كان الصديق حسين خلف قد مرر لي مقالة عالم النفس اللبناني عدنان حب الله، (من دون أب: المجتمع اللبناني في محنته الوجودية) وهي المقالة الأخيرة له التي نشرها في جريدة الحياة قبل وفاته يوم السبت 22 أغسطس/ آب (1935-2009). وفيها يرجع كثرة الانقسامات اللبنانية في شكل طوائف متحاربة وفشل قدرة الاجتماع اللبناني على تكوين دولة جامعة، إلى غياب الأب الجامع. قال لي الصديق خلف، تذكرت قتلك للآباء، ودعوتك للتخلص منهم، حتى كأنك صرت ابناً غير شرعي. كان يحتجّ بمقالة حب الله وبمكانته العلمية في تأكيد فكرة الحاجة إلى الأب.
قلت له: أنت تعرف أني مازلت موجوعاً بفكرة غياب الأب بالمعنى الخاص، لكن لوجهة نظر حب الله مقصداً، يحتاج تبيانه إلى مقالة تفيه حقه.
في كتاب (حب الله) الأخير الصادر2008 ”إشكاليات المجتمع العربي” الذي هو عبارة عن حوار مع عالم النفس مصطفى صفوان يقول أدونيس في مقدمة الكتاب ”الإنسان يولد في الثقافة الإسلامية كأنه نقطة أو حرف أو كلمة في كتاب هو الأمة”. النقطة تظل دوماً في حاجة إلى شيء يهبها معناها أو تبقى من غير معنى، هي بحاجة إلى أب تغيب فيه، وليس أماً تخرج منها. الأب هو رمز السلطة والحضور الطاغي والقهر، لكن (حب الله) يستخدمه في مقاله الأخير بمعنى الإطار الجامع لا القاهر، ولنوضح ذلك بالاستعانة بآباء مؤسسي الديمقراطيات لا الديكتاتوريات.
في كتابه (جرأة الأمل) يعود (أوباما) باستمرار إلى الآباء الاثني عشر المؤسسين للديمقراطية الأميركية بعد التحرر من الاستعمار الإنجليزي. وهو لا يمل من تكرار دعوته إلى تأكيد أهمية الرجوع إلى مقاصد الآباء من هذه الديمقراطية، وضرورة استيعابها واستلهامها لتجاوز أزمات الحاضر وتصحيح أخطاء السياسات التي سارت ضد مقاصدها، خصوصاً سياسات اليمين المحافظ، وكما تجلت في أسوئها في عهد جورج بوش، ”وهكذا حين نتجادل بحدة حول الإجهاض أو حرق العلم، نلجأ إلى سلطة عليا، متمثلة في الآباء المؤسسين ومصدقي الدستور، لإرشادنا وتوجيهنا”[1].
إنّ العودة إلى هؤلاء الآباء ليست نكوصاً إلى الماضي، بل فتحاً للمستقبل، والمثال على ذلك انتخاب (أوباما) فلو كانت هذه الأبوة نكوصاً لما فتحت المستقبل للسود ليتولوا قيادة الأمة التي حلم بها هؤلاء الآباء، من هنا يمكننا القول إن ولادة ابن أسود لرئاسة أميركا، هي ولادة مدينة في شرعيتها إلى صلب هذه الأبوة المؤسسة. وهذا ما يعطي لهذه الولادة إجماعاً وطنياً يحافظ على وحدة الولايات، ويمنع حدوث انقسامات وطنية تهدد البلد بالانفصالات. تسمح هذه الأبوة باختلافات الأبناء ضمن إطارها، وتحميهم من الانقسام إلى جماعات يتيمة لا أبوة لها.
يبلغ إعجاب (أوباما) بإنجاز هذه الأبوة حد تشبيه عملهم بالوحي الإلهي ”أتساءل دوماً: هل أدرك الآباء المؤسسون آنذاك مدى وحجم الانجاز الذي حققوه؟ لم يكتفوا بصياغة الدستور في أعقاب ثورة؛ بل كتبوا الأوراق الفيدرالية لدعمه، وحافظوا عليها حتى تصديقها، وعدلوها بإعلان حقوق المواطنين. أنجزوا ذلك كله في بحر سنوات. حين نقرأ هذه الوثائق تبدو صحيحة وصائبة إلى حد غير معقول بحيث يسهل الاعتقاد بأنها نتيجة للقانون الطبيعي إن لم يكن وحياً إلهياً”[2].
نحن لا نشبه عمل (أبوتنا) بالوحي، بل نتعبره وحياً، فنحن نرجع إلى أبانا الذي في السماء أو من يمثله حد التطابق في الأرض، فنغيب كنقطة في سمائه وولايته، ولا يكون لنا وجود في الأرض. بمعنى أن الآباء الذين نرجع نحن لهم، نعتبرهم آلهة أو ممثلين للآلهة حد التطابق معها، وفي أحسن الأحوال قريبين منها، وبدل أن نختلف إليهم، نختلف بهم، ومازالت صراعاتنا حول أبوة (أول الأمة) تعيد إنتاج نفسها.
نحن بحاجة إلى أب جامع يعددنا، لكن لسنا بحاجة إلى أب قاهر يصهرنا في واحد، بحاجة إلى أب نختلف إليه، لا أب نختلف به ونحترب باسمه. أب يتيح لنا أن نتأوله تأولاً حديثاً وجديداً، ويهبنا في كل تأويل حياة جديدة، لا أب يهبنا حياة واحدة غير قابلة للتصريف، كما هو الأمر معنا، في رغبتنا في استعادة أبوة دولة الخلافة أو دولة الإمامة أو دولة النبي أو دولة أول الأمة. لقد أحسن (أوباما) التصرف في أبوة أميركا، فجدد حياتها السياسية بشعاره التغيير، في حين نحن لا نرفع غير شعار التطابق مع الأب.
الأب متى صار سلطة مفترضة الطاعة، صار الأبناء يتوقون إلى الخروج عليه، وقتله، فيبدأ الانشقاق والانقسام، فتكون الجماعات والطوائف. من هنا، لسنا بحاجة إلى ولي أمر يقهرنا بسلطته، فالسلطة تفترض المعارضة وهي لا تشكل إجماعا، في حين وظيفة الأب تحقيق الجامع الوطني. لذلك الأب ينبغي أن ينأى به عن السلطة، ويبقى في منطقة إطار المرجعية التي نعود إليها.
في كتابه (روح الدستور) يستعيد المحامي والإعلامي الكويتي محمد الجاسم روح الآباء المؤسسين للكويت، يستعيدهم آباءً، يمكن استلهام روحهم التي ترجع إلى المجتمع الكويتي القديم الذي كان مجموعة من العائلات المهاجرة تراضت فيما بينها على تنصيب أو انتخاب أحد أفرادها ليكون حاكماً. وقع الاختيار على أحد أفراد عائلة آل صباح. في البداية، لم تكن الأمور تبلورت أن يكون الحكم وراثياً في هذه العائلة. كانت السلطة تعتمد على روح التشاور والاتفاق والتفويض من قبل جماعات العائلات المهاجرة التي شكلت المجتمع القديم، من دون استفراد ومن دون قهر ومن دون غلبة. وقد استلهم هذا الروح أب الدستور الكويتي الحديث عبدالله السالم، فأصبح بحق أبا للديمقراطية الكويتية الحديثة ومرجعاً يعاد إليه لتصحيح مساراتها وبعث حياتها كلما ضعفت روحها.
هكذا، نحن بحاجة إلى أب يظللنا، وليس إلى أب يقهرنا. وعلى هذا النحو يمكنني أن أقول لصديقي حسين خلف: أنا خرجت على الأبوة القاهرة ولم أعد ابناً لولاية مفترضة الطاعة، لكني ابناً لآباء حضارتي التي تصلني بالحضارات الأخرى، وابناً لآباء الحضارات الأخرى التي تصلني بتراث حضارتي، ابناً لسقراط، أفلاطون، أرسطو، ديوجين، ابن عربي، التوحيدي، ابن حزم، أخوان الصفاء، علي، الجاحظ، وإلخ.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11755
هوامش
[1]،[2] باراك أوباما، جرأة الأمل، ص 95,94
صباح “الجزع الطفولي من شدائد ترك الأب”
صباح الأب….. وأي أب؟؟؟؟
صباح الأب الجامع لا المفرق..صباح الأب الامع لا من يصادر لمعان أبنائه بل يزيدهم توهجا ونجوميه… صباح أبي….صباح ابناء الحضارات المتتاليه بالمحبة لا المتحاربه …شكرا لك ياصديقنا الديري…