بيت جدي

بيت جدي

*محمد طاهر العصفور

أن تتحدَّث عن المكان، فهو أن تستجلي ذاكرة مديدة، ولا سيَّما أنَّ المكان من المقولات العشر في أدبيات الفلسفة، وحيّز التاريخ الَّذي تناط به الأحداث، والجنبة الرومانسيَّة البارزة الملتصقة بالذات. وعليه، فإنَّك تُسمّر النظر في تاريخك، والتاريخ الَّذي صنع تاريخك، وإن كان تاريخك لا يشبه تاريخك، لأنَّك لا تمثّل نجابته المتعاقبة، فيجعلك تمارس الحنين إليه، شأنه شأن القديم الذي يشبه “الأنتيك”.

ولأني أحمل اسمًا ارتبط تاريخيًا واجتماعيًا بالمكان، صرت أحنّ وأتحسَّر؛ أحنّ حنين الفاقد لتاريخه، وأتحسَّر لأني حتى هذه اللحظة تخلّفت عن الامتداد. كانت تلك الكلمات العابرات لصيقة بالذات، تعبّر في مكان ما عن حقيقتي، وكان مبرّرها الكشف عن ضرورة المكان الذي كان يمثّل عنوانًا معينًا على المستوى الاجتماعي والرومانسي. إنه، كما ذكرت، “بيت جدي” أو “بيت أجدادي”، إن شئت الدقة، بل بيت أهلي الذي مثَّل عنوان الانتساب إليه امتداد الذاكرة السحيقة التي تعاقبت على المكان.

المكان بيت محمد طاهر. هو جدي، ولكنَّ البيت يعود إلى أخوة ثلاثة، هم محمد طاهر وأخوه إبراهيم وأخته زهراء، ولكنه عرف ببيت محمد طاهر على التغليب. وقد كان لي أن انتسبت إلى إبراهيم أيضًا جدّ والدتي. يتميّز المكان – كما قيل قديمًا – “بالمكين”، ويُقصد به الشّخص الذي يملأ المكان بشخصيته وتمكّنه، وكان الأخوة جميعًا كذلك على مستوى الرجال والنساء من حيث البعد الاجتماعي، وكان محمّد طاهر يمثّل الركيزة الأساسية لهذا البيت.

من ملامح هذا الرجل، أنَّه كان ذائدًا عن قومه، غيورًا عليهم، وكثيرة هي الحوادث التي دلَّت على ذلك. يُحكى أنَّ الفداوية، ومفردهم “فداوي”، وهم على سبيل التقريب السفلة، كانوا من خدمة السلطان الَّذين يتخذهم لممارسة بطشه بالرعية، وكانت هذه الطبقة تسطو على الناس، وتضيّق عليهم في أرزاقهم، بل تمارس السلب والنهب، وتجور على الكسبة والباعة وأصحاب الحرف، بل حتى على المقتنيات في البيوت. ومن جملة مظاهر السّطو، أنهم كانوا يسطون على باعة السّمك، حتى ضاق الناس بذلك وتداولوا أمرهم، إلى أن عرف محمد طاهر بن يوسف آل عصفور بذلك، فما كان منه إلا أن ذهب حيث يبسط الباعة، حتى إذا أتى “الفداوي” قاصدًا ممارسة السّطو والنهب، بادره جدي قائلًا: أبعد يدك، ثم أكمل واذهب إلى سيدك، وأخبره أنّ هذا “حلال بن عصفور”. ويقال إنَّ الفداوية بعد هذه الحادثة انقطعوا عن هذه الممارسات في القرية.

ومن ملامح وهج رجولته، والتاريخ ينقلها، وقد قصّ لي أحد كبار السن حادثة أخرى كانت متداولة، أنّ أحد الفداوية سلب أحد البيوتات، فارتفعت الجلبة، وأسرع صاحب ذلك البيت إلى جدي محمد طاهر، فأدرك ذلك السالب الباطش، فعنَّفه وضربه، وأخذ منه ما سرق وردَّه إلى صاحبه. أما الفداوي، فذهب إلى المختار الَّذي كان مواليًا للسلطة الإدارية لتلك المنطقة، وأخبره أن محمد طاهر ضربه وعنّفه، فبادره قائلًا: “محمد طاهر ضربك! وهل تنتظر أن أُعرّض نفسي كذلك لما تعرَّضتَ له؟”.

أما الحادثة الثالثة، فهي أنَّ عصابة من قبيلة الدواسر أرادت الانتقام ليلًا من بيت محمَّد طاهر، وكان إبراهيم وزهراء مستيقظيْن، وخشيا أن يتنبّه وينازل تلك العصابة من دون أن يأبه بها، غير أنّ نباح الكلاب والجلبة التي حدثت، صرفت الدواسر عن الهجوم على الدار. وتشي هذه القصَّة أنَّ الأخوين كانا قد جرّبا شجاعة أخيهما وإقدامه.

تلك كانت ملامح من شخصيّة محمد طاهر على مستوى الشجاعة في إجارة المستجير، وقد رُوي أيضًا عن جوده، أنّه لا يكاد يوم يمرّ من دون أن يفتح مجلسه لقرى ضيف أو عابر سبيل، وكان ذلك مرهونًا بيساره، ولا يمنعه من ذلك إلا القلّ والفاقة.

أما العَلم الثاني لهذا المنزل، فهو جدي إبراهيم بن يوسف، وهو شهم كريم غيور، أحبّ أهل قريته وأحبوه وناصر الشباب ودعمهم، وكان ممن أرادوا انتشار الموكب الحسيني في الدراز، كما كان مثالًا لنصرة المستضعفين. ويقال إنّ سائق مستشار حكومة البحرين بلجريف، في بداية الخمسينيات، دهس أحد أبناء القرية بسيارته، فانبرى إبراهيم بن يوسف للدفاع عنه، وأخذ له بحقّه، وعيّن ذلك الشاب في وظيفة حكومية. ولقد مثّلت أختهم زهراء (عمتي) مكانة مرموقة بين النساء، وهي خادمة للإمام الحسين (ع)، فتحقَّقت من خلال الأخوة الثلاثة صفة المكان بالمكين.

ذاك كان حديثي عن سكّان البيت. أما الآن، فكلامي عن البيت ذاته الذي يأخذ شكلًا مستطيلًا، ويتكوَّن من غرف عديدة، وفيه ثلاث بوابات كبرى، وبوابة لشبه غرفة تسمّى الدورية، ربما كانت مجلسًا، وتطلّ بوابتان منه على الجانب الجنوبي.

أما الدويرة، فتطلّ على الجهة الشرقية، ولقد ذكرنا أنَّ البيت يشتمل على بوابات ثلاث بمعزل عن باب الدويرة، وقلنا إنّ ثمة بوابتين من الجهة الجنوبية وبوابة ثالثة من الجهة الشمالية تسمى بوابة “الجفر”، وكأنهم كانوا يسمونها أيضا باب الشَّجرة، حيث تقع سدرة “الكنار” الشهيرة بقربه داخل البيت نفسه. أما الجفر، فيُسمّى “الجفر الحلو”، وهو لصيق بالبيت من الناحية الشمالية، وينتفع من هذا البئر العذب أهل قرية الدراز والقرى المجاورة، وقد شكّل مَعلمًا مهمًا من معالم القرية، ومكانًا تجتمع فيه النسوة من مختلف الثقافات، ووجهًا من وجوه التعايش المذهبي، حيث كانت نساء قرية البديع المجاورة، السنّية المذهب، ترتاد هذا البئر، وتنسج الأحاديث مع باقي النساء، وكم من نادرة سمعتها من أسلافي عن تلك الوقائع!

وكان أهل القرية جميعًا يجتمعون في كلّ عام لتنظيف البئر. وقد سمعت أنَّ الذي حفر البئر كان أحمد بن مدن العصفور* (خال الشيخ حسين العصفور العلامة). والشيخ حسين العلامة جد محمد طاهر الرابع من ناحية أبيه، فاسمه محمد طاهر بن يوسف بن محمد علي بن شيخ أحمد بن الشيخ عبد علي بن الشيخ حسين آل عصفور، وجده من ناحية أمه، وهي آمنة بنت نصر بن شيخ أحمد بن الشيخ عبد علي بن الشيخ حسين آل عصفور، وأبوها (نصر) تحدثت عنه المصادر البريطانية في وثيقة ظهرت مع أحفاده، بعد أن تمّ تكليف باحث بالتنقيب عنها في الوثائق البريطانية قبل حوالى 15 عامًا.

تقول تلك الوثيقة: “نصر بن أحمد بن عبد علي آل عصفور، أُلقي القبض عليه في البحر، وسُجن في الهند، ومات هناك بعد أربعة أعوام من سجنه، وعاد خادمه بعد ذلك إلى البحرين”.. تلك كانت رواية البريطانيين. أما الرّواية الَّتي سمعتها من أجدادي، فإنَّ الإنجليز دعوه إلى المفاوضات في البارجة، وحين أراد حراسه صحبته، قيل لهم إنها جلسة مفاوضات على ظهر البارجة، غير أنَّ البارجة تحركت وانقطعت أخبار الشيخ نصر، حتى ظهرت تلك الوثيقة قبل 15 عامًا من اليوم تقريبًا، كاشفةً مصيره (رحمة الله عليه).

ويبدو أنّ الشيخ نصر كان ذا نفوذ، وارتبطت باسمه حادثة، حيث كان له خال يدعى الحاج موسى، يمتهن تجارة اللؤلؤ (الطواشة)، فاستخار الله عصر يوم وفاة الرضا (عليه السلام)، ليذهب إلى قرية الجسرة ويشتري لؤلؤًا. وحين ذهب وابتاع ما أراد، عاد قافلًا إلى قريته الدراز، فباغته الذين اشترى منهم، وقتلوه في الطريق، وسلبوا ما في حوزته من مجوهرات، وقد أثَّر هذا في ابن أخته الشيخ نصر – وبالمناسبة كان الشيخ نصر جد منصور العريض الَّذي كان أيضًا يمتهن الطواشة – وقد أصدر الشيخ نصر بن شيخ أحمد تعليماته بإحضار قتلة خاله كلّهم، ونفَّذ فيهم القصاص، فقيل يومها: “آل عصفور عالمهم عالم وظالمهم ظالم”، ولا أعتقد أنَّها وجه من وجوه الظلم، فالرجل نفذ القصاص ورفض الدية، كما أنَّ الناس أغلبهم فرحوا بهذا القصاص، وقالوا منشدين: “كبد العرب طانة من حكم الشاخوري”. والعرب يُقصد بهم البدو، وهم القبائل المتحالفة مع آل خليفة، وطانة أي متقطعة، والشاخوري نصر، لأنه استوطن الشاخورة… والحديث يطول عن نصر، ولكن ليس في هذا المقام.

وبالعودة إلى البيت، فإنَّ محمَّد طاهر كان يهتمّ أيضًا بسدرة الكنار، وكان يهدي من ثمرتها كلّ من يحب، من القاصي والداني، ولقد رأيت الكثير من الناس ينفضونها ليأكلوا من ثمرتها، ويقولون إنها متميّزة.

تلك بعض الملامح التي أتذكّرها عن بيت جدي محمد طاهر.

* أحمد بن مدن هو خال الشيخ حسين العصفور، غير أنَّ الشيخ في كتابه “المحاسن”، في حديثه عن الشيخ سليمان الماحوزي يصفه بجدّه، ويقول: “جدي لأمي”، فكيف يكون أحمد بن مدن خال الشيخ حسين وفق الرواية المتداولة شفهيًا! لعلَّه خاله أخو أمه غير الشقيق، أو خال أبيه، أو أنَّ الرواية هذه غير مضبوطة، والله أعلم.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: بيت جدي

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  8 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>