أرشيف التصنيف: حوارات

حوار مع أهداف السويف

الروائية أهداف السويف لـ«الوقت» بعد مشاركتها في نشاط بمركز الشيخ إبراهيم:

أنا واحدة من هؤلاء.. بسبب «رشدي» وآخرين لم أواجه جفاء لندن المعهود

 

الوقت – حوار: على الديري – تحرير: حسين مرهون:

قد لا تكون حظوظ القارئ العربي من الاطلاع على تجربة أهداف السويف كبيرة. فهي تكتب باللغة الإنجليزية، وعيشها وتجربتها ارتبطا معاً بالعيش والتجريب ضمن حدود هذه اللغة. لكن العزاء، أنها هناك؛ حيث تصطخب ترددات اللغة الأكثر عالمية في عصرنا، حفرت اسمها. الكاتبة الإنجليزية من أصل مصري، والتي ربطتها وشاجة استثنائية بالمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، هي اليوم واحدة من قلة من الأسماء العربية التي تكافح على أرض ثقافة الآخر. باسم الأدب حيناً، وباسم القضايا العربية حيناً آخر. وهي واحدة من قلة من المثقفين أيضاً، الذين لم يكتفوا بجعل الآخر ”آخر” فقط، ويستريحون إلى المسافة البرزخية بينه وبينهم. فكان هذا الآخر إغناء للذات، وجزءاً تلقائياً منها، حتى لتكاد تمّحي آخريته تماماً. ”الوقت” التق أهداف السويف على هامش مشاركتها في سيمينار عن تجربتها مع جمهور مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. وفيما يلي مقتطفات:

حوار علي الديري مع أهداف السويف

حين تحدثت في محاضرتك عن ترجمة ”في عين الشمس” من قبل والدتك فاطمة موسى (1927 – 2007) التي هي أحد أبرز الأكاديميين و نقاد الأدب في مصر والعالم العربي، بدا وكأن في صوتك نبرة من الحزن والعتب، حزن على والدتك وعتب على المترجمين، وكأن ذهاب والدتك، ضياع للغة يمكنها أن تترجم رواياتك.هل تشعرين أن فرص ترجمة رواياتك قل بذهاب والدتك؟

– في الواقع، هناك عروض عدة لترجمتها. لكن المشكلة تكمن فيّ شخصياً. فأنا متلقية جيدة للعربية، الأمر الذي يخلق نوعاً من الصعوبة في قبولي للترجمة المقترحة. فأنا عربية أولاً وأخيراً. صحيح أنني لا أكتب بهذه اللغة، وربما لا أعرف حتى كيف يكون ذلك، ولكن لديّ حساسية حيال اللغة العربية، وأريد، حين تكون هناك ترجمة إليها ألا تجيء وكأنها عمل مترجم. عندما تتم ترجمة أعمالي إلى اليابانية أو الإنجليزية أو الألمانية، لا توجد أية مشكلة لديّ، فأنا في الأقل لا أعرف بهذه اللغات، وليست هناك فرصة لأن أفكر بها أو أعيش إحساسها، ولكن حين يتعلق الأمر بالعربية فإن الأمر مختلف، حيث إن لي رأياً هنا، ورأيي صعب جداً.

ألا تشعرين بأن حضورك في العالم العربي ليس بالقوة التي هي لك في العالم؟

لولا أمي لما أصبحت

– من جهتي، لا أرى الأمر بهذه الطريقة، كل مافي الأمر أنني غير متواجدة بالحجم المناسب بسبب ظروف كتابتي باللغة الإنجليزية. الأمر الذي يجعل من حضوري غير متاح، كمثل ذاك الذي يمكن أن يكون لو كنت كاتبة باللغة العربية.

؟ كيف هو حضور والدتك ”فاطمة الموسى” في وعيك وأيضاً في وعي عالمك الروائي، وذلك بوصفها شخصية ثقافية وأكاديمية ونقدية وأدبية ورائدة من الرواد الذين فتحوا الشرق على الغرب؟

لو لم تكن هناك أمي، فاطمة موسى، لما أصبحت ما قد أصبحته الآن. قد تكون ملكة الكتابة موجودة لدي، فالإنسان يوجد بملكة معينة، وكنت سأكون كاتبة، لكن ربما لم أكن لأشتغل في حدود ما أنا مشتغلة به الآن. فقد تعلمت الإنجليزية منذ كان عمري أربعة أعوام، وذلك بسبب ظرف تحضير أمي للدكتوراه في لندن، وكنا معها. ولو لم يكن ثمة هذا السبب لما أصبحت الإنجليزية لغتي الأولى، وربما كانت ستصبح الثانية أو الثالثة، ولم أكن لأكتب رواياتي بالإنجليزية. أي أن المسار كان سيختلف تماماً. مع تنويهي هنا، إلى أنني لا أرى أن ثمة أفضلية للغة على أخرى، أو لأدب على أدب، كل ما في الأمر أن المسار كان سيكون مختلفاً. وأمي هي من أكسبتني عادة القراءة، فقد كانت تجلب لي الكتب، وقت لا أكون في المدرسة، من أجل إشغالي وجعلي أمكث جنبها في الوقت الذي تنهمك هي بأداء واجباتها المنزلية. وهكذا حتى ساعة عودة والدي. وكنت كلما أنهيت كتاباً ناولتني غيره. وحين كانت تنفد كتب الأطفال، تناولني بعفوية عادية أياً من الكتب الأخرى خاصتها. فكانت بذلك تكوّنني من حيث لم تكن تدري أو تقصد ذلك. حين أنهت الدراسة وعدنا إلى مصر، كنت في السابعة من عمري. ولم يكن متاحاً لي شيء آنذاك غير القراءة في مكتبتها، والقراءة، والمزيد من القراءة. فكانت هي تكتب النقد في الجرائد، وكنت ساعة إيابي إلى المسرح أقرأ المقالة التي كتبتها.

ماذا عن التكوين النضالي الذي ربطك بقضية فلسطين والعرب وإدوارد سعيد، هل هو جو العائلة الذي جعل من أختك الوسطى ليلى أستاذة الرياضيات في جامعة القاهرة، ناشطة حقوقية يسارية معروفة؟

لقد نشأ معظم أفراد عائلتي في فترة إرهاصات الثورة. فليلى كما ذكرت ناشطة يسارية. وأبي سجن نحو السنة الواحدة إبان الملكية. كما سجن خالي سنتين بسبب نشاطه في التنظيمات اليسارية. ولكن من جهتي لم أكن أكترث إلى السياسة وقت كنت طالبة، كنت أشارك فيها نظرياً، في النقاشات التي تجري، سواء في المدرسة أو على الغداء حين أجتمع وأهلي. ولكن عملياً، لم أرتبط بالنشاط السياسي على نحو مباشر كما فعلت أختي ليلى. ونشاطي في الخارج لأجل القضية الفلسطينية، بالكتابة في الصحف والأشياء الأخرى، جاء بسبب رغبتي في ملء فراغ شاغر يتعلق بالقارئ الغربي، كان ثمة الكثير هناك من يشغلونه. فكانت وجهتي بهذا الصدد.

في لندن كان حظي جيداً

في كتاب عبدالفتاح كليطو ”لن تتكلم لغتي” يطرح إشكالية إتقان لغة الآخر، وفكرته تقوم على أنك إذا أتقنت لغة الآخر لدرجة أن تكون قد امتلكت كل أدواتها وتفاصيلها الصغيرة، يشعر الآخر كأنك استوليت عليه، كأنك لم تترك له شيئا، فتتولد حالة من الامتعاض والضيق، وكأن الآخر، يقول لك تعلم لغتي لكنك لن تتكلم لغتي كما أنا أتكلمها، هو لا يريد الاعتراف لك بأنك تتكلم بجدارة لغته. هل الخمسون عاما التي عشتها مع الآخر وتكلمت لغته منذ كان عمرك 4 سنوات، شعرت خلالها أن هناك من يقول لك: (لن تتكلمي لغتي)؟

لا، في الفترة التي جئت فيها إلى لندن كان حظي جيداً. كان ثمة كتاب أصبحوا ذوي شهرة مثل سلمان رشدي وغيره. كان هناك نحو ست أو سبع شخصيات مثقفة ذات صيت، وقد أتت جميعها من مجتمعات وثقافات مختلفة. فاستحوذت على انتباه القراء كما حازت على كثير من الجوائز. لذا كان من الصعب تهميش هؤلاء، في حين تكتسب الإنجليزية صفة العالمية. الأمر الذي لم يكن ينطبق عليّ، ولا على هؤلاء، الحال الذي ذكرت. فإذن، كما أسلفت كان حظي جيداً.

في ”عين الشمس” كان يقال إنك كنت تداخلين عالمين مع بعضهما، كأنك كنت تكتبين العالم المصري العربي للإنجليزي، وتكتبين العالم الانجليزي للعربي، كأنك تتيحين لكل عالم أن يرى نفسه من خلال العالم الآخر. أنت تعرفين من خلال صلتك بعمل إدوار سعيد، أنه اشتغل على حقل ما بعد الاستعمار، وكان يتساءل عن المتبقي منه في الوعي. هل واجهتك هذه المسألة في أعمالك الروائية؟

بداية تشكل الوعي

– بالنسبة لي، فقد تشكل وعيي في فترة كان الاستعمار فيها يغادر المنطقة العربية. صحيح أنه كان موجوداً، ولكن لم أعايشه بشكل مباشر أو أحس به. جئت في زمن الثورة، وكان ثمة إحساس سائد آنذاك أننا قد انتصرنا عليه، أو أننا شعوب منتصرة ونعيش في عصر مغاير يحتم علينا أن نأخذ من ثقافة الآخر وأن يأخذ هو أيضاً من ثقافتنا.

ألم تراودك مسألة ما الذي بقي من الاستعمار؟

– نعم، بيد أن الاستعمار الذي لحق بمصر كان من النوع الذي يمكن وصفه بـ ”الخفيف”. صحيح أنه كان ثمة تدخل فظيع على المستويات السياسية والاقتصادي، وكان ثمة ظلم ومشانق، ولكن على المستوى الثقافي كان تأثير الاستعمار هو الأقل. حين وطأ المستعمر أرض مصر، كان موجوداً آنذاك مثقفون مثل محمد عبده وغيره. لذا فإن هؤلاء هم من كانوا يؤثرون في الثقافة، بأكثر مما هو الاستعمار في الحقيقة. لكن على المستوى الشخصي، فأنا متأثرة بالعالم الغربي كثيراً، ذلك بسبب طبيعة وجودي في لندن، وحين تقرأ رواية ”عين شمس” لن تستشعر أن ثمة مشكلة هناك بين منطقتنا ومنطقتهم.

ماذا عن التقائك بادوار سعيد؟

لقد التقيته وقت كنت أهم بكتابة ”خارطة الحب”. وقد تأثرت بلقائه كثيراً، إلى حد أنه يمكنني الزعم إن هذا العمل كتب على خلفية المشاعر التي تشكلت لدي في غضون هذا اللقاء. وكنت في أوقات كتابتي له دائمة التفكير في إنهائه، كيما يتمكن من قراءته. وهناك مقالة كتبتها ممثلة مصرية رأت فيها أن الشكل النهائي لمشروع ادوار سعيد قد تمثل في روايتي هذه.

رواية (رأيت رام الله) لمريد البرغوثي، هو العمل الروائي الوحيد الذي ترجمته إلى الإنجليزية وكتب مقدمته إدوارد سعيد، لماذا هو الوحيد؟

في الأصل، كان مريد البرغوثي على علاقة شخصية بإدوارد سعيد ويعرفان بعضاً منذ زمن. وحين شرعت بترجمة الرواية، لم أكن أعرف أن إدوارد سيتولى، في النهاية، عملية كتابة المقدمة. كما لم أكن أعرف أن كتابته للمقدمة كانت على أساس أنني أنا من قمت بترجمة الرواية، بما يمثل نوعاً من الرضى عن الترجمة. لكن في النهاية، كان ما حصل، وقد انتشرت الرواية انتشاراً كبيراً بسبب مقدمته. كانت هذه ربما إحدى مظاهر الالتقاء بيننا.

هل هناك مشاريع أو أنشطة معينة تم ترتيبها بينكما باعتباركما تشتركان في مهام ثقافية مشتركة؟

نعم، كانت أول رحلة لي قمت بها إلى فلسطين في العام 2000 قمت بها تحت غطاء من إدوارد سعيد. فهو أول شخص كلمني في الأمر. كما رشحني من جانبه لكتابة مقدمة أحد كتبه، لدى طباعته مرة ثانية. وهي من التجارب التي مازلت راضية عنها.

المنفى كان أختياري

ماذا عن زواجك من أزين هاميلتون وهو شخصية نقدية وشعرية إنجليزية معروفة؟

– لم أكن لأحب زوجي وأرتبط به فيما بعد لولا حبي للأدب الإنجليزي. وقد أحببته فعلاً بعد قراءة ديوان شعره. لقد جرى لقائي به من خلفية أدبية.

هل تبلورت مشاريع مشتركة من خلال هذا الزواج؟

– لا، ولكن زوجي كان قارئي الأول. كنت أكتب كي يعجب بما أكتب ويقول لي هذا رائع. كان لي بمنزلة الناقد الأدبي. فكان حين يقرأ الفصل الذي أنجزه، كنت أترقب من جهتي ردة فعله لأعرف ما إذا كان جيداً أو رديئاً. كان يصارحني بالأمرين معاً. وكانت هذه نقطة مهمة جداً على صعيد تجربتي.

وكيف كان طلاقك منه؟

– أنت تعرف أن الزواج قيد على المبدع، لكن على رغم من ذلك فقد بقينا أصدقاء وزملاء نحترم بعضنا. ”زمالة أدبية” كما صرت أسميها. لم يكن هناك طلاق بالمعنى التقليدي للطلاق، فقد استمرت الأسرة، ولكن كان هناك ثمة فراغ غير مملوء فيها. ذلك كان حالنا. إنني أفتقده الآن، فقد رحل منذ العام 2001 بعد سنة واحدة من ذهابي إلى فلسطين. وقد كان ذلك سبباً في جعله يكثف من اهتمامه بهذه القضية. وبدأ يراسل أصدقاءه في العالم الأدبي شارحاً لهم أبعادها. لكن لم يقدر له العيش ليواصل هذا الجهد. في الرؤية إلى الشرق، كان كمثقف بريطاني، مستعداً بشكل كبير لتغيير قناعاته. وقد ساعدته خلفيته اليسارية على ذلك. حتى تشكل رأي عام أنه من المساندين لقضية فلسطين.

؟ أخيراً، هل تعتبرين نفسك خارج المكان كما كان إدوار سعيد؟

– لا، لأن إدوارد كان فعلا خارج المكان بسبب كونه فلسطينيا. أما أنا فقد كنت دائماً متواجدة في مصر. أي لم تختف الأرض من تحت رجلي. هناك شعور بالمنفى، ولكن هذا المنفى اختياري تماماً. فأنا التي قررت أن أحب وأتزوج في لندن. وأنا التي وضعت نفسي في هذه الوضعية، في حين أن الأمر مختلف بالنسبة لإدوارد.

ببلوغرافيا أهداف السويف

– هي أديبة مصرية تكتب بالإنجليزية وتعيش بين القاهرة ولندن.

– تخرجت من كلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1971 بقسم الأدب الانكليزي ونالت الدكتوراه في العام .1978

– قامت بالتدريس في آداب القاهرة في بداية السبعينات ، ثم سافرت الى لندن للدراسة واستقرت هناك حيث تزوجت من الشاعر الإنجليزي المعروف أزبن هاميلتون.

– صدرت لها أول مجموعة قصصية في العام 1983 وهي باللغة الانكليزية بعنوان ”عائشة” ثم صدرت لها الرواية ذائعة الصيت ”في عين شمس” العام .1992

– ومن مؤلفاتها أيضاً ”زينة الحياة” و”زمار الرمل” و”خريطة الحب”، والأخيرة تتحدث عن بدايات الاستيطان اليهودي في أرض فلسطين.

أحدث إصداراتها هي «في مواجهة المدافع.. رحلة فلسطينية»، وهي مجموعة من المقالات الأدبية، وقد منحت الدكتوراه الفخرية من جامعتين بريطانيتين.

 

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=138226

حوار مع فواز طرابلسي1-2

على هامش محاضرته بمركز الشيخ إبراهيم.. فواز طرابلسي يتحدث لـ «الوقت»:

نشهد سقوط الأوهام.. وعلى «اليسار» استعادة بعض الثقة فالأيديولوجيا لم تمت

الوقت – علي الديري – تحرير – حسين مرهون:

ما من شك أن اليسار الآن يشهد أزهى فترات مجده منذ سقوط المعسكر الاشتراكي. أزمة مالية عالمية تؤكد كثيراً من تحليلاته. وعودة أثيرة إلى الخطاطة الماركسية من أجل استلهام الأجوبة على ما يحدث. والأهم من ذلك، تنامي بريق الحركات الاجتماعيةفواز طرابلسي في عدد من البلدان، وتسلمها مقاليد الحكم في نحو خمسة بلدان لاتينية. فما الذي يحدث* هل فعلاً العالم اليوم يتجه يساراً* هل الرأسمالية تتآكل* أم أنها تمتلك منطقها الخاص الذي تتجدد من خلاله، رغم الصعوبات التي تواجهها* هل آل الحل بين يدي الإسلاميين كما يجري تبسيط ذلك من بعض دعاة الإسلاموية* ربما مناقشة كل هذه الأفكار مع واحد من أهم وجوه اليسار العربي الآن، لكن غير التقليدي، كفيل بتوسيع أفقنا حيال هذا النوع من الأسئلة «الوثوقية» إلى حد ما. «فواز طرابلسي» كان ضيفاً أواسط هذا الأسبوع على مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وألقى محاضرة ذات صلة. «الوقت» التقت به في أثناء ذلك، وفيما يأتي مقتطفات:

 

* دعنا نبدأ من اللحظة الراهنة للدخول على عالمك الخصب بمشاربه الفكرية والسياسية والاقتصادية، إنها بالتأكيد لحظة السوق والانهيارات المالية. قلت أكثر من مرة إنك مازلت ماركسيا، وأريد أن أعرف بما تبقى من أطياف ماركس لديك، كيف تقرأ هذا الحدث العالمي اليوم*

– سبق وأن نشرت موضوعاً ذا صلة في جريدة السفير اللبنانية. بنظري، إن ما يتبقى من ماركس اليوم، هو النظرية، نظريته في نشوء رأس المال وتطوره ناهيك عن أزماته. ثم القوانين التي تحكم كل هذه العملية. كما ترى، ثمة قراءات عدة أخذت تنطلق من جراء الأزمة الأخيرة الناشئة عائدة إلى النظرية الماركسية، بما يمثل إعادة اعتبار إلى مفاهيم ماركس الرئيسة. أما أنا إن كنت تسأل عن رأيي، فأقول باستلهام كل هذه المفاهيم، إن رأس المال متعولم بالضرورة. وبالتالي فالعولمة التي يجري الحديث عنها ليست العولمة الأولى، كما قد يُتوهم، إنما هي العولمة الثالثة. العولمة الأولى كانت العولمة التجارية وانطلقت مع اكتشاف أميركا. العولمة الثانية هي العولمة الصناعية، وهي التي تحدث عنها ماركس. فكانت أفكاره بهذا الصدد عن أن هناك منطقاً داخلياً يحكم رأس المال، وهو ديمومة بحثه عن المنفعة، وتعميقها، وعن أسواق جديدة. أما العولمة الثالثة، فهي تلك الجارية مفاعيلها حالياً، وهي أرقى أشكال العولمة، خصوصاً لجهة ارتباطها بالمعلوماتية والإعلام، وكذلك بفتح الأسواق بعد أن كانت مقفلة نوعاً ما. على الأقل أخذاً باعتبار أن ثلث البشرية كانت تقع ضمن حدود المعسكر الاشتراكي. لكن ألفت النظر هنا إلى أن ماركس اكتشف الأزمات القصيرة المدى، أي ما ينتج عن الرأسمالية المتعولمة من أزمات من قبيل الركود الاقتصادي وتقلص الأسواق والبطالة إلخ. أما الأزمات بعيدة المدى، فلم يتطرق إليها ماركس، وتطرق لها مفكرون آخرون، مثل المفكر السوفييتي كونترال وغيره. وهناك بحوث حديثة تذهب إلى أننا الآن في طور انتهاء أزمة الثلاثين سنة، أي تلك الواقعة بين السبعينات؛ حيث الازدهار، والألفينات؛ حيث ما صرت تعرف الآن. كل هذه الأفكار وغيرها إنما تعيد الاعتبار إلى الوظيفة الأولى للماركسية بوصفها علماً في نشوء الأزمات الاقتصادية، وتطورها. وبالتالي فهي تمثل مصدراً خصباً لفهم عالمنا المعاصر.

نقد الأوهام

* على مستوى المراجعة الذاتية، هل الرجوع إلى ماركس، سيتيح فرصة لقراءة الرأسمالية قراءة جديدة، غير أيديولوجية*

– إنها تتيح الفرصة لنقد الأوهام التي عمقتها الليبرالية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، والقائمة على النظر إلى السوق من زاوية إنها اليد الخفية التي توزع الخيرات بعدالة، وهي التي تحدد أعلى معدلات النمو و و… في حين أن الصحيح، هو أن السوق هي مصدر الأزمة. ذلك أن الوجه المالي المتضخم للرأسمالية المتعولمة هو منتج الأزمات الدولية. وأقول بالمناسبة، إن ما يجري حالياً لا يمثل الأزمة الأولى، كما قد يتوهم، صحيح أنها الأضخم والأكبر، لكن ثمة أزمات أخرى سبقتها لذات الأسباب. وذلك من قبيل بورصة نيويورك، وأزمة المكسيك، وأزمة الأسواق الآسيوية إلخ… فالعالم يشهد، منذ أن بدأت الرأسمالية المتعولمة، أزمات احتاجت وستحتاج دائماً تدخلاً من الدولة لإنقاذها. فالولايات المتحدة جمعت قرابة 50 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد البلجيكي من الانهيار. في الوقت الذي كان يعد هذا الاقتصاد نموذجاً للنجاح الليبرالي. بالتالي فإن تصوير الأمر حالياً على أنها المرة الأولى التي تتدخل فيها الدولة، فهذا غير صحيح. بهذا المعنى، فإننا نشهد الآن تساقط كثير من الأوهام، وعلى رأسها فكرة أن الدولة يجب ألا تتدخل في الاقتصاد. أبداً هذا غير صحيح، الدولة كانت ولاتزال مطالبة بأن تتدخل لإعادة توزيع رأس المال بعدالة. فالدول هي التي فرضت ما سمي بإعادة الهيكلة، وهي التي قامت بوضع التشريعات اللازمة، والأسواق أديرت بواسطة دول وكذلك رفع الحماية الجمركية. فلاشيء اسمه عدم تدخل. الولايات المتحدة تزعم أنها لا تملك ما يسمى «قطاعاً عاماً» في حين أنها تملك قطاع «البنتاجون» للسلاح والخدمة العسكرية الذي يمثل فخر الصناعة الأميركية اليوم. إنه قطاع عام لكن مغلف. ثم جاء الكشف حديثاً عن أن شركات النفط الأميركية – التي تربح مئات المليارات سنوياً – تتلقى الدعم من الحكومة. الأمر الذي وعد باراك أوباما في حملته الانتخابية بأنه سيلغيه. كل هذا ويقال إنه لا وجود لدعم حكومي أو لا دخل للدولة. لكن السؤال الأهم: تتدخل الدولة لصالح من* للرأسمال الكبير، كما هو الحال مع شركات النفط. أم لصالح أكثرية السكان المحتاجين*. إن ما يجري ليس الأخير للأسف، وهو ما يؤكد مقولة ماركسية ثانية، أن الدولة ليست سوى الجهاز التنفيذي لإدارة شؤون الطبقة المسيطرة.

* بقدر ما للحدث بضخامته من قدرة على أن يكتشف أوهاما ويحطمها، كما استعرضتها أنت الآن، فهو من جانب آخر، ينتج لنا أوهاما مقابلة أو يعود لإحياء أوهام شبه مندثرة. هل ترى أن اليسار الماركسي في العالم العربي سيعود إلى أوهامه أو ينتج أوهاماً جديدة، من دون أن يكون قادراً على أن يقرأ الحدث في عمقه*

– بداية، لا يجوز أن نستنتج من الأزمة المالية نتائج اجتماعية وسياسية لا تتحملها أو هي غير موجودة. فما يزال باكرا الحكم على النتائج المتمخضة عنها. هناك توقعات الآن تذهب إلى أن الأزمة يمكن أن تنتقل من الدائرة المالية إلى دائرة الإنتاج؛ حيث ستصاب الاقتصاديات الغربية بحالة من الركود. ما يمكن أن ينتج عنه انخفاض هائل في الاستهلاك والطلب، وبالتالي تسريح أعداد هائلة من العمال والبطالة. لكن هل سيؤدي ذلك إلى نمو حركات اجتماعية جديدة* نعم، أعتقد أن ذلك حتماً سيحدث في الغرب أما في بلداننا العربية فإن الأمر مختلف. فعلى رغم كوننا بلداناً نعيش في القلب من عملية العولمة، إلا أننا نتصرف وكأننا على هامشها. غريب ما يحدث.

الماركسية ليست مطلقة الصحة

* على مستوى التلقي الديني بدأت الاتجاهات الإسلامية تتحدث عن حلول إسلامية لمعالجة الأزمة المالية العالمية، وعن وجود بديل إسلامي لنظام السوق الرأسمالي، وعلى مستوى تلقي اليسار، بدت خطاباته تؤكد صحة الاقتصاد الماركسي وحتمية سقوط الرأسمالية، استنادا إلى دليل أزمة السوق الرأسمالية الحالية. هل يمكن أن نعد هذه من الأوهام المقابلة التي بعثتها أوهام أزمة الأسواق مطلقة الحرية*

– دعني أنبه أولاً إلى أن ثمة مقولات كثيرة في الماركسية لم تصح. بما في ذلك مقولات تتعلق بمصير الماركسية نفسها. فماركس توقع أن تزول الطبقات الوسطى ويتولد استقطاب بين رأس المال الذي يشكل أقلية مع العمال، وهؤلاء هم الأكثرية. وأن الانتقال إلى الاشتراكية يكون بواسطة عملية ديمقراطية. وكل هذا لم يحدث. لذلك أقول لا يوجد شيء اسمه، سقوط الرأسمالية. فالرأسمالية تطبع عالمنا، أما ما سقط فهو ذاك الادعاء بشأن أنها نهاية التاريخ، وتحديداً الرأسمالية المنتصرة التي تملك جواب مشكلات العالم. وقد تبين أن الرأسمالية لا تملك حلولاً للمشكلات التي تنشئها، سوى أنها تأخذ من الفقراء لتعطي الأغنياء. وذلك تحديداً ما فعله جورج بوش، حين أخذ المال من دافعي الضرائب وذهب إلى تزويد الأغنياء بها. وقد أسميت ذلك، تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح. أما ادعاءات الحركات الإسلامية، فهي لا أساس لها، والجواب على ذلك يأتي من معرفة أن هذه الحركات هي نفسها حركات ليبرالية رأسمالية. في لبنان مثلا، تجد أن الخصخصة الوحيدة التي حصلت، حصلت على يد وزير الكهرباء التابع لحزب الله. كذلك تجد أن البرامج الرئيسة للحركات الإسلامية تتحدث عن السوق وقدسية الملكية الفردية في مقابل الدولة والزكاة (التي تقوم على الإحسان) في مقابل النظام الضريبي و و…

* هل هذا ما عنيته في مقالتك «ما بين بوش وبن لادن من ليبرالية*»

يشتغل خطاب أسامة بن لادن بين «حد» الجهاد و«حد» الرأسمالية السوقية الصافية، رأسمالية الاقتصاد الحر و«اليد السحرية». فتنظيم «القاعدة» تنظيم «ليبرالي» في الاقتصاد بكل ما للكلمة من معنى. فهل تختلف عنه سائر التنظيمات الإسلاموية التي قد لا تشاركه رؤياه ولا وسائل فرضها*

حقيقة الأمر انه من جبال الجزائر إلى هضبات الأناضول التركية مروراً بحواري القاهرة والاسكندرية وسوق صنعاء وحتى ضاحية بيروت الجنوبية، قد لا تجد نغمة تشذّ جذرياً عن هذه النغمة. معظم التنظيمات الإسلاموية ليبرالية في الاقتصاد وإن لم تكن ليبرالية في السياسة. من اجل استظهار المشترك بينها يمكن القول إنها تتشارك في ما بينها في أربعة منطلقات:

ـ مبدأ السوق.

ـ الملكية الفردية.

ـ الربح (مع الالتزام بتحريم الربا).

ـ ممارسة الإحسان.

قد يقال الكثير هنا. لكننا نريد التساؤل عن الفارق بين هذه المبادئ وبين مرتكزات العولمة الأميركية، عولمة لاهوت السوق وقدسية الربح والملكية الفردية وأوهام «اليد السحرية» للاقتصاد الحر تحقق التوزيع العادل بين فئات المجتمع.

والتساؤل هو بالتالي عن مقدرة الإسلاميين على التصدي لتحديات العولمة الأميركية، عولمة الشركات المتعددة الجنسية، والفقاعة المالية، وجزر الرفاه وسط عوالم مهمشة ونافلة، إلى آخره.

لذا أعتقد أن الحركات الإسلامية، كائناً ما كانت مذاهبها، لا تمتلك الجواب المختلف عن الرأسمالية. اللهم عدا تصورها ذاك لها بأنها مصدر الفساد الأخلاقي و و… في حين أعتقد أن اليسار على خلاف ذلك. ورغم كل ما يقال عن اليسار، إلا أن عليه الآن استعادة بعض معنوياته. هذه فرصة ليكشف بأن له دوراً في الحركات الاجتماعية، كما في إعادة الاعتبار للعامل الاقتصادي ودوره في حياة البشر.

هناك حاجة إلى النظرية

* خرجت من «منظمة العمل الشيوعي في لبنان» في ,1984 وتبنيت مبدأ النقد الذاتي وسعيت إلى إقناع العدد الأكبر من اليساريين بأن مهمة اليسار أن يعيد تأسيس نفسه لا أن يستمر حيث كان. إلى أي حد أتاح لك هذا الخروج المبكر، فرصة لقراءة الأزمة المالية الرأسمالية اليوم برحابة وموضوعية*

– إن جلد الذات موضوع مختلف عن نقد الذات. أنا أفهم أن النقد الذاتي هو مراجعة الأخطاء وإسقاط المفاهيم والأوهام الخاطئة لصالح إعادة إنتاج صورة جديدة لعالمنا. ثمة عصر جديد، هو بالدرجة الأولى عصر العولمة. بالتالي فهناك حاجة لفهمه بوسائل جديدة. وأعتقد هنا أن كثيراً مما يسمى بالنقد الذاتي إنما هو نوع من التخبط أو المعاندة أو الندم. فكان من جراء ذلك، الخيار السهل لعدد من المثقفين، سواء كانوا يساراً أم قوميين وحتى إسلاميين، الانتقال من عالم الالتزام الفكري إلى عالم آخر، وليكن ذلك العالم هو الليبرالية. هذا أسهل الخيارات بديلاً عن إعمال آلة النقد الذاتي. في حين أعتقد أن التحرر يجب أن يكون من الماركسية السوفييتية التي طبعت عالمنا في وقت من الأوقات. كما من تكرار التغزل بالماركسية. في قبال ذلك، أدعو إلى تشكيل جهاز نظري جديد في تصرفنا تكون الماركسية أحد روافده وليست كل الروافد. بالتالي فإن النظرية هي نقطة الانطلاق لتحرير الواقع الراهن، وليس العكس، أي الواقع يكون منطلق النظرية ومؤكداً لمبدئها. على ذلك فلا يمكن أن توجد حركات اجتماعية من غير أن تكون هناك فكرة. لذا فلا معنى لوقوع بعض اليساريين الآن تحت طائلة الفكرة التي تقول إن عصر الأيديولوجيات انتهى. هذه واحدة من التبسيطات الشديدة، لايزال ثمة أيديولوجيا في عالمنا، وربما أكبرها في عالمنا المعاصر الآن هي أيديولوجيا ثورة الاتصالات. فثورة الاتصالات كلها قائمة على الأيديولوجيا. لذلك، فإن الفكرة القائلة بأنه يمكن أن تنشأ حركات سياسية من غير إيديولوجيا محض وهم. كما أنه من الوهم أيضاً حصر وظيفة المثقف في وضع قائمة بالطالبات وتعداد التمنيات. ذلك أن وظيفته الحقيقية هي إنتاج المعارف.

رغم كل شيء.. بقي اليسار اللاتيني

* بدأت نقلة أميركا اللاتينية اليسارية منذ وصول الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز إلى الحكم قبل عشر سنوات، من ثم أكملت مع رؤساء جدد في البرازيل (لويز إيناسيو لولا دا سيلفا) والأرجنتين (كريستينا فيرنانديز) وأوروغواي (تاباري فاسكويز) وتشيلي (ميشيل باشيليه) وبوليفيا (إيفو موراليس) والإكوادور وغواتيمالا ونيكاراغوا. كيف تقرأ عودة اليسار في أميركا اللاتينية*

– أقرأها من جهة أنها تعد دليلاً على أن الأفكار لا تموت. نحن عندنا نفاذ صبر، وعندنا شيء يتسالم المثقفون العرب على تسميته «الرهان». ماذا يعني الرهان* أيضاً أتساءل.. لماذا على اليساري أن يظل ملتزماً بحد أدنى من الالتزامات* من وجهة نظري، أعتقد أن الأسباب التي أدت إلى الالتزام لم تتغير. في الوقت الذي يزداد فيه الفارق بين الأغنياء والفقراء. بينما الرأسمالية لا تجيب على المشكلات التي تعانيها أكثرية البشرية. بل وهي الآن أسوأ مما كانت عليه، حين كانت هناك ثمة منافسة مع الاتحاد السوفييتي. فوقتذاك كانت مضطرة لأن تقدم تنازلات وقد انتفى هذا العنصر الآن. الفارق الذي يؤدي إلى ما تشاهده الآن في أميركا اللاتينية من صعود إلى حركات اليسار الاجتماعية، هو أن هذه الحركات لم يجرِ تدميرها. لم تدمر النقابات ولا فئة الإنتجلنسيا التي ظلت تحظى بنفوذ واسع وحافظت على يساريتها. الأمر الذي قدّر لها أن تعيش مرحلة الكبوة، فالنهوض بعد ذلك. وما تمت زراعتها من أفكار «غيفارية» إبان الثورة الكوبية تلقفها الجيل اللاحق وأعطاها معنى جديداً، ومن ثم استطاع صوغها في برامج جديدة. المهم الآن أن ترتبط هذه البرامج بقواعد كبيرة من الفلاحين المحرومين وبمطالبات حقيقية. لقد بقيت في أميركا اللاتينية آثار الفترة الذهبية التي كانت فيها الحظوة للكفاح وللحركات السياسية والاجتماعية. في حين جرى تدمير كل ذلك في بلداننا. ما انعكس على الصفة التمثيلية لليسار. فهل يقوى على استعادة صفته التمثيلية الآن* هذا سؤال كبير.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=137262

حوار مع فواز طرابلسي

على هامش مشاركته في أنشطة مركز الشيخ إبراهيم..

فواز طرابلسي لـ«الوقت»:
نشهد سقوط الأوهام.. وإضعاف الدولة لا يقوّي الحريات

الوقت – علي الديري – تحرير – حسين مرهون:

ما من شك أن اليسار الآن يشهد أزهى فترات مجده منذ سقوط المعسكر الاشتراكي. أزمة مالية عالمية تؤكد كثيراً من تحليلاته. وعودة أثيرة إلى الخطاطة الماركسية من أجل استلهام الأجوبة على ما يحدث. والأهم من ذلك، تنامي بريق الحركات الاجتماعية في عدد فواز طرابلسيمن البلدان، وتسلمها مقاليد الحكم في نحو خمسة بلدان لاتينية. فما الذي يحدث؟ هل فعلاً العالم اليوم يتجه يساراً؟ هل الرأسمالية تتآكل؟ أم أنها تمتلك منطقها الخاص الذي تتجدد من خلاله، رغم الصعوبات التي تواجهها؟ هل آل الحل بين يدي الإسلاميين كما يجري تبسيط ذلك من بعض دعاة الإسلاموية؟ ربما مناقشة كل هذه الأفكار مع واحد من أهم وجوه اليسار العربي الآن، لكن غير التقليدي، كفيل بتوسيع أفقنا حيال هذا النوع من الأسئلة «الوثوقية» إلى حد ما. «فواز طرابلسي» كان ضيفاً أواسط هذا الأسبوع على مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وألقى محاضرة ذات صلة. «الوقت» التقت به في أثناء ذلك، وفيما يأتي مقتطفات:

* دعنا نبدأ من اللحظة الراهنة للدخول على عالمك الخصب بمشاربه الفكرية والسياسية والاقتصادية، إنها بالتأكيد لحظة السوق والانهيارات المالية. قلت أكثر من مرة إنك مازلت ماركسيا، وأريد أن أعرف بما تبقى من أطياف ماركس لديك، كيف تقرأ هذا الحدث العالمي اليوم؟

– سبق وأن نشرت موضوعاً ذا صلة في جريدة السفير اللبنانية. بنظري، إن ما يتبقى من ماركس اليوم، هو النظرية، نظريته في نشوء رأس المال وتطوره ناهيك عن أزماته. ثم القوانين التي تحكم كل هذه العملية. كما ترى، ثمة قراءات عدة أخذت تنطلق من جراء الأزمة الأخيرة الناشئة عائدة إلى النظرية الماركسية، بما يمثل إعادة اعتبار إلى مفاهيم ماركس الرئيسة. أما أنا إن كنت تسأل عن رأيي، فأقول باستلهام كل هذه المفاهيم، إن رأس المال متعولم بالضرورة. وبالتالي فالعولمة التي يجري الحديث عنها ليست العولمة الأولى، كما قد يُتوهم، إنما هي العولمة الثالثة. العولمة الأولى كانت العولمة التجارية وانطلقت مع اكتشاف أميركا. العولمة الثانية هي العولمة الصناعية، وهي التي تحدث عنها ماركس. فكانت أفكاره بهذا الصدد عن أن هناك منطقاً داخلياً يحكم رأس المال، وهو ديمومة بحثه عن المنفعة، وتعميقها، وعن أسواق جديدة. أما العولمة الثالثة، فهي تلك الجارية مفاعيلها حالياً، وهي أرقى أشكال العولمة، خصوصاً لجهة ارتباطها بالمعلوماتية والإعلام، وكذلك بفتح الأسواق بعد أن كانت مقفلة نوعاً ما. على الأقل أخذاً باعتبار أن ثلث البشرية كانت تقع ضمن حدود المعسكر الاشتراكي. لكن ألفت النظر هنا إلى أن ماركس اكتشف الأزمات القصيرة المدى، أي ما ينتج عن الرأسمالية المتعولمة من أزمات من قبيل الركود الاقتصادي وتقلص الأسواق والبطالة إلخ. أما الأزمات بعيدة المدى، فلم يتطرق إليها ماركس، وتطرق لها مفكرون آخرون، مثل المفكر السوفييتي كونترال وغيره. وهناك بحوث حديثة تذهب إلى أننا الآن في طور انتهاء أزمة الثلاثين سنة، أي تلك الواقعة بين السبعينات؛ حيث الازدهار، والألفينات؛ حيث ما صرت تعرف الآن. كل هذه الأفكار وغيرها إنما تعيد الاعتبار إلى الوظيفة الأولى للماركسية بوصفها علماً في نشوء الأزمات الاقتصادية، وتطورها. وبالتالي فهي تمثل مصدراً خصباً لفهم عالمنا المعاصر.

نقد الأوهام

* على مستوى المراجعة الذاتية، هل الرجوع إلى ماركس، سيتيح فرصة لقراءة الرأسمالية قراءة جديدة، غير أيديولوجية؟

– إنها تتيح الفرصة لنقد الأوهام التي عمقتها الليبرالية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، والقائمة على النظر إلى السوق من زاوية إنها اليد الخفية التي توزع الخيرات بعدالة، وهي التي تحدد أعلى معدلات النمو و و… في حين أن الصحيح، هو أن السوق هي مصدر الأزمة. ذلك أن الوجه المالي المتضخم للرأسمالية المتعولمة هو منتج الأزمات الدولية. وأقول بالمناسبة، إن ما يجري حالياً لا يمثل الأزمة الأولى، كما قد يتوهم، صحيح أنها الأضخم والأكبر، لكن ثمة أزمات أخرى سبقتها لذات الأسباب. وذلك من قبيل بورصة نيويورك، وأزمة المكسيك، وأزمة الأسواق الآسيوية إلخ… فالعالم يشهد، منذ أن بدأت الرأسمالية المتعولمة، أزمات احتاجت وستحتاج دائماً تدخلاً من الدولة لإنقاذها. فالولايات المتحدة جمعت قرابة 50 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد البلجيكي من الانهيار. في الوقت الذي كان يعد هذا الاقتصاد نموذجاً للنجاح الليبرالي. بالتالي فإن تصوير الأمر حالياً على أنها المرة الأولى التي تتدخل فيها الدولة، فهذا غير صحيح. بهذا المعنى، فإننا نشهد الآن تساقط كثير من الأوهام، وعلى رأسها فكرة أن الدولة يجب ألا تتدخل في الاقتصاد. أبداً هذا غير صحيح، الدولة كانت ولاتزال مطالبة بأن تتدخل لإعادة توزيع رأس المال بعدالة. فالدول هي التي فرضت ما سمي بإعادة الهيكلة، وهي التي قامت بوضع التشريعات اللازمة، والأسواق أديرت بواسطة دول وكذلك رفع الحماية الجمركية. فلاشيء اسمه عدم تدخل. الولايات المتحدة تزعم أنها لا تملك ما يسمى «قطاعاً عاماً» في حين أنها تملك قطاع «البنتاجون» للسلاح والخدمة العسكرية الذي يمثل فخر الصناعة الأميركية اليوم. إنه قطاع عام لكن مغلف. ثم جاء الكشف حديثاً عن أن شركات النفط الأميركية – التي تربح مئات المليارات سنوياً – تتلقى الدعم من الحكومة. الأمر الذي وعد باراك أوباما في حملته الانتخابية بأنه سيلغيه. كل هذا ويقال إنه لا وجود لدعم حكومي أو لا دخل للدولة. لكن السؤال الأهم: تتدخل الدولة لصالح من* للرأسمال الكبير، كما هو الحال مع شركات النفط. أم لصالح أكثرية السكان المحتاجين*. إن ما يجري ليس الأخير للأسف، وهو ما يؤكد مقولة ماركسية ثانية، أن الدولة ليست سوى الجهاز التنفيذي لإدارة شؤون الطبقة المسيطرة.

* بقدر ما للحدث بضخامته من قدرة على أن يكتشف أوهاما ويحطمها، كما استعرضتها أنت الآن، فهو من جانب آخر، ينتج لنا أوهاما مقابلة أو يعود لإحياء أوهام شبه مندثرة. هل ترى أن اليسار الماركسي في العالم العربي سيعود إلى أوهامه أو ينتج أوهاماً جديدة، من دون أن يكون قادراً على أن يقرأ الحدث في عمقه؟

– بداية، لا يجوز أن نستنتج من الأزمة المالية نتائج اجتماعية وسياسية لا تتحملها أو هي غير موجودة. فما يزال باكرا الحكم على النتائج المتمخضة عنها. هناك توقعات الآن تذهب إلى أن الأزمة يمكن أن تنتقل من الدائرة المالية إلى دائرة الإنتاج؛ حيث ستصاب الاقتصاديات الغربية بحالة من الركود. ما يمكن أن ينتج عنه انخفاض هائل في الاستهلاك والطلب، وبالتالي تسريح أعداد هائلة من العمال والبطالة. لكن هل سيؤدي ذلك إلى نمو حركات اجتماعية جديدة* نعم، أعتقد أن ذلك حتماً سيحدث في الغرب أما في بلداننا العربية فإن الأمر مختلف. فعلى رغم كوننا بلداناً نعيش في القلب من عملية العولمة، إلا أننا نتصرف وكأننا على هامشها. غريب ما يحدث.

الماركسية ليست مطلقة الصحة

* على مستوى التلقي الديني بدأت الاتجاهات الإسلامية تتحدث عن حلول إسلامية لمعالجة الأزمة المالية العالمية، وعن وجود بديل إسلامي لنظام السوق الرأسمالي، وعلى مستوى تلقي اليسار، بدت خطاباته تؤكد صحة الاقتصاد الماركسي وحتمية سقوط الرأسمالية، استنادا إلى دليل أزمة السوق الرأسمالية الحالية. هل يمكن أن نعد هذه من الأوهام المقابلة التي بعثتها أوهام أزمة الأسواق مطلقة الحرية

– دعني أنبه أولاً إلى أن ثمة مقولات كثيرة في الماركسية لم تصح. بما في ذلك مقولات تتعلق بمصير الماركسية نفسها. فماركس توقع أن تزول الطبقات الوسطى ويتولد استقطاب بين رأس المال الذي يشكل أقلية مع العمال، وهؤلاء هم الأكثرية. وأن الانتقال إلى الاشتراكية يكون بواسطة عملية ديمقراطية. وكل هذا لم يحدث. لذلك أقول لا يوجد شيء اسمه، سقوط الرأسمالية. فالرأسمالية تطبع عالمنا، أما ما سقط فهو ذاك الادعاء بشأن أنها نهاية التاريخ، وتحديداً الرأسمالية المنتصرة التي تملك جواب مشكلات العالم. وقد تبين أن الرأسمالية لا تملك حلولاً للمشكلات التي تنشئها، سوى أنها تأخذ من الفقراء لتعطي الأغنياء. وذلك تحديداً ما فعله جورج بوش، حين أخذ المال من دافعي الضرائب وذهب إلى تزويد الأغنياء بها. وقد أسميت ذلك، تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح. أما ادعاءات الحركات الإسلامية، فهي لا أساس لها، والجواب على ذلك يأتي من معرفة أن هذه الحركات هي نفسها حركات ليبرالية رأسمالية. في لبنان مثلا، تجد أن الخصخصة الوحيدة التي حصلت، حصلت على يد وزير الكهرباء التابع لحزب الله. كذلك تجد أن البرامج الرئيسة للحركات الإسلامية تتحدث عن السوق وقدسية الملكية الفردية في مقابل الدولة والزكاة (التي تقوم على الإحسان) في مقابل النظام الضريبي و و…

* هل هذا ما عنيته في مقالتك «ما بين بوش وبن لادن من ليبرالية»؟

يشتغل خطاب أسامة بن لادن بين «حد» الجهاد و«حد» الرأسمالية السوقية الصافية، رأسمالية الاقتصاد الحر و«اليد السحرية». فتنظيم «القاعدة» تنظيم «ليبرالي» في الاقتصاد بكل ما للكلمة من معنى. فهل تختلف عنه سائر التنظيمات الإسلاموية التي قد لا تشاركه رؤياه ولا وسائل فرضها*

حقيقة الأمر انه من جبال الجزائر إلى هضبات الأناضول التركية مروراً بحواري القاهرة والاسكندرية وسوق صنعاء وحتى ضاحية بيروت الجنوبية، قد لا تجد نغمة تشذّ جذرياً عن هذه النغمة. معظم التنظيمات الإسلاموية ليبرالية في الاقتصاد وإن لم تكن ليبرالية في السياسة. من اجل استظهار المشترك بينها يمكن القول إنها تتشارك في ما بينها في أربعة منطلقات:

ـ مبدأ السوق.

