مشروطية النائيني4

تحرير العصمة

ليست السلطة وحدها محلاً للاغتصاب، فالمفاهيم أيضاً تُغتصب، فالاستبداد لا يغتصب السلطة فقط، بل يغتصب أيضاً مفاهيمنا للحرية، ويستبدل معانيها بطريقة مستبدة، كي توافق مفهومه للحرية من جانب، وكي لا تدلّ معانيها الحقيقية على اغتصابه واستبداده وتحكمه من جانب آخر.

على أن الاستبداد ليس شخصاً، هو حالة قد يتمثلها شخص، وقد تتمثلها جماعة، أو تاalnaeenyريخ أو مدرسة أو دين. والدين ومفاهيمه مادة اغتصاب محببة ومغرية ويمكن توظيفها بسهولة لإعطاء الاستبداد شرعية طبيعية، وهذا ما فعله خصوم النائيني، ونبّه إليه في كتابه “ومن أجل الإبقاء على شجرة الظلم والاستبداد الخبيثة، ومن أجل اغتصاب أموال ورقاب المسلمين، رأوا في رفع شعار الدين خير وسيلة للوصول إلى مآربهم”[1].

لذلك تحتاج المفاهيم إلى تحرير دوماً، خصوصاً مفاهيم الدين. لقد أدرك النائيني بفطنته ذلك، ووظف مهارته الفائقة في علم الأصول، وأفقه المفتوح خارج نص الحوزة، لتحرير مفهوم الإمامة والعصمة من دائرة الجدل الكلامي والعقائدي المغلقة عن الحياة وتحولاتها.

لقد تمكن من تحويل العصمة من مقولة عقائدية خلافية إلى مقصد فقهي غايته ضمان الإصلاح ونفي الاستبداد.لقد جعل النائيني من العصمة مقصداً يفقه الحياة لا الخلاف على الحياة خلافاً، يُغيِّبها ويُغيب إقامة عدلها الأدنى.

العصمة من عقائد الإمامية وهي تعني أن الأنبياء جميعا من آدمهم إلى خاتمهم وكذلك الأئمة من أولهم إلى قائمهم معصومون من جميع الذنوب والمعاصي والرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من أول حياتهم إلى حين وفاتهم عمدا وسهوا، كما يجب أن يكونوا معصومين من الخطأ والنسيان، والتنزه عما ينافي المروءة ويدعو إلى الاستهجان.

العصمة لطف يختص بها الله بعضَ من يصطفيهم من البشر “كون الإمامة لطفا في فعل الواجبات والطاعات، وتجنب المقبحات، وارتفاع الفساد، وانتظام أمر الخلق”[2]

تمثل الإمامة المعصومة مفهوماً مركزياً في المذهب الشيعي، وهي أصل من أصول المذهب، ولأنها أصل خلافي مع بقية المذاهب الإسلامية، فقد استغرقت جهود علماء علم الكلام طوال التاريخ، تفنيداً وتثبياً ودفاعاً وهجوماً ونقضاً وبناءً.

صار هذا الأصل فارقاً لا جامع بعده، لقد خفت وتيرة الجدالات العقائدية حول التوحيد وخلق القرآن والتجسيد والمنزلة بين المنزلتين، لكن جدل الإمامة وعصمتها، ظل فاعلاً طوال التاريخ وحتى اليوم. ويكفي للتدليل على مركزية هذا الخلاف، الاستشهاد بكتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى (ت 436هـ)، فقد ألف المرتضى هذا الكتاب الضخم، رداً على كتاب (المغنى في أبواب التوحيد والعدل) للقاضي المعتزلي عبد الجبار الجرجاني (ت 415 هـ) وهو من أضخم الكتب الكلامية.

يقول الشريف المرتضى “سألت – أيدك الله -: تتبع ما انطوى عليه الكتاب المعروف بـ (المغني) من الحجاج في الإمامة، وإملاء الكلام على شبهه بغاية الاختصار، وذكرت أن مؤلفه قد بلغ النهاية في جمع الشبه، وأورد قوي ما اعتمده شيوخه مع زيادات يسيرة سبق إليها، وتهذيب مواضيع تفرد بها، وقد كنت عزمت عند وقوع هذا الكتاب في يدي على نقض ما اختص منه بالإمامة على سبيل الاستقصاء”[3].

