة لها فروع. من الطبيعي أن يكون هناك تنافس وتوازن في الوقت نفسه. المتغير الآن أن معادلة الفروع انتهت بحكم النهاية الطبيعية للأشخاص، في الوقت نفسه من الواضح أن الأسرة الحاكمة لم تعد تضم شخصيات قادرة على إدارة الدولة، أو مواصلة النهج القديم في الحكم، أو الحفاظ على التوازن السياسي في البلد. هناك نقص شديد في معيار الكفاءة ، هذا النقص لا يتطلب معالجته بتعديل الدستور، وإنما يتطلب تحسين أداء الأسرة الحاكمة ذاتها. يعني الإشكال السياسي القائم اليوم في الكويت يتلخص في سؤال يتردد عن أنه حتى لو تم تغيير رئيس الوزراء فمن هو البديل؟ لا يوجد.

لماذا لا يوجد؟ يبدو أن الأسرة الحاكمة أو ذرية مبارك تحديداً، لديها نقص عددي ونقص في الكفاءة. نحن حين نتكلم عن البديل نتكلم عن بديل يحمل رؤية لا عن شخص مكان آخر. هناك مطالبات كثيرة ع لنية بضرورة استقالة رئيس الوزراء الحالي أو إقالته، وأنا كتبت مقالاً شديداً أثير فيه إشكال البديل.

كيف حدث الفصل بين مشروع الحكم والدولة؟

* أشرت في كتابك «شيوخنا الأعزاء» إلى أن روح الدستور الكويتي استطاعت بحكمتها أن تدمج مشروع الحكم في مشروع الدولة، ولكن يبدو أن المتغيرات السياسية في الواقع لم تستطع أن تدمج مشروع الحكم في مشروع الدولة، وهذا ما يفسر استمرار الأزمات في الحكومة والبرلمان وفي الحياة السياسية. كيف IMG_5662حدث هذا الفصل بين مشروع الحكم ومشروع الدولة؟

– فصلت الأسرة الحاكمة مشروع الحكم عن مشروع الدولة بعد وفاة عبدالله السالم. تعاملت مع مشروع الحكم بإدارة مستقلة وبتعارض مع مشروع الدولة. تعرضت الممارسة الديمقراطية في الكويت إلى نكسات عدة، كانت الأولى العام 1965 مباشرة بعد وفاة عبدالله السالم. عندما تمكنت الحكومة بشكل أو بآخر من إصدار مجموعة من القوانين المقيدة للحريات، ثم جاءت مسألة تزوير الانتخابات في العام ,1967 ثم حل مجلس الأمة سنة ,1976 وحل مجلس الأمة سنة .1986 هذه الأمور مثلت تصادماً بين مشروع الحكم ومشروع الدولة بعد انفصاله. الآن ربما أتيحت ظروف لإعادة الاندماج، إلا أن مشروع الحكم لايزال منفصلاً عن الدولة، ولايزال أنصار مشروع الحكم يرون أن هذا المشروع يتعارض مع مشروع الدولة الديمقراطية، لذلك لاتزال الكويت تراوح مكانها لا تتقدم؛ لأن الصراع قائم بين المادة 4 والمادة 6 رغم أن الدستور حاول الدمج بينهما. مع الأسف، نحن ندعو دائماً إلى عودة مشروع الحكم للاندماج بمشروع الدولة، وأن يكون للحكم وللدولة هدف واحد. نحن دولة بلا هدف وفي حالة صراع بين هذين المشروعين.

هناك خلط دائم بين الحرية والديمقراطية

* ما الذي يجعل الديمقراطية الكويتية نموذجاً يضرب به المثل، ويتمنى الكثيرون استيراده؟

– لن نقول الديمقراطية الكويتية، بل الممارسة البرلمانية الكويتية وأجواء الحرية، إذ كون ذلك يشكل ديمقراطية عند البعض ربما محل خلاف. الممارسة البرلمانية في الكويت ربما تترك انطباعات سلبية في الخارج؛ لأنها ممارسة غير ناضجة، خصوصاً في السنوات الأخيرة. أجواء الحرية في الكويت هي التي تلفت الأنظار، وهي التي ربما تحسد عليها، أجواء الحرية في الكويت سقفها مرتفع، وفي تقديري تكاد تكون الأعلى في الدول العربية، خصوصاً في السنوات الثلاثة الماضية. لايزال في الصحافة في الكويت من يطالب بالتخلص من مجلس الأمة نهائياً، وبالتالي الحرية بالكويت هي التي تلفت النظر. أما التجربة البرلمانية، فتوجد فيها سلبيات كبيرة، إضافة إلى ذلك أنا لست من أنصار تعميم النماذج؛ لأن لكل دولة الحق في تصميم برنامجها بما يتناسب مع واقعها، فلكل دولة أهداف وظروف وتطبق برنامجها بما يتناسب مع واقعها. لا يمكن تطبيق الدستور الكويتي في دولة مثل البحرين، ولا السعودية، فلكل دولة خصوصيتها وعليها أن تضع النظام المناسب لها. لكن الحرية قيمة إنسانية. من حق الإنسان في الكويت أن يكون حراً وكذلك الإنسان في أدغال إفريقيا. هذه قيمة مرتبطة بالوجود الإنساني.

حقيقة، لدي رأي ربما يختلف مع الآخرين، هل الناس ترغب في الديمقراطية التي هي آلية، أم ترغب في الحرية؟ دائما أقول أعطوا الناس حريتها، والإدارات الحكومية وغيرها تعمل كما تشاء. في أميركا عندما يقال عن الانتخابات الأخيرة، إن نسبة التصويت تصل إلى نسب عالية فإنهم يتكلمون عن 60% فقط. في الأحوال الطبيعية قد لا تصل حتى إلى 50% فليس هناك اهتمام كاف بالممارسة. ولكن كل أميركي يتمتع بحريته. بينما دولة مثل الكويت قد تجد أن نسبة التصويت للبرلمان ربما تصل إلى 90%، لكن هذا ليس دليلاً على وجود درجة عالية من النضج السياسي، هناك اختلاف بين الحرية والديمقراطية. البعض يرى أن حق الانتخاب هو قمة الحرية، بينما الواقع يفترض أن يكون اهتمام الشباب ببناء مستقبلهم الشخصي واقتناص فرص للحياة والعمل أفضل. في منطقتنا، المسائل متداخلة جداً، هناك خلط دائم بين الحرية والديمقراطية.

* ما الذي يجعل الممارسة البرلمانية الكويتية بهذه المثالب، هل قوة التيار الديني وحضور القبيلة واستخدامهما في مشروع الدولة؟

– من بين المستجدات تعاظم قوة التيار الديني في الكويت، ونتيجة انفصال مشروع الحكم عن مشروع الدولة اتجه الحكم منذ العام 1965 حتى الآن إلى الاستقواء بعناصر موجودة في المجتمع، فسعى إلى الاستقواء بالقبيلة لمواجهة التيارات الليبرالية، القومية التحررية آنذاك. سعى الحكم إلى فرض معادلة أخرى من خلال تكثيف الوجود القبلي وتحويل القبيلة من وحدة اجتماعية إلى وحدة سياسية. كذاك في منتصف السبعينات سعى إلى تقوية التوجه الديني، وهو يدرك تماماً أن التوجه الديني الفائز في الكويت لم يكن توجهاً فطرياً. سعى الحكم إلى تعزيزه من خلال دعم جمعياته ذات النفع العام، وتمكينه من تولي كثير من مناصب القرار. مشروع الحكم في صراعه مع الديمقراطيات ومشروع الدولة، استعان بالقبيلة تارة واستعان بالتيار الديني تارة أخرى، هذه الاستعانة ليست بلا ثمن، تم تعظيم قوة القبيلة وتم تعظيم قوة التيار الديني. تحولت القبيلة من وحدة اجتماعية إلى سياسية. في شهر مايو/ أيار الماضي صارت مصادمات بين قوات الأمن وكل القبائل. كل قبيلة على حدة. مصادمات استخدم فيها الغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية وغيرها. كل هذه لا تنتمي إلى تاريخ العلاقة بين الحكم والقبيلة، لكن الحكم ربما لأسباب عدة، أراد تقزيم القبيلة، والنتيجة أنه فشل فشلاً ذريعاً.

