مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد

مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد

*تغريد الزناتي

تميّزت بيروت، على مرّ السنين، بحياة ثقافيَّة نشيطة. من المعارض، إلى المسلسلات التلفزيونيَّة، والأفلام السّينمائيّة، والعروض المسرحيَّة؛ إنتاجات تناسبت مع مختلف الأذواق وشرائح المجتمع، واستطاعت أن تتخطّى حدود المجتمع اللبنانيّ لتصل إلى العالم العربي أجمع.

من منّا لا يذكر فرقة “أبو سليم” الطّبل، الّتي استطاعت أن تستقطب اهتمام المجتمع العربيّ، ليقوم أبو سليم وفهمان ورفاقهم بزيارات عديدة خارج بيروت، محمَّلين بمواهبهم وضحكاتهم، ويجولوا في البلاد العربية “بناءً على رغبة الجماهير”؟!

من منّا لا يذكر “المعلّمة والأستاذ”؛ المسلسل الذي نقل اللهجة اللبنانية إلى العالم العربيّ، واستطاع، بالكوميديا الذكية والكاريزما المحبّبة والحوار السّلس، أن ينقل المجتمع اللبناني إلى المجتمعات المجاورة، من خلال “هضامة” إبراهيم مرعشلي، وأناقة هند أبي اللمع، وصرامة ميشال تابت، وظرافة “الناظرة ظريفة”، وغيره الكثير من الإنتاجات، من مثل “الدني هيك”، “ألو حياتي”، و”العاصفة تهب مرتين”… كلّها ذاع صيتها وانتشرت.

أضاف المسرح اللبناني الكثير من “الأمجاد” إلى الثقافة اللبنانيّة الفنيّة، وكانت له إسهامات ضخمة على هذا الصّعيد، فالحركة المسرحية تركت بصمة في فترة “الزمن الجميل”، وألهبت بريق بيروت تحت الأضواء، ورفعت مكانتها بين عواصم الثقافة والريادة والفن.

تحدّى المسرح عقبات عديدة، كان أوّلها اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة، والتي، من دون شك، كان لها أثر سلبي كبير في الحياة الثقافية، فخلّفت دمارًا كبيرًا لحق بمدينة بيروت، إضافةً إلى تقلّبات الحياة الاقتصادية
والسياسية، وتراجع الاستثمارات، واهتزاز الاستقرار الأمني في المنطقة.. كلّها عقبات أدَّت إلى انحدار خطّ التطور التصاعدي الذي كان سائدًا.

فيما يلي، مسارح بيروتيَّة عتيقة كانت شاهدة على الفترة الذهبيّة للمسرح اللبناني، وعليها ولدت الأمجاد، قبل أن تدخل في سبات عميق. ربما لأنها لم تقوَ على مواجهة عواصف مظلمة مرّت على لبنان، أو مقاومة تغيّرات مجتمعيَّة سائدة.

مسرح البيكاديللي

يقبع مسرح البيكاديللي في الحمرا؛ أكثر شوارع مدينة بيروت ازدحامًا ونشاطًا. هو أوّل المسارح اللبنانية وأكثرها رواجًا وشهرةً حتى يومنا هذا، ولو دام إقفاله مدة سبعة عشر عامًا.

عرفت خشبة البيكاديللي أكثر المسرحيات تميّزًا أداءً وإخراجًا، واحتضنت عروضًا لبنانيّة مميزة، أبرزها مسرحيات السيدة فيروز للأخوين الرحباني، “هالة والملك” (1967)، “يعيش يعيش” (1970)، “صح النوم” (1971)، “ناس من ورق” (1972)، “لولو” (1974)، “ميس الريم” (1975)، “بترا” (1978) “وصيف 840” (1988)، فضلًا عن عروض عربيّة، أهمّها “مدرسة المشاغبين”، و”الواد سيد الشغال”، و”بودي غارد” لعادل إمام. كما قدّمت شريهان فيها عرض “شارع محمد علي”، إضافةً إلى عروض لفنانين كثيرين، من سلوى القطريب وملحم بركات وشوشو إلى داليا، وأيضًا عروض رويال باليه.

هو مسرحٌ قدّم العروض المميزة لحوالى 33 سنة، وجمع اللبنانين على حبّ الثقافة والفن والابتكار خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ودفع ببيروت إلى أعلى سلّم الثقافة والحياة، فجذب من العرب والأجانب كلّ من جعل من الموسيقى والمسرح ميزة هويّته الروحيَّة.

عرف المسرح في أواخر التّسعينيات تحديات عديدة شكّلت عقبات أمام استمرار بريقه، فالتغيّرات السياسية والاقتصادية بطّأت دورة عجلته، وكان الحريق الَّذي نشب فيه في صيف العام 2000 ضربة قاضية دمّرت خشبته بشكل كبير، من دون أن تمسّ ببورتريه السيدة فيروز التي زيّنت أحد جدرانه.

لم يكن الحريق مفتعلًا، كما أكّدت العناصر الأمنيَّة، إلا أنَّه افتعل جرحًا عميقًا في قلب الثقافة اللبنانية. الحريق الَّذي استمرَّ ساعات طويلة قبل إخماده كلّيًا، أتى على المسرح بأكمله، ماسحًا اللون الأحمر المخملي الَّذي كان سائدًا فيه، وأسدل الستارة على حقبة ذهبيّة في تاريخ المسرح اللبناني، في خسارةٍ لم يتم تعويضها حتّى اليوم.

المسرح الَّذي شُيّد على أساس المعايير العالميَّة، دُمّرت بناه، لكنَّ صوت فيروز لا يزال يصدح فيه؛ من بين جدرانه العارية إلا من غبار ورماد. حروف اسمه المهترئة عند مدخله شاهدة على زمن جميل بكلّ ما فيه من تفاصيل، وستبقى شاهدةً على زمن ولّى من دون رجعة.

لا يزال مسرح البيكاديللي عنوانًا لكل من يمرّ في شارع الحمرا. يتم احتساب المسافات وتوصيف العناوين بحسب موقعه. من دونه تضيع البوصلة. لا يمكنك أن تمرّ إلى جانبه، إلا وتلتفت إليه. ربما تتخيّل ما كانت عليه الحياة منذ 40 سنة.

يحاول وزير الثقافة اللبنانيّ الحالي، غطاس خوري، زرع الأمل والوعد بإعادة ترميم مسرح البيكاديللي وإحيائه. يحرّك المسرح النوستالجيا في قلب كلّ من عايش فترة الثقافة الذهبية في لبنان، وكلّ من لم يعشها، ولكنَّه يستعيد في ذاكرته مقاطع من مسرحيات حفظها، أو ربّما رأى صورها النادرة بالأسود والأبيض، ولوّنها كما يُحبّ؛ إنَّها نوستالجيا في قلب كلّ من يحبّ فيروز، ويشتاق إلى شوشو، ويحنّ إلى مسرحٍ أقلّ تكلّفًا وأكثر إبداعًا، لأنه يذكّرنا بالزمن الأجمل!

المسرح الوطني أو مسرح شوشو

غيّر شوشو نظرةَ عامّةِ الشّعب إلى المسرح، وجعله في متناول الجميع على امتداد أيام الأسبوع. جعل الناس روادًا دائمين، ينتظرون أداءه البسيط الذكي المضحك، من دون تصنّع وفبركة.

لم يدرس شوشو فنّ المسرح. كلّ ما كان يملكه هو الموهبة الفريدة والخفّة والأداء السَّهل. كوميديّ بالفطرة. ميزته هذه قرّبته إلى الناس، لأنه كان واحدًا منهم، وكانوا يستطيعون رؤيته كلّ يوم لو أرادوا. كان منزله مسرحه. عنوانٌ معروف، يطرقون أبوابه متى شاؤوا، ليستقبلهم يوميًا على الخشبة.

شهد المسرح عروضًا كثيرة، منها مسرحية “اللعب على الحبلين”، “كافيار وعدس” لوجيه رضوان، “جوّه وبرّه” لموليير، و”الدنيا دولاب”، وغيرها الكثير، وصولًا إلى “آخ يا بلدنا”، التي مُنعت من العرض بعد عدّة عروض.

شوشو (حسن علاء الدين)، الفنان ذو الهيئة المميزة بشاربيه الطويلين وقامته الرفيعة، كان منذ صغره يهوى الكوميديا والضحك. سجّل في رصيده حوالى 24 مسرحية، وأسّس مسرحًا يشبهه، فكان على هيئته؛ عفويًا، بسيطًا، نقديًا، كوميديًا، خلّاقًا، متفرّدًا في المضمون والنتاج، لا يشبه غيره. أضاف الكثير من القيمة إلى المسرح اللبناني، تاركًا فيه من الدهشة والضّحك والبراعة ما استمرَّ حتى اليوم!

الغراند تياترو (1930 – 1975)

تأسّس مسرح “غراند تياترو” أو “أوبرا بيروت” في العام 1930 في وسط بيروت. احتضن عروض الأوبرا الأوروبيّة، وتميّز بشكله الكلاسيكيّ، ولكنَّ وجوده لم يطل، فأقفل أبوابه في الخمسينيات، وتحوَّل إلى صالة سينما لعرض الأفلام حتى بداية الحرب الأهلية اللبنانيَّة (1975). بعد انتهاء الحرب الأهليّة، هدمت شركة سوليدير البناء، من دون المسّ بصالة المسرح، الّتي لا تزال قائمة في وسط بيروت من دون ترميم.

مسرح أورلي

جرى افتتاح مسرح وسينما “أورلي” في شارع بليس (بيروت) في السبعينيات، وظلّ مستمرًّا حتى التسعينيات.

استقبل المسرح وجوهًا موهوبة. وكان عرض مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” لزياد الرحباني، لمدة ثمانية شهور متواصلة، أهم ما مرّ على خشبته خلال هذه السنوات. أقفل المسرح أبوابه، واستمرت السينما في استقبال الرواد قبل إغلاقها نهائيًا في العام 1995.

مسرح بيروت (1964 – 2012)

افتتح سعيد سنّو وزوجته مسرح بيروت في الستينيات من القرن الماضي في منطقة عين المريسة، وكان من المسارح النشيطة والواعدة، ومن بين القلّة التي استمرَّ نشاطها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لكنَّ الخلافات العائلية الشّخصيّة حالت دون استمرار النشاط المسرحيّ فيه، فأقفل أبوابه في العام 2012.

اعتصم الفنانون اللبنانيون أمام وزارة الثقافة في بيروت أواخر العام 2011، احتجاجًا على إقفال المسرح، مطالبين بحماية الفضاءات الثقافية والفنية في لبنان، لكن من دون جدوى!

مسرح بابل

لم يكن في الحسبان أنَّ مسرح بابل (2006) لن يشغل سوى فترة متواضعة من الزمن. لم تساعده الأعمال المسرحيَّة للفنانيْن عايدة صبرا وجواد الأسدي في البقاء ضمن الحياة الثقافية في شارع الحمرا؛ قلب بيروت، فأعلن الانسحاب. انتهى عقده الاستثماري في شهر نيسان/ أبريل من العام 2017، مغلقًا الباب على حقبة جديدة في حياة المسرح اللبناني.

وُلِد المسرح شعبيًا من الحاجة؛ الحاجة إلى نقل الواقع والحياة إلى منصّة، وعرضها أمام أكبر قدر ممكن من النّاس، لبثّ حقائق أو نشر وقائع أو سرد نصوص أو إظهار حوادث.

لم تكن هناك تقنيات وشاشات، سواء الصغيرة منها أو الكبيرة. ولد المسرح من الشّعب وللشّعب. تطوّر عبر الزّمن، كما كلّ شيء آخر، لكنّه حافظ على ميزة تجعله فريدًا، هي العلاقة المباشرة بين الجمهور والمؤدّي. علاقة سحرية تربطهما سويًا تحت سقف واحد، على بعد أمتار. يتشاركون الهواء نفسه، ويتكلَّمون لغة واحدة، مهما اختلفت الهُويات. إنها لغة الإبداع.

__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: مسارح بيروت من الذّهب إلى اللّحد

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  6 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>