بهذه الروح الحجاجية كان المتكلمون يختصمون حول مفهوم الإمامة، وظل كتاب الشافي العمدةَ الشافية في الدفاع عن أصل الإمامة.وقد تحول هذا الجدل إلى غاية في ذاته، وكي يحافظ هذا الأصل على صحته الاعتقادية وأحقيته، فقد أُخْضِع الواقع التاريخي للشيعة إلى المقولة العقائدية، وصار الواقع على مثال الاعتقاد فيما يتعلق بالإمامة، والشاهد على ذلك أن غياب الإمامة (عصر الغيبة) استتبعه غياب الواقع، وليس هناك أدلّ على هذا الغياب من غياب الدولة، صار المعتقد يصيغ الواقع، لم يُكيَّف المعتقد ولا غايته لصياغة الواقع.

تحرير النائيني، يكمن هنا، في جعله الواقع يعيد تحرير معنى الإمامة، لم ينشغل بالجدل الكلامي، لقد شغله فقه واقع الحياة السياسية للناس، لا فقه الحجج الكلامية التي تُنْقَض بحجج كلامية أخرى. سيبدأ تحرير الإمامة بطرح سؤال: ما الغاية من مفهوم الإمامة؟

سؤال الغاية من الإمامة ليس جديداً، لكن أفق السؤال جديد، ووفق أفق السؤال يأتي انتظار الجواب.وأفق النائيني كان خارجاً على أفق علماء الكلام وجدالهم اللاهوتي. كان سؤال الإمامة مطروحاً في الشارع السياسي، لا في الشارع العقائدي. لذلك فالإمامة والعصمة في مفهوم الشريف المرتضى صاحب كتاب الشافي في الإمامة، ليست هي نفسها في مفهوم النائيني صاحب كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة.، فالأول مشغول بتنزيه الإمامة من ادعاءات خصومها العقائديين، والثاني مشغول بتنزيه الإمامة من ذرائع المستبدين، وذلك بتنبيه الأمة إلى حقيقتها.

الغاية من مفهوم الإمامة ستجعل الإمامة مفهوماً يقتضي المعاني التي تقتضيها الدستورية، وهي الرقابة والأمانة والعدالة والمسؤولية وحفظ الحقوق، ستكون المشروطة بهذه المعاني هي عينها معاني الغاية من الإمامة، وبتحرير هذا المعنى وتقريره سيحقق النائيني الحد الأدنى من من معنى الإمامة في الواقع، وهي ما عبّر عنه بمجاز (تحرير يد الأَمَة السوداء).

سيحرر النائيني إقامة الإمامة من مفهوم السلطة والدولة، كما كان الأمر عندي الشريف المرتضى مثلاً وبقية فقهاء والمتكلمين الذين يرون إقامة الإمامة إقامة للدولة، ولا دولة من غير إمامة كاملة، ولا إمامة كاملة من غير ظهور كامل للإمام المهدي.

ستكون الدولة مفهوماً أوسع من الإمامة وأكثر تعقيداً، لكنها لن تخرج عن غايتها (أي الغاية من الإمامة) المتمثلة في حفظ حقوق الناس وإقامة العدل ومنع الاستبداد.لن يكون هناك تعارض بين أن نقيم عدلا بشرياً بحسب طاقتنا على منع الاستبداد بالقانون والدستور، وبين انتظار إمام يقيم عدلاً إلهياً كاملاً.

سنرى كيف أن تحرير النائيني لمفهوم العصمة، هو أيضا تقريب من ناحية أخرى، بمعنى أنه تقريب لها من مفهوم (أهل الحل والعقد) الذي يمثل النظرية السنية كما يقول في مواجهة الاستبداد.هكذا سيعمل أفق فهم النائيني الخارجي على أن يكون تحريره تحريراً واسعاً، يتجاوز المذهب الواحد، ليقترب من مفاهيم العصر (الدولة والدستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديين (أهل الحل والعقد).

الهوامش

[1] تنبيه الأمة وتنزيه الملة،المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص95.

[2]، [3] الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى، ص13، ص40.

بيت الشعر يحتفي بصدور كتاب الزميلين «حداد» و «الديري»

الوقت:المحرر الثقافي.

  بحضور وزير الاعلام جهاد بوكمال، شهد بيت الشعر (بيت ابراهيمصورافتدراظية(087) العريض) مساء أمس الأول حفل توقيع كتابي الزميلين الشاعر قاسم حداد والناقد علي الديري الصادرين عن مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، وهما ”لست  ضيفاً على أحد”، و”طوق الخطاب: دراسة في صورافتدراظية(086)ظاهرية ابن حزم”. وقد اشتمل حفل التوقيع على قراءة لنصوص حداد الجديدة بحضور جمع من المثقفين80402articles200 والمهتمــين في الوسط الثقــافي. يذكر أن الزميــل الديري قد حــاضر الاســـبوع الماضي بمركز الشيــخ ابراهيم عن الكتاب نفســه، ويعد الكتــابان الصادران حديثا آخر اصدارات المركز للــموســم الجاري بعــد صدور (انطولوجيا الشعر البحريني) للشـاعر عبدالحميد القائد.

 

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=80402

اليوم توقيع كتابي «الديري» و«حداد» في بيت الشعر

الوقت – المحرر الثقافي:
يشهد بيت الشعر البحريني في الحورة اليوم (الأحد) 21أكتوبر2007م.7 مساء توقيع كتابي الزميلين علي الديري والشاعر قاسم حداد الصادرين حديثاً ”طوTawaheen_47_Aق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم” و”لست ضيفاً على أحد”. الكتابان صدرا قبل نحو شهر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في إطار مشروع النشر التابع إلى مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث.
وفيما يمثل الكتاب الأول أطروحة الماجستير للديري الحاصل عليها من جامعة القديس يوسف في بيروت، يمثل الكتاب الثاني تجربة حداد في الإقامة الأدبية لثلاثة أسابيع بمدينة برلين برفقة أحد الصحافيين الألمان، في إطار مشروع ”ديوان شرق – وغرب”.
وإذ يتناول كتاب الديري قوانين تفسير الخطاب في علم الأصول ويتخذ ابن حزم نموذجاً من خلال كتابه ”الإحكام في أصول الأحكام”، وقوفاً على الأدوات والمفاهيم والآليات التي يُطوّق من خلالها ابن حزم النص الديني، يتناول كتاب حداد في قسمٍ منه بالسرد انطباعاته عن الناس والأشياء في مدينة برلين، إضافة إلى قسم آخر عبارة عن نصوص شعرية كتبها في أثناء فترة الإقامة.
ومن المقرر – من دون أن يتأكد ذلك – أن يشتمل حفل التوقيع على قراءة لبعض جديد نصوص حداد بصوته، فيما يكتفي الديري بأمسيته الفكرية التي أحياها الأربعاء الماضي في مركز الشيخ إبراهيم وقدم فيها مطالعة في فكر ”ابن حزم الأندلسي”.

dairycopy11

 

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=79877

 

محاضرة على الديري عن أطواق ابن حزم

نقلا عن مدونة لامنتمي.

http://lamontami.com/?p=84#more-84

حضرت يوم الثلاثاء الماضي محاضرة الصديق الناقد علي الديري في مركز الشيخ ابراهيم الخليفة و التي عنونها “ابن حزم بين طوق الخطاب و طوق الحمام”.

AliAlDairy_s

كان الديري طلقاً في تقديم محاضرته و هو يحاول تقريب موضوعه ذي الطبيعة

التخصصية في أصول الفقه، فخاطب المهتمين العاديين قبل المتخصصين، رغم أن معظم المداخلات – ما عدا مداخلة أو اثنتين – جاءت من المتخصصين من الحضور.

بداية قدم الديري لابن حزم مؤلف الكتاب الرقيق في العشق “طوق الحمامة” قبل أن يخرج معهم إلى كتابه الآخر في أصول الفقه “الإحكام في أصول الأحكام” و الذي شكل موضوع بحثه في المحاضرة. و ربما كانت هذه التقدمة من الديري لأجل أن يذكر مستمعيه بهذا الجانب من شخصية ابن حزم الذي قد يتناقض “ظاهرياً” مع شخصيته العلمية الصارمة في كتاب “الإحكام” و لكنه – أي الديري – استخدم هذا المدخل أيضاً ليلج منه إلى سبب تسمية كتابه الصادر حديثاً “طوق الخطاب – دراسة في ظاهرية ابن حزم“.

برر الديري استعارته لكلمة “الطوق” من كتاب ابن حزم الأول بعدة أسباب منها أن الطوق يمارس إحكاماً على معنى النص و لا يتيح للمعاني أن تتكاثر و هو يحكمها لصالح معنى واحد. و هو يأتي أيضاً بمعنى القدرة – فطوق الخطاب هو قوة و طاقة له.

ثم انتقل إلى عرض سريع لعصر ابن حزم، وثقافته الفلسفية و المنطقية التي قد تكون أورثته ضيقاً بالرأي المخالف بسبب اعتقاده الجازم بوجود حقيقة منطقية واحدة لفهم النصوص الدينية، أليس هو القائل “النص لا يعطيك إلآ ما فيه” بعكس ابن عربي الذي عنده أن “النص لا يعطيك إلا ما فيك” – و ربما أثار الديري استغراب بعض الحضور عندما اعترف أن قرائته لابن عربي فتحته على قيمة أكبر لخطاب ابن حزم و لكنه علل ذلك بأن التطرف في إحكام النص ما هو إلا بداية لفتحه و بالعكس. و ادعى الديري أن تعلق ابن حزم بالمنطق الأرسطي جعله عقلاني التفكير فأعلى من شأن المنطق حتى صار نطق الإنسان لديه هو قدرته على التصرف في العلوم و الصناعات، و رفض الإجماع و القياس في الفقه و جعل البرهان المنطقي هو الأساس.

فرق الديري بين ظاهرية ابن حزم و الظاهرية الحنبلية التي سمى قراءتها “بالقراءة الغضة” أما قراءة ابن حزم فهي قراءة عقلانية برهانية.

جائت المداخلات ثرية و تنحو في اتجاهات تختلف عن مقاربة الديري لتراث ابن حزم. و كانت أول المداخلات لأستاذ جامعي عراقي يقول أنه درّس أصول الفقه لعشرين عاماً و قد امتدح القدرة التحليلية للديري و لكنه قال أن يكاد يكون لديه على كل كلمة سمعها تعقيب. و قد اعترض على عدة أشياء منها الأهمية التي أعطاها الديري لكتاب ابن حزم باعتباره رابع أهم كتاب في أصول الفقه، كما لم يفهم الأستاذ مقارنة ابن حزم بابن عربي و هما نقيضان.

و داخل د. ناصر المبارك بإضافة مبدئية لمعنى “الزينة” في الطوق و هو ما أراده ابن حزم على الأغلب في تسمية كتابه “طوق الحمامة”، كما ساق تلخيصاً لقوانين فهم النص لدى ابن حزم أو لدى الظاهريين بشكل عام.

تعددت المداخلات و الاعتراضات و الأسئلة مما أتاح للمحاضر توضيح أراءه بشكل أكثر تفاعلية مع الحاضرين.

أما آخر الأسئلة فكان سؤالاً مباشراً من باحثة شابة: “كيف تقول أن ابن حزم كان عقلانياً و هو يرفض القياس؟” – على أساس أن القياس هو أهم الأدلة العقلية في الفقه -. اعتبر الديري السؤال مهماً و يحتاج إلى محاضرة كاملة ليفيه حقه و اعترف بأن هذا السؤال شغله كثيراً في بداية اشتغاله على ابن حزم، و لكنه فرق تفريقاً دقيقاً بين عقلانية ابن حزم البرهانية و عقلانية “العلية” التي أسس عليها جمهور الفقهاء دليل القياس.

بوح الأسئلة..حديث إلى السيد الفراتي

أيها السيد الفراتي..

هكذا يحلو لي أن أناديك، كلما قرأتك ضاعفت وجعي الشرقي ، وكاثرت أسئلتي، أجد في قولك “الإهمال للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود”([1]) تحريضاً لصهيل أسئلتي، أراها تتضاعف وتتراكب، كلما أوغلت في قراءة رائعتك الأثيرة ” طبائع الاستبداد “.

أعرف ألا شيء يسعدك أكثر من أسئلة المراقبة التي تقض مضجع المستبدين وترهبهم ولكن سأصارحك بحقيقة، أرجو أن تلتمس لي العذر فيها، وهي أن أسئلتي بقدر ما فيها من صهيل، فيها 2007-06-24-23147-mainمن التوجس، وذلك من ثقل ضغط مراقبة خطاب الاستبداد عليها، إنها تتحسس اللعنات والضربات التي تنتظرها من كل مكان .