القبيلة انتصرت في نهاية المقام على الدولة بالرسائل وإقامة الانتخابات الفرعية. القبيلة أصبحت الآن أكثر قوة من السابق، وجاءت الحكومة كمجلس الوزراء وتحالفت مع التيار الديني بشقيه السلفي والإخوان. مقابل هذا التحالف هناك ثمن يدفع، ليس فقط منح التيار الديني مقاعد في مجلس الوزراء، وإنما الخضوع لسطوة التيار الديني الذي دائماً يطالب ولا يعطي. تم تغيير هوية المجتمع الكويتي بسبب التحالف بين التيار

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=153558&hi

حوار حول موت المثقف

 

نون تستوطن “موت المثقف” وتعلن إفلاسه الفكري

إعداد: هدير البقالي

 

كثيرًا، ما نراهن على مصداقية المثقف، وغالبًا ما نقر بوجوده بوصفه كائنًا بشريًّا ساميًّا عن بقية المخلوقات، فهو لا يخطئ إلا فيما ندر، ولا يرغب في إقحام نفسه في قضية مشكوك في أمرها، ولا ينساق مع الآخرين في الصراع المعرفي على كعكة تحدد مواقفه لكنه يتذوق قطعته من الكعك فقط، إذًا هو مبجل/ فيلسوف عصره/ مؤسس لأفكار تأجج الأطروحات الجديدة للسلطة وللمجتمع المدني.

مهلاً، مهلاً، أيها المثقف، فأنت اليوم تقف أمام شاكلتين: الموت الكيميائي، والموت الفيزيائي، ولا ترضى بأن تعيش على مقربة من السقوط بالتهميش الواقعي لنفسك، عندما تكرر/ تستنبط / تعلل/ تعالج/ وتستخلص بمثل نتيجة أسلافك المثقفين، ألا يدعنا ذلك إلى القول بأن كماشة المثقف بات أمرها محتومًا في نهايتها، فالمثقف لا يفنى/ يهمش/ يلغى/ يدفن أو يصبح ككائن نكرة إلا عندما يرى نفسه أنه قد توقف عن العطاء المعنوي بصورة كاملة وليس مؤقتة وذلك مرهون أيضًا بإنتاجيته الخاوية، فهل يعلن المثقف عن نهايته ويتناول الزرنيخ ويذهب إلى حتفه الأخير أم أنه ما زال يراهن/ يعول / يؤكد/ يستنكر؟ نون “البلاد” لا تنتقد المثقف، بل أرادت الخوض في غمار موت المثقف الذي مازال يتنفس هواءه بدفء غامض ويقبع بجسد حي، فيا ترى ماذا يقول المثقفون الأكاديميون في ذلك إلينا؟New Picture (2)

هل نستطيع القول إن موت المثقف يتحدد بموت “كيميائية الإبداع” لديه في ظل حضوره الفيزيائي؟

علي الديري: ليس المثقف وحده من يموت حين يفقد كيمياء إبداعه، كل الكائنات تموت حين تفقد كيمياءها، في الكيمياء سحر الأخلاط، وكلمة مثقف ملتبسة بسبب كيمياء الأخلاط المركبة فيها، لذلك يظل الجدل غير محسوم بشأن تعريف المثقف والثقافة، حتى إن أنسي الحاج قال: الثقافة في الحقيقة كلمة خاطئة حلّت في غفلة العقل محلّ كلمة فكر. والمفكر (المثقف) لديه شيء من حكيم وشيء من أديب وشيء من كاهن.

متى فقد المثقف (المفكر) شيئًا من هذه الأخلاط مات شيء فيه. وحياته مرهونة بقدرته على تركيب أخلاط هذه الكيمياء التي تتيح له أن يرى.

ضياء الكعبي: ابتداءً، لا أرى أنّ هناك “موتًا للمثقف”. يمكننا القول إنّ هناك “تغييبًا” أو “تهميشًا” أو “إقصاءً” في كثير من الحالات…

موته في وصوله إليه… هالة زائفة

وهل موت المثقف يتحدد بوصوله إلى قمة البرج العاجي؟

علي الديري: البرج العاجي إذا كان مكانًا يتيح للمثقف أن يرى أبعد مما يراه الآخرون، فحياته حيث هذا البرج، وإذا كان مكانًا يتيح له أن ينتحر سقوطًا منه، فموته في وصوله إليه. الأبراج لم تعد مكانًا للمثقفين، هي صارت اليوم أسواقًا يرى فيها المثقف مكانًا لموت الإنسان وتسليعه.

علينا أن نتذكر أن برج بابل كان المكان الذي بدأت منه اللغة الواحدة تصير لغات يصل عبرها البشر إلى السماء بطرق مختلفة ويمشون فيها في الأرض في شعب متباينة. البرج كان مكان حياة اللغات، والإنسان لا يحيا من غير لغة يثقف من خلالها العالم. على المثقف أن يصلح برجه ويجعله مكان حياة.

ضياء الكعبي: المثقف قد يصل إلى حالة أسميها حالة “التصنُّم” المعرفي وهي حالة لها مسببات كثيرة منها عائد للمثقف نفسه ومنها عائد إلى مريديه ومن هم حوله. أي تحوّل المثقف نفسه إلى “صنم مقدس” أو “بقرة مقدسة”، وتحوّل أطروحاته كذلك إلى مقدسات لا يجب المساس بها ولا الاقتراب منها بأي حال من الأحوال.

وعندما يصل المثقف إلى هذه المرحلة فمعناها أنه قد وصل إلى موته وأعلنه هكذا جهارًا على الملأ. والمثقف يكون مسؤولاً عن خلق هذه “الحالة” وكذلك المصفقون له يخلقون “هالته” الزائفة التي لا تلبث أن تنجلي عن سراب زائف. والوصول إلى هذه “الهالة” يعني خطابًا استعلائيًّا فحوليًّا متضخمًا يعجز عن قبول الخيارات والتعدد وقيم الاختلاف.

مدونتي “هوامل”… انشقاقات وتراكمات منجزة

في حال انتماء المثقف إلى جهة معينة، والتزامه بأدبياتها وخطوطها العريضة، هل سيبقى منتجًا بشكل صحيح، وهل من الممكن القول إن عروقه المعرفية قد جفت بعض الشيء؟

علي الديري: حين ينتمي المثقف إلى جهة معينة، يفقد خلطته المركبة بإبداعه وإرادته، ويصبح خطًّا مؤتلفًا في هذه الجهة، والمثقف حالة تستعصي على الخط المستقيم الواضح، هو يأتلف مع ظل الأشياء وضلالها.

وقد أطلقت على مدونتي بالإنترنت اسم “هوامل” التي هي النياق الشاردة الفالتة من طريق الجماعة. هذا الاسم يدفعني للخروج دومًا من عضوية الجماعات، حتى بمعنى المثقف العضوي الذي ابتكره غرامشي وجفت عروقه لفرط ما وظفه المثقفون المنتمون لجهات سياسية.

ضياء الكعبي: لنستحضر انتماءات المثقف العربي من تاريخ المشهد الإبداعي والفكري العربي المعاصر؛ فقد أنشئت كيانات أدبية وفكرية عربية كان نتاجها زخمًا ومنتجًا إبداعيًّا ضخمًا خصوصًا عندما نتحدث عن “الحداثة العربية والجهود البارزة لروادها في التنظير والممارسة. وفي المقابل شهدت هذه الانتماءات الوليدة خروجًا باكرًا عليها وانشقاقات أثمرت هي الأخرى وراكمت منجزات إبداعية فاعلة”. لا ضير من انتماءات بهذا المعنى شريطة ألا تتحول المؤسسة المعرفية إلى سلطة قامعة لأعضائها وللآخرين.

عمليات بطيئة ومركبة… ماراثون مضحك

معظم أفكار المثقف مجرد تراكم معرفة لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا يضيف شيئًا إلى تاريخ الثقافة سوى بناء ملاحظات وتمحيص بعضها والاستشهاد بما يتأتى عليها الدراسة، فهل هذه أيضًا علامة من علامات موت المثقف؟

New Picture (1)علي الديري: (موت المثقف) صيغة مجازية مثل (صيغة موت الإله) لنيتشه و(موت الإنسان) لمشيل فوكو، وقد ابتكر المثقف نفسه هذه الصيغ، كي يحمي نفسه من الموت، أي كي يذكر نفسه بأنه حي وقادر على أن يميت الأشياء ويحييها في صيغ مبتكرة.

