يشبه الأرشيف في استخدامه مفهوم (Pharmakon) عند الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي يعني (الدواء، السم، العلاج، الترياق)، فالأرشيف قد يستخدم دواء للذاكرة، وقد يستخدم سُمًا لقتل جماعة، وقد يكون علاجًا لإنهاء حقبة زمنية والتصالح مع أحداثها، وقد يكون فتنة تخرج رأس الشيطان لتستأنف دورة صراع جديدة، وقد يكون في لحظة لوحة شرف تُعلي من شأن أفراد، وفي لحظة أخرى قائمة عار للأفراد أنفسهم الذين كانوا في لوحة الشرف.
لدينا أمثلة كثيرة توضح هذا الاستخدام المتضاد للأرشيف، ولكننا نكتفي بمثالين؛ المثال الأوَّل من الأرشيف العام للحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939) الَّذي أُسّس في العام 1999. تعود مواد هذا الأرشيف إلى قسم الحرب الأهلية الإسبانية الذي أنشأه نظام فرانكو الدكتاتوري الفاشي خلال الحرب، لتخزين كلّ الوثائق التي تم ضبطها خلال الحرب الأهليَّة، والتي لم تُنقل أو يتمّ تدميرها من قبل الجمهوريين المهزومين أثناء هروبهم.
تمَّ استخدام هذه الوثائق ضد أنصار النظام الجمهوري. كان هناك أكثر من 270000 من الرجال والنساء المحتجزين في سجون الدولة. كثير منهم تمت إدانتهم استنادًا إلى هذا الأرشيف، لكن لاحقًا ساعدت هذه الوثائق على أن يحصل الجمهوريون العسكريون على معاش تقاعد وتعويضات عن الوقت الذي أمضوه في السجون. إنه الأرشيف نفسه، لكنه تحول من وثيقة إدانة إلى وثيقة استحقاق، إضافةً إلى أنه غدا مصدرًا مهمًا للمؤرخين لكتابة تاريخ الحرب الأهلية وتاريخ الدكتاتورية.
المثال الثاني من أرشيف مذكّرات الصّحافي الكاتب محمد سلماوي، الصادرة عن دار الكرمة في العام 2017. لقد سُجن هذا الصحافي في انتفاضة الخبز التي كانت ضد غلاء الأسعار في كانون الثاني/ يناير 1977 في عهد الرئيس المصري أنور السادات، ونشر في مذكّراته ما كتبه رؤساء تحرير وكتّاب، وما اتخذه رؤساء مجالس إدارة من قرارات ضد زملاء اعتبرتهم السلطة مناوئين لها ومهدّدين، وحرص صاحب المذكّرات على أن يضع صورًا لصفحات الصّحف، وكأنه يتيح للأرشيف أن ينتقم من خيانات هؤلاء، بعد أن كانوا يستخدمون هذا الأرشيف لتقديم ملفات ولائهم وطاعتهم، ليقبضوا الثمن من السلطة السياسيّة.
هكذا الأرشيف، يتقلَّب في السياق العام ضمن توظيفات متضادة، لكنّه في النهاية يُجرّعنا مُرّ الحقيقة التي لنا والتي علينا. إنَّه مكر الأرشيف.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: مكر الأرشيف
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا: