الأزقة الخلفيَّة في فرن الشباك.. كبسولات من الماضي
تَتفرّع من شارع فرن الشباك التجاري الطَّويل في بيروت أزقةٌ أخفتها واجهات متاجر مزيّنة بأكثر العبارات إغراءً، وبلوائح الأسعار “الفاقعة”، وإشارات الحسومات. تحافظ هذه الأزقة على بضعة مبانٍ قديمة أشبه بكبسولات محفوظة من الماضي بصيغة مرتّبة.
تُعتبر منطقة فرن الشباك من أقدم المناطق البيروتية، بالتالي، فقد شهدت تغيرات عمرانية ضخمة، وتآكل المساحات الخضراء من حولها، وتغيّر وسائل النقل. ولا يخفى على أحد: الترامواي مرّ من هنا!
ولادة الترامواي
أُنشئ ترامواي بيروت في أواخر العهد العثماني، وكان يربط متصرفية جبل لبنان ببيروت، وكان الناس جميعًا يستخدمونه لقلّة وجود وسائل نقل خاصة، فضلًا عن وصوله إلى مناطق متعددة، وكانت الخطوط على الشكل التالي:
- الخط الأول: فرن الشباك – باب إدريس – الجامعة الأميركية – رأس بيروت – المنارة.
- الخط الثاني: ساحة الحميدية (ساحة الشهداء اليوم) – طريق بيروت/ دمشق – فرن الشباك.
- الخط الثالث: ساحة الاتحاد (ساحة رياض الصلح اليوم) – البسطة – الحرش.
- الخط الرابع: فرن الشباك – شارع فوش – شارع المرفأ – محطة القطار.
- الخط الخامس: فرن الشباك – البرج – النهر – الدورة.
كانت البداية في العام 1908 مع وجود 13 عربة، لتصل إلى أكثر من 200 عربة في العام 1934، ثم تطوّر شكل الترامواي شيئًا فشيئًا، ليصبح أخيرًا بالشكل الذي اعتدنا رؤيته في الصور المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأشرطة الوثائقية: باص أحمر متوسط الحجم.
توقَّف عمله في العام 1964. وبإيقافه، قُطع شريان حيوي للحياة المدنية، وأخذت الطريق إلى الحداثة مسارًا مختلفًا.
أثّر الترامواي في تنظيم المدينة، وأدخل إليها سلوكيات جديدة، فكان المواطنون يضبطون أوقاتهم بما يتوافق مع جدول مروره، فضلًا عن التقيّد بأطر جغرافية شكَّلت محطات دورته اليومية. نمت بعض المناطق تجاريًا لسبب أساسيّ هو مروره فيها، كمنطقة برج حمود مثلًا. إضافةً إلى ذلك، اتخذت السّلطات الفرنسية خطّ الترامواي عنصرًا أساسيًا لدى توليها مهامّ تخطيط بناء مدينة بيروت.
لا أثر للترامواي اليوم، ولا أثر لعرباته. كلّ ما يمكن معرفته عنه هو القصص التي يرويها الناس، وصور قليلة متاحة للعلن.
شاهد على أيام الخير
أربعة خطوط ترامواي من أصل خمسة تمرّ بفرن الشباك. “أرشيفو” زارت منطقة فرن الشباك لاستطلاع قصص أُناس قِدَمهم من قِدم الترامواي، للاستماع إلى ما عندهم من أقوال حول التغيّرات التي طرأت على المنطقة، وخسارة الترامواي وكل ما رافقه من زمن جميل، وهكذا حصل.
فؤاد سمعان هو رجل عتيق، سبعيني، قصير القامة، كبير القلب. عند آخر شارع فرن الشباك، زقاق عتيق يطلّ على تحويطة فرن الشباك، وعلى أوتوستراد ضخم تكتسحه السيارات المسرعة، وسط أصوات زمامير لا تطاق. في هذا المنزل، وُلد فؤاد وعاش حياته كلّها.
يروي لنا جوانب من حياته بفرح غير متوقّع. لا حسرة فيها ولا دمعة، بل طمأنينة وهدوء، كأنه في سرّه يشكر الله على أنه صاحَبَ الزمن الجميل. المنزل الذي يعيش فيه فؤاد، كان قد سكنه أهله قبله، أي أن عمر هذا المنزل حوالى 120 عامًا. كان يتألف من أكثر من طبقة، لكن يد الحرب طالته، فسقطت عليه قذيفة جعلته من طبقة واحدة.
يجول معنا العجوز المرح حول منزله، يدلّنا على ثقوب أحدثتها رصاص الحرب الأهلية اللبنانية، ويشير إلى العمارات الجديدة التي تحاصره من كل صوب: “كلها جديدة. كانت أراضي فارغة”. يعلمنا أنَّ المنطقة التي تحيطه كانت “ضيعة”، وأن أغلب من سكنها كان من عائلته، “من بيت سمعان”، وكانت منازلهم طبقات أرضية. تزيّن الشبابيك – “الأباجورات” الخشبية الخضراء المنزل من أوَّل صوب، ومن الثاني باب مدخل المنزل الأبيض، وهو خشبي أيضًا. للخشب رمزية كبيرة في مواجهة الحديد والألمنيوم. يبقى “الأباجور” الأدفأ والأقرب إلى القلب.
واكب فؤاد سمعان مرحلة الترامواي، وكان يستقلّه ليصل إلى ساحة البرج: “كان يجمعنا!”، ويضيف قائلًا: “كانت أيام خير وما في زعبرة”.
المنطقة بين الأمس واليوم
الخمسيني ميشال واكد صاحب محلّ تجاريّ في فرن الشباك منذ العام 1984. يجلس في الطبقة الأرضية من مبنى سكني في سوق فرن الشباك، بين بضائع محلّه المكدّسة من عطور وإكسسوارات وحقائب. أغراض تكسر وحدته طوال النهار.
واكب ميشال السنوات الثلاثين الأخيرة من عمر السوق التجاري الذي كان يُعدّ الأضخم في بيروت، ويعتبر أنّ الثمانينيات والتسعينيات شهدت أيام عزّ ونمو، لولا بضعة أحداث من الحرب الأهلية اللبنانية: “في 26 كانون الثاني/ يناير من العام 1985، وعند الساعة 11:20 صباحًا، وقفت سيارة على بعد مترين من المحال وانفجرت”. 150 كلغ من المتفجرات أوقعت 33 شهيدًا وحوالى 150 جريحًا، ما أدى إلى إقفال السوق لمدة شهر.
حول التغيرات العمرانية في المنطقة، يخبرنا واكد أنّ العمارات لم تتغير بشكل عام منذ الثمانينيات، باستثناء بعض التفاصيل والتحسينات، كإنشاء رصيف للمشاة مثلًا، ووضع “بارك ميتر” منذ حوالى ثلاث سنوات. المباني هنا متوسّطة الحجم، والسوق يحافظ على طابعه الأصلي.
كثير من المباني تتألف من طبقتين أو ثلاثة. وبحسب واكد، فإنّ المحال بأغلبها بقيت كما كانت في أواخر الثمانينيات مع تغيّر أصحاب المتاجر والمالكين. عُرف السوق التجاري لمنطقة فرن الشباك ببندر فرن الشباك. أولى المتاجر فيه كانت دكاكين وتخاشيب. بدأت التجارة عبر محال الخضار والفاكهة واللبن واللحوم، تلتها تجارة البحص والرمل النهري، ليصبح السوق لاحقًا من أهم أسواق بيروت.
تقلّصت حركة السوق شيئًا فشيئًا مع مرور الزمن، بعد أن كان السوق مقصدًا لسكان مدينة بيروت والمناطق المجاورة (الضاحية الجنوبية لبيروت، بحمدون، وغيرهما). تم استحداث أسواق تجارية في المناطق كافة، فخفّ عدد الزوار والزبائن. لكل منطقة سوقها، بالتالي ما عاد يقصد سوق فرن الشباك سوى زبائن أوفياء لمحال معيّنة اعتادوا نوعية بضائعها، أو يألفون صاحبها، ويثقون بما يستورد من قطع.
حول أهمّ الاختلافات التي طرأت على سوق فرن الشباك، يتذكّر ميشال سينما “سكالا” التي أُقفلت في الثمانينيات، ليُفتتح مكانها محالّ تجارية للثياب، آخرها محل “Big sale”. جذبت سينما “سكالا” الزوار إلى المنطقة، لكونها مكانًا ترفيهيًا في وسط سوق تجاري، وخصوصًا أنَّ المنطقة كانت مفعمة بالحياة والحيوية في الستينيات والسبعينيات. لم يبقَ لها أثر اليوم، إلا أن الزائر إذا دخل إلى مدخل العمارة المقابلة لموقعها، سيجد في الطبقة الأرضية ستوديو فوتوغرافيًا صغيرًا يحمل اسم “ستوديو سكالا”، في إشارة إلى أنَّ هذه الأمتار المربّعة كانت تعرف باسم السينما التي ولّت، واسم هذا الستوديو الصغير هو ما تبقّى منها.
يضيف واكد خلال حديثه عن أسباب تراجع حركة السوق، أنّ افتتاح أكثر من مجمع تجاري ضخم قضى على الأسواق الصغيرة والتجار المحلييّن، عبر تأمينه انتشار الأسماء العالمية والشركات المتعددة الجنسيات. “شوب، شتا، ما حدا بيعتل همّ، والموقف موجود”، هكذا يختصر حال التسوق اليوم، فبدلًا من أن يسير المتسوق تحت أشعة الشمس الحارقة صيفًا، أو حاملًا مظلّته المبللة شتاءً، أو بدل أن يبحث عن موقف آمن لسيارته، يقصد اليوم مجمع “الحبتور” المجاور، أو مجمع “سيتي سنتر”، حيث الموقف مؤمن والمتاجر المهمة كلّها متوافرة جنب بعضها البعض تحت سقف واحد في كل الفصول.
سألنا واكد عن النشاطات والتسهيلات التي تمت لمحاولة إحياء السوق وتحريك عجلته الاقتصادية، فأكّد لنا أنّهم قاموا بكل ما يقدرون عليه لاستقطاب الزبائن والمستهلكين، فخفضوا الأسعار بما بتناسب مع الوضع المعيشي الحالي، وأقامت البلدية مهرجانات صغيرة ونشاطات تشجيعية أيام السبت وخلال الآحاد، لكن هذه النشاطات لم تعد البريق إلى المنطقة، فحالما تنتهي، تعود الرتابة إلى حالها مع بداية كل أسبوع.
يستسلم التجار في المنطقة إلى واقع الحال اليوم، مع انتشار المولات، وأسماء المتاجر الضخمة، وعدم وجود إمكانيات لنفض السوق بأكمله. “السوق قديم، عم يضعف”، هكذا يختم ميشال واكد المحادثة.
فرن الشباك بألوان متعدّدة
علي شاب ثلاثيني، يعيش في منطقة فرن الشباك منذ خمسة عشر عامًا. انتقل خلالها بين ثلاثة منازل، كلها في فرن الشباك. يحبّ المنطقة، ولا يريد أن يغيّر عنوان سكنه. هو فرد في عائلة تتألَّف من ستة أشخاص، يسكنون المنزل نفسه، في عقار يقابله تمثال للسيدة العذراء، وفي مدخله شجرة ميلاد عملاقة. فرن الشباك فيها من الطّوائف كلّها.
حول سؤالنا عن هُوية المنطقة الطائفية، يؤكّد علي أنّ المنطقة متنوعة، ولو كانت مظاهر الديانة المسيحية تغلب في الشكل العام عليها، إلا أنه يسمّي لنا من جيرانه عائلات من طوائف متنوعة. هنا منطقة “محمد وطوني”، والمستأجرون والمالكون، على اختلاف قناعاتهم الدينيّة، يحبون المنطقة كما هي، والتنوع هنا ثراء.
يتراوح عدد سكان منطقة فرن الشباك، رسميًا، بين ستين ألف نسمة وخمسة وستين ألفًا. هذا العدد ليس محصورًا بمنطقة فرن الشباك فحسب، بل يتجاوزها إلى منطقتي عين الرمانة وتحويطة النهر. المناطق الثلاث تتبع إداريًا لبلدية فرن الشباك، كما يخبرنا رئيس البلدية الأستاذ ريمون سمعان. تُظهر لنا الخريطة المرفقة توضيحًا للمنطقة التي تتبع للبلدية، وحجم المناطق الثلاث.
لا خوف على حركة السوق اليوميّة هنا. قد تكون بطيئة، وقد تتضخّم بحسب الظروف الاقتصادية ومواسم الأعياد، لكنْ لسوق فرن الشباك نبض لا يموت. لا زال الناس يقصدون بعض المحال التي اعتادوها، وإن كانوا ملتزمين بحفلة خطوبة أو زفاف، تراهم يسارعون إلى “سوق فرن الشباك” لشراء الملابس والأحذية والإكسسوارات.
يبقى السوق الذي صنع ذاكرة شعبية سوقًا مميزًا تسهل زيارته، وتبقى ذاكرة المنطقة تبعث الروح في الزائرين والسكان.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: الأزقة الخلفيَّة في فرن الشباك.. كبسولات من الماضي
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- أفريقيا في دار المصوّر.. حياة وصور
- متحف طارق رجب في الكويت عودة الماء الشّرقي إلى نبعه
- شريط مار مخايل بالأسود والأبيض
- بيت جدي
- نهايات النّبع الكبير
- عن صورة تُكَوِّن نفسها في زوايا الذاكرة: “معتقل أنصار”
- حي الأميركان.. ذاكرة شفهيّة حيّة
- قصصٌ من “ذاك المكان”
- مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد
- من يملك ذاكرة الأرض؟
- بيروت القديمة استقلَّت الترامواي ورحلت إلى اللاعودة
- حي النعيم.. حسراتٌ في نفوس كرام
- التأريخ بالصّور: الشّوير وبيروت مثالًا
- سند.. قصّة أرض بحرينية طيّبة
- المنامة مشي وسِيَر وصور ودكاكين
- سيهات …نورس يطلّ علينا من قلب القطيف
- “الدير” في صورة