المثقف لا يمكنه أن يقول شيئًا جديدًا من دون أن يراكم معارف كثيرة يسد بها جوعه أولاً ويسمن بها جسده ثانيًا وتتمثلها روحه ثالثًا. تلك عمليات بطيئة ومعقدة ومركبة، والمثقف الذي لا يهضم جيدًا، يفقد قدرته التمثيلية فيموت، كما يموت النبات حين يفقد قدرته على التمثيل الضوئي. المثقف كي يضيء يحتاج إلى زمن ضوئي.

ضياء الكعبي: هي علامة على “إفلاس المثقف”… وقد وجدنا عددًا من كبار المثقفين العرب يصلون إلى مرحلة الجدب الفكري فيبدأون بمساجلات مفلسة مع الخصوم المعرفيين، أو يكررون الخطابات في عصر “ثقافة الصورة: فيصبح المثقف هنا “نجمًا في الفضائيات العربية، ومتحدثًا في مؤتمرات الدرجة الأولى: عليه مواجهة نفسه والتوقف عن هذا الماراثون المضحك الذي لا يضيف جديدًا إلى المعرفة.

أو تكون… صفرًا إبداعيًّا

ألا يدعو تشابه الدراسات الفكرية في الطرح والتفسير، إلى الاستغراب من ضحالة الإنتاج الإبداعي للمثقف؟

علي الديري: تشابه الدراسات سببه أحيانًا تشابه أدوات التحليل وشيوع مناهج التفسير، وفي كل مرحلة تاريخية تكون هناك مجموعة من استراتيجيات القراءة والتأويل والتفسير مشاعة بين مجموعة من الباحثين، فتتشابه خطاباتهم. أو تكون هناك مفاهيم عن الشعر والحرية والإنسان تشكل اتجاهًا جديدًا وحياة جديدة بين مجموعة من المثقفين فتتشابه إنتاجاتهم. ماذا قال محمد العلي لحظة اكتشاف ديوان السياب (شناشيل ابنة الجلبي) في الستينيات؟ قال: “واكتشفت لحظتها أن علي أن أجدد نفسي أو أموت”، هكذا كل تجديد يؤول إلى موت ينتظر حياة جديدة.

– ضياء الكعبي: هناك خطاب استعلائي قامع يمارس العنف الرمزي ويعيد إنتاجه. وعندما تسود أجواء من الغيرة والرغبة في تغييب الطرف الآخر؛ لأنه مختلف ولا ينتج المعرفة التي أؤمن بها هنا نصل إلى مرحلة الجدب الفكري وسأكرر مقولات الحيز الضيق الذي أؤمن به، وسأحجب الإبداع والإضافة وهكذا يصبح إنتاجي صفرًا إبداعيًّا لا يضيف شيئًا.

لنحرر العقل… ولنتأمّل

كيف يعمل المثقف على بناء مجتمعه المدني في ظل الحداثة وما بعد الحداثة، وإلى أين سيصل مفهومه الشخصي بطريقة تتعاطى مع المشكلات الجمة التي تحصل هنا وهناك؟

علي الديري: لقد ابتكرت الحداثة مفهوم المثقف، وجعلت مهمته الخروج من قصوره الذي هو مسؤول عنه، قصوره عن استعمال عقله دون إشراف الغير، حررت عقله من أوهام المسرح والأصنام والكهف والسوق، وأوكلت إليه مهمة تنوير العالم بأنوار طبيعية دنيوية لا إلهية سماوية. وجاءت ما بعد الحداثة لتطيح بأنواره الحداثية وتعتبرها أوهامًا، فليس العقل نور العالم بعد أن دمره في حربين عالميتين، وليس العقل مركز الإنسان، وليست هناك مهمات كونية للمثقف. وليس هناك معنى واحد وحقيقة واحدة ينتدب المثقف نفسه إليها.

المجتمع المدني إحدى الصيغ التي ابتكرها المثقف ليحد من السلطة التي تمارسها الدولة باسم العقل الكلي المهيمن. وفي هذا المجتمع يمكن للمثقف أن يمارس مهمته في النقد والاحتجاج من أجل توسيع المجال العالم للحرية. من هنا فمهمة المثقف توسيع حرية المجال العام الذي تضيّقه السلطة السياسية والسلطة الدينية وجماعات المصالح.

ضياء الكعبي: المثقف الحقيقي هو الذي من واجبه بناء مجتمعه المدني في ظل الحداثة وما بعدها. عليه أن ينهض بدوره الفاعل في خلق استراتيجيات ثقافية ومنفتحة على الأطياف الفكرية كافة. ليس عيبًا أن أتحالف مع السلطة السياسية في بناء الشراكات الثقافية مادام هناك هامش ولو قليل للتحرك. العيب هو الانكفاء على الذات وجلدها والاكتفاء بخطابات لعن السلطة وتدبيج هجائيات الشتم والاستعراضات البلاغية.

وهنا لا أمجد المثقف النفعي الانتهازي الوصولي المتسلق، ولنتأمل فيما حولنا لنجد تحولات كبيرة طالت مثقفي الستينيات والسبعينيات عربيًّا: يتحول ذلك المثقف الثوري الشاتم إلى متحالف مع السلطة. والمثقف عليه احترام قيم التعدد والاختلاف الفكري مع الآخر.

نرجسية… طيف واحد

لماذا – برأيك – المثقف على خصومة دائمة مع المثقف الآخر، ولماذا يشغل نفسه في إثارة المشكلات بدلاً من البحث عن القضايا التي تساهم في بناء الوعي الفكري للمجتمع بشكل عام؟

علي الديري: المثقف كائن شديد الحساسية والغيرة والحسد في الحقل الذي يشتغل فيه، ويعتبر المثقفين الذي يشاركونه في الحقل منافسين لنرجسيته.

– ضياء الكعبي: الإجابة عن هذا السؤال هي عندما يصبح الجميع طيفًا واحدًا هنا تلغى قيم التعدد والاختلاف والتنوع وتسود سجاليات زائفة لا تضيف أي شيء إلى تاريخ المعرفة الإنسانية.

لا أعرف… يصم آذانه

وهل بات المثقف مفلسًا فكريًّا، وعاجزًا عن مواكبة التغيير، كما استطاع أن ينجز ذلك أسلافه؟

علي الديري: المثقف بأل التعريف يستعصي على التحديد والفهم. لا أعرف من هذا المثقف الذي تسألين عنه.

– ضياء الكعبي: يصل المثقف إلى الإفلاس الفكري عندما لا ينفتح على الآخر وعندما يصم آذانه عن سماع الأطروحات الأخرى المناهضة لفكره ولا يسمع إلا أطروحته هو.

جرعة الجنون… انعدام التواصل

البعض يصف المثقفين بالمجانين، ولا يمكن فهم ما يقولون في أطروحاتهم وكتبهم ومقالاتهم، فهل هم فعلا كذلك؟

علي الديري: في الجنون شيء من كيمياء المثقف، ويتفاوت المثقفون بمقدار جرعة الجنون.

– ضياء الكعبي: هذا وصف مجاني جدًّا وغير حقيقي، وما يخلقه هو انعدام التواصل الفاعل بين المنتجين الثقافيين ومتلقيهم، وقد يخلق هذه الحالة بعض المثقفين الذين يتعمدون إيجاد خطاب التعمية الفكرية للتغطية على ركاكة منجزاتهم المتهافتة التي لم تضف جديدًا يذكر.

كنت… ولا بد

يوصف المنتج الفكري الذي يقدمه بعض المثقفين أحيانًا بأنه منتج يشوبه غشاوة مهترئة وأوهام مهزوزة، بحجة اشتغاله على تجزيء وتفكيك خطابات أكل الدهر عليها وشرب، وابتعاده عن الاشتغال على نظريات محكمة وفاعلة يستثير من خلالها الشارع العربي، فما رأيكما؟

علي الديري: المثقف ليس إعلاميًّا، المثقف يفكك ما يأكله خطاب الإعلامي ويشربه، ويفكك ما تأكله خطابات التاريخ والحضارات والسلطات. في الخطاب تتوارى حقائق المجتمع وممارسة الإنسان وموقفه وحياته وأديانه وسلطاته. حين اشتغلت على خطاب ابن حزم الأصولي، كنت أفكك خطاب حقيقته الذي ما زالت تشربه وتأكله خطابات المتدينين اليوم.

– ضياء الكعبي: لا نستطيع التعميم: هناك مفكرون عرب اشتغلوا على تفكيك خطابات فكرية ووضعوا لأنفسهم إضافة جديدة في مسيرة الفكر: من ينكر على سبيل المثال الاشتغالات الحقيقية للمفكر العربي الفلسطيني إدوارد سعيد واشتغالات الجابري ومحمد جابر الأنصاري والعروي وطه عبدالرحمن وأبويعرب المرزوقي وغيرهم كثير. وفي مقابلهم لا بد من الاعتراف أن هناك أفرادًا انتحلوا اسم مثقف وبدأوا بإنتاج وإعادة ما أنتجه سواهم ونسبته إلى أنفسهم.

تحب المثقفين… وزائفين

المثقف بات يتعامل مع عقائده الفكرية من باب مصلحة ذاتية من جهة ويتملق بشهية كبيرة للسلطة؟

علي الديري: السلطة تحب المثقفين إذا كانوا مستشارين وليس مستثارين.

– ضياء الكعبي: من واجب المثقف الحقيقي خلق الشراكات الثقافية الفاعلة مع السلطة وعدم الانكفاء. فانكفاؤه يعني أنه يفسح مجالاً لغير الأصلح لأن يخلق أشباه مثقفين زائفين. فلنتأمل في كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع وهنا أستعير عبارة ابن النديم في كتاب الفهرست: كيف أصنف هذا الكتاب، هذا الكتاب في حقيقة الأمر يندرج في إطار مشروع إصلاحي هدف به ابن المقفع إلى إيجاد دور حقيقي وفاعل للمثقف في إطار المحافظة على النظام السياسي القائم ومخطئ من يظن أن هذا الكتاب هو خطاب معارضة سياسية في المقام الأول.

متى يُعلن المثقف موته؟ وما النهاية التي يتجلى بها لختام حياته؟

علي الديري: إذا سمع بإنصات أسطوانة زياد الرحباني (مثقفون – نون:(

مثقفون يفكرون بانتظام يشرحون يحللون مفاصل الأزمات

يتسلّقون الألف ينبطحون – نون

مثقفون قلقون ينتظرون الحزن والجنون

حتى في الأعماق يكذبون يفلسفون العجز يرتاحون

– ضياء الكعبي: إذا كان رولان بارت قد أعلن “موت المؤلف” فإن موت المثقف: لن يعلن أبدًا،المثقف العربي سيتشبث بالبقاء… وسنرى كثافة إعلامية بارزة لأشباه مثقفين سيصعدون ويصنعون الخطابات المتسلطة القامعة؛ لأن لا ثوابت لديهم تقيدهم. أما المثقف الحقيقي فسيستمر تهميشه وتغييبه؛ لأنه لا يجيد لعبة التوازنات السلطوية. ولن تتغير هذه الصورة إلا بخروج المثقف الحقيقي عن انكفائه ومساهمته ولو بالقليل في خلق مشهد فكري متميز: هنا فقط ستتغير الصورة!

جذب فكري

“عدد من كبار المثقفين العرب وصلوا إلى مرحلة الجذب الفكري، وبمساجلات مفلسة مع الخصوم المعروفين، فعلى المثقفين التوقف عن الماراثون المضحك، ومواجهة أنفسهم”.

ضياء الكعبي

كائن حساس

“المثقف شديد الغيرة والحساسية، ولا ضير في تفاوت جرعة الجنون لديه، وبصيغة أخرى إن لم يهضم جيدًا فسيفقد قدرته التمثيلية ثم يموت”.

علي الديري

طرح آخر

المثقف لا يقف حائرًا/ متوجسًا/ مترنحًا، بل يحاول أن يلاقح الأفكار ويستولد خلايا جديدة عقلية تقرب من الأطروحات في التقابل والتعاكس؟ لكن أنا هنا في محل مراوغة لسؤال يلح بقوة في مكانه، فهل أفني المثقف في عالم البرزخ أم أنه مازال يتنفس الصعداء؟

المحررة

http://www.albiladpress.com/

جريدة البلاد. العدد 130 السبت 21 فبراير 2009