ـ الملكية الفردية.

ـ الربح (مع الالتزام بتحريم الربا).

ـ ممارسة الإحسان.

قد يقال الكثير هنا. لكننا نريد التساؤل عن الفارق بين هذه المبادئ وبين مرتكزات العولمة الأميركية، عولمة لاهوت السوق وقدسية الربح والملكية الفردية وأوهام «اليد السحرية» للاقتصاد الحر تحقق التوزيع العادل بين فئات المجتمع.

والتساؤل هو بالتالي عن مقدرة الإسلاميين على التصدي لتحديات العولمة الأميركية، عولمة الشركات المتعددة الجنسية، والفقاعة المالية، وجزر الرفاه وسط عوالم مهمشة ونافلة، إلى آخره.

لذا أعتقد أن الحركات الإسلامية، كائناً ما كانت مذاهبها، لا تمتلك الجواب المختلف عن الرأسمالية. اللهم عدا تصورها ذاك لها بأنها مصدر الفساد الأخلاقي و و… في حين أعتقد أن اليسار على خلاف ذلك. ورغم كل ما يقال عن اليسار، إلا أن عليه الآن استعادة بعض معنوياته. هذه فرصة ليكشف بأن له دوراً في الحركات الاجتماعية، كما في إعادة الاعتبار للعامل الاقتصادي ودوره في حياة البشر.

هناك حاجة إلى النظرية

* خرجت من «منظمة العمل الشيوعي في لبنان» في ,1984 وتبنيت مبدأ النقد الذاتي وسعيت إلى إقناع العدد الأكبر من اليساريين بأن مهمة اليسار أن يعيد تأسيس نفسه لا أن يستمر حيث كان. إلى أي حد أتاح لك هذا الخروج المبكر، فرصة لقراءة الأزمة المالية الرأسمالية اليوم برحابة وموضوعية؟

– إن جلد الذات موضوع مختلف عن نقد الذات. أنا أفهم أن النقد الذاتي هو مراجعة الأخطاء وإسقاط المفاهيم والأوهام الخاطئة لصالح إعادة إنتاج صورة جديدة لعالمنا. ثمة عصر جديد، هو بالدرجة الأولى عصر العولمة. بالتالي فهناك حاجة لفهمه بوسائل جديدة. وأعتقد هنا أن كثيراً مما يسمى بالنقد الذاتي إنما هو نوع من التخبط أو المعاندة أو الندم. فكان من جراء ذلك، الخيار السهل لعدد من المثقفين، سواء كانوا يساراً أم قوميين وحتى إسلاميين، الانتقال من عالم الالتزام الفكري إلى عالم آخر، وليكن ذلك العالم هو الليبرالية. هذا أسهل الخيارات بديلاً عن إعمال آلة النقد الذاتي. في حين أعتقد أن التحرر يجب أن يكون من الماركسية السوفييتية التي طبعت عالمنا في وقت من الأوقات. كما من تكرار التغزل بالماركسية. في قبال ذلك، أدعو إلى تشكيل جهاز نظري جديد في تصرفنا تكون الماركسية أحد روافده وليست كل الروافد. بالتالي فإن النظرية هي نقطة الانطلاق لتحرير الواقع الراهن، وليس العكس، أي الواقع يكون منطلق النظرية ومؤكداً لمبدئها. على ذلك فلا يمكن أن توجد حركات اجتماعية من غير أن تكون هناك فكرة. لذا فلا معنى لوقوع بعض اليساريين الآن تحت طائلة الفكرة التي تقول إن عصر الأيديولوجيات انتهى. هذه واحدة من التبسيطات الشديدة، لايزال ثمة أيديولوجيا في عالمنا، وربما أكبرها في عالمنا المعاصر الآن هي أيديولوجيا ثورة الاتصالات. فثورة الاتصالات كلها قائمة على الأيديولوجيا. لذلك، فإن الفكرة القائلة بأنه يمكن أن تنشأ حركات سياسية من غير إيديولوجيا محض وهم. كما أنه من الوهم أيضاً حصر وظيفة المثقف في وضع قائمة بالطالبات وتعداد التمنيات. ذلك أن وظيفته الحقيقية هي إنتاج المعارف.

رغم كل شيء.. بقي اليسار اللاتيني

* بدأت نقلة أميركا اللاتينية اليسارية منذ وصول الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز إلى الحكم قبل عشر سنوات، من ثم أكملت مع رؤساء جدد في البرازيل (لويز إيناسيو لولا دا سيلفا) والأرجنتين (كريستينا فيرنانديز) وأوروغواي (تاباري فاسكويز) وتشيلي (ميشيل باشيليه) وبوليفيا (إيفو موراليس) والإكوادور وغواتيمالا ونيكاراغوا. كيف تقرأ عودة اليسار في أميركا اللاتينية؟

– أقرأها من جهة أنها تعد دليلاً على أن الأفكار لا تموت. نحن عندنا نفاذ صبر، وعندنا شيء يتسالم المثقفون العرب على تسميته «الرهان». ماذا يعني الرهان؟ أيضاً أتساءل.. لماذا على اليساري أن يظل ملتزماً بحد أدنى من الالتزامات؟ من وجهة نظري، أعتقد أن الأسباب التي أدت إلى الالتزام لم تتغير. في الوقت الذي يزداد فيه الفارق بين الأغنياء والفقراء. بينما الرأسمالية لا تجيب على المشكلات التي تعانيها أكثرية البشرية. بل وهي الآن أسوأ مما كانت عليه، حين كانت هناك ثمة منافسة مع الاتحاد السوفييتي. فوقتذاك كانت مضطرة لأن تقدم تنازلات وقد انتفى هذا العنصر الآن. الفارق الذي يؤدي إلى ما تشاهده الآن في أميركا اللاتينية من صعود إلى حركات اليسار الاجتماعية، هو أن هذه الحركات لم يجرِ تدميرها. لم تدمر النقابات ولا فئة الإنتجلنسيا التي ظلت تحظى بنفوذ واسع وحافظت على يساريتها. الأمر الذي قدّر لها أن تعيش مرحلة الكبوة، فالنهوض بعد ذلك. وما تمت زراعتها من أفكار «غيفارية» إبان الثورة الكوبية تلقفها الجيل اللاحق وأعطاها معنى جديداً، ومن ثم استطاع صوغها في برامج جديدة. المهم الآن أن ترتبط هذه البرامج بقواعد كبيرة من الفلاحين المحرومين وبمطالبات حقيقية. لقد بقيت في أميركا اللاتينية آثار الفترة الذهبية التي كانت فيها الحظوة للكفاح وللحركات السياسية والاجتماعية. في حين جرى تدمير كل ذلك في بلداننا. ما انعكس على الصفة التمثيلية لليسار. فهل يقوى على استعادة صفته التمثيلية الآن؟ هذا سؤال كبير.

ما الذي قادك إلى طريق ظفار؟

– ببساطة، كان الاستعمار البريطاني هو القوة المهيمنة في اليمن والخليج آنذاك. ذلك كان هو الجاذب الرئيس لي وآخرين من قادة اليسار وقادة الثورة من البحرين واليمن وعمان بصورة عامة. وفيما يتعلق بوضعيتي الشخصية فقد كان انخراطي في ظفار ناتج عن اهتمامي المبكر بالخليج. حيث كان لي نشاط في غضون دراستي في بريطانيا على صلة بالخليج، وقد أسسنا أنا وفريد هلي بلكنر ومجموعة من الشباب اليساري ”لجنة الخليج” بهدف التضامن مع شعوب الخليج والجزيرة واليمن ونضالاتها من أجل التحرر والاستقلال. وقد خطر في بالنا أنا وفريد أن نكتب كتاباً عن المنطقة، وكان أن منحتنا دار ”بنكويل” تمويلاً لإنجاز الكتاب وكذلك لرحلتنا إلى اليمن. كان ذلك في العام ,1970 وكنا فيما أظن أول العرب الذين وفدوا إلى ظفار بغرض تبيان التدخل البريطاني في المنطقة. وقد نجحنا في تصوير وقائع هذا التدخل بالتعاون مع الإخوان في اليمن الذين وفروا لنا فريق تغطية تلفزيوني. لكن حين وصلنا خشي الفريق من سوء الظروف، فأعطونا الكاميرات كما جرى تعليمنا كيفية التصوير التلفزيوني في ظرف نصف ساعة. وقد تمكنا من تصوير طائرات بريطانية، وكذلك طائرات خاصة، إضافة إلى التقاط صور لوثائق من الجيش البريطاني، ثم قمنا ببيعها على هيئة الإذاعة البريطانية (BBC). فكان أن جرت ضجة آنذاك، حيث كان ذلك هو أول كشف لوجود الفرقة الخاصة من الجيش البريطاني في ظفار.

سلمونا أجهزة التصوير وراحوا

هل استفادت من عملكم المخرجة اللبنانية (هيني سرور) في فيلمها »ساعة التحرير دقت« عن ثورة ظفار الذي حاز جائزة النقاد بمهرجان (كان) السينمائي في فرنسا؟

– لا، هيني كان عملها أكثر جودة. فنظراً لرداءة معرفتنا بأجهزة التصوير لم نتمكن من تصوير شيء خلال دقيقتين ونصف من الزمان. بالتالي فعملنا اقتصر على إيصال صورة الوضع في ظفار إلى الرأي العام العالمي. بالتالي فإن عملنا لم يكن فيلما سينمائياً محترفاً، كما هو الحال مع هيني.

هل تعرفت على الشخصيات البحرينية المناضلة في ظفار؟

– لا، فقد كنت على معرفة بعبدالرحمن النعيمي وعبدالنبي العكري منذ أيام الدراسة في لبنان. أما إبراهيم بشمي فقد كان مراسلاً لصحيفة الحرية التي كنت آنذاك أرأس هيئة تحريرها. وفيما أتذكر الآن أن إبراهيم كان مراسلاً مشاغباً وعنيداً، وكنا كثيراً ما نختلف. أتذكر أيضاً النقاشات الطويلة مع عبدالرحمن وعبدالنبي بشأن صلالة، وما إذا كان ينبغي إسقاطها. شخصياً كنت من أنصار إسقاطها وتحرير ظفار، فيما كان الخط العام في الجبهة الشعبية يتجه إلى طموح أكبر، ففي الوقت الذي كانت تنشط فيه الثورة في ظفار، كان الطموح يتوجه إلى تحرير الخليج كله معها. بالتالي فباسم تحرير الخليج فوتنا تحرير ظفار.

مصادرة مجلة «الحرية»

هل حضرت مؤتمر ”حمرين” في 1968الذي تم فيه تحويل جبهة تحرير ظفار إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل؟

– لم أحضر أي مؤتمر ولكنني كنت على اطلاع على مجريات جميع المؤتمرات من خلال وثائقها وكل الوثائق المتعلقة بالسياسة اليومية. من الطرائف التي أتذكرها هنا، هي أنه لدى ذهابنا إلى ظفار اكتشفنا أن المكان يتألف من نسيج قبلي. الأمر الذي لفت نظرنا كثيراً، كما لفتتنا أشكال عيش القبليين، فرحنا نتقصى ذلك بفضول شديد، وكتبنا في ”الحرية” عن التركيب القبلي المتفاوت. كان عملنا هذا يصطدم مع الأيديولوجيا السائدة التي كانت تتحدث عن صراع الطبقات. ما أدى إلى أن يبادر الثوار إلى منع أعداد المجلة من دخول المناطق المحررة. وقد برروا ذلك بأن الحديث عن القبائل يقسم الشعب. وحصل أن قلت لهم، إنه إذا كان أقرب الناس إليكم، وهي جريدة ”الحرية” الناطقة باسمكم تمنعونها فيما لم تتسلموا مقاليد الحكم بعد. فكيف إذا تسلمتموه! ما الذي سيحدث!!

أين كانت ممنوعة؟

– في المناطق المحررة. وشخصياً كتبت ستة مقالات في ستة أعداد من ”الحرية” وقد جرى منعها جميعاً [ضاحكاً]. والمفارقة هنا، أنه عندما سقطت المنطقة الغربية جرى تسليمي كراسات ثلاث تتعلق بالقبلية في ظفار. فقد تبين ساعتئذ أن ثمة قبائل مهمة كانت ملتحقة بالثوار، في حين كانت بريطانيا تسعى إلى استمالة بعض من هذه القبائل لتقاتل معها. وقد جرى ذلك فعلاً..

؟ هل كانوا يريدون أن يقرؤوا التركيبة السكانية بمختلف تكويناتها على أنها تركيبة طبقية؟

– كان هناك كلام كثير بهذا الصدد، وطبعاً كان يتم تحت اسم صراع الطبقات المأخوذ أساساً من ”الكتاب الأحمر”. لكن لدى الاشتباك مع الواقع الاجتماعي كان يتم اكتشاف أشياء أخرى. هناك قليل من التجار وكثير من العبيد من صلالة انضموا إلى الثورة، أما باقي التركيبة فريفيون ومزارعون ورعاة وكذلك عمال. هذه هي التركيبة الفعلية. أما المشكلة الكبرى، فكانت تلك المتعلقة بتحرير الخليج انطلاقاً من هذه البؤرة التي يفصل بينها وبين سلطنة عمان مسافة 500 متر من الصحراء. وهذا ما حصل لدى السعي إلى نقل العمل المسلح إلى داخل السلطنة.

على اليسار أن ينقد نفسه

تجربة ظفار التي عايشتها عن قرب ميدانيا هل استفدت منها في النقد الذاتي التي وجهته لذاتك الأيديولجية في 1984 لما خرجت من التنظيم؟

– لم أكتب بشكل كافٍ عن التجربة اليمنية التي تعلمت منها كثيرا. بالأحرى أنا كتبت ولم أنشر بعد. خصوصاً حول معنى أن تطرح الفكرة الاشتراكية في بلد فقير. حول الدرس المستخلص من كل ذلك، على الأقل الدرس الرئيس المتعلق بأن الثورة حين لاتستطيع إنتاج الثروة فإنها ستظهر وكأنها تنشر الفقر. من جهة أخرى، ثمة درس ثان، ويتعلق بالتركيبات القديمة المسماة قبلية أو مناطقية، فهذه المكونات ينبغي التعاطي معها بما هي مشاكل موجودة، وليس طمسها باسم وحدة الكيان أو وحدة البلد أو وحدة الدولة. إن رأيي الآن يتوجه إلى ضرورة أن يتوجه الرفاق في اليسار إلى النقد الذاتي، وأن هذا النقد إما أن يتم بسرعة أو يترك آثاراً سلبية على اللاحق، إذا كان ثمة من لاحق. فذلك هو التحدي الكبير لاكتشاف مواطن الخطأ، ومن ثم تجاوزها. أي لا يجب أن ننتظر الوقت لكي يثبت بطلان نظرتنا. الآن يتردد بكثرة كلام من قبيل.. معنا الحق فالرأسمالية لم تصمد. أو مادامت الاشتراكية لم تصمد فقد آن الأوان أن ننتقل من موقع فكري إلى آخر، وليكن هذا الموقع نيوبراليا أو أو. لا، هذا خطأ فالأمر ليس سباق هجن، إن لم تمش معنا الاشتراكية فستمشي حتماً النيوبرالية!!. فالعمل السياسي يرتبط بمصالح الناس، للأسف نحن يطغى لدينا بكثرة موضوع الأيديولوجيا والأفكار في حين تلغى مصالح الناس. في حين يجب ربط الأفكار بالمصالح، إذ أن الناس يقبلون على الأفكار من خلال المصالح، وليس صحيحاً أن الأفكار معلقة في الهواء.

