كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

كتاب القبيلة والدولة… «فيه أشياء وأشياء»



image

“أحببت البحرين وناسها، وأردت أن أكتب كتاباً يعبّر عن مشاعري تجاه هذا البلد من دون المجازفة بمهنيتي”.

هل الحب يجازف بالمهنية؟ في تجربة فؤاد إسحاق الخوري، وجدت الحب سراً من أسرار نجاحه المهني، كعالم أنثربولوجيا وكأستاذ جامعي. يمكنني أن أدلل على ذلك بشاهدين من سيرته، الشاهد الأول يتعلق بتجربة عمله في البحرين، فبعد إنجازه كتابه “القبيلة والدولة” الذي صدرت طبعته الجديدة هذا الأسبوع عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، عرض عليه وزير العمل في السبعينيات أن يكون مستشاره، وكلف مستشاره البريطاني بيل بيري أن يغريه بالعرض وقال له “الوزير يودّ أن تصبح أحد مستشاريه ولهذا أعدّ لك ولعائلتك مسكنًا مجهّزاً بالأثاث”.

قرر الخوري رفض العرض. كان تبريره الذي كتبه في سيرته “كنت أحب عملي في الجامعة ولم أكن مستعدّاً أو راغباً في استبداله بوظيفة في المجال السياسي”. والأكيد أنه أدرك أن العرض يحمل سماً معسولاً، فالخليج بمشايخه القبلية لديه قدرة على تسميم ذمم المثقفين والعلماء وتحويلهم إلى أدوات مهجنة. كان الحب عاصماً له للحفاظ على مهنيته العلمية، حبه للعلم والكتابة في العلم كما تقول زوجته رانيا جلبوط: “إذا كان هناك شيء يحبه (فؤاد) فهو الكتابة”.

الشاهد الثاني، يتعلق بتجربة تدريسه في الجامعة الأميركية، فقد بدأ تجربة التدريس بمقاييس مهنية تتطلب تحضير كمية من الأوراق وكتابة مجموعة كبيرة من المعلومات والملحوظات، أدرك مبكراً إنها مقاييس فاشلة، وعليه أن يتخلى عن كل ذلك وينصت إلى ذاته وقلبه ومزاجه، عرف أنه من أجل أن يحصل على اهتمام الطلاب… تعلّم أن يتحدث مع نفسه، بشكل يوحي أنه مأخوذ بأفكاره. وجد أن الأفكار التي كان يحبها ويشغف بها كان الطلاب يفهمونها ويتذكرونها، وبدلاً من مقاييس المهنية المجردة من الحب وجد أن مقياس نجاح محاضرة معينة هو مزاج الأستاذ بعد خروجه من الصف. عندما يخرج الأستاذ من الصف سعيداً، فهذا يعني أنه أدى عملاً جيّداً.

لقد أحب الخوري عمله في البحرين بشغف، واستغرق مساحة كبيرة من سيرته في كتابه “دعوة للضحك… عالم انثربولوجيا لبناني في العالم العربي”. لذلك أنجز مشروعاً مميزاً فكرياً (القبيلة والدولة بالبحرين… تطور نظام السلطة وممارستها) لم يتم تجاوزه حتى اليوم. لقد بلغ شغفه بالبحرين إلى حد أنه أهدى كتابه إلى دانة، لكن من هي دانة؟ لم نكن نعرفها إلا من خلال سيرته التي كتبها بعد صدور الكتاب بـ23 سنة.

دانة اسم مشهور عند الإناث في البحرين ويعني لؤلؤة بيضاء. هذه اللؤلؤة هي رمز شخصي لكل البحرينيين، أحبنا الخوري ووجد أفضل رمز لنا هو اللؤلؤة، لقد أهدانا بشكل رمزي لؤلؤة، ويبدو أننا بادلناه الحب دون أن ندري حين جعلنا من “اللؤلؤة” رمزاً لثورة 14 فبراير، واخترنا دوار اللؤلؤة مكاناً لانطلاقتها، وكأننا نقدم تطبيقاً لإشكالية كتابه المتعلقة بالسلطة والقبيلة والثورة. هكذا إذن أودع الخوري سره في “الدانة” وفي الحب تكمن الأسرار والإبداعات، وهكذا كان كتابه “لؤلؤة” في الدراسات الاجتماعية والإنسانية المتعلقة بالبحرين.

لقد أحب أن يكتب عن البحرين، وأحب فؤاده البحرين، وأحب كتابه عن البحرين، وهو يحدثنا بحماسة وشغف عن هواجسه وهو يترقب ردود فعلنا على كتابه، وكم فرح حين عرف بالجدل الذي أثاره وبالملاحقة التي بذلناها في تتبع منافذ بيع الكتاب في الكويت وبيروت ولندن، وحين عرف أن الكتاب منع تداول ترجمته في البحرين، رتّب لزيارة عبر الجامعة الأميركية، وراح يتصل بوزير شؤون الإعلام وشيوخ آل خليفه ولم يعطه أحد جواباً، سوى “فيه أشياء وأشياء”، ولم يجد لفصل سيرته التي تحدث فيها عن هذا الكتاب ومنعه غير عنوان “أسرار معلنة… للنقاش لا للنشر”.

في إعادة طبع هذا الكتاب من قبل مركز أوال للدراسات والتوثيق، شيء من الوفاء لسيرة هذا العالم الفذ وفيه شيء من التقدير لمتانة طرحه، وفيه تصديق على ما قاله المسؤولون الذين منعوا نشره في البحرين أن… “فيه أشياء وأشياء”.

الرابط الأصلي

ماذا قال المقيم السياسي لآل خليفة في 1923؟

عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، صدرت هذا الأسبوع الطبعة الجديدة من الكتاب الإشكالي لعالم الانثربولوجيا اللبناني (فؤاد خوري)، الكتاب(القبيلة والدولة بالبحرين.. تطور نظام السلطة وممارستها) ممنوع دخوله للبحرين والخليج منذ أول طبعة له في الثمانينيات.

يعالج (الخوري) هذه الإشكالية “كيف أنّ القبيلة، على صِغَر مجتمعها، من الممكن أن تتصرّف كدولة بالمقابل، كيف أنّ الدولة من الممكن أن تتصرّف كقبيلة” هذا السؤال اختبره على قبيلة آل خليفة في البحرين، ووجد أن القبيلة تمكنت أن ترواغ حركات الإصلاح والتحول نحو نظام الدولة، وبقيت الدولة محكومة بأعراف قبيلة آل خليفة ومصالحها.

القبيلة شكل بسيط وقديم من أشكال التنظيم السياسي، والدولة تركيبة معقّدة معاصرة، كيف يمكن أن يتصرف هذا البسيط في نظام معقد؟ يعود بنا (فؤاد) إلى 1923 وهو العام المفصلي في تاريخ البحرين، العام الذي قررت فيها بريطانيا أن تتحول السلطة من الشكل البسيط (القبيلة) إلى الشكل المعقد (الدولة= البيروقراطية). فقامت بعزل عيسى بن علي آل خليفة الذي حكم كرجل إقطاع قبلي لأكثر من خمسين عاما، ونصبّت مكانه ابنه (حمد بن عيسى آل خليفة). كانت الخطة أن تتحول البحرين من النظام البسيط (القبيلة: عيسى بن علي) إلى النظام المعقد (الدولة: حمد بن عيسى) لقد عُزل عيسى بن علي، لكن نظامه بقي حتى اليوم.

كيف كانت تركيبة القوى الاجتماعية في ذلك الوقت؟ كانت تركيبة معقدة، وقد درسها (الخوري) دراسة معمقة من حيث وضعها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والاعتقادي، ولعل أفضل طريقة لفهم هذه التركيبة، هو استعادة خطاب المستعمر البريطاني لحظة تنصيب النظام الجديد في مايو 1923.

تحتفظ  لنا الوثائق البريطانية بخطاب التنصيب الذي قدمه المقدّم إس. جي. نوكس (S.G. KNOX)، المقيم السياسي في الخليج، في المجلس الذي عُقد في البحرين في تاريخ 26 أيار/ مايو 1923.

لقد خاطب ثلاث قوى رئيسية، الأولى آل خليفة “السادة المحترمون من آل خليفة، أخشى أنني كلّما نظرت إلى الماضي، ينبغي عليّ تحذيركم من أنّ تحمّلكم للمشاكل الحاصلة لا يعني أنه لكم الحقّ في العيش على حساب باقي الجماعات… يصعب إيجاد مواقع لكم جميًعا، بعددكم الكبير، في الإدارة؛ وأنا أخشى أنّ الكثيرين غير كفوئين لذلك بسبب إهمالهم لأنفسهم”.

والقوة الثانية القبائل السنية “أيّها السادة أتباع المذهب السُنيّ، وخصوصًا رجال قبيلة الدواسر: ينبغي عليكم أن تدركوا أنّنا نقصد ترسيخ حُكم هذه الجُزر تحت حكم أحد شيوخ آل خليفة … كثيرًا ما واجهتم مثل هذه التهديدات في الماضي عبر تهديدٍ مضاد بمغادرة هذه الجُزُر في مجموعات والذهاب إلى ابن سعود أو غيره…. ولا منفعة لنا من أصحاب الأملاك الغائبين أو الأشخاص ذوي الولاءات المزدوجة. … ولا يمكن القبول بدولة داخل الدولة”.

والقوى الثالثة هم الشيعة “أيّها السادة أتباع المذهب الشيعي، وخصوصًا السكّان الأصليين في هذه الجُزر: اعترفنا بوجود بعض الانتهاكات، وأعلنّا عن نيّتنا مكافحتها. ولكن أودّ تذكيركم بأنّ هذه الدولة سُنيّة، وتحيط بها مجتمعات سنيّة قويّة على هذا الساحل من الخليج، وهي تراقب إجراءاتنا باهتمامٍ كبير ومن دون أدنى شكّ. لا ينبغي عليكم توقّع المساواة الملزمة، ولا يمكن إلغاء الامتيازات السُنيّة دُفعة واحدة إذا لم نقل على الإطلاق”

في العام 1974، بدأ (الخوري) يدرس هذه القوى، وكيف مارست القبيلة سلطتها في إدارة هذه القوى، وجد أن إصلاحات 1923 بدلت التحالفات القبلية وأعطت الحكم وسائل جديدة للتدخل السياسي، فاستحدثت نظاماً هرمياً للسلطة، الأمر الذي عزّز، ولم يضعف، قوة العائلة الحاكمة ونفوذها. وساهم النفظ في تغيير الأسس التقليدية للإنتاج والعمل، فحول القواعد الاجتماعية للسلطة وخلق من ثَمّ صيغاً سياسية جديدة. وهكذا بدأت تظهر، في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، قوى اجتماعية وسياسية جديدة قوامها الموظفون والمثقفون والعمال، تتحدى وبطرق مختلفة، شرعية الحكم وسلطته.

لقد بدأ (الخوري) بحثه بعد استقلال البحرين بثلاث سنوات، وعايش أجواء برلمانها الأول ونقل لنا أجواء النخب الثقافية “شعر الكثير من اﻷشخاص الذين أجريت معهم مقابلات بالبهجة إزاء تحقيق الاستقلال بيد أنّهم في الوقت نفسه كان ينتابهم قلق شديد من إدارة الدولة الجديدة الصغيرة”.

لقد تحقق الاستقلال بفضل النضال الوطني الذي قادته النخب الثقافية العابرة للطوائف والقبائل، لقد غادرت هذه النخب انتماءاتها التي خاطبها بها المقيم السياسي في 1923 لم يعودوا قبائل سنية وافدة وسكان أصليين شيعة، لقد صاغوا فضاء وطنيا مشتركاً وذهبوا فيه حتى تحقيق الاستقلال، وظلوا يحملون قلقاً وطنياً على إدارة الدولة، والسبب في ذلك هو أن آل خليفة وحدهم هم الذين لم يغادروا انتماءهم، بقوا قبيلة تريد الدولة كلها لها، لا ترغب أن تتحول عن قبليتها ولا ترغب أن يشاركها أحد في إدارة الدولة.

إذا ما أردنا أن نفهم ما جرى في 14 فبراير 2011، فعلينا أن نقرأ كتاب هذا (الخوري) فما زال كتابه راهناً وما زالت فرضيته تفسر حاضرنا، وما زالت القبيلة تحول دون فكرة الدول في البحرين وفي الخليج.

المصدر، موقع المنار

ماذا تعلمت من جورج طرابيشي؟

2922848172

في فبراير 2011، كنت رشحت كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة” ليكون كتاب جلستنا الثقافية الشهرية في مقهى الصديق كريم المدحوب (بيستاشيو) في المنامة، كنت متحمساً كثيرا للكتاب، وأردت من خلاله أن أثير جدلاً  فكريا ودينيا حول التوظيف السياسي لمدونات الحديث، وكيف لعبت دوراً كبيرا في صناعة المذاهب الدينية، والاحترابات الطائفية، كان الكتاب ممنوعاً في بيروت وممنوعاً في الخليج، وحصلت على نسخة منه عبر الصديق محمد المبارك الذي تكفل بإحضاره لي من الخارج.

لقد سبقنا حدث 14 فبراير في البحرين، ودخلت قوات الجيش السعودي في 16 مارس 2011 فصرنا خارج الحلقة الثقافية، حدث ما يشبه الشلل الثقافي أو الموت الذي أوقف كل شيء، ولعل جملة جورج طرابيشي الذي ختم بها شهادته حول محطات تحوله الست معبرة تماما عن لحظتنا “يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن”.

بالنسبة لي لم يكن رحيل (طرابيشي) موتاً صغيرا، فمساحة كبيرة من حياتي الفكرية مدينة له، تعلمت من كتبه ما فتح لي مغاليق الفلسفة ونصوص التراث وتاريخ المعرفة، كان مشروع (نقد نقد العقل العربي) بمثابة الفتح المعرفي، فبقدر ما كان خطاب الجابري آسراً فقد كاد أن يغلق باستنتاجاته إشكالات فهم تراثنا وحاضرنا، وشخصيا ما كان لي أن أذهب في أطروحتي للدكتوراه للمجاز الفلسفي والصوفي  (التفكير عبر المماثلة) عند إخوان الصفا وابن عربي لولا الثقة التي اكتسبتها من خطاب طرابيشي في نقده للجابري الذي وقف موقفا حاداً من كل معرفة غير مؤسسة على المنطق الأرسطي، واعتبارها عقل مستقيل أو تفكير خارج العقلانية، وعزو أسباب تخلفنا لها.

في مقابل هذا الموقف الحاد من المماثلة وممثليها عند الجابري، وقف (جورج طرابيشي) على الضد من ذلك، وأعاد للمماثلة اعتبارها المعرفي، واعتبر ممثليها في الثقافة العربية نموذجاً من نماذج الاستنارة التي أعطت لحضارتنا خصوبتها المعرفية.

أحد أبرز ممثليها طبعا هو ابن عربي من جانب ما، وإخوان الصفا، وهؤلاء  أيضا ما كنت أتجرأ لدراسة خطابهم الفلسفي باعتبار تفكيرهم الفلسفي عبر المجاز أحد أشكال الإبداع والاستنارة والمعرفة العقلانية، لولا طرابيشي، وكم كنت فرحاً بقراءة المحطة الخامسة المتعلقة بإخوان الصفا في شهادة طرابيشي على تجربته، فقد بدأ مشروع نقده للجابري من هامش صغير يحيل إليهم، فأخذ هذا الهامش يكبر ويكبر حتى صار مشروعا كبيرا اسمه (نقد نقد العقل العربي).

عبر (نقد النقد) هذا، أدركت الأبعاد المعرفية لمجاز إخوان الصفا (العالم إنسان كبير) ومجاز الفيض. كان الجابري يعتبر هذه المجازات دليلا على الغنوصية وغياب العقل وضياع الفلسفة بل الجابري هرمس، كل من استخدم المجازات التي تتمثل الكون كلاً واحدا متصلا متبادل التأثير، كما هو الأمر مع جابر بن حيان الذي قال: “إن في الأشياء كلها وجوداً للأشياء كلها”، وكما فعل مع صاحب كتاب الفلاحة النبطية الذي قال “الإنسان شجرة مقلوبة، والشجرة إنسان مقلوب” إضافة إلى ابن سيناء.

مع طرابيشي عرفت أن مجاز (العالم إنسان كبير) كانت مشاعاً عاماً في الفلسفة اليونانية والثقافة الهلنستية، كذلك كانت ملقاة في الطريق العام للثقافة العربية الإسلامية، من دون أن تكون علامة خاصة على التهرمس. وقد استعملها الكندي، وابن باجة، والجاحظ، والتوحيدي.وهي تعبر عن آلية من آليات التفكير الفلسفي والعقلاني.

ربما يكون الأهم من كل ذلك، هو أن مدين لطرابيشي بفهم مصطلح فلسفي صعب جدا ورد في نص أرسطو واستخدمه إخوان الصفا بغزارة كما استخدم في نصوص تراثنا الفلسفي والصوفي، وهو (العقل الفعّال) قدّم طرابيشي مراجعة نقدية لإشكالات مفهوم العقل الفعّال في نص أرسطو نفسه، ونصوص الشرّاح والفلاسفة بعده.وقد أفدت من هذه المراجعة إفادة كبيرة في فهم مجازات إخوان الصفاء المتعلقة بفيض العقل الفعّال.

إن لهذا الفهم أهمية كبيرة، في تقييم تراثنا، فقد وضع الجابري في مشروعه نصوص التصوف والفلاسفة المشرقيين كابن سيناء في خانة اللاعقل واعتبرها مسؤولة عن غياب العقلانية والتخلف وعدم قدرتنا على الوصول لعصر النهضة.

سيظل طرابيشي عالماً كبيراً، وستضرب شجرته بجذورها في فضاء ثقافتنا (الإنسان شجرة مقلوبة) وستثمر يوماً وتحيل هذا الموات نشأة مستأنفة أخرى.

المصدر: جريدة الأخبار

إبراهيم شريف.. معركة السياسي المبدئي

 

في 2003 كتب إبراهيم شريف: “القرارات السياسية تحتمل الخطأ والصواب بينما لا تحتمل المبادئ ذلك”.

ما هي المبادئ التي لم تحتمل الصواب والخطأ في تجربة إبراهيم شريف السياسية؟ لن نقول الصدق والإخلاص ونكران الذات والالتزام، فتلك صفات شخصية، وهي لا تكفي لصناعة قيادة سياسية، ومن عرف شخصية (أبو شريف) يعرف تماماً أصالة هذه الصفات في شخصيته.

هناك مبادئ تتعلق بما يعمل (أبو شريف) على تحقيقه سياسياً، وهي المبادئ التي تتأسس عليها السياسة في المجتمعات الديمقراطية: الشعب هو مصدر السلطات. وقد حددها (أبو شريف) منذ لحظة إسقاط الدستور العقدي وانتقاص صلاحيات السلطة التشريعية، يقول “اعتبرنا هذه التناقضات ثانوية [التناقض مع الوفاق] وبعضها يحتمل التأجيل وعزمنا على أن نخوض معركة «الشعب مصدر السلطات»… ومازلنا حتى يومنا هذا مخلصين لفكرة أن تتفق جميع قوى المجتمع على ما هو أهم وهو استعادة الشعب سلطاته كاملة وبعدها فلنختلف على التفاصيل”. لقد طال (أبو شريف) ثمن إخلاصه لهذا المبدأ الكثير من محاولات التسميم، لعل أقلها اتهامه وجمعيته (وعد) بالاختطاف من قبل جمعية (الوفاق) والارتهان لتيارها الديني.  

مازلت أتذكر تعبيره (تعويم الأيديولوجيا) وهو يتحدث لي عن سيرة العمل السياسي لتيار الجبهة، حين قرروا في إحدى الاجتماعات الخاصة في بداية التسعينيات (تعويم الأيديولوجيا) في العمل السياسي الوطني، تلك الأيديولوجيا الصلبة التي تحول بين الجماعات السياسية المختلفة، وبين التقائها الوطني، وكان هذا التعبير يعني الانفتاح على الجماعات السياسية الدينية والعمل معها لتكوين جبهة نضالية شعبية (تحيِّد) الاختلافات وتبني على المشتركات. أسترجع ذلك لأوضح أن مبدئية (شريف) ليست مؤسسة على مبدأ يتعلق بالتكوين الأيديولوجي، بل مؤسسة على مبدئية الحقوق التي كفلتها التشريعات الدولية لكل الشعوب.

هذه المبدأية تراعي المصالح الوطنية العامة وليس المواقف العقائدية، وفي هذا رد على من يعتبر مبدئية (شريف) تصلباً أو عناداً. كان (شريف) يعتبر «الشعب مصدر السلطات» معركة تستحق النضال وعدم التنازل، ويجب تشترك فيها قاعدة شعبية ونخبوية واسعة.

لا نحتاج إلى مبدئي يصر على فكرته الشخصية أو العقائدية وينغلق عليها إلى حد تكفير الآخرين أو تخوينهم أو تسقيطهم أو اعتبارهم متخلفين ورجعيين، بل نحتاج إلى سياسي مبدئي يصر على أن ما أعطته التشريعات الدولية حق أصيل لكل شعب، ولا يقبل أن يتنازل عن مصالح الناس التي كفلتها هذه التشريعات.

مبدئية المصلحة الجماعية العامة واعتبارها موقفاً أخلاقياً، جسّد نموذجها (شريف) بخبرته السياسية والاقتصادية. كان نضاله بالأرقام ومبادراته لوضع حلول اقتصادية عملية، جزء من محاولته إقناع شريحة واسعة إن هذه الحلول البسيطة لا يمكن تطبيقها إلا بأيديهم، وبدون أن يدخلوا معركة أنهم مصدر السلطات، لن يمكنهم أن يحققوا هذه الحلول.

سقط كثير من السياسيين الذين راحوا يزايدون على مبدئيتهم الأيديولوجية التي تجعلهم في جبهة واحدة مع السلطة ينهشون معها من لحم سلطة الشعب، ولا يكفتون بذلك، بل خانوا حتى مبادئهم، واستخدموها لتبرير خيانتهم. في مقابل ذلك أعطى (أبو شريف) لمفهوم السياسي مدلولاً يعطي الثقة في إمكانية أن يكون هناك نماذج لسياسيين مبدئيين.

مازال (شريف) يخوض معركته إلى جنب الشيخ علي سلمان، يلتقيان في المبدئية نفسها، وفي الطريق نفسه، وفي السجن نفسه، وفي النفس نفسه الذي كتبا به مرافعتيهما التاريخيتين.

في معنى إسقاط الجنسية: فصل الهجرة إلى كندا

 

photo_2016-01-19_12-16-33

علي الديري*
بدأ هذا الفصل منذ الأيام الأولى  لقرار إسقاط الجنسية، فقد دفع هذا الإسقاط إلى تسريع إيقاع الروتين الرسمي، أخذ الدفع في الموضوع يأخذ منحنى جديا، بدأ يتشكل عندي الإحساس أني مواطن كندي في ورطة، والدبلوماسية (السفارة) أخذت مجراها الإجرائي لمساعدة هذا المواطن (الكندي).

بدت المتابعة حثيثة والسؤال ملحا عن وضعي، لأول مرة أذوق طعم السؤال الذي جعلني أشعر بأمومة الدولة وأبوتها: هل هناك خطر عليك حاليا؟ هل وضعك آمن؟ بدا لي السؤال للوهلة الأولى ترفا أو دلالا زائداً، وبدا لي أحيانا وكأنه مشروع تبني من قبل أم لا تنجب ما يكفي لإشباع غريزة الأمومة.

لا أعرف مآلات التجربة الكندية بعد، فأنا ما زلت أكتب مقالتي في الفضاء بين بيروت وكندا، ولا أعرف كيف ستبدو بحرانيتي بعد مس هذه التجربة، ولا بأس هنا أن أذكر تفصيلاً صغيراً ذا دلالة كبيرة، فبعد تعطيل دام أشهراً، من قبل (الأمن العام اللبناني) تم إخطار الأمم المتحدة ومنظمة الهجرة الدولية أنه تم تسوية ملفي، وصار يمكنني السفر، وكان الإجراء يقتضي اصدار جواز سفر لبناني لكل فرد بالعائلة وهو جواز مرور لمرة واحدة وينص في ديباجته أنه “لا تثبت هذه الوثيقة جنسية حاملها” في خانة تعريف الجنسية كتب الأمن العام، الجنسية: بحرانية.

من المتوقع إن الذي كتبها لا يعرف الفرق بين (بحراني) و(بحريني)  في المعنى الاجتماعي والسياسي والطائفي، ولا يعرف ظلال هذه الكلمة وما أفرزته من فروق وما تثيره من حساسية بالغة. في داخلي غدا الفرق عميقاً وهو اشبه بجرح حفرته السياسة بعد 2011. ولا استطيع أن أغالب الحقائق السياسية التي تؤكد أن هذا الفرق هو الذي جرّ عليّ ويلات إسقاط الجنسية أو ويلات الإعدام المعنوي. أيقظ فيّ هذا التعريف بوثيقة السفر المؤقتة (بحراني) هذا الجرح الذي مازال ينزف من عشرات العوائل البحرانية دم هويتها.

في الواقع الاجتماعي، هوية البحريني غير منجزة فليس هناك دولة في وطنه، تمنحه مواطنة كاملة الحقوق والمساواة، وهوية البحراني منجرة بقوة الاضطهاد  والسلب والتهميش والتمييز، إنها (البحرانية) أشبه بندبة أو تشويه يولد مع الإنسان ليحدد هويته بعلامة فارقة. تخيلت حالي لو لم أكن بحرانياً هل كانت تسقط جنسيتي وأنا لم أعلن انتمائي إلى تنظيمات إرهابية تمزق الجواز البحريني وتهدد الملك بالغزو والقتل وتكفره وتصفه بالطاغوت.

لقد أوصلتني بحرانيتي إلى كندا، وأنا منحت الهوية الكندية بسببها وجرى تثبيت إستحقاقي للجوء السياسي بأدلة هذه الهوية وعلامات اضطهادها.

في مقابلتي مع القنصل  بالسفارة الكندية ببيروت، قال لي: نحن نرحب بك في كندا، ونرحب بنشاطك النقدي المعارض، وسنوفر ما يساعدك على الاستقرار في نضالك الثقافي والسياسي المدني. سألني بخجل: لماذا في جوازك تأشيرات كثيرة لإيران؟ قلت له: أبي مدفون هناك في بقعة مقدسة بالنسبة للهوية البحرانية التي أنتمي إليها، ومنه تعلمت كيف أعشق هذه البقعة، ومن مكتبته تعلمت كيف أنمي علاقتي بالقراءة والكتابة التي تنتصر للإنسان لا للسلطان، وعرفاناً له أزوره سنويا مع العائلة.
لم تكن في مخيلة القنصل الكندي، خلايا إرهابية ليضعني في خارطتها كما تفعل حكومة بلدي التي أسقطت جنسيتي، صدقني وكان يريد أن يفهم أكثر علاقة العشق لهذه البقعة، وكيف أنها جزء من هويتي التي لي الحق في تشكيلها والاحتفاط بها، بدل تجريمها وتحويلها إلى دليل إدانة يسلبني جنسيتي.

لا أستخدم هنا (بحراني) بالمعنى الطائفي أو المذهبي، بل بالمعنى الاجتماعي والسياسي المتعلق بسياسة الحكم في التمييز والتخوين والتهميش وعدم الاعتراف. (البحراني) في استخدامي، هو الذي وقع عليه فعل الغزو( الفتح في1783) وتم إخضاعه لحكم الإقطاع في عهد عيسى بن علي (1869-1923) قبل منع نظام السخرة وإزاحة عيسى بن علي. مازال هذا (البحراني) غير  معترف به ومهمشاً وتمارس ضده سياسة التمييز الطائفي في الوظائف والبعثات والحريات الدينية والتمكين السياسي ويشكك في ولائه.

سأبقى بحرانيا ليس بالمعنى الذي يبقيني في طائفتي، بل بالذي يجعلني أدافع عن هذه الهوية المهددة بالاضطهاد، سأبقى كذلك مادمت لا يمكنني أن أكون بحرينياً، لأن السلطة لا تريد أن تنجز هوية وطنية جامعة، ولا يمكن أصلا أن تنجز هوية جامعة بدون إنصاف مكونات الهويات المهمشة في النظام السياسي.

*كاتب بحريني.