نهايات النّبع الكبير

نهايات النّبع الكبير

*أثير السادة

في امتداد البرّ المحيط بأطراف سيحة سيهات، كانت عين “الكعبة” التاريخيَّة تملأ سكون المكان بهدير مائها الصافي. تضيع كلّ الصور في ذاكرة الأجداد عن العيون الصَّغيرة المتناثرة في حدود المكان حين تحضر صورة “إشعبة”، كما ينطقها أهل المنطقة. ثمة ما يهب الفرادة لهذه العين التي يفضّل المؤرخون ربطها بتاريخ القرامطة وقصة الحجر الأسود الذي جرى ترحيله في مروياتهم إلى هنا؛ فرادة لها حظوظ من الواقع أكثر من تلك الظنون التي ما تزال تراوح في حدود الترجيح. ففي قبال ما يراد لنا استذكاره من سيرة هذه العين، هناك سيرة غير مكتوبة عن كرمها وقوّة دفقها وفعلها الاجتماعي، قبل أن تحملها الرمال المتحركة إلى رفّ المنسيات في الذاكرة.

البساتين الواسعة التي كانت تحيط بهذه العين إلى ما قبل نصف قرن، ليست الدليل الوحيد على نصوص الحياة التي كتبتها في سنوات زهوها، بل حتى مساحات النخيل البعيدة التي كانت على أطراف “إبردان” في سيهات، أي على بعد ما يزيد على ثلاثة كيلومترات من موقع العين، كانت هي الأخرى الشّاهد على اخضرار المكان ببركات هذه العين التي تسافر في نهاية كلّ يوم باتجاه الشرق، حيث الخليج بمثابة المحطة الأخيرة للفائض من مائها.

لا أحد يملك هذه العين النبّاعة التي يقطع ماؤها مسافات قبل أن يتصرّف الفائض منه في البحر، غير أن لها دفترًا ينظّم يوميات السقاية فيها؛ دفترًا يديره صاحب الأرض التي تصدر عنها. في هذا الدفتر، خرائط لهذه الرقعة الزراعية، لكنها بلا خطوط، وإنما أسماء وأوقات يعرف من خلالها الماء طريقه اليومي.

لا أحد يوقف الماء الهادر، فهو يعبر يوميًا عبر قنوات السّقاية في سرعة مدهشة، قبل أن يأخذه جدول السقاية اليومي عبر الممرات الفرعية إلى نخيل سيحة سيهات الممتدّة، ومثلها نخيل الجشّ القريبة. هناك في سطور الدفتر مقاييس تستند إلى حركة الظلّ في النهار والنجوم في الليل، حيث الساعات كانت في حيِّز الغياب آنذاك. ثمة “أوضاح” يجري توزيعها بين أصحاب النخيل، ويراد بها نهار اليوم ومساؤه. ثمة “ربع وضح” و”نصف وضح” و”وضح كامل”، وهي مرصودة بقياس الظلِّ الَّذي يجري تحديده من خلال ركز جذع في المكان، في ممارسة تشبه طريقة المزاولة، فتكون السقاية مستحقّة عندما يبلغ الظلّ مقدارًا من الأقدام في واحدة من اتجاهات الظل. عندها، يصبح من واجب متعهّد النخل، إن كان مالكًا أو مستأجرًا، أن يغلق “مِسكر” النخل الذي قبله، ويفتح الطريق إلى نخله وهكذا، بينما تقسم مدة السقاية في الليل على نحو “ربع الفجري” أو “ثمين الليل” وسواها من التقسيمات، بالإفادة من منازل القمر ومواقع النجوم.

تختلف مدة السقاية بين نخل وآخر باعتبار المساحة ومقدار الحاجة، وهي مسألة يتصالح فيها أهل الصنعة من الفلاحين في المنطقة، بحيث تصبح نافذة ومعتمدة ضمن التوزيع اليومي للسقاية، من دون أن يعني ذلك تمييزًا بين المستفيدين وفق حسابات خارجة عن ترتيبات السقاية نفسها، فالمسافة في الدفتر ترسمها ظلال النخيل واتساعها قبل أي شيء، وهي ترتيبات معتبرة ومحترمة إلى الحدِّ الذي يجعلها ضمن صكوك البيع والشراء لهذه النخيل، كما في صك أرض “نخل الشطبان والمغسلة” الموثّق في العام 1352ه، حيث يرد في نهايته: “وليعلم أنّ لها من الماء يوم الجمعة يلزم من على حقروص وميسور من اثني قدم في الشرق إلى ثمين الليل من ثامن مداورة، دور لهما ودور إلى جمة “يمة” الزاكي، ولهما أيضًا يوم الثلاثاء من قدم ونصف القدم في الشرق إلى اسلوم الشمة، دور في النهار ودور في الليل من بعد نصف الليل بقدم ونصف القدم إلى صلوة العاجز، وهو المعروف بما قبل طلوع الشمس” (راجع الوثيقة رقم 1).

وبحسب المسح الهندسي للمنطقة في العام 1431ه، فإنّ شطرًا من العين يقع ضمن نخل الشطبان والمغسلة التابع لبيت خريدة من أهالي سيهات، بينما يقع الشطر الثاني ضمن شارع معتمد في آخر تخطيط للمكان، ويحدّ العين في جميع اتجاهاتها قطع نخيل تابعة لأهل هذه البلدة، ما عدا الجهة الشمالية التي تقع فيها أرض وقف تحت يد “محسن باقر العوامي”.

كانت للعين “مَهدّات” ثلاثة، بفتح الميم وتشديد الدال، وهي جمع “مهدة” في معجم الفلاحين، وتعني الفتحات التي تدفع الماء إلى خارج العين، واحدة باتجاه الشمال، تسقى منها نخيل أهل الجش القريبة، وثانية باتجاه الشرق، وثالثة باتجاه الجنوب، وتستفيد منها نخيل منطقة الشعبة وأم الغزلان وبرزة والعمارة وشريقي وسواها، وصولًا إلى “إبردان” على مقربة من الساحل، فيجري الماء من “المهدات” عبر “التناقيب”، أي ممرات – قنوات – الماء المغطاة، في اتجاهاتها الثلاثة، لتغسل الشروب الواسعة، وتسقي النخيل الفارعة الطول، ومن ثم ينسال الزائد من ماء السقاية في “السيبان”، وهي جمع “ساب”، ويراد به قنوات الصرف التي ستأخذ الماء في رحلته اليومية ناحية الخليج.

ولأنها تموضعت في حدود البرّ، كانت الرمال المتحركة تزاحمها في وجودها، وهي تطمر بحركتها الدائمة جسمها الخارجي، وتدفع بالكثير من الرمل إلى داخلها. وبمثل ما بُنيت قنوات ريّ مطمورة لمرور الماء من أجل تجاوز مشاكل الرمال المتحركة، جرت محاولة رفع جدران العين أكثر من مرة باستخدام الحصى والصخور، بعد أن كانت العين في بداياتها في شكل “شريعة”، كما هي الكثير من العيون الطبيعية في المنطقة.

قوة الدفع التي تمتاز بها عين الكعبة مكّنتها من طرد الرمل عنها في كثير من الأحيان، غير أنَّ الهجمات المتكررة لهذه الرمال، كانت تتسبَّب في إضعاف قوة العين في بعض المرات، الأمر الذي يستدعي تنظيفها بالاستعانة بـ”الغاصة”، وهم غواصون عرفوا مهنة الغوص في البحر، من أجل إخراج الرمل المتجمّع في فوهة العين، وهي مهمّة تستغرق مددًا طويلة، تصل في بعض الأحيان إلى ثلاثة أشهر متواصلة، يعمد فيها الغواص أو الغواصون إلى صنع حفرة في عمق العين، واستخدام “الصخين” بعدها، لاستخراج كميات الرمل العالقة فيها.

في هذه العمليّة، تُجلب ثلاثة من جذوع النخيل الطويلة التي يصل طولها إلى عشرين مترًا، وتُجرّ إلى موقع العين بالحبال، بحيث يوضع نصفها في الداخل والنصف الآخر في خارجها، لتكون بمثابة الجسر الَّذي يتيح للعاملين الوقوف عليه، ونقل الرمل الذي سيجمعه الغواص في “الزبيل” إلى خارج العين.. كانت مهمّة شاقّة نظرًا إلى الكمية الكبيرة من الرمال التي ترفع من داخل العين. هذه العملية كانت تحدث كلّ عشر سنوات، ولكن، وفي سنواتها الأخيرة، باتت الحاجة إلى تنظيفها تتكرّر كلّ خمس سنوات.

هنالك في المقابل عملية تنظيف أخرى أبسط وأقصر تطاول ممرات الماء المغطاة، حيث يعمد المنظّفون فيها إلى استخدام “الثقبة”، وهو برج صغير للتهوية على طرف المجرى، وفي تجويفه ما يشبه الأدراج تسمح بالصّعود والنزول، يستخدمونه لرفع الرمال التي تعيق حركة الماء في المجرى وإزالتها، وتُسمّى هذه العملية بالأردبة.

لقد مضت هذه العين “المرحومة” إلى صفحة النسيان بعد انطمارها بالرمل وانقطاع مائها، وهي مرحومة في وصف أحد الفلاحين، لأنها لم تبتلع أحدًا، ولم تكن سببًا لوفاة أحد، على خلاف العيون التي تشابكت مع قصص الموت، وإدعيدع، وعبد العين، وأقاصيص الجن، فقوة دفع العين كانت كافية لطرد الأجسام عن الغرق فيها.

ماتت عين الكعبة، ومعها غاب فريج “الشعبة” الَّذي سكنته بعض عوائل الجش على تخوم هذه العين، مستفيدة من سيوبها العابرة فيها، وغابت الكثير من البساتين والنخيل التي عرفتها معاول الفلاحين في سيحة سيهات، لتكتب الصحراء بقسوتها شهادة الوفاة لعين فائضة بالكرم.

تلك العين التي طوت بمائها المسافات الطويلة، وغطَّت المساحات الشاسعة، طويت صفحتها شيئًا فشيئًا في أواخر الستينيات. غلبتها ريح الشمال وهي تحمل الرمال إلى جوفها، كما غلبتها سطوة الوقت وتحولاته، وموجة البحث عن الزيت، فباتت أثرًا بعد عين. ضعفت وضعف كلّ شيء حولها، حتى توقّف قلبها عن النبض وماؤها عن الجريان، لتكون بذلك النهاية الأولى لسيرة عين أيقظت كلّ وعود الخضرة في ربوع المكان، ووعود الفرح المؤجلة لأولئك الذين اعتادوا الركون إلى مائها في فسحة السّباحة وفسحة السقاية، فيما كانت النهاية الثانية يوم تم تسويتها مع الأرض، وردم ذاكرة بطول قرون مديدة، ولأنها منسيَّة في دفاتر الآثار، لم يكن فعل الهدم بعيدًا عن حظوظها، حتى وإن تم محاولة استدراك هذه الأخطاء بإعادة ترميمها.

المراجع:

1- الشهادات الشفاهية: الحاج حبيب المغاسلة أبوسعيد، الحاج عبدالله جواد الخاتم، الحاج أحمد خريدة.

2- الوثائق: الأستاذ جواد خريدة.

3- الصور: الأستاذ محمد الشافعي، الأستاذ علي آل طالب.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: نهايات النّبع الكبير

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  7 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>