أرشيف التصنيف: نعي

علي أحمد الديري: في رثاء السيدة عصوم

أخواتي في زيارة السيد معصومة في أيامها الأخيرة

توفيت أمس، آخر صديقات جدتي سلامة سلوم في حلقتها الضيقة في الدير،عصوم، الاسم المدلل يبقى محبباً في التداول في ثقافتنا المحلية، تكبر النساء ولا يغادرن دلال أسمائهن.
أختي معصومة وجدة أمي سيدة معصومة، وزوجة ابن خالي معصومة، وكلهن قريبات من القلب في العائلة، لكن حين تقول لي إمي: تسلم عليك عصوم وتسأل عنك، أعرف مباشرة أنها السيدة معصومة بنت سيد عبد الله سيد هاشم.
أسمع صوت سلامها الرخيم الحنون يضرب في قلبي. تعزيني بالأمس أمي، وهي لا تدري بأنها تزيد وجع فقدها في قلبي: كانت تحبك وكأنك سيد من أبنائها السادة. وتضيف: رحم الله أم السادة، لقد أعطاها الله من بر الأبناء، على قدر صفاء قلبها، كانوا يحملونها على أكف قلوبهم، من غير ملل ولا جزع، طوال فترة مرضها الذي أقعدها لأكثر من عشر سنوات، بل إنهم أخذوها لزيارة الإمام الرضا بمشهد المقدسة وهي على حمّالتها، لتهدأ روحها المشتاقة لأهل البيت.
ربطتني صداقة طفولة بابنها السيد إبراهيم، كان صورة من أمه في طيبته وأخلاقه وصفاء قلبه، كان من دوننا حين تقع عينه على كسرة خبز في الطريق يأخذها بحنو بالغ ويقبلها ويرفعها على إحدى الجدران كي لا تطأها الأقدام، إنه احترام للنعمة لا أشك أن أمه السيدة معصومة قد أودعته في معتقده وسلوكه، فصار علامة في أخلاقه.
عدت لرسالتها الصوتية الأخيرة لي في العيد الماضي “هلا ومرحبا يا بوي، شحوالك، حيا الله شيخ علي، حيا الله شيخ علي، يواليك يا بويي العافية وطولة العمر” كانت تظنني على الهاتف معها، وتنتظر ردي عليها. لم يسمح فارق التوقيت بيننا أن أسمعها ردي في الوقت نفسه لتطيب نفسها المشتاقة لكل شيء يذكرها بصديقة عمرها سلامة سلوم، فالأكيد أن تضاعف محبتها لي تأتي من جهة ما احتفاء بسلامة. تخبرني أختي فاطمة أنها يستحيل أن تنسى ذكر سلامة في أي زيارة تذهب إليها، كأنها تعالج قلبها باستعادة حكاياتها معها، فقد شكّلت ثلاثيا خاصاً جمع بينها وبين شقيقتها بتول وصديقتهم سلامة. كبروا وما كبرت عادت الطفولة وبراءتها فيهم، لا تشتهي الواحدة منهم ثوباً وإلا أحبت أيكون لصديقتيها مثله، حتى حين كبر سيد محمد ابن بتول وصار يعمل بالخارج، أخذت تشترط عليه ألا يأتيها بثوب مفرد، لا قلب لها أن تلبس ثوباً لا تلبس مثله سلامة وعصوم.
ظلت ترسل لي هداياها ولم يقعد المرض حواسها عن تفقدي، ولم تمنعها مغادرتي للوطن طوال هذه السنوات من وصلي، وكأنها تشمّ فيّ رائحة سلامة. حين وصلتني هديتها (تولة) العود الفاخرة، صرت أستخدمها بحرص بالغ في شتاء بيروت وصنعت على وقع رائحتها العابقة ذاكرة جميلة، وانتقلت معي للشتاء الكندي القارص تدفئني بحميميتها. في زيارتها قبل الأخيرة، كانت متألمة حين اعتذرت لها أمي عن قبول هديتها لي، قالت لها غير مسموح أن نرسل له شيئاً بعد أن صار في كندا، لم يعد الأمر كما هو حين كان في بيروت.
تحكي لي خالتي خاتون عن وعيها بهذه العلاقة الحميمة بين أمها والشقيقتين عصوم وبتول، تقول وعيت على الدنيا، وكأني أراهم يعيشون معنا في البيت، يترددون على مجلس أمي ومأتمها طوال اليوم، هكذا كانت تفعل عصوم وبتول وأمهم مريوم بنت حجي عبد الله البابور، وأختهم غير الشقيقة شروف التي أصبحت ملاية رئيسية في مأتم جدتك.
تضيف الخالة خاتون التي تتلمذت على صوت (شروف) وملايات مأتم أمها، وقُدّر لها أن تكون في الدفعة الأولى لبنات الدير الملتحقات بالمدرسة وسط معارضة اجتماعية واسعة: وُلدت في اليوم نفسه الذي أنجبت فيه عصوم ابنتها الكبيرة فاطمة سيد حميد سيد موسى (أم حسين)، وأكملنا بصداقتنا صداقة الأمهات وصداقة العمات أيضاً فقد كانت عمة أمي (بنت الحايي) صديقة عمة عصوم (هاشمية سيد هاشم)، لقد أتاحت الجيرة القريبة إلى حد تلاصق البيوت أن تمتد علاقاتنا الاجتماعية عميقا.
أذكر من هذه الطفولة جماليات تفوق الوصف، لقد أطلقت شيخة جدة فاطمة لأبيها على فاطمة لقب (المشمومة) لفرط محبتها لها وتدليعها، وجدت تشابهاً بين قصر فاطمة وجمالها ورائحتها الزاكية، حتى غدا الاسم المحبب بيننا لفاطمة هو (المشمومة). أما أنا فقد كان خباز والدي يصنع حلوى مميزة، وتدليعاً لي فقد أطلق عليها اسمي (صرة الخاتون).
ما انقطعت (عصوم) عن مأتم سلامة حتى وهي على كرسيها المتحرك، تغالب مرضها لتتحمل مشقة الحضور، وحين وجدت في سنواتها الأخيرة أن المرض ألزمها الاستلقاء على الفراش، صارت ترسل تبرعاتها للمأتم في كل المناسبات.
تلفتني أمي وهي تحكي عن بيت سيد حميد سيد موسى زوج عصوم، إلى أني مدين في حياتي لهم، فقد كان سيد عيسى (الضرير) الأخ الشقيق لسيد حميد، هو من تعتمد عليه سلامة سلوم لتوفير الأضحيات صعبة الشروط، فهو من يعرف كيف يُحضر لك الطُمطم الأسود والديك الصحيح ليفدي حياتك من تهديدات (التابعة) التي دوماً تهددني بأخذ أعز ما أملك، وما كان غيرك.

يا هلال الدير.. في نعي الدكتور علي هلال

كنا صغاراً نحضر الاحتفالات الدينية في المسجد الغربي بقرية الدير. أستمع إليك بإعجاب شديد، يشدني صوتك الإذاعي الجهور، ولغتك الواضحة المخارج، وكلماتك المعربة، واستعاراتك البلاغية، ما كان ينافس ناصية منصتك عريف آخر. لكأنك كنتَ تقدم خطابا إذاعيا لجمهور ألف نبرات صوتك المميزة.

لم نكن نجرؤ على الاقتراب منك، أوحى لنا مدرسونا في المأتم الذين هم تلامذتك المباشرون، أننا نحتاج أن نرتقي أكثر لنكون في مقام القرب منك. لاحقا فهمت أن كلمة السر تكمن في (العلم) و(الثقافة)، لم تولع بشيء قدر تولعك بالكتب وعالمها وطلب العلم ومراتبه. من يريد الاقتراب منك عليه أن يعرف هذا السر ويعمل على فتحه.

جئت من بيئة شديدة الفقر، في المال والعلم والشهرة، حفرت فيها عميقاً وشققت منها طريقاً، صرت علامة فيه، ولم تنس أبداً أن تأخذ معك أبناء قريتك، كنت تحترق لتدفعهم نحو الطريق، ظللت بكلماتك تنير لنا الدرب، تستفزنا نحو المعرفة، تستحقر كل شيء لا يكون مضاءً بقنديل الكلمات. حقاً لقد كنتَ هلال الدير.

في هذه اللحظات أقرأ كلماتك الأخيرة لي بدموع حارقة، لكأني أفتقد أبوتك الروحية الملهمة، أسترجع تصبيحتك قبل أشهر وأنا أبشرك بقرب صدور كتابي الجديد (بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل)، فتفتح صباحي بنور كلماتك “أهلا دكتور أبا باسل، صباح الثقافة والتنوير، تلك بشرى في ترقبها”. وأدعوك لمحاضرتي في الصيف الماضي في العراق فتجيبني بلوعة الشوق “يا ليتنا كنا من الحاضرين.. دمت موفقا دكتورنا أبا باسل”.

كم هو حارق لقلبي أني لم أستطع أن أوصل لك هذا الكتاب، بسبب هذا الحظر الذي يمارسه وطني ضد كلماتي التي تهجيت مقاماتها البلاغية تحت منصة أستاذيتك. أسترجع صورك وأنت تحضر في بيتي حيث صالون هيبا الثقافي، حفل تدشين كتابي (نصوص متوحشة) ما كنتُ أنا حينها هناك، لكن صورك وأنت تضم الكتاب أعطتني إحساس الاحتضان، وكأني كنت أسمع تعليقاتك السريعة البديهة وضحكاتك التي تكشف جانبا من شخصيتك الشعبية المحببة.

أتذكر لحظات تحولي الفكرية في بداية عشرينياتي، كنت في مجلسك تحيط بي كتبك، أراجع معك أسئلتي الجامحة لندوة أردت أن أكون فيها فوق منصتك في المسجد الغربي من قريتنا، أردت أن أحاورك حول هواجسي المعرفية الجديدة، لم تجفل من أسئلتي ولم تكبح اندفاعتي، وكنتَ تتبسم وأنا أردد كلمة جديدة تعلمتها (الدوغمائية)، قلت لي هل تريد أن تخرج المعتقدات عن طبيعتها الجامدة، حينها لن تكون معتقداً، ستكون فكرة عابرة، خجلت من نفسي حينها وتعلمت من درسك الضمني ما جعلني أكثر ثقلاً وأنا أقارب معتقدات الآخرين.

أسترجع الآن، بروفايل الشيخ حمزة الأب الآخر الذي تربيت على أخلاقه الروحية الجميلة، حين انتهيت من كتابته “الشيخ حمزة الديري.. سيرة الحُسن الناقص” دفعته إليه، بانتظار أن تصحح شيئا أو تعدل تاريخاً أو معلومة فأنت مرجعنا في تاريخ القرية وتاريخ رجالها، بأدبك الجم كنت تخجلني، بكلمات لا أستطيع أن أكتبها الآن.

وأنا أُحدث باسل في هذه الغربة، كثيراً ما كنت أستمتع وأنا أسرد له سيرتي في القرية وسيرة أساتذتي وفضلهم الكبير في صناعة شخصيتي، كنت أتطلع إلى أن أعرفك به في زيارتنا القادمة للعراق التي عشقها باسل كما عشقتها أنت حتى صارت مهبطاً لروحك المشرقة، أتحسر الآن على رحيلك المبكر، قبل أن أتمكن من تقديمه إليك، باعتباره أحد ثمرات كلمات منصتك البليغة، لقد عشق (السر) الذي أودعته أنت في طفولتنا وربيتنا عليه.

سنبقى أطفالاً دوماً، نتطلع إليك من تحت منصتك، تدوي كلماتك في فضاء أرواحنا، تملأنا بالحماس لملاحقة النور وظلاله، سنكمل كتابة تاريخ الدير، وسندشن منصة هذا التاريخ تحت اسمك هلالاً مكتملاً.

سَعُّود بنت حجي عبدالرضا

بعد صراع مع المرض الذي أقعدها خمس سنوات في فراشها، توفيت يوم 18/1/2017صديقة جدتي سلامة سلوم، عرفناها باسمها المدلل (سَعُّود) وهي (الحاجة سعدة عبدالرضا أحمد يوسف الديري) والدها الملا الحاج عبدالرضا، من أعلام قرية الدير مؤسس حملة (الديري) للحج والزيارات.

أحفظ أسماء صديقات جدتي وتورايخ وفياتهن، فهن جزءاً ليس من ذاكرتي فقط بل من سيرتي، كنت صديقهم بقدر ما كانوا صديقات جدتي، كُنّ يسألن عنها ويتفقدنها، ولأني جزءا من سيرتها وعالمها، فكان السؤال والتفقد والحب يشملني، تحضرني الآن من الأسماء وأكتبها على النحو الذي كنا ننطقها نطق تدليع: زهيرة، مريوم، شروف، صفوي، عصوم، سَعُّود، نصرة، فضة.

كانت أم علي (سَعّود) صديقة جدتي صديقات طفولة من دون أن تكون بينهم جيرة أو قرابة نسبية، بينهما حب فائض، تنادي كل واحدة منهما الأخرى (خيوه). لا أحد يعرف كيف نسجوا هذه العلاقة، أمي صباح ترجح أن العلاقة بدأت من (المعلم) عند الحاجة شريفة بنت يوسف، مع هذا الترجيح يبقى هناك سرّ أظنه ذهب مع رحيلهم، فهذا الحب العميق من أسرار الأرواح التي تأتلف بقدرة ربانية يصعب تفسيرها. لا تمل جدتي من الحكي عن متانة هذه العلاقة، وتظل تحكي قصة الخلاف الذي وقع فيه أهل الدير في الستينيات وانقسم فيه أهلها قسمين متشاحنين، على رأس هذا الخلاف تقع عائلة سلامة جدتي من جهة وعائلة سعّود من جهة أخرى، وصل التهديد لكلتيهما أن يقطعا العلاقة، فكان أول امتحان قاس لصداقتهما، ولأن الحب يتغدى بالمنع والحظر، فراحت كل واحدة منهما تحتال على قوانين الحظر، فتبتكر لها طريقة للتواصل مع الأخرى، غالبا ما كانتا تتخفيان تحت جنح الظلام، ليلتقيا تحت جناح نور المحبة التي جمعتهما.

فيما بعد نسي الناس خلافاتهم، لكنهما لم تنسيا قصة المقاومة من أجل الحب والصداقة، وظلت كل واحدة ترويها للأخرى وللآخرين حتى صارت جزءا من تاريخ هذه العلاقة.

تروي أختي الصغرى (زينب) الحفاوة التي تعطيها كل واحدة منهما للأخرى حتى آخر نفس فيهما: كنت في الثامنة من عمري رسولة (سلامة) ومرافقتها إليها، بل كنت أنتزع هذه المهمة انتزاعا، لا أسمح لأي أحد أن يتولاها، فهناك ينتظرني كيس مشحون بالحلويات وآيسكريم الأميرة والكاكو والمينو وتشكيلة مما لذّ وطاب، والويل لمن يقترب منه.

في كل المناسبات لا تنسى (سلامة) صديقة روحها، مع هلال محرم تجهز لها كسوة السواد من الثياب، من بضاعة متجرها الذي كان هو نفسه مجلسها النسائي بالبيت، وخلال أيام عاشوراء ترسل لها بين يوم ويوم قدرها المخصص لها، هي تعرف أن مأتم عائلة صديقتها النسائي يطبخ كل يوم لكن مكانة (سَعّود) في قلبها توجب عليها أن تخصها بشيء من بركة مأتمها.

حين تشتد بسلامة آلام الظهر وتجد صعوبة في حركة القيام والجلوس، كانت تطلب أن تأخذها السيارة إلى حيث بيت رفيقة عمرها، فتخرج (سعّود) لها وتحضنها وهي جالسة في السيارة، تتزودان من بعضهما ما هو فائض فيهما، فتمنح كل واحدة منهما الأخرى طاقة حب تعينها على تحمل آلام المرض وقسوة الزمن وتناقص الصديقات.

تحرص كل واحدة منهما على ترسيخ تقاليد محبة خاصة بها، ف(سعّود) ظلت ترسل عيديتها (10 دنانير) وكأنها تناغي إحدى حفيداتها، بإدخال الفرحة عليها في يوم العيد.

لقد قلت إن شيئا من سيرتي يتعلق بصديقات جدتي، ليس السيرة فقط، بل حتى وجودي البيولوجي يتعلق بهم، فقد عانت والدتي من مشكلة إجهاض الحمل عدة مرات، فكانت تبوح جدتي لصديقتها (سعّود) بمشكلة ابنتها، فأرشدتها ل(مريم جان) الحاجة المحاطة بالأوراد والأدعية والأضحيات والبخور والطقوس، خضعت والدتي، لوصفة من وصفاتها، فجاءت ولادتي عليها، وظلت الوصفة نفسها تُتُبع بحذافيرها مع 13 ابناً، كنت أنا أولهم، جئت محاطاً بالنذور والقراطيس والأسرار والأحراز، وكانت جدتي المشرفة على تطبيق تفاصيل الوصفة ومتطلباتها فيما تتولى (مريم جان) قراءة الأوراد على الأضحية، ولعل أصعبها كان البحث عن تيس (طمطم) أسود، ظلت جدتي تكلف الضرير السيد عيسى أخ السيد حميد جارنا للبحث عن هذا الطمطم مع كل حمل لوالدتي، يظل معها بالبيت طوال فترة حملها وتتولى هي بيدها إطعامه، ويذبح مع الولادة، ويكفن ويوضع معه كيلو دهن أخضر وست بيضات وكيلو سكر، ويدفن في مقبرة الدير، كل ذلك إرضاءً لما كانت تسميه أمي وجدتي و(سّعود) ومريم جان (التابعة).

أضحيتي تنام هناك في مقبرة الدير، وجدتي تنام هناك أيضا وصديقاتها يجاورنها واليوم تتبعهم (سّعود). لكني في هذه اللحظة من لحظات احتضار كل شيء في وطني لا أعرف إن كنت سأتبعها حين تأتي ساعة اليقين.

من هي هذه (التابعة) وكيف تحضر في المنام لوالدتي وماذا تطلب منها وكيف تتدخل في حملها وتهددها بقتلي إن حاولت أن تقوم بأي عملية (ربط) عن الإنجاب، تلك قصة تطول.

رحم الله (أم علي) وأسكنها مع جدتي فسيح جناته

ماذا تعلمت من جورج طرابيشي؟

2922848172

في فبراير 2011، كنت رشحت كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة” ليكون كتاب جلستنا الثقافية الشهرية في مقهى الصديق كريم المدحوب (بيستاشيو) في المنامة، كنت متحمساً كثيرا للكتاب، وأردت من خلاله أن أثير جدلاً  فكريا ودينيا حول التوظيف السياسي لمدونات الحديث، وكيف لعبت دوراً كبيرا في صناعة المذاهب الدينية، والاحترابات الطائفية، كان الكتاب ممنوعاً في بيروت وممنوعاً في الخليج، وحصلت على نسخة منه عبر الصديق محمد المبارك الذي تكفل بإحضاره لي من الخارج.

لقد سبقنا حدث 14 فبراير في البحرين، ودخلت قوات الجيش السعودي في 16 مارس 2011 فصرنا خارج الحلقة الثقافية، حدث ما يشبه الشلل الثقافي أو الموت الذي أوقف كل شيء، ولعل جملة جورج طرابيشي الذي ختم بها شهادته حول محطات تحوله الست معبرة تماما عن لحظتنا “يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن”.

بالنسبة لي لم يكن رحيل (طرابيشي) موتاً صغيرا، فمساحة كبيرة من حياتي الفكرية مدينة له، تعلمت من كتبه ما فتح لي مغاليق الفلسفة ونصوص التراث وتاريخ المعرفة، كان مشروع (نقد نقد العقل العربي) بمثابة الفتح المعرفي، فبقدر ما كان خطاب الجابري آسراً فقد كاد أن يغلق باستنتاجاته إشكالات فهم تراثنا وحاضرنا، وشخصيا ما كان لي أن أذهب في أطروحتي للدكتوراه للمجاز الفلسفي والصوفي  (التفكير عبر المماثلة) عند إخوان الصفا وابن عربي لولا الثقة التي اكتسبتها من خطاب طرابيشي في نقده للجابري الذي وقف موقفا حاداً من كل معرفة غير مؤسسة على المنطق الأرسطي، واعتبارها عقل مستقيل أو تفكير خارج العقلانية، وعزو أسباب تخلفنا لها.

في مقابل هذا الموقف الحاد من المماثلة وممثليها عند الجابري، وقف (جورج طرابيشي) على الضد من ذلك، وأعاد للمماثلة اعتبارها المعرفي، واعتبر ممثليها في الثقافة العربية نموذجاً من نماذج الاستنارة التي أعطت لحضارتنا خصوبتها المعرفية.

أحد أبرز ممثليها طبعا هو ابن عربي من جانب ما، وإخوان الصفا، وهؤلاء  أيضا ما كنت أتجرأ لدراسة خطابهم الفلسفي باعتبار تفكيرهم الفلسفي عبر المجاز أحد أشكال الإبداع والاستنارة والمعرفة العقلانية، لولا طرابيشي، وكم كنت فرحاً بقراءة المحطة الخامسة المتعلقة بإخوان الصفا في شهادة طرابيشي على تجربته، فقد بدأ مشروع نقده للجابري من هامش صغير يحيل إليهم، فأخذ هذا الهامش يكبر ويكبر حتى صار مشروعا كبيرا اسمه (نقد نقد العقل العربي).

عبر (نقد النقد) هذا، أدركت الأبعاد المعرفية لمجاز إخوان الصفا (العالم إنسان كبير) ومجاز الفيض. كان الجابري يعتبر هذه المجازات دليلا على الغنوصية وغياب العقل وضياع الفلسفة بل الجابري هرمس، كل من استخدم المجازات التي تتمثل الكون كلاً واحدا متصلا متبادل التأثير، كما هو الأمر مع جابر بن حيان الذي قال: “إن في الأشياء كلها وجوداً للأشياء كلها”، وكما فعل مع صاحب كتاب الفلاحة النبطية الذي قال “الإنسان شجرة مقلوبة، والشجرة إنسان مقلوب” إضافة إلى ابن سيناء.

مع طرابيشي عرفت أن مجاز (العالم إنسان كبير) كانت مشاعاً عاماً في الفلسفة اليونانية والثقافة الهلنستية، كذلك كانت ملقاة في الطريق العام للثقافة العربية الإسلامية، من دون أن تكون علامة خاصة على التهرمس. وقد استعملها الكندي، وابن باجة، والجاحظ، والتوحيدي.وهي تعبر عن آلية من آليات التفكير الفلسفي والعقلاني.

ربما يكون الأهم من كل ذلك، هو أن مدين لطرابيشي بفهم مصطلح فلسفي صعب جدا ورد في نص أرسطو واستخدمه إخوان الصفا بغزارة كما استخدم في نصوص تراثنا الفلسفي والصوفي، وهو (العقل الفعّال) قدّم طرابيشي مراجعة نقدية لإشكالات مفهوم العقل الفعّال في نص أرسطو نفسه، ونصوص الشرّاح والفلاسفة بعده.وقد أفدت من هذه المراجعة إفادة كبيرة في فهم مجازات إخوان الصفاء المتعلقة بفيض العقل الفعّال.

إن لهذا الفهم أهمية كبيرة، في تقييم تراثنا، فقد وضع الجابري في مشروعه نصوص التصوف والفلاسفة المشرقيين كابن سيناء في خانة اللاعقل واعتبرها مسؤولة عن غياب العقلانية والتخلف وعدم قدرتنا على الوصول لعصر النهضة.

سيظل طرابيشي عالماً كبيراً، وستضرب شجرته بجذورها في فضاء ثقافتنا (الإنسان شجرة مقلوبة) وستثمر يوماً وتحيل هذا الموات نشأة مستأنفة أخرى.

المصدر: جريدة الأخبار