أيها السيد الفراتي ..

بي من الاسئلة ما كان بك من الحرقة ، وبي من الخوف ما كان بك من الجرأة ، وبي من الضعف ما كان بك من القوة ، وبي من المحافظة ما كان بك من الحداثة ، أليس من عجيب الزمان أن تكون أنت المتقدم في الزمن أكثر حداثة مني أنا المتأخر، وأشد مغايرة من تطابقاتي، وأكثر تصريحاً من تلميحاتي .. يبدو أن الزمان يجود للمتقدمين أكثر مما يجود للمتأخرين .

أيها السيد الفراتي ..

كم كان تدينك رائعاً وطازجاً ! حتى أني أجدك أقرب إليَّ من متديني عصري، متدينو اليوم أكثر محافظة، وانكماشاً، وتراجعاً، وتحصناً، وتوهماً، واستبداداً .. كم كنت حاذقاً حين قلت ” الدين أقوى تأثيراً من السياسة .. وأن البروتستانتية أثرت ، في الإصلاح السياسي، أكثر من تأثير الحرية السياسية في الإصلاح عند الكاثوليك”([2]) و”أن إصلاح الدين أسهل منالاً وأقوى وأقرب طريقاً للإصلاح السياسي”([3]). إن قولك يفتح حاستي على مجموعة من الأسئلة المتوجسة، هأنا أبوح لك ببعضها…

هل يمكن أن ننجز حداثة ثقافية واجتماعية قبل أن ننجز حداثة دينية؟

هل يمكن أن نعيش تفتحاً سياسياً من دون أن نعيش تفتحاً دينياً؟

هل يمكن لمجتمعاتنا الشرقية أن تَدخل عصرها الحديث، قبل أن تُدخل دينها العصر الحديث؟

هل يمكن أن نعطي معنى حديثاً للسياسة، قبل أن نعطي معنى جديداً للدين؟

إلى أي حد يمكن القول إن تجاربنا السياسية وإصلاحتنا الديمقراطية قد فشلت لأنها لم تصلح قاعدتها الدينية التي تستند إليها مجتمعاتنا؟

هل نحتاج أن نستعيد تجربة الإصلاح الديني الأوروبية، لنحقق نجاحاتهم السياسية؟

لماذا تجاهلت مشاريعنا الثقافية طوال القرن العشرين مسألة الإصلاح الديني؟

لماذا تحولت الحداثة العربية من مهمة إصلاح الدين إلى مهمة رفضه وإقصائه وتجاهله من دائرة اشتغالها؟

لماذا لم تتفحصه وتختبر تكوينه التاريخي ؟

لماذا بقيت المعرفة الدينية شأناً خاصاً برجال الدين وعلمائه؟

هل صحيح أن الإصلاح الديني مهمة لا شأن للمثقف بها؟

لماذا تحول رجل الدين لدينا من مهمة المراقبة النقدية إلى مهمة المراقبة السلطوية التي ترى في كل تحول أو تغير أو جرأة أو مساءلة تهديداً لهذه السلطة؟

لماذا لا يتحدث علماء الدين ورجاله الآن عن استبداد مؤسساتهم الدينية التي يديرونها ويحكمون باسمها ويحاكمون المختلفين معهم من خلال هيمنتها؟

كيف يمكن أن نفضح هذا التعاض الاستبدادي بين مؤسساتنا السياسية ومؤسساتنا الدينية؟

ما الذي يدفع برجال المؤسسات السياسية للاستعانة برجال الدين لإحكام سيطرتهم علينا؟

أيها السيد الفراتي…

لقد قلت “ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وسياسة المدينة، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم المبسقة الشموس المحرقة الرؤوس”([4])

ولكن يؤسفني أن أقول لك: إن فرائص المستبد لم ترتعد، بل فرائص المثقف (قبل أن يتحول إلى مستبد هو أيضاً) هي التي ارتعدت، وحين ارتعدت فرائصه لم بجرؤ على أن يوظف هذه العلوم لقراءة الممارسات الدينية النظرية والعملية، فانتشت فرائص المستبد، وأمِن ألا شيء يهدده، فراح يفرض وصايته وسيادته على كل العقول، فأحالها عقلاً واحداً متماثلاً وراح باسم هذا العقل يُؤمم الوعي.

دعني أسألك، وأسأل ذاتي عبرك:

ألا تجد أن حداثتنا العربية لم تمكن هذه العلوم من قراءة تجربتنا الدينية التاريخية، لذلك لم تتمكن من إرهاب الاستبداد فينا؟

لماذا لم تتواصل مهمة إرهاب الاستبداد عبر هذه العلوم؟

لماذا انتصر الاستبداد وهُزمت العلوم؟

ولماذا انتصرت العلوم الطبيعية، ولم تنتصر سياقاتها الحضارية؟

ألا تجد أن بعضاً من هذه العلوم قد وُظف لخدمة الاستبداد نفسه؟

لماذا تجبن جامعاتنا ومعاهدنا العلمية وحوزاتنا الدينية عن توظيف ما انتهت إليه هذه العلوم في صيغتها الحديثة لقراءة مجتمعاتها وثقافتها؟

أيها السيد الفراتي..

لقد استوقفني قولك: “ويقال بالإجمال، أن المستبد لا يخاف من العلوم كلها، بل من التي توسع العقول، وتعرف الإنسان ما هو الإنسان، وما هي حقوقه…”([5]).

نعم، إننا لم نعرف الإنسان، أبداً، والدليل على ذلك، أننا نخاف من علم الانثروبولوجيا، نخاف أن نطبقه لقراءة سياقاتنا التاريخية وسياقتنا الاجتماعية المعاصرة، نخاف من علم مهمته الأساسية فهم الإنسان وعالمه، نخاف أن يتسع نظر إنساننا عبر هذا العلم، فيكتشف أنه بثقافته ودينه ومذهبه ورؤيته ليس مركز هذا الكون، بل هناك ما يتماثل معه في الإنسانية ويختلف في الثقافة ويتعدد، نخشى أن يكتشف إنسانُنا المقيد ببرمجتنا المستبدة أن له طبعات مختلفة في هذا العالم؛ فتسول له نفسه أن يقرأها ليفهم نفسه؛ فيمايز بين ما فيه من الطبيعة وبين ما فيه من الثقافة؛ فيكتشف أوجه اختلافاته وتماثلاته وحدود استبداداته وانعتاقاته.

أيها السيد الفراتي…

ألم تقل في رائعتك ” إنه لا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلقاً، في غير مسائل إقامة الدين، هذا الدين الحر السهل السمح الذي رفع الإصر والأغلال وأباد الميزة والاستبداد”([6]).

ولكن، هل تعرف إلى أين انتهت سياقات مجتمعاتنا الشرقية بالإسلام؟ لقد جعلت للإسلام نفوذاً دينياً مطلقاً، لقد وجدت فيه ما يمكن أن يتشاكل مع طبائعها الثقافية الاستبدادية، فأنتجته وفق طبيعتها وأعطته تسمياتها، فأحالته رقيباً مخيفاً في كل شيء. هل تعرف أنه الآن يتحسس قلمي متوعداً!

كيف تحولت السماحة تجهماً؟

كيف تحول السهل صعباً؟

كيف تحول الرفع نصباً؟

وكيف تحول المتسامح مستبداً؟

تلك أسئلة، فيها من الدهشة والحرقة والمفارقة ما أعجز عن وصفه.

أيها السيد الفراتي…

لقد أحسنت صنعاً بربطك بين الاستبداد وفساد الأخلاق حين قلت”الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة فيضعفها، أو يفسدها، أو يمحوها…” ([7]).”الاستبداد يضطر الناس إلى إباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل ومراوغة الحس وإماتة النفس إلى آخره”([8]).

ولكن فاتك أن تربط بين مثل الأخلاق والاستبداد..

أليست هناك أخلاق تمارس الثقافة باسمها الاستبداد؟

أي أليست هناك أخلاق تنتج الاستبداد؟

هل تظن أن الاستبداد كائن خارجي يعيش بعيداً عن ذواتنا؟

هل تعتقد أنه جرثومة تغزونا؟ أنا لا أعتقد ذلك؛ فالاستبداد ليس شيئاً خارجاً عن ذواتنا، إنه قابع فينا.

إذا كان الاستبداد يحيل الأخلاق الفاضلة نفاقاً وكذباَ، فهذا لا يعني أن الأخلاق الفاضلة أخلاق مسالمة؛ فكثيراً ما تدفع هذه الأخلاق بأصحابها ودعاتها إلى أن يخرجوا عن طبيعتهم الإنسانية الخطَّاءة، ليحملوا مجتمعاتهم على طبيعة لا يقدرون عليها، وحين تفشل هذه المجتمعات في تحقيق مثلهم ونماذجهم يصفونها بالمجتمعات الجاهلية التي يجب أن تجبر على التمسك بفضائلهم ويجوزون قمع سلوكها الذي يرون فيه خروجاً على جادة صوابهم ويبررون ذلك برغبتهم في إقامة مجتمع طهراني لا يعرف الهفوات ولا الرذائل ولا النزوات.

إن أصحاب المثل العليا والأخلاق الفاضلة ليسوا براء من الاستبداد، وقد أحسن الفيلسوف الألماني نيتشه صنعاً بفضحهم.

إن خطورة الاستبداد الأخلاقي – إن صحت التسمية- تكمن في خفائه وتلبسه؛ لذلك فهو صعب الاكتشاف وصعب الإدانة، فمن يملك الجرأة على إدانة صوت يدعو إلى إقامة الفضيلة والطهارة في المجتمع، ومن يستطيع أن يحذر من عنف الطاهرة واستبداد الفضيلة.

لا تقتصر تجليات الاستبداد على وجوه الملوك والأباطرة والخلفاء وأصحاب السلطات المادية، فله من الصور والتجليات المتلونة ما يصعب حصره. إنه يأتي في صورة واعظ أو عالم أو أب أو أم أو أستاذ أو مرب…إلخ.

أيها السيد الفراتي…

كان بودي أن أعرفك على شخصية دينية فذة، أجهض مشروعها كما أجهض مشروعك… إنه آية الله المحقق محمد حسين النائيني، لقد كتب هذا العظيم بعد وفاتك بأربع سنوات تقريباً، كتاباً هاماً عنوانه (تنبيه الأمة .. وتنزيه الملة) كان يحمل فيه همك النهضوي في إقامة حكومة غير مستبدة، كان يرى أن فكرة الدستور هي الطريق الصحيح للحد من استبداد الخلفاء والحكام والحكومات، وقد أوشك أن يقدم حياته من أجل تأصيل هذه الفكرة تأصيلاً فقهيا.كان إيمانه بالحكومة الدستورية يفوق إيمان مثقفي عصره، وكان يرى أن الدولة المقيدة بدستور هي نقيض الدولة الاستبدادية، فالأولى تقوم على “استرداد الحرية من الغاصبين”([9])والثانية تقوم على” اغتصاب الحرية”([10]). لقد تحدث كما تحدثت عن تلازم الاستبداد الديني والاستبداد الثقافي، وقد حمل بشدة على من أسماهم بـ”حاملي لواء الاستبداد الديني”.
هل تعرف أي نهاية تراجيدية لحقت بكتابه، لقد تمكنت أنساق الاستبداد الثقافي والمؤسساتي والسياسي والديني منه حتى حاصرته، فدفعته لإحراق كتابه، وسعى للتخلص من جميع النسخ الموجودة، ومع ذلك وصل الكتاب إلينا، ولكنه لم ينل حقه من الشهرة والنفوذ.

كتبت هذه المقالة احتفاء بمئوية الكواكبي في 2002

الهوامش

[1] ) عبدالرحمن الكواكبي.طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. دار نفائس.ط3. 1993م.ص43

[2] ) المرجع نفسه ص38

[3] ) المرجع نفسه ص38

[4] ) المرجع نفسه ص51

[5] ) المرجع نفسه ص51

[6] ) المرجع نفسه ص43

[7] ) المرجع نفسه ص84

[8] ) المرجع نفسه ص105

[9] ) تنبيه الأمة وتنزيه الملة.آية الله المحقق النائيني. تعريب: عبد الحسين آل نجف. تحقيق عبد الكريم آل نجف.مؤسسة أحسن الحديث.ط1 .1419هـ. ص155

[10] ) المرجع نفسه. ص155

مدونة الباحث د.علي الديري