كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

زيارة المغرب أكتوبر 2007

كنت في الفترة من 24-30 أكتوبر/ تشرين الأول ,2007 بالرباط، في ندوة عن «الإسلاميون والعلمانيون والديمقراطية»، كان الدكتور المعطي منجب، هو المشرف على الندوة، بدعم من مجلس السلام الهولندي (IKV)، ومنتدى المواطنين (Citizens’ Assembly)، والشبكة من أجل التنمية.هذه بعض صور الرحلة.

فندق إيبيس بالرباط حيث السكن

يرجع تاريخ مدينة الرباط إلى فترات تاريخية مختلفة، إلا أن التأسيس الأولي للمدينة يعود إلى عهد المرابطين الذين أنشأوا رباطا محصنا ، ذلك أن هاجس الأمن كان أقوى العوامل التي كانت وراء هذا الإختيار ليكون نقطة لتجمع المجاهدين، ورد الهجومات

(صومعة حسان) من المنارات التاريخية الشهيرة التي تعكس ازدهار دولة الموحدين وأمجادها في عهد السلطان المغربي يعقوب المنصور الذهبي عندما كانت إمبراطوريته تمتد أراضيها من تونس إلى اسبانيا في القرن ال12. تطل على المحيط الأطلسي ومصب نهر أبي رقراق. وقد تهدم نصف المنارة التي زينت أطرافها بزخارف إسلامية جميلة توحي برونق الفن المعماري القدم وجمال الإبداع الأندلسي الرفيع.

مع الصديق السيد إدريس هاني، حيث المكان الذي رغب فيه السلطان المغربي يعقوب المنصور ببناء أكبر مسجد في العالم الإسلامي إلا ان أشغال البناء فيه توقفت بعد وفاته سنة 1199.وتشهد الآثار المتبقية إلى عصرنا الحالي على ضخامة مشروع المسجد الذي يبلغ طوله 180 مترا وعرضه 140 مترا.

DSCN9572

مع السيد هاني إدريس والصديقة فاطمة بلاوي الناشطة في مركز جاك بيرك للبحوث، في بيت الأوداية،كانت الأوداية في الأصل قلعة محصنة، تم تشييدها من طرف المرابطين لمحاربة قبائل برغواطية، ازدادت أهميتها في عهد الموحدين، الذين جعلوا منها رباطا على مصب وادي أبي رقراق، وأطلقوا عليها اسم المهدية. بعد الموحدين أصبحت مهملة إلى أن استوطنها الموريسكيون الذين جاءوا من الأندلس، فأعادوا إليها الحياة بتدعيمها بأسوار محصنة.

DSCN9547

مع الدكتور محمد سبيلا، رئيس جمعية الفلسفة المغربية

DSCN9605

DSCN9608

بعد بناء القصر الملكي بمدينة الدارالبيضاء سنة 1916 قررت السلطات الاستعمارية تشييد حي الأحباس أو الحبوس حتى يكون موطن بعض البورجوازية المغربية، هو مصمم على شاكلة المدن القديمة حيث تم المزج بين الشكل التقليدي والهندسة الأوربية، ولعل الأقواس وواجهات المحلات والأزقة الملتوية تعطي انطباعا حول شكل المعمار الأصيل المغربي. مع مرور الوقت فإن هذا الحي البورجوازي تحول إلى حي شعبي أو معرض جماعي للمنتوجات التقليدية والأثرية، إضافة إلى المكتبات .

DSCN9604

مع الصديق عبدالعالي العبدوني

DSCN9598

المكتبة العالية لللصديق عبد العالي

DSCN9623

مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدارسات والبحوث بالدار البيضاء

بانتظار القطار و20كيلو كتب مغربية هلكتني

عـلي الديري فـي طوقه

الخطاب.. بين «التطويق» و«الطاقة»

العدد 618 – الاربعاء 20 شوال 1428 هـ – 31 أكتوبر 2007

جريدة الوقت:رانه نزال.
  صد12ر عن برنامج النشر المشترك بين مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل  خ ليفة والمؤسسة العربية للدراسات والنشر كتاب الباحث البحريني علي الديري كتاب ‘’طوق الخطاب – دراسة في ظاهرية ابن حزم’’.
وقدّم الكاتب كتابه بسؤال كيف يكون صاحب طوق الحمامة هو نفسه صاحب طوق الخطاب؟ مستدعياً بذلك التناقض الظاهري في منهجية ابن حزم بين طوق الحمامة و’’الإحكام في أصول الأحكام’’ الكتاب الذي تناوله الديري بالبحث كمادة لنيل شهادته الماجستير، وأكد على أن غرض البحث دراسة ظاهرية ابن حزم بما هي طوق، أي بما هي مجموعة قوانين تطوّق الخطاب بقوتها لإظهار معنى ما.
وكما الإطار يظهر معنى الصورة ويحّده ويحكمه، كذلك طوق الخطاب يحّد الخطاب بإحكام كي لا يتسرب إليه معنى من الخارج لا يعطيه الخطاب أولا يظهره الخطاب، مؤكداً على أن ظاهرية ابن حزم إنما تنص على أن ‘’النص لا يعطيك الا ما فيه’’ وبين هذين يعلق الكاتب أن ابن حزم كان قارئاً فذاً بقدرته على تطويق علامات الحب، وبطاقته على تطويق معنى الخطاب، وان كان في الطوق الأوّل أكثر بسطاً في تأويلها، وفي الثاني أكثر قبضاً لمعناها.
ولسنا هنا في مقام عرض وتناول الفارق بين الطوقين عند ابن حزم، وإن كان هناك فارق أصلاً؟! فالحمامة بطوقها عند ابن حزم ليست بأكثر من سرد لسير في الألفة طاقها بعرضها، والطوق في خطابه حسب الديري الذي أكد في محاضرته في الموسم الثقافي الجديد بمركز الشيخ ابراهيم على أن ابن حزم لا يحضر إلا ويحضر الطوق معه، وكأن الطوق ختم على ابن حزم حتى صار عنواناً من عناوينه، ومع تسجيل اعتذاره عن الخوض في محاضرته في طوق الألفة وفي الطوق الأندلسي، مؤكداً بذلك أن منهجية بحثه ومنطقة انشغاله ليست بالمنهجية التوثيقية ولا تلك التاريخية وإنما انشغاله على تحليل خطاب ابن طوق في ‘’الإحكام في أصول الأحكام’’ حسب عقلانية ابن حزم، وان استدعى الأخير فيها الفلسفة الارسطية محاولاً إحكام أصول الفقه حسب منطق تلك الفلسفة ووفق المنهجية الظاهرية التي ترى النص ثابتاً لا مجازاً متحرياً قابلاً للتأويل ناهيك عن التفكيك و الإفاضة، ولعل هذه النقطة بالذات هي نقطة الحراك التي دفعت الكاتب لاختيار هذا الموضوع، وحضته على التسمية المستدرة لمفارقة أكد على أن حدّتها حدّة مفارقة لا تناقض، وليس أدل على ذلك من التفاف الكاتب حول معنى الطوق واستدعائه له في أكثر من مقال من المعاجم ليطوّق هو الآخر القارئ في عقال الفارق بين الطوقين لصاحبهما ابن حزم، والطوق في معجم اللسان – لسان العرب – ‘’ما استدار بالشي ولم يقل ما استدار من الشيء، ووردت أني طُوَّقْتُ ذلك أي لَيته جُعل داخلاً في طاقتي وقدريٌ، والطَّوقُ: