سيف وأربعة “أنفار” من الصّومال
هي حكاية ربما أهملها الزمان ضمن هوامش النّسيان.. لكنَّها تحمل دلالات، وتسطّر جزءًا من حكايات ملف الإدارة البريطانيَّة وهيمنتها على كلّ مفاصل الحراك المدني والاقتصادي والسياسي والقضائي والاجتماعي وغيره في منطقة الخليج عمومًا.
يقول نصّ الوثيقة موضع الشّاهد هنا:
“من قبطان شكسبير بولتكل اجنت الدولة البهية القيصرية الانكليزية في الكويت.
إلى جناب الاجل الاحشم خان بهادر عبداللطيف وكيل باليوز في الشارجة (1) دام بقاه نحب سؤالنا عن خاطركم دمتم بخير بعده واصلكم حامل هذا المكتوب ابراهيم بن جاسر هو يروح الى دبي والشارجة وبنادر عمان يتفحص عن أربعة انفار السومال الذي اقتلوا سيف ولد بن سيف واحد من اهل الكويت وانا امرته لا يسوي شي الا بمراجعتك وانشاالله انكم تساعدونه وتجعلون نظركم عليه.
هذا ما لزم ودمتم سالمين محروسين
26 شعبان 1313 مطابق 30 جولاي 1931″ (2)
بغضِّ النظر عن كلِّ الأخطاء اللغويَّة والإملائيَّة في الوثيقة، فهذا أسلوب مسؤولي إدارة الحماية البريطانية في الخليج وثقافتهم في المراسلات البينية مع الموظفين وحكام إمارات الخليج كافَّة حينها، فإننا نكتشف بداية أنّ الحكاية وقعت في شهر تموز/ يوليو من العام 1913م، وأبطالها أربعة من مواطني الصومال، وشخصيّة كويتيّة هي سيف.
برزت في تلك القضيَّة طبيعة المجتمع الكويتي بتكاتفه وإصراره على نيل حقوقه، ومدى علاقته بالحاكم الَّذي يَعتبر، في غالب الأحيان، أنَّ سبب وجوده على كرسيّ الحكم مستمدّ من مدى قبول أهمّ أعيان هذا المجتمع ورجالاته به، لضمان تعاونهم معه، ودعمهم ماليًا وسياسيًا له في الأزمات كافة، وهذا ما كان، ولا يزال، يميّز الحالة الكويتية المجتمعيَّة بشكل عام دون بقيَّة المجتمعات السياسية الخليجية.
فما هي الحكاية بالتَّفصيل من واقع الوثائق والروايات؟
بطل حكاية الوثيقة وما صاحبها من أخبار، هو سيف بن سيف بن علي بن سيف أو آل سيف. دارت أحداثها، كما يذكر ناقلها المؤرخ الكويتي، سيف مرزوق الشملان (3)، باعتبار أنَّ سيف هو جدّه من والدته، في النصف الثاني من شهر تموز/ يوليو من العام 1913م، في فصل الصَّيف، إبان موسم الغوص بحثًا عن اللؤلؤ في الخليج، حيث سافر سيف على متن سفينته الشراعيَّة في رحلة “الطواشة” المعروفة بأنها رحلة شراء اللؤلؤ من سفن الغوص المتواجدة في مغاصات اللؤلؤ بين الكويت والأحساء. وكان بحارة سفينته أربعة من منطقة (الصومال الإنجليزي) آنذاك، ويرافقه ابن عمه يوسف بن حسين بن علي بن سيف (4)، الذي كان يساعده في كتابة الحسابات، إضافةً إلى طباخ من بغداد.
وذات ليلة في ذاك الصَّيف، كانت الرياح قد هدأت، والسفينة ترنو لإلقاء مرساتها في منطقة قريبة من سواحل الأحساء، فبدأ شيطان الطمع يُداخل البحارة الصوماليين، بسبب ما شاهدوه من ربح تجارة اللؤلؤ، وهم الفقراء المعدمون، فقرَّروا قتل تاجر اللؤلؤ، سيف، وسرقة ماله، من دون تفكير في العواقب، والهرب بالسفينة بعد ذلك إلى فارس، ومنها إلى الصومال. وبدأ المخطط الذي دبَّره القتلة في الليل، أولًا بسرقة بندقية سيف، قبل تنفيذ خطّة الاغتيال والسرقة.
بعد أن جنَّ الليل، وعقب الانتهاء من صلاة العشاءين، وعلى مقربة من سواحل مدينة الجبيل في المنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية، استلقى سيف على فراشه استعدادًا للنوم، وكان يوسف يمسك بدفَّة السفينة، وإذا به يترك قيادتها لكبير البحارة الصوماليين، ليتفرَّغ بدوره لأداء الصَّلاة. وهنا، انتهز كبير الصوماليين هذه الفرصة، وصوَّب البندقية المسروقة نحو سيف المضطجع في فراشه، وأطلق النار عليه، فأصابه أسفل ظهره بشكل مباشر، ما جعله يصرخ بقوة.
قطع يوسف صلاته، واشتبك مع الصومالي الذي أطلق النار على سيف، ودخل الاثنان في عراك شديد، حاول خلاله كبير البحارة الصوماليين إطلاق النار على يوسف، لكن من حسن الحظ أنه أخطأه. وكان سيف يصيح بيوسف لكي يمسك الرجل الصّومالي، فتعاركا حتى استطاع يوسف في نهاية الاشتباك أن يدفع بالصومالي إلى “خن” (5) السفينة، ويأخذ منه البندقية ويرميها في البحر.
بعدها، طلب سيف من يوسف أن يُلقي بنفسه في البحر، هربًا من القتل المحتّم على يد البحارة الثلاثة الباقين، ففعل ذلك، وتبعه سيف زحفًا، وألقى بنفسه في البحر، وحمله يوسف على ظهره ليسبح به نحو الشاطئ، فقال له سيف بخبرته في الملاحة البحرية: “نحر المايه”، أي سر في اتجاه عكس التيار، لأنَّ الهواء كان ساكنًا تلك الليلة، ولأنَّ الصوماليين سوف يتركون التيار يدفع السفينة إلى الخلف، وبذلك يتمكَّنون من إلقاء القبض عليهما.
بقي يوسف يسبح طوال تلك الليلة المشؤومة، وسيف على كتفه، حتى بانت تباشير الفجر الأولى، إذ أبصرا سفينة لمبارك بن عبدالله الخاطر، وهو من سكان الجبيل، فأنقذهما من الغرق، ولكنْ سرعان ما توفّي سيف متأثرًا بجراحه، لعدم وجود علاج طبي له يسعفه في البحر، وتم دفنه بالقرب من الجبيل.
وفي اليوم التالي من مقتل سيف، كان النوخذة الكويتي راشد بن حمد الرومي في منطقة تُسمّى “عين إغمسة” في مياه الأحساء، بغية التزوّد بالماء من هناك، فأبصر سفينة سيف من بعيد، ولم يكن يعلم أنَّه قد قُتل. وعندما علم بما حصل، أرسل عثمان الخراز إلى الجبيل لإحضار يوسف إلى سفينته، وعاد قاصدًا الكويت. وفي الطريق، التقى بسفينة شملان بن علي بن سيف، عمّ القتيل، وكذلك بملك اللؤلؤ هلال المطيري، فأخبر هلال بالفاجعة، فحزنوا حزنًا شديدًا.
وعندما وصلوا إلى الكويت، أخبر حسين بن علي بن سيف الشملان الشيخ مبارك بما حصل. وأبدى الشيخ مبارك عظيم الاهتمام بهذه القضيَّة، وضرورة الاقتصاص من المجرمين القتلة. وبحكم ما تربطه من علاقات سياسية ودبلوماسية مع سلطات الحماية البريطانية في الخليج، فقد بدأ اتصالاته بهم لاتخاذ الإجراءات وتعقّب الجناة، إلا أنَّ كبير النواخذة، عيسي القطامي، لم ينتظر ما سوف تسفر عنه الاتصالات مع الإنجليز، لمعرفته ببطء تلك الإجراءات، فقال عندما علم بأخبار الجريمة المروعة: “لا بدَّ لنا من أن نُعدّ سفينة ونلحق بالقتلة إلى سواحل فارس، بدلًا من انتظار المساعي التي يقوم بها الشيخ مع البريطانيين”.
وتمَّ تجهيز بوم بصحبة 12 من نواخذة الكويت، وعدد كبير من البحارة ممن تطوَّعوا للمساعدة. كما قام عبدالعزيز القطامي، بالسفر على ظهر باخرة المسافرين المتَّجهة إلى ميناء “لنجة” على الساحل الشرقي للخليج، ومعه رسالة من الوكيل البريطاني في الكويت (شكسبير)، إلى مثيله في “لنجة”، لتسهيل مهمَّة القبض على الجناة.
وبمجرّد نزول عبدالعزيز لإيصال الرسالة إلى الوكيل البريطاني في “لنجه”، وبينما كان رفيقاه في السفر، يوسف بن حسين ويوسف بن عثمان، ينتظران في الباخرة وهما يراقبان القادمين، إذ جاء صدفةً أحد الجناة الصوماليين إلى الباخرة للسفر بها، فقبضا عليه، ثم جاء الثاني والثالث فأمسكوهما. وبعد ذلك، جاء قائدهم وهو القاتل، وكان قويًا، إلا أنَّ يوسف تمكَّن من أسره بمساعد يوسف بن عثمان، بعد عراك عنيف على ظهر الباخرة.
وهنا، وصل عبدالعزيز القطامي، وبيده توصية من الوكيل البريطاني في “لنجة” بإلقاء القبض على الجناة في أيّ مكان. وسرعان ما اتصل ربّان الباخرة بمكتب الوكيل البريطاني، الذي أرسل زورقًا بدوره، وفيه عدد من الشرطة لاستلام الصوماليين، فقرر يوسف الذهاب معهم خوفًا من هروب القاتل.
أرسل الوكيل البريطاني الجناة الصوماليين كافة في باخرة أخرى كانت متَّجهة إلى الكويت، واستلمهم هناك الشيخ جابر المبارك، حيث كان الشيخ مبارك آل صباح في المحمرة حينها، عند صديقه الشيخ خزعل الكعبي حاكم إمارة عربستان.
وتقول الوثيقة الثانية المؤرخة في يوم 9 رمضان من العام 1331هـ، (12 آب/ أغسطس 1913م):
“الموجب لتحريره
هو ان انا يا جابر ابن الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت
قد استلمت من جناب عالي الجاه الصاحب قبطان شكسبير بولتكل اجنت الدولة البهية القيصرية الانكليزية في الكويت اربعة انفار السومال المجرمين بقتل سيف ابن سيف الذي اقبضوهم في بندر النجه وجابوهم الى الكويت في المركب بآرجوره وللبيان حررة هذه الورقة حتى لا يخفى.
في 9 رمضان 1331 وطابق 12 أوكست 1913
صحيح
جابر المبارك الصباح”
[وهناك تعليق أسفل الرسالة باللغة الإنجليزية، يبدو أنَّه من الوكيل البريطاني في الكويت (شكسبير)، يفيد بأنَّ الشيخ جابر استلم الصوماليين القتلة الأربعة].
وبعد تسلّمهم من قبل الشيخ جابر، طلب حسين وشملان بن علي أن يتمّ إعدام الجناة حالًا. هنا، اعترض الوكيل البريطاني (شكسبير) على ذلك، لأنَّ هؤلاء يُعتبرون مواطنين من الصومال الإنجليزي التابع لهم، فلم ينفّذ الشيخ جابر الإعدام. ولذلك، توجَّه شملان إلى المحمرة حيث الشيخ مبارك، وحكى له القصَّة بتفاصيلها، فأبلغه الشيخ مبارك بأن يذهب إلى الهند لبيع اللؤلؤ، وليثق بأن خبر إعدامهم سوف يصله إلى هناك، قائلًا: “ما عليك من اعتراض الوكيل الإنجليزي، سوف أقتلهم مهما حصل”. وفعلًا، تم إعدام القتلة رميًا بالرصاص بمجرد وصول الشيخ مبارك إلى الكويت، وذلك في ساحة “الصفاة” العامة في منطقة “المرقاب”، في صباح يوم الأربعاء 30 شوال من العام 1331هـ، (1 تشرين الثاني/ أكتوبر من العام 1913م).
ومباشرةً، أرسل الشيخ مبارك برقية إلى شملان في (بومباي)، بتاريخ العاشر من ذي القعدة من العام 1331هـ، (10 تشرين الثاني/ أكتوبر 1913م)، يخبره فيها بإعدام الصوماليين، وهذا نصّها: “الفُساد الصوماليين يوم ثاني من وصولنا إلى الوطن أظهرناهم في طرف المرقاب من شرق الصبح الساعة 2 وأمرنا الخدام ثورو فيهم الرصاص و طموهم كلهم في جليب إلا الصغير منهم الرابع الذي أقر عليهم ولا هو راضي في عملهم وراح مع خادمنا جاب الدراهم المدفونة هذا خليناه و كسيناه و أرخصناه” (6).
كان الصّومالي الرابع، قبل التحاقه بالعمل في السفن، يعمل في خدمة علي بن حمد الفضاله، وهو الَّذي أخبرهم عن الأموال المسروقة واللؤلؤ المدفون بالقرب من مدينة “لنجة”، كما يذكر الشَّملان، فأرسل الشيخ مبارك في طلب الأموال المدفونة التي دلّهم على مكانها.
المراجع:
1- خان بهادر عبداللطيف: هو عبداللطيف بن عبدالرحمن السركال. منح الإنجليز لقب “السركال” لوكلائهم الذين أشرفوا على مصالحهم في المنطقة. وكان عبداللطيف من ضمنهم، ومن مهام “السركال”، مراقبة تنفيذ المعاهدات أو الاتفاقيات بين الإنجليز وحكام الإمارات المتصالحة، كما كانت تسمى. ويُعتبر البيت الذي أسَّسه “السركال” عبداللطيف في الشارقة مقرًا لممثل الإنجليز في ساحل الإمارات.
للمزيد، انظر:
http://www.alkhaleej.ae/supplements
2- انظر نصّ الرسالة الأصل في وثيقة العدد.
3- للمزيد عن تفاصيل الحكاية، انظر: الشملان، سيف مرزوق، تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي، الطبعة الثانية، الكويت، 1989م، ج 2، ص 220-225.
4- يوسف بن حسين بن علي: كان لوالده حسين بن علي الشملان دور ملحوظ في قضية هجرة “الطواويش” الثلاثة، وهم شملان بن علي، وهلال المطيري، وإبراهيم بن مضف، من الكويت إلى البحرين وجزيرة “جنّة” في شرق ساحل الأحساء، إبان عهد الشيخ مبارك الصباح في العام 1910م، فيما عُرف حينها بقضيَّة تجار اللؤلؤ، إذ أرسل الشيخ مبارك حسين بن علي مع ابنه الشيخ سالم بن مبارك الصباح في رحلة ترضية لأولئك التجار بتاريخ 7 أيلول/ سبتمبر 1910م.
للمزيد، انظر:
Rush, A. de L. (Editor), Records of Kuwait (1899-1961), (Cambridge, 1989), Vol. I, p. 555.
5- الخنّ هي غرفة صغيرة في بطن السفينة، وهي عبارة عن موضع للراحة، أو الشحن أحيانًا، أو التخزين المؤقت خلال رحلة السفينة.
6-الشملان، سيف مرزوق، تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي، الطبعة الثانية، ج 2، ص 220-225.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: سيف وأربعة «أنفار» من الصومال
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- جدّة.. قطب الرّحى
- حكاية أحمد بن عبّاس بين البحرين والقطيف
- السّلاح بين التّجارة والسّياسة زمن الإنجليز في الخليج
- من والي البصرة إلى “قائمقامية” الدوحة العلاقات العربية – التركية
- “عشّ النمل”: ملفّ العبيد في الخليج والبحرين
- التعليم وميزانيات البحرين في عهد بلجريف
- علاقة القبائل العربية في البصرة بالبرتغاليين
- جزر البحرين بين حكم “الهرامزة” وإطماع القبائل العربية