وضح لي كيف توضع المصالح والأفكار في الاعتبار؟

– دعني أوضح الأمر بمثال، نستهلك كثيراً من الوقت في التفكير بالمؤامرات الأميركية والإسرائيلية فيما نحجم عن التفكير في المصالح. بينما الصحيح أن التكفير يجب أن ينطلق من المقلوب. فلمعرفة الخصم ينبغي أولاً معرفة كيف يتصور مصالحه في فترة معينة، ومواجهته من هذا المنطلق. وليس فقط معرفة كيف أنه يخطط لعمل كذا وكذا. السؤال: ماهي مصلحته!؟ جزء كبير ورئيسي من السياسة يدور بين أناس مستفيدين من الوضع القائم، وبالتالي فهم يلجأون إلى التمسك به، وآخرين غير مستفيدين، وبالتالي يعملون على تغيير هذا الوضع. بمعنى آخر، فإن الصراع يدور حول السلطة والثروة، من يملكونها ومن لا يملكونها. فيما المثقفون منقسمون بين الجماعتين هاتين. ما يعني أن الأمر يتعلق بالمصالح أولاً وأخيراً. مشكلة الليبراليين هنا، أو غير اليساريين بصورة عامة، أنهم يعتبرون الأفكار موضة، أتت في فترة ومن ثم انتهت بانتهائها. في حين ما يزال هناك من يتمسكون بماركسيتهم، ليس لأنها متماسكة فكرياً أو حاجتهم إلى هذه الأفكار التغييرية، إنما لأنها على صلة بوضعهم الحياتي. لذلك حين تجد أن نصف الشعب الفنزويلي 51 % يصوت لتشافيز فإنه يعي تماماً لماذا يصوت له من منطلق مصالحه. ومثل ذلك الذين يعارضون تشافيز أو لم يصوتوا له، يرون فيه وفي اليسار عموماً تهديداً لمصالحه. أيضاً، يجب التنبه إلى مسألة أخرى، في الشق المتعلق باليسار، فاليسار في فنزويلا جاء إلى الحكم بواسطة البرلمان والانتخابات وليس عبر انقلاب عسكري. هذا شيء مهم يرتبط بالفارق الجوهري بين الحركات الشعبية القديمة وتلك الجديدة. أيضاً، في السابق كان هناك التركيز على التنظيمات الحزبية والشعبية، الآن ضربت هذه التنظيمات، وحل مكانها شيء اسمه الشارع العربي. بالتالي فقد أصبحت هناك أشكال مختلفة للتعبير، جديدة، ما يدعو إلى دراستها والبحث في كيفية عملها، بدلاً من التركيز على الأساليب القديمة.

مشكلتي مع الأشكال الجديدة للثقافة

هل عنوان محاضرتك ”ليس بالثقافة وحدها يحيا الإنسان” هو تلخيص لهذه الفكرة؟

– العنوان جرى اختياره من قبل. والعنوان عام بسبب أنني أشتغل على المعاني المختلفة المعطاة لكلمة ثقافة. وتحديداً، ذلك الوجه المستخدم من طريق معدي تقارير التنمية البشرية والمعبر عنه في مصطلح ”مجتمع المعرفة”. والذي يكاد يتلخص في وضع الثقافة والتعليم في موقع يضاهي التنمية، أو يحل بدلاً عنها. إن شئت، فإن عنوان المحاضرة لا يشكك في أهمية الثقافة في حياتنا، بل ينقد الأشكال الجديدة من استخداماتها في الحياة المعاصرة. ومنها تلك الأشكال التي يتم التعبير عنها في تقارير التنمية.

فكرة الدولة أصبحت موضوعا لمراجعات كثيرة في السنوات الأخيرة، و أنت القادم من تجربة الدولة والطوائف في لبنان، في مراجعتك لذاتك ولماركسيتك، كيف ترى موضوع الدولة الآن؟

– ذلك موضوع سجال يومي بيني وبين الليبرالييين وما يجري تعميمه من كليشيهات من جانبهم. من هذه ”الكليشيهات”، ذلك الوهم الذي رافق عملية العولمة وروجه الليبراليون والقائل إنه في حال ضعفت الدولة سوف تقوى حريات المواطنين. شخصياً، أعتقد أن هذه الفكرة فكرة إجرامية. فماتزال ثمة حاجة للدولة، وفي بلداننا بشكل خاص تشكل الدولة أحد العناصر الرئيسة للتماسك الاجتماعي. ولبنان دليل على ذلك، فحين تضعف الدولة تقوى الطوائف من جانب آخر، وينفك النسيج الاجتماعي. أنا لا أعمم هنا، ولكن أعتقد أن دولنا حديثة التكون، ومايزال هناك دور أساسي للدولة ينبغي أن تقوم به على مستوى التعايش الاجتماعي ووحدة البلد. وهذا ما بينته بوضوح التجربة العراقية، فالأميركان دمروا الدولة العراقية، وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت الطوائف وتشظى المجتمع. وحتى من ناحية اقتصادية، ليس صحيحاً أن الدولة لا تتدخل، فالقطاعات العامة المتوارية في الدولة الرأسمالية أقوى بكثير من أي قطاع عام. وعلى عكس ما كان متوقعاً، فإن إضعاف الدولة قد أدى إلى زيادة تدخلها في الاقتصاد لكن لصالح رأس المال الكبير فقط. كما ليس صحيحاً أن إضعاف الدولة أدى لنموّ الحريات.

http://alwaqt.com/art.php?aid=137262&hi

http://alwaqt.com/art.php?aid=140269&hi

حوار مع علي الديري حول طوق الخطاب

علي الديري متحدثا عن كتابه الفائز بجائزة التميز 2008 “طوق الخطاب”:

أنا خارج طائفتي.. والخروج على «الأطواق» هو الرابط بين كتبي

النص حمّال ظواهر ولكل ظاهر طوق دنيوي

الاشتغال على تحليل الخطاب، لتحرير منظور الإنسان إلى العالم..

أجرت الحوار: أفراح الهندال

ما الذي يجعل ناقد مختص بتحليل الخطاب، مثل علي الديري، يذهب في كتابه الأخير “طوق الخطاب”، إلى دراسة رجل شريعة، مختص بعلم أصول الفقه، مثل ابن حزم؟ كيف بدأت العلاقة بينهما؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف أمكن للديري المناكف دفاعاً عن تشعيب الأنفاس وتعدداتها وتنوعاتها، أن يتذوق جماليات خطاب ابن حزم بحدته وحقيقته وبحسمها ويقينياتها؟ كيف يمكن لمزاج ابن حزم الذي يقول بأن “النص يعطيك ما فيه”، أن يكون مستمرَءاً من قبل مزاج ناقد، يرى أن النص يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية؟ كيف تذوق الأخير ظاهرية خطاب ابن حزم الأصولي؟ وهو القادم (سوسيولوجيا)، من تكوين عقائدي يحمل ابن حزم منه ومن مصادر معرفته موقفا سلبيا؟ وأخيراً كيف يفهم الديري شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة، من خلال شخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) الفقهية المتجهمة الحادة الأصولية؟

كان هذا بعض ما أخذنا إليه الحوار مع علي الديري. صاحب كتاب “طوق الخطاب” الصادر في 2007، عن مركز شيخ إبراهيم للدراسات والبحوث.

* تركز على الرمز والاستعارة والمجاز، ما وجه تركيزك هذا؟

الديري: أنا أرى أن الخطاب هو حقل من المجازات والاستعارات والتشبيهات والحكايات، بمعنى أن مكوّن أساسي من مكونات الخطاب، هي المجازات والاستعارات، وعبر المجازات والاستعارات يبني الخطاب مقدّماته ويرى العالم ويخلق نسبه، ويُقيم استدلالاته، ويبني حججه، فأنا معنيّ بالمجاز وبالاستعارات باعتبارها تشكل هوية الخطاب، وتخصصي الأساسي هو تحليل الخطاب، وبالدرجة الأولى أنا معنيّ في تحليل الخطاب بمكوّنه المجازي والاستعاري.

 الذهاب إلى ابن حزم

* من أي زاوية درست ابن حزم في كتابك طوق الخطاب؟

الديري: درست ظاهرية ابن حزم. لقد ذهبت إلى ابن حزم على وجه التحديد، لكي أرى إسهام ابن حزم من خلال علم الأصول في تحليل الخطاب أو ما تسميه اللسانيات اليوم بعلم تحليل الخطاب. كنت أريد أن أرى ما الذي أسهم فيه هذا التخصص أو ما الذي أسهم فيه هذا العلم العربي القديم (علم أصول الفقه)، وهو يعتبر بالمناسبة من العلوم الإسلامية الأصيلة، بمعنى إنه من العلوم التي لم تستوردها الحضارة الإسلامية من حضارة أخرى، وإنما أنشأتها هي إنشاءً، لكي تضع مجموعة من القواعد النظرية لدراسة الخطاب الديني المقدس، وهو خطاب القرآن وخطاب الحديث، ولكن هذه القواعد ممكن أن ننظر إليها اليوم، بأنها قواعد غير محدودة فقط بخطاب القرآن والحديث النبوي، وإنما هي قواعد تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات البشرية، فهي تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات الاجتماعية والسياسية والإعلامية.

لقد ذهبت أنا إلى ابن حزم في البداية لهذا السبب الأكاديمي، ولكني وجدت فيما بعد في طريق الذهاب إلى ابن حزم، أهدافا أخرى، ووجدت غايات أخرى ووجدت موضوعات أخرى في هذا الطريق. وربما يكون ما كتبته في هذا الكتاب، جزءاً مما وجدته، ويبقى الجزء الأكبر والأهم يتعلق بما لم أكتبه، لكنه حاضر في أفقي.

 دليل ابن حزم

* ولكن كيف تحددت الهوية، هوية الخطاب من خلال دراستك لأصول الفقه عند ابن حزم؟

الديري: لن أقول هوية الخطاب، لكي لا نستعمل مصطلحات قد توقعنا في لبس، سأقول ما هو مقوّم الخطاب، مقوّم الخطاب يعني ما هو الشيء الذي يقوم عليه الخطاب ويعتبر ركنا أساسيا من أركان الخطاب؟ أنا وجدت أن المجازات هي أحد هذه المكونات، لكن دراستي لابن حزم لم تكن اشتغالا على هذا المكون، فهذا المكوّن لم يشتغل عليه ابن حزم، هذا موضوع اشتغلتُ عليه تاليًا بعد انتهائي من ابن حزم.

موضوع ابن حزم في تحليل الخطاب ، كان الدليل ، وابن حزم يفهم الخطاب والدليل وفق إطار المنطق الأرسطي، فبالنسبة له أن علم المنطق الأرسطي هو العلم الذي يمكن من خلاله وضع قواعد نظرية لتحليل الخطاب، وهنا أريد أن ألفت إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن علم أصول الفقه علم يجمع عدة علوم مع بعضها ويستثمرها لتوليد علمه، فعلم أصول الفقه هو علم مكوّن من علم المنطق والفلسفة واللغة والبلاغة وعلم الكلام وعلم النحو، بل وحتى علوم الطبيعة تدخل فيه. جميع هذه العلوم يستثمرها هذا العلم ويولّد هو من خلالها أدواته فيما بعد

إحدى المكونات الرئيسية التي أسهم فيها ابن حزم في تشييد هذا العلم، وكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) يعتبر رابع أربعة كتب في تأسيس علم أصول الفقه في الحضارة الإسلامية، وقد أسهم إسهاما كبيرًا في إدخال المنطق الأرسطي ليكون مكوّنًا من مكونات علم أصول الفقه.

* على الرغم من استفادة ابن حزم من منطق أرسطو إلا أنه كان معروفًا بحدته وحدة كلماته، حتى كان يُضرب بها المثل بمقارنتها بسيف الحجّاج. كيف تفسر ذلك؟

الديري: فعلا لغة ابن حزم لغة على مستوى الحِجاج لغة حادة وحاسمة ويقينية ولا تقبل بفكرة تعدد الحقيقة، وأنا أُرجع ذلك إلى المنطق الأرسطي الذي يستند إليه ابن حزم في مفهومه للحقيقة. المنطق الأرسطي يعتمد على الحقيقة الموضوعية بمعنى الحقيقة التي هي موجودة خارج الذات، فنحنُ نصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجنا بتجردنا من كل هوىً، من كلّ ميْلٍ، من كلّ خطأ، من كل ضعف نظرٍ أو ضعف ذهنٍ، فأنت إذا توفرت على هذه الخصائص المتجردة من هذا الكل، استطعت أن تصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجك أنت، وستصل بطريقة موضوعية وسليمة ويقينية.

هذا المنطق اليقيني الذي استند إليه ابن حزم في فهم الحقيقة جعل من لغته لغة حادّة لا تقبل أنصاف الحقائق ولا تقبل ما يسميه هو بالمغالطات والتشغيب والتي في حقيقتها هي آراء أو حقائق أخرى لا يقرها دليله الظاهري. هناك قواعد منطقية تحدّد الحقيقة تحديدا صارمًا في المنطق الأرسطي، وقد صاغ ابن حزم من خلالها مفهومه للدليل الذي يحدد وفقه معنى الخطاب، وقد بلغت حدّة ابن حزم درجة أنه كان يقول: إن الذي لا يعرف أو لا يتقن المنطق الأرسطي لا يمكننا الثقة في علمه أو في فقهه، حتى لو كان فقيهًا. لكن علينا أن نقرأ هذه الحدة بإيجابية أيضا، فهي تستند إلى انفتاح ابن حزم على علوم الغير، وأقصد هنا المنطق الأرسطي الذي هو منطقٌ نشأ في حضارة غير الحضارة الإسلامية بل وفي بيئة غير دينية إذ هي بيئة وثنية لا علاقة لها بالدين السماويّ.

 كشف التلاعبات

كأن ابن حزم يريد أن يقول إنه لا يمكننا أن نفهم النصوص الدينية إلا باعتماد هذا المنطق، لذلك فأنا أفسّر حدّته بهذا الجانب العلمي. أيضا هناك مكون آخر بطبيعة الحال يتعلق بالجانب الاجتماعي وهو الجانب المتعلق بالمعارضات التي كان يواجهها ابن حزم من المذاهب الأخرى، وهذه المعارضات كانت ناشئة من كون أن الظاهرية التي يمثلها ابن حزم هي منهج جديد بالنسبة إلى بلاد المغرب والأندلس التي اعتادت الفقه المالكي، فحين يأتي فقيه بمدرسة جديدة هي المدرسة الظاهرية وهي مدرسة من المعروف أن أصلها مشرقي وكان ابن داوود الظاهري هو المؤسس لهذه المدرسة في القرن الثالث قبل أن يتسلمها ابن حزم ويتسلم معها كتاب ابن داوود (الزهرة) وهو كتاب في الحب. لقد تسلم ابن حزم ظاهرية الخطاب وظاهرية الحب وذهب بها بعيدًا في القرن الخامس الهجري.

تنشأ معارضات عند دخول نظرية جديدة أو مذهب جديد على حقل قد رتّب أوضاعه وأعرافه مصالحه ورتّب قواه وعلاقاته، وهذا ما توضحه نظرية “بروديو” في الحقل الاجتماعي وهي نظرية تفسّر الصراعات الاجتماعية في الأوساط العلمية والثقافية، سواء كان الأمر في حقل الأدب أو الفقه أو السياسية أو الوجاهة.

يمكننا أن نفسر حدّة ابن حزم بأنها نوع من ردّة الفعل على خصومه الذين كان يشنّعون عليه ويواجهونه ويحاولون أن يؤلبوا عليه الناس ويؤلبوا عليه ملوك الطوائف في تلك الفترة، وبالتالي نشأت لديه حدّة في مواجهتهم والرد عليهم من أجل الدفاع عن مذهبه ومنطقه، أي من أجل أن يموضع نفسه في الحقل العلمي الذي كان يكتب فيه.

أيضا هناك سبب ثالث يمكننا أن نفسّر من خلاله هذه الحدّة، وهو السبب المتعلق بأن ابن حزم كان شاهدًا على حكم الطوائف وكان أبوه شاهدًا على حكم استقرار الخلافة الأموية في الأندلس وقوتها، حين اهتز هذا الحكم وهذا الاستقرار، وجاءت ملوك الطوائف، وأخذ كل ملك ينشئ مملكته في طائفة أقل، حدث نوع من التشرذم في القوى التي كانت تحكم الأندلس، وهذه التشرذمات التي حدثت دفعت ابن حزم ليعبّر عن سخطه على التشرذم الموجود، أو لنقل هو يريد أن يدين أحد أسبابه، هذا السبب هو أنّ هذا التشرذم الموجود على المستوى السياسي والذي تبدى على مستوى ضعف الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، يأتي من أنّ كل أمير أو كلّ ملكٍ استقلّ بطائفة كان يستند في حكمه السياسي إلى حكم فقهي، والحكم الفقهي يضعه فقيه، لذلك لابدّ أن يكون هناك فقيه يتكيف أو يكيّف الناس لكي يُعطي مشروعية لهذا الحاكم، فوجد ابن حزم أن جزء من التلاعب في قراءة النصوص الدينية وتأويلها، يأتي ليحقق هذه المشروعية. هذا التلاعب هو المسئول عن التشرذم السياسي الموجود، فهو كأنه أراد أن يجعل من منهج الظاهرية منهجًا يفضح ويكشف هذه التلاعبات في قراءة النصوص.

 دنيوية الظاهرية

ينبِّه إدوارد سعيد في كتابه (العالم والنص والناقد) إلى ما لدى المدرسة الظاهريّة من أفكار في تفسير النصوص لا تعزل النص عن تفاعلاته الواقعيّة والبشريّة والثقافيّة، فالنص ظاهرة تعبيريّة ظرفيّة، يقترن معناها باستعمال وظرف محدّدين أي بوضع تاريخي وديني.

وتحقق ظاهرية ابن حزم ذلك بأن تجعل للنصوص والأشياء في العالم كيفيات بدل أن تكون لها جواهر باطنة وأسرار خاصة. وكيفيّات النصوص هي ملفوظاتها، وأبنيتها، وتراكيبها، وظروفها السياقيّة، وطرق إنتاجها، ومدلولاتها. تمثل هذه الكيفيّات ظواهر النصوص التي على العقل الاشتغال عليها، من أجل فهمها. وظاهريّة ابن حزم في قراءة الخطاب تمثل اجتهاده الخاص في قراءة هذه الكيفيّات في الدنيا. لذلك فالظاهرية قراءة دنيوية للنصوص، وهي حمّالة ظواهر، لأن في الدنيا لا يوجد غير الاختلاف.

 جماليات ابن حزم

لذلك ابن حزم لم يكن متصالحًا مع السلطات السياسية في عصره وتعرّض أيضًا إلى محاكمات قادته إلى سجن، وكان يقول دائمًا إنه ما كتب كتابًا أو ما كتب ورقة إلا وهو على قلق بسبب أنه إما أن يكون في سجنٍ أو يكون على هجرة أو يكون على هربٍ أو يكون على قلاقل سياسية.

هذه التركيبة أسهمت في تكوين مزاجه الحاد في الكتابة وفي الدفاع عن وجود حقيقة للنص واحدة ومعنى للنص واحد ظاهر لا يقبل التأويل، أي لا يقبل اللعب، ولا قبل التوظيف السياسي، ولا يقبل ميوعة في المعنى. ولعل جملة ابن حزم المكثقة “النص لا يعطيك إلا ما فيك” تخلص ظاهريته وموقفه من المرجعيات غير النصية التي تعطي معناها الخاص .

أنا أفسّر حدية مزاج ابن حزم بذلك، ومع ذلك أقول أنا قد استمرأتُ هذه الحدية ووجدت فيها جمالية أخرى، هي جمالية القلق المعرفي. وهذا جعلني متفهما لمزاج ابن حزم وعصره ولقلقه المعرفي الذي كان يشغله. المفكر أو الفيلسوف أو العالم، هو ليس فقط حصيلة علمه، وإنما هو أيضا خلاصة عصره وخلاصة القلاقل السياسية والاجتماعية التي يخوضها، والمفكرون العظماء أو العلماء العظماء تفكيرهم دائمًا يكون تفكيرا خارج الأطر الضيقة للعلم، فبالتالي هو يفكّر من خلال سياق العصر الذي يعيش فيه.

* كيف راقتك هذه الحدية وأعجبتك؟ هل هي ما جعلك تستند وتخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه وهذه الأمور.

الديري: دعيني أوضّح أولاً بأني لم أجد أن حدّة ابن حزم تتناسب معي، فأنا لستُ حادًّا في نقدي، ولستُ حادًّا في نظرتي للمسائل، ولست ممن يقولون بوجود حقيقة واحدة للنص، فالنص في مفهومي لا يعطيك ما فيه كما يقول ابن حزم، بل يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية، النص يعطي ما في أنفاس الخلائق. فأنا مختلف تمامًا في هذا المزاج، ولكن استطعت أن أتفهم هذه الحدّة، وأن أتذوق جمالياتها التي تحمل في داخلها قلقا معرفيّا وقلقا وجوديا وقلقا سياسيا للوضع الكائن في العالم، وجوانب من هذا القلق يمكن أن تفسر حدّة ابن حزم ضد التلاعب بالنصوص وبالحقيقة وبتوظيفها. استطعت أن أستوعب ذلك في هذا السياق، واستطعت أن أقرأ جماليات فيها أيضا وأن أتفهمها وأن أتذوقها بهذا المعنى. ولعل من المفيد أن أذكر هنا بعبارة شبنهاور “إن لم أجد شيئاً يقلقني، فهذا في حد ذاته يقلقني” التي يرددها دوما الصديق الأديب كريم هزاع، في سياق تبيانه لسيكيولوجيا المثقف.

 هوية المثقف

* أنت نشأت في بيئة دينية شيعية، وأَلِفْتَ مدوناتها التأسيسية، فما الذي جعلك تخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه؟

لماذا لم أذهب إلى المدونات والنصوص الشيعية بحكم قربي من هذه المدونات؟ أريد أن أوضح هذه المسألة الهامّة جدّا بالنسبة لي، أولاً أنا لم أدرس في الحوزات الدينية، كانت هذه أمنية من أمنياتي التي رافقت تكويني المعرفي والفكري فترة من الفترات. كانت لدي رغبة مقدسة للذهاب للدراسة في الحوزة، وهذه الرغبة أستطيع أن أقول إنها قد انتهت بعد السنة الأولى من تخرجي من مرحلة البكالوريوس في العام 1993، فقد دخلت مرحلة معرفية جديدة خرجت فيها من أطري الأيديولوجية والدينية والطائفية وبدأت أنفتح على العلوم الإنسانية بما هي أدوات لفهم الدين والتاريخ والمعرفة والحقيقة خارج المذهبيات والتحزبات والطوائف.

بهذا الخروج انتهى مشروع ذهابي إلى الحوزة، ولكن بحكم تكويني السابق على هذا الانفتاح، اقتربت من أجواء الحوزة واقتربت من كتبها، ودرست بعض مقدّماتها.

خروجي من هذه الأطر، جعلني أنظر إلى تراثي الإسلامي العربي الحضاري نظرة شمولية، لا يمكن أن أنظر إليه بعد هذا الخروج نظرة ضيقة، بأن أذهب إلى الكتب الشيعية وأبحث فيها، وكأنها تؤسس لحقيقة خاصة ومستقلة عن البقية، أو كأن لديها المنهجية الحقّة، وكذلك أصبحت لا أحمل دافعًا لخدمة مذهبي بأن أشتغل على تراثه بشكل خاص، لقد انتفى لديّ هذا الدافع الرسولي الذي كان حاضرا بقوة كما كان خالقا فيّ الرغبة المقدسة في الذهاب إلى الحوزة.

كما أنني لم أكن أيضًا أحملُ همّا، يتعلق بإبراز تفوّق علماء مذهبي، باعتبارهم هم السبّاقون أو المؤسسون أو الذين وضعوا أسس كل معرفة جديدة. لقد تخلصت من هذه الهواجس، وأصبحت لدي كل كتب حضارتي متساوية من حيث الأهمية، وأصبحت لدي كلّ الشخصيات الفكريّة في تراثنا متساوية، كلّها متساوية بمعنى أن كلّها لدي مسافة نقدية واحدة منها، ولديّ مسافة أيضا علمية واحدة، ولديّ إحساس بأنها تشكّل جزءًا من هويتي ليس لأحدٍ منها تكوين يفوق التكوين الآخر في هذه الهوية، وهذا شرط معرفي لمقاربة تراثنا. وإذا لم يكن لديك هذا الأفق الذي يجعلك ترى تراثك كلّه على مسافة واحدة، فأنت تُخلّ بشرط معرفي، ولا يمكّنك أن تقترب من هذا التراث، وتعرف حقيقته.

اتخاذي من ابن حزم موضوعاً أشتغل عليه، يأتي في هذا السياق، وبالمناسبة لم أدخل على ابن حزم بوصفه أديبا ولم أدخل عليه بوصفه أشهر من كتب في الحبّ، وإنما دخلت عليه من الشقّ المتعلق بالفقه، فهو الشق الأكثر تحدّيا بالنسبة إلى أي باحث يريد أن يتأكد فعلاً أنه غير متورط بأي انحياز مذهبي، أقول ذلك ونحن نعيش اليوم سُّعارا طائفيا بلغ أوج اشتعاله بعد حرب العراق، وأنا آتٍ من بيئة هي بيئة البحرين وهي البيئة القريبة من بيئة العراق، وهما البيئتان الأكثر حدّة في المسألة الطائفية، إذا ما وضعت هذا السياق في الاعتبار، فهذا يشعرني بشيء من الرضا لأنني قد ذهبت إلى ابن حزم، من دون أي اعتبار لموقفه الحاد من الشيعة ولموقف الشيعة الحاد منه، ودون اعتبار للحساسيات الطائفية المشتعلة اليوم. مع أني قد ذهبت إليه قبل هذا السُّعار، فأنا أنجزت هذا الكتاب في عام 2002 ، ونشرته في 2007.

* هذا سيجعلك تقع في دائرة أخرى، وهي دائرة النقمة من أهل مذهبك بتهمة الانتصار للمذهب الآخر؟

الديري: أنا خارج طائفتي من الناحية المعرفية، والمثقف إذا لم يكن خارج طائفته لا يعول عليه، المثقف ليس ناطقا باسم طائفته، عليه أن يكون ملعوناً من طائفته، كما كان الأمر مع الفيلسوف اسبينوزا.

 خارج الشحن العقائدي

دعيني أستكملُ لكِ الإجابة على سؤالك، أنا ذهبت لابن حزم وكنت أريد أن أرى إسهام علم أصول الفقه في مجال علم تحليل الخطاب، ولم أكن معنيًّا بهذه الهواجس كلها، وبالفعل وأنا أقرأ ابن حزم، لم تستوقفني جمله أو عباراته التي كان يظهر فيها موقفا مشنعاً من المذهب الشيعي، ومن مصادره المعرفية المعتمدة، حاولت أن أتفهم هذا الموقف في سياق عصره وفي سياق العلاقة بين الشرق والغرب وفي سياق الاحتدامات السياسية والصراعات المذهبية والجدل الكلامي، ولم تتحرك فيَّ بتاتًا نوازع الدفاع أو التصحيح أو التأثر بأن هذا ضد مذهب أنتمي إليه في مرحلة تكويني العقائدي، أو أنتمي إليه سوسيولوجيًّا حاليا. أنا وجدت نفسي خارج هذا الانتماء الديني الضيق، وإن كان هذا الخروج المعرفي لا يخرجك سوسيولوجيا، ولكنه لا بدّ أن يُخرجك على المستوى المعرفي، وهذا أقوله اليوم باعتزار، أن تستطيع أن تخرج عن تكويناتك الضيقة، وأن تذهب إلى الأشياء لتقرأها بتجرّد أكبر وبحقيقة أطلق (أي أكثر طلاقة) وبأفق أوسع. أقول هذا الكلام اليوم وأنا أعيش هذا الشحن الطائفي بشكل يثبت أن التاريخ انقطاعات وتراجعات وانه لا يسير إلى الأمام دوما ولا يصل إلى نهايته.

سألني أحد الأشخاص بعد أن قدّمت محاضرتي حول هذا الكتاب في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث: كيف يمكن أن يكتب شخص من قرية الدير الشيعية عن ابن حزم؟ فابتسمت له، وقلت له: أنا لم أذهب إليه بصفتي شيعياً، ذهبت إلى ابن حزم بصفتي محلّل خطاب، ومحلل الخطاب لا يحلل الخطاب من منظور مذهبي أو منظور ديني أو أي منظور ضيق، محلل الخطاب بقدر ما هو يُخضع تحليله لأدوات معرفية، فإنه يتحرر من هذه الأطر الضيقة التي تفرض عليه منظورات خاصة، كذلك جاءتني اعتراضات كثيرة كلها تصبّ في هذا المنحى، فأحدهم كتب لي: كيف تكتب عن هذا الناصبي؟!! إنه مصطلح مشحون بتاريخ الخلافات المذهبية، وإذا لم تخضع هذا المصطلح إلى تحليل نقدي وتاريخي، يجعلك على مسافة من الخطاب الذي يمثل بيئته العقائدية، فإنك لن تكون أكثر من مجادل عقائدي يهدر وقته في الانتصار لمذهب يعتقد أنه سينجيه يوم القيامة.

 قواعد الإحكام

* طوق الخطاب يُشير إلى طوق الحمامة بينما الكتاب لا يتناول هذا المنحى ولا هذا الكتاب، فما الرابط بينهما؟

الديري: موضوع طوق الخطاب ليس طوق الحمامة، موضوع طوق الخطاب هو كتاب ابن حزم في أصول الفقه وهو الإحكام في أصول الأحكام، هذا الكتاب يتكوّن من ألف صفحة تقريبا، موضوعه علم أصول الفقه، وما هو علم أصول الفقه؟ الأصول تعني قواعد أو قوانين، الفقه هو الفهم وأصول الفقه تعني قواعد الفهم أو قوانين الفهم، فهم ماذا؟ قواعد فهم الخطاب، الخطاب القرآني والخطاب النبويّ، فأصول الفقه هي أصول بمعنى قواعد وقوانين فهم خطاب القرآن وخطاب الحديث النبوي، منظورًا إلى الخطاب هنا بما هو مجموعة من الأوامر التي تحدد للإنسان ما يجبُ عليه وما لا يجوز له وما يستحب أن يقوم به وما هو مكروه، بمعنى أنه علم قواعد فعل الأمر الموجود في الخطاب، وهذا فعل الأمر يأتي تارة للمنع والنهي، وما بين النهي والأمر يأتي المستحب والمكروه، فكل هذه القواعد تحاول أن تقرأ هذا الفعل – فعل الأمر وفعل النهي – في مدوّنة كبيرة جدا هي القرآن والحديث.

نحن هنا بحاجة إلى قواعد تبيّن لنا وتفسّر لنا صيغ الأمر لهذا الخطاب، فلذلك عنونت الكتاب بعدة عناوين قبل أن أستقر على العنوان الأخير، منها “قوانين تفسير الخطاب” ” قواعد تفسير الخطاب” “قوانين الإحكام” ” قواعد البيان” ” أصول البيان” لأن الفقه عبارة عن بيان، فعندما تفقه الشيء تستبين ما فيه، أي تطلب بيانه، وأيضا ممكن أن نقول إنها أصول تفسير الخطاب، تسميات كثيرة ممكن أن تعبّر عن موضوع هذا العلم، لكنّي فضلتُ أن استعمل عنوان ” طوق الخطاب”، فلماذا استعملت هذا العنوان؟

هناك سبب أوليّ يتعلق بطوق الحمامة، أردت أن ألعب على عنوان كتاب ابن حزم طوق الحمامة وأشتق منه وأفهم من خلاله عمله في علم الأصول، وهنا أريد أن استرجع حادثة وقعت لي في أوّل مرة وقعت فيها على كتاب ابن حزم في علم أصول الفقه (الإحكام في أصول الأحكام) وجدت أن لغته وموضوعه غريبان على صوة ابن حزم التي في مخيلتي. انتابتني لحظة شك، هل اسم ابن حزم المكتوب على هذا الكتاب هو نفسه ابن حزم صاحب كتاب (طوق الحمامة) الذي يتحدث عن الحبّ بلغة أدبية جميلة وبحرية ليست محكومة بقواعد الأمر والنهي.

 بين طوقين

كنت أقارن شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة كما رسمتها مخيلتي، بشخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) التي بدت لي شخصية عالمية فقهية متجهمة وحادة وأصولية، رحت أراجع سيرة ابن حزم حتى تأكدت أن صاحب ذلك الكتاب (طوق الحمام) هو نفسه صاحب هذا الكتاب (الإحكام في أصول الأحكام)، ولكن بقى هذا التساؤل لدي من دون إجابة. ولم أسع للإجابة عليه، لأنه لم يكن ضمن حدود بحثي، كان حدود بحثي فقط هذا الكتاب بغض النظر عن ذاك الكتاب، فذاك الكتاب يخصّ الدراسات الأدبية أكثر، هذا الكتاب وجدته خاصا بالدراسات المتعلقة بدراسات تحليل الخطاب.

بعد انتهائي من الكتاب بفترة، حاولت أن أفهم معنى الطوق، الطوق هو علامة تدل على الجمال، وتدل على القدرة، وتدل على الطاقة.كيف يمنحك قدرة؟ لأنه يعطيك قوة ويجعلك متماسكا، فحين تطوّق شيئا تجعله متماسكا، فكأن طوق الحمامة يُماسك الناحية الجمالية لديها، فيعطيها الزينة، ويعطيها القدرة لكنها تبقى مقيدة به.

هذه المعاني وجدتها أيضا حاضرة في كتاب الإحكام، ما هو الإحكام؟ الإحكام هو عبارة عن تقييد الشيء، فأقول أنا أحكمت الطوق، وحين تحكم الشيء تعطيه قوة، وأيضا في إحكامك تعطيه جمالا، لأنك تبرزه وتظهره بشكل ما، فكأنك أظهرت تماسكه، فوجدت أنا إن قواعد ابن حزم لتحليل الخطاب أو أصول ابن حزم هي عبارة عن طوق للخطاب، بمعنى أنها تقيّد فهمك وقراءتك للخطاب وفي الوقت نفسه هذا القيد يمنحك قدرة، لأنها مجموعة من الأدوات التي تعينك لقراءة الخطاب، وهي تمنحك قدرة بمعنى طاقة، والطوق من فعل الطاقة والطاقة هي عبارة عن قدرة، قدرة على قراءة الشيء أو على التمكّن من الشيء، وفي الوقت نفسه أرى أنها تمثل ناحية جمالية لجهد إنساني، وأي جهد إنساني نحن ننظر إليه من ناحية جميلة، لأن الجهد الإنساني جميل بالمعرفة التي ينتجها، فأنا سميت طوق الخطاب دراسة في ظاهرية ابن حزم وكنت أعني بذلك مجموعة الأدوات التي وضعتها الظاهرية لقراءة الخطاب، نظرت إلى هذه الأدوات على أنها تعينك وتمنحك قدرة قراءة الخطاب، وتقيّد قراءتك للخطاب وأيضا هي عنصر جمالي بما هي جهد إنساني. بعد ذلك عليّ أن أرجع إلى قواعد التفكيك التي هي أيضا جزء من ممارسة تحليل الخطاب، وقواعد التفكيك، لأن علم تحليل الخطاب ليس محصورا في منهجية معينة، ولا في أدوات معينة، هناك أدوات كثيرة في تحليل الخطاب، ومدارس كثيرة وعلوم كثيرة ومنهجيات كثيرة فأنا أيضا أخرج على طوق ابن حزم لكي أقرأ طوقه، وفي قراءتي لطوق ابن حزم حاولت أن أفسر أيضا هذا الإحكام أو هذا الطوق في القراءة. لماذا كان ابن حزم يقيد قراءة النص بالدليل الذي لا يسمح إلا لحقيقة واحدة أن تظهر؟

 مقاربة مختلفة

* قمتَ بتقديم كتابك في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث، لماذا لم تقدم كتابك في كلية الشريعة أو مكان ينتمي للشريعة باعتبار دراستك تعني المعنيين بدارسي أصول الفقه، وهل تعتقد بأنهم مهتمون بالإطلاع على هذا الكتاب؟

الديري: أنا أتمنى أنهم غير مهتمين وأتمنى أن لا يُفهم كتابي أنه متعلق بعلم الشريعة بتاتا، هو ليس كتاب في الشريعة.

كان في محاضرتي أستاذ جامعي عراقي قضى أكثر من ثلاثين عاما في كلية الشريعة، ويدرّس المناهج الفقهية فيها، قدّم مداخلة أشاد فيها بمحاضرتي، وقال إن هناك العديد من الأمور التي لا يتفق فيها معي، ولكنه قال إنه يحترم وجهة نظري وأفقي في دراسة ابن حزم.

كنت حريصا أن أبيّن أن مقاربتي لابن حزم مختلفة عن مقاربة علماء الشريعة لهذا الموضوع، هم يذهبون إليه كصاحب مذهب، وأنا أذهب إليه كصاحب طوق، أنا أذهب إليه كعالم لديه مجموعة من الأدوات منبثقة من أفق نظري في قراءة الخطاب، فلست أراه صاحب مذهب في مقابل مذاهب أخرى، أنا معني بإبراز منظومته المعرفية في قراءة هذا الخطاب، لذلك كنت أتحدث عن خلفيته المعرفية والفلسفية والمنطقية وكنت أتكلم عن فهمه، وأحاول أن أعرف في منظومته ما هو الفهم وما هي المعرفة وما هي اللغة وما هو الخطاب وما هو العقل وما هو الدليل.الإجابة عن هذه الأسئلة تحدد لي الأفق المعرفي الذي يشتغل من خلاله ابن حزم، لذلك أنا لست معنيا بالقراءة الشرعية وصحتها.

* هناك من يذهب إلى أن علم أصول الفقه هو علم خاص برجال الدين والحوزات وبالتالي فأنت لست سوى متطفل لا تفقه فيه ولا تفهم. ما رأيك؟

الديري: كما قلت لكِ فحسب تفسير (بروديو) للحقل، كل تخصص يحتكره أصحابه، وحين يدخل شخص من خارج الحقل أو تدخل نظرية جديدة أو مفهوم جديد إلى الحقل، يُستفزّ بعض المشتغلين في الحقل، فيبدؤون يدافعون عن أعرافهم وبعضهم يستوعب الجديد ويكيف آليته وفقه، وأنا أتفهم هذا البعد، لذلك أقرأ الاعتراضات التي أبداها البعض، في هذا السياق، وقد لاحظت أن بعض آلية الدفاع عن الحقل تقوم على آلية التجهيل، وذلك بأن يحاول أن يُجهّل معرفتك أو يحاول أن يبحث عن أخطائك ويقلل من فهمك لهذا العلم، ليُسقط مقاربتك بهذه الطريقة، وهذه مسألة صارت معروفة، فعوضا أن أُستفزّ من خلالها أو أردّ عليها، أحاول أن أفهمها.

 فخ الطوق

* إذن أنت أوقعت الكثير في الفخّ، هناك من أخذ الطوق إشارة إلى طوق الحمامة، وهناك من أخذ ابن حزم وكتاب الإحكام إشارة إلى الشريعة والفقه. فهل تعتقد بأنه موجه لدارسي علم الخطاب؟

الديري: الكتاب فعلا يُوقع في هذه الالتباسات والأفخاخ، وكلما كثرت أفخاخ الكتاب، فتح شيئا جديداً، أو لنقل أنه ينقل الجدل إلى منطقة جديدة، وبالفعل حدث ذلك، وأنا بالدرجة الأولى أقول هو يقع ضمن تخصص تحليل الخطاب، ولكن هذا التخصص مفتوح على كلّ التخصصات، الإنثربولوجيا وعلم الكلام والفقه والمنطق والفلسفة واللغة وعلوم الذهن. ولأنه مفتوح على تخصصات معرفية متنوعة، فهو تشكيلة من العلوم، بل هو يدفعك إلى أن تنفتح على العلوم المختلفة وأن تبحث عن تواشجاتها واتصالاتها وحواراتها الداخلية، وترى كيف أن إعطاء معنى للنص هو محصلة التقاء علوم كثيرة وحوارات داخلية ثرية بين علوم كثيرة.

كان ابن حزم يعتقد أن دليله وحده قادر على أن يعطي معنى النص، وأن علم الأصول وحده قادر على أن يعطينا معنى الخطاب، ومع انفتاحنا على مختلف العلوم، سنكتشف أن كل علم يعطينا شيئا من معنى الخطاب. وليس هناك تخصص يحتكر حقل المعنى.

* ما الرابط بين الكتب الثلاثة التي أصدرتها؟

الديري: أنا أجد هناك روابط كثيرة، كتابي الأول ” التربية ومؤسسات البرمجة الرمزية، كيف تُنتج المؤسسة الذت” كنتُ معنيّا فيه بطوق الثقافة بما هي فعل تربية، لأقول التربية بمعناها الأوسع، التربية بما هي صناعة فرد وإقناع ووجهات نظر ومجموعة من القيم المعدة لتطويق الإنسان، التربية بهذه المعاني أجدها طوقا، هي خطاب يطوّق فهمك، ويطوّق فكرك ويطوّق ذاتك، ويطوّق كل ما فيك في إطار معيّن.

كتابي الثاني في الحقيقة هو (طوق الخطاب) الصادر في 2007، وكتاب الثالث هو ( مجازات بها نرى) الصادر في 2006 وهو يحاول أن يقارب المجازات والاستعارات والتشبيهات، بما هي طوق للحقيقة، فالمجاز يطوّق الحقائق ويجعلها تبدو جميلة ومقنعة ومحكمة ولديها القدرة على الإقناع والتنوير والرؤيا، فالمجازات والاستعارات هي أدوات للإقناع وأدوات للرؤيا وأدوات للفهم وأدوات لصناعة القناعة وتشكيل العقل، وهي أدوات كل خطاب، لذلك فالخطاب هو حقل من المجازات.

وهذا الكتاب هو أيضا يرى أن علم أصول الفقه أداة، أي هو طوق يطوق الحقيقة ويطوّق المعرفة ويطوق التأويل والنص. بل يطوّق فهم الإنسان والجماعة وفهم عصر من العصور، فالكتب ثلاثتها ممكن أن نقاربها بما هي طوق على الحقيقة، وطوق على الإنسان وطوق على العقل، فكيف يستطيع الإنسان أن يفهم أطواقه المختلفة في أشكاله المختلفة.

 تحرير المنظور

* إلام تريد أن تصل؟ أقصد ما همك الأول، ما الهاجس المسيطر عليك؟

الديري: تحرير الإنسان أو أقل تحرير منظورات الإنسان في النظر إلى العالم والنظر إلى الحقيقة والنظر إلى الإلوهية والنظر إلى ذاته والنظر إلى الموضوعات العامة، تحرير هذا المنظور يحتاج إلى جهد كبير جدا، هذا المنظور ليس جهازا مادياً، فهو جهاز معنوي يتبدى في شكل خطاب، ويتبدى في شكل لغة، ويتبدى في شكل ثقافة، ويتبدى في شكل تربية، ويتبدى في شكل مؤسسة، إذا كنت أريد لهذا المنظور أن يتحرر لابدّ أن أعرف كيف يتجسد في هذه الأشكال، أجد إن علم تحليل الخطاب هو الميدان المعرفي الذي يمكن أن يقدم لي معرفة ما أريده.

* من يعرفك يعرف ابن عربي وتعلقك الشديد به، على الرغم من منهجيته وأسلوبه ومعتقده وفكره المخالف تماما لابن حزم. فكيف تجمع الاثنين ؟

الديري: قراءتي لابن عربي قد جعلتني أستوعب ظاهرية ابن حزم بشكلٍ أكبر. وهذا السؤال سأرجئه لحوار آخر، فهو بحاجة إلى اتساع يليق بحجم الرجلين.

جريدة أوان الكويتية

http://www.awan.com.kw/node/106177

جريدة الوقت البحرينية

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=128121

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=129026

حوار مع سليمان زغيدور(2-2)

التقته «الوقت» على هامش ندوة في مركز الشيخ إبراهيم.. سليمان زغيدور: «2-2»

إسلام الأوروبيين عاطفي روحاني.. وقضية حجاب وعمائم عند المسلمين المهاجرين

 

”حارس الليل لكن ليس حارس القبيلة”. هكذا يلخص الصحافي الفرنسي من أصل جزائري سليمان زغيدور موقفه من مهنة الصحافي اليوم بعد ثلاثين عاماً من العمل في الصحافة. ويقول ”إنني أعمل في الصحافة لأنني أحب هذه المهنة وليس لأنها شيء خارق”. ويجادل زغيدور أن الصحافة اليوم تواجه تهديداً بفعل ثورة المعلوماتية والإنترنت أكثر من ذاك الذي كانت تواجهه على الدوام من طرف الديكتاتوريات وأجهزة الرقابة. كما ينتقد التعريفات التي تحصر وظيفة الصحافي في عملية نقل المعلومات.

قال ”تلك مهمة يمكن أن تؤديها وكالات الأنباء لكن مهمة الصحافي شيء آخر تماماً”. وأضاف موضحاً عبر الاستناد إلى تجربته في هذا المجال ”أنتمي إلى مدرسة ترى إمكان إضافة إضاءات إنسانية وعاطفية على الخبر شريطة الموضوعية”. الأمر الذي يعتقد أنه يشكل نقطة الافتراق مع الصحافة المعاصرة التي تغلب عليه شروطاً معيارية. مثل معظم جيله، لم يدرس الصحافة لكنه عرفها ”في المخبزة” كما يعبر مستفيداً من حكمة فرنسية. ”الوقت” التقته على هامش زيارته إلى البحرين في فبراير/ شباط الماضي للمشاركة في ندوة عن ”المسلمون في أوروبا” بمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. فيما يلي الحلقة الثانية من الحوار معه:

* ما الذي تعلمته من تجربة التغطية الصحافية لثلاث مناطق من العالم بدءاً من أميركا اللاتينية وصولاً إلى الشرق الأوسط، روسيا وآسيا الوسطى. الحوادث الساخنة، المشكلات المستعصية الخ؟

– في الثمانينات كانت بلدان أميركا اللاتينية عبارة عن ديكتاتوريات قتل وذبح. كانت عنفاً رهيباً يجتاح المدن والقرى. لكن الآن الوضع تغير كثيراً. في المقابل، فإن الشرق الأوسط ما يزال غارقاً في الفقر والظلام الخارق. ورغم الثروات الطبيعية التي يتوفر عليها، الغاز والبترول، إلا أنه ما يزال يحتضن بين ظهرانيه أكبر نسبة أمية في العالم. أكثر حتى من قارة أفريقيا السوداء. في حين تحث التعاليم القرآنية على القراءة والكتابة. ”اقرأ” كانت أول كلمة نزلت من القرآن بينما نجد اليوم أن نحو 65% من العرب المسلمين لا يقرأون.

* هل وجدت ثمة شبهاً بين مشكلات العوالم الأخرى التي قمت بتغطيتها واحتككت بثقافتها وعايشتها وتلك المشكلات الموجودة في الشرق الأوسط والعالم العربي؟

– هناك أوضاع في روسيا تشبه إلى حد كبير الأوضاع في العالم العربي. فروسيا لديها ثروات بشرية وعلمية رهيبة. ولديها ثروات معدنية وطبيعية أيضاً. لكن مشكلتها تكمن في النخبة السياسية المهيمنة. فالقوة تلعب دوراً على الصعيد الاجتماعي أكثر من الحوار. في حين يبدو المواطن معزولاً تماماً عن الدولة. فهي تحتقره وهو يخاف منها. ثمة صراع بين الدولة والمجتمع، بين النخبة المهيمنة وعامة الشعب. وهو الأمر الذي يكاد يسم معظم الأوضاع السائدة في العالم العربي.

* كيف تنظر إلى بعض الأدبيات التي يتم ترويجها، في الإعلام خصوصاً، والتي تعطي المشكلات الموجودة في العالم العربي طابعاً بنيوياً. وأنها تتعلق بفكرة الاستبداد الشرقي القديم وطبيعة الأعراف الثقافية الموجودة هنا، ما يعني أنها مشكلات غير زمنية وتكاد تتسم بالثبات. هل توافق هذا الرأي؟

– أبداً، لا أتفق مع هذه النظرية. فكأنما الخلل عائد إلى عنصر بيولوجي، جين معين أو خلايا جينية هي التي صنعت الديكتاتوريات. لا، أنا أختلف مع ذلك أننا إذا ما سلمنا بهذا الرأي علينا أن نستسلم. بمعنى أن علينا الوقوف مكتوفي الأيدي حيال الأوضاع السائدة. بالنسبة لي، المجتمع كائناً ما كان هذا المجتمع، عربياً أو غيره، ليس كياناً طبيعياً. إنما هو تشكيلة ثقافية يتم صناعتها، منذ لحظة كون المرء فرداً في البيت. ليس ثمة قدر خاص يجعل بعض الشعوب تعيش الحرية والديمقراطية، وقدر آخر يجعل شعوباً أخرى تعيش الظلم والاستبداد. المسألة تتعلق بالتكوين.

* من خلال وجودك في فرنسا واهتمامك بشأن الأوروبيين المسلمين، كيف تجد الصراع الثقافي بينهم وأولئك المسلمين من أصول غير أوروبية، فضلاً عن غير المسلمين. إلى أي درجة يشكل هذا الصراع أزمة حقيقية عند الفرنسيين وعند الأوربيين عموماً؟

– قضايا الهوية وصراع الشرق والغرب هي قضايا خاصة بالنُخب. هناك مدارس عدة مرتبطة بحركة الاستشراق في فرنسا. هناك المدرسة التي تعتقد أن الضفتين الشمالية والشرقية لحوض البحر الأبيض المتوسط تشكلان حضارة واحدة بثلاثة أديان. وهناك المدرسة التي تقول إن هناك حاجزاً بين جنوب وشرق المتوسط والضفة الشمالية، فضلاً عن الحاجز بين الإسلام والمسيحية. فإذن ثمة مدارس عدة في النظر إلى هذا الموضوع، وليس ثمة موقف واحد سائد. طبعاً، في الخطاب الصحافي تجد أن الأطروحة السائدة تلك التي تضفي أبعاداً صراعية على الأمر. ولكن ثمة معارضة واسعة لخذخ الأطروحة. برأيي، في المجتمعات العربية يوجد الصراع نفسه. هناك من يخاف من الغرب ويعتبره معسكراً يجهز للحرب الصليبية الثامنة أو التاسعة، مدفوعاً بحقده على الإسلام والرغبة في تدميره. ويمكن إدراج قضية الكاريكاتير المسيء للرسول في إطار المعضد لهذا النوع من الفهم. وهناك في المقابل وجهة النظر الأخرى. لكن كما أسلفت، فإن تلك مدارس ترتبط أولاً وقبل كل شيء بأقليات نخبوية.

* هل تشكل هاتان المدرستان نوعاً من التوتر على صعيد الثقافة الأوروبية؟

– أي مجتمع يوجد به مستوى من الحيوية لابد وأن يحيا نوعاً من التوتر. فالتقدم والديموقراطية لا يحولان من دون ذلك. الديموقراطية هي أن يأتي هذا التوتر في إطار سليم مانعاً من تطوره وتحوله إلى عنف. التوتر هو سمة حياة المجتمعات بيد أن الأهم أن تكون هناك قوانين ودولة تضبطه في حدود. بحيث تمنع خروجه من إطار الحوار والدخول في العنف.

* هل يمكن إدراج العنف الذي شهدناه قبل عامين في ضواحي باريس ضمن هذا النوع من التوتر؟

– هذا التوتر اجتماعي، في كل الضواحي التي لا يوجد بها مسلمون تجد المشكلات ذاتها. فطوكيو مثلا لا يوجد فيها أي مسلم، ولكنك تجد الشيء نفسه. مأساة الضواحي في معظم دول العالم هي مأساة كونية. في البرازيل أو كولومبيا أو نيويورك هي ذاتها. هم لا يتوترون بسبب كونهم مسلمين إنما بسبب كونهم يعيشون في ظروف اقتصادية معينة. ولو كانوا كلهم مسيحيين لكانت المشكلة نفسها.

* أيضاً، كيف تنظر إلى بعض القضايا التي تصلنا مضخمة، مثل قضية منع الحجاب في المدارس الفرنسية. هل هي جزء من توتر ديموقراطي طبيعي في المجتمع الفرنسي أم ماذا؟

– قضية الحجاب ليست موجودة فقط في فرنسا بل في البلدان الإسلامية أيضاً. ففي تركيا دار جدل رهيب عن الحجاب منذ مؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك ( 1881 – 8391 ). وفي تونس أيضا موجودة قضية الحجاب. بالنسبة إلينا في فرنسا يمكنني أن أشير إلى مسألة مهمة. ثمة أقليتان مسلمتان: أقلية مسلمة لكن علمانية، وهذه ليست لديها أية مشكلات. وأقلية أخرى مسلمة لكن محافظة. هؤلاء هم من أخذ قضية الحجاب وقاموا بتضخيمها من أجل اختبار قوتهم في المجتمع. في المقابل وجد العلمانيون المتزمتون في الأمر اختباراً لقوتهم هم الآخرون أمام طموحات الجمعيات الدينية، سواء أكانت إسلامية أم غير إسلامية. وهكذا جرى الصراع بين المحافظين على الجبهتين، الإسلامية والعلمانية.

* نعود إلى اهتمامك الشخصي بالأوروبيين المسلمين. عادة ما نجد اهتمام الباحثين ينصب على المسلمين المهاجرين في حين أتى اهتمامك على العكس المسلمين من أصول أوروبية. ما الذي دفعك إلى هذا النوع من الاهتمام؟

– أتى الاهتمام من طبيعة تجاهل المسلمين العرب في خطابهم للمسلمين الأوروبيين وتركيزهم فقط على المسلمين المهاجرين. في حين يعيش في أوروبا اليوم مسلمون تمتد جذورهم إلى خمسة قرون خلت مثل الألبان والبوسنيين والبلغار. إن هذا التجاهل يذكرني بموقف المسلمين آنذاك بالمسلمين الذين فضلوا البقاء في أسبانيا تحت سيطرة المسيحيين بعد انهيار دولة الخلافة. فقد وصفوا آنذاك بـ ”المسلمين المدجنين”!! ولا أدري ما إذا كان الموقف الحالي نوعاً من الاستعادة في اللاشعور لهذا الموقف. ثم أن هناك، وهذا عامل ثان عزز من طبيعة اهتمامي، إسلاماً أوروبياً مختلفاً – نحو 21 مليون مسلم من أصول أوروبية في حين يصل تعداد المسلمين المهاجرين إلى 51 مليون نسمة -. تماماً كما يوجد إسلام تركي مختلف وإسلام عربي وإسلام أفريقي. لكن ميزة هذا الإسلام الأوروبي هو قدرته على الاندماج في أجواء أوروبية علمانية لكن من دون أن يفقد ضميره أو رابطته مع تراثه.

* لكن ألا يمكن أن يضعك هذا الاهتمام في إطار التصنيف تبعاً لانتمائك العربي والإسلامي. الأمر الذي يجعلك تدور في دائرة ضيقة. خصوصاً في بلد ذي تقاليد علمانية عريقة مثل فرنسا؟

– أنا لا أكتب أو أفكر انطلاقاً من كوني عربياً أو مسلماً أو فرنسياً من أصل مسلم أو أصل عربي أو أو. إنما أكتب من منطلق كوني متحرراً من كل هذه الروابط. ذلك أنني أعد هذه الروابط وتلك التي من نفس الجنس قضايا فردية تهمني أنا. وفي الكتابة أحاول التحرر من سلطة القضايا الفردية لصالح الاستقلالية. إن ذلك هو الذي يمكن أن يجعلني نزيهاً وموضوعياً في مهنة تتطلب ذلك إلى حد بعيد.

* هل تشعر أن هذا الاستقلال يُنظر إليه بهذا الشكل من قِبل القراء المسلمين أم أن هؤلاء يصنفونك أيضاً؟

– من الأشياء التي فرحت بها في أثناء ممارسة مهنتي كصحافي، أو عبر إلقاء آلاف المحاضرات في أوروبا، فضلاً عن تلقي الكتب التي وضعتها، أنني لم أجد أناساً جديين يقرأون الأفكار التي أطرحها من خلفية كوني عربياً أو مسلماً. على الأقل، لم أشعر في لحظة أن هناك من ينظر إلى الأمور من هذه الزاوية.

* لماذا تعتمد على الريبورتاج الصحافي في حين تبدو مقلاً جداً في الإطلالة الصحفية على مستوى أعمدة الرأي؟

– نوعان من الناس: الناس الذين يحاولون أن يغيروا العالم، والناس الذين يحاولون أن يفهموه. أنا من الناس الذين يحاولون أن يفهموا العالم. لكي تغير العالم لا بد أن تكون لديك مواقف قاطعة وإلا فلن تستطيع أن تفعل شيئا. أنا لا يوجد لديّ هذا الشيء.

* كيف يختلف الإسلام الأوروبي عن إسلام المهاجرين؟

– أولاً، هم في معظمهم مسلمون على المذهب الحنفي في حين معظم المسلمين المهاجرين، المغاربة خصوصاً، هم على المذهب المالكي. وإن يكن بعض المسلمين المهاجرين، الأتراك الألمان مثلاً، حنفيين، لكنهم أقلية. ثانياً، إسلامهم عاطفي روحاني أكثر من كونه إسلاماً يتعلق بالمظاهر، إطالة الذقن أو لبس الحجاب والعمامة إلخ الخ. مثلاً في روسيا، تجد مطعم ماكدونالدز قبالة أكبر الجوامع الإسلامية في موسكو. وتجد المرأة الروسية تحمل قطعة الشال في حقيبتها. تضعها على رأسها ما إن تدخل إلى الجامع، وحال خروجها منه تقوم بنزعها وإعادتها إلى الحقيبة. ثم تعود تستأنف العمل بشكل طبيعي، حالها حال النساء الروسيات الأخريات. من جهتهم، فإن الرجال يفعلون الشيء ذاته، حيث يقومون باعتمار الطاقية عند دخول الجامع ونزعها عند الخروج. الأمور تجري بسلاسة جداً، ولدى ذهابك إلى بيوتهم تشعر بجو إسلامي حقيقي.

* هل تعرضت إلى أخطار حقيقية في أثناء عملك صحافياً ميدانياً ضمن بعض البؤر الساخنة؟

– نعم بالتأكيد، أكثر من مرة. في البرازيل، روسيا وفلسطين. ذات مرة كنت متوجهاً إلى مدينة نابلس، تحديداً إلى حي يقطنه بعض اليهود. كانت الأجواء متوترة جداً في حين لم أكن أعرف أن عند مدخل القرية يقع حاجز إسرائيلي. أثناء سيري على الطريق الرئيس لمحت الحاجز. قلت في نفسي.. إن علي أن أكمل الطريق لأنني لو دلفت عائداً فسيتم إطلاق النار علي. وهكذا مضيت سائراً نحو وجهتي إلى أن وضع جندي إسرائيلي البندقية قبالة عيني. أجبرت نفسي على التسرية عن ابتسامة ما دعاه إلى خفض البندقية. كنت خائفاً وكان هو خائفاً أيضاً ظناً من أنني يمكن أن أقوم بتفجير نفسي أمامه. سألني عن هويتي فقمت من جهتي بوضعه في صورة مهمتي الصحافية. شعرت أن علي التحدث معه حتى أذيب التوتر وأجعل العلاقة إنسانية.

* لكن ما هي المواقف الأكثر صعوبة؟

– في أثناء حرب الشيشان تفجرت عنصرية رهيبة في روسيا حيال المسلمين. وصدف في أحد المرات أن كنت ماراً بجانب أحد الفنادق في الوقت الذي كان بعض الروس السكارى خارجين منه. فأرادوا الاعتداء علي. وفي البرازيل غرقت بنا الباخرة التي كانت تعبر بنا نهر الأمازون. وفي فلسطين كاد بعض المتظاهرين الشباب الغاضبين يمزقوننا إرباً أنا وصحافي فرنسي بسبب أن ملامحنا غربية لولا أنني بادرت بالقول.. صلوا على النبي. حيث فعلت الكلمة سحرها ومنعتهم من أن يقوموا بإيذائنا.

سليمان زغيدور في سطور..

– سليمان زغيدور هو رئيس تحرير TV5 ومراسل كبير عمل لدى صحف محلية مثل لوموند وجيو وتيليمارا، الباييس (اسبانيا)، أند اكس (المملكة المتحدة)، وناشينال ريفيو (الولايات المتحدة). وهو باحث مساعد بمعهد البحوث الدولية والاستراتيجية (ايريس) وقد عمل عديد المرات مستشاراً حول قضايا المغرب والشرق الأوسط.

– ولد العام 3591 في القبيلة الصغيرة في الجزائر، يعيش في باريس منذ العام 4791. وهو كبير محرري مجلة الحياة la vie الأسبوعية منذ 1991. مخرج ريبورتاج ”الحج إلى مكة” لبرنامج: مبعوث خاص، فرانس2، ومستشار في برنامج ”خاص بالجزائر” الذي يخرجه ”تييري تتوللير”، ومستشار في قضايا: المغرب، الشرق الأوسط، وذلك لكل من: Pour TF1, RF3, RF1, TV Canada.

– من مؤلفاته: ”مكة، في قلب الحج”، ”الرجل الذي أراد مقابلة الله”، ”الإسلام في 05 كلمة”، و”الحياة اليومية في مكة، من أيام محمد وإلى يومنا هذا”. كما أعد كتاباً حول العلاقة بين فرنسا والإسلام منذ احتلال الجزائر 0381.

– حصل على عدد من الجوائز، أهمها: جائزة كليو للتاريخ 0991، جائزة فرانس ميديتيرانيه 2891، وجائزة كولومب الذهبية للسلام، من مؤسسة البيرتو مورافيا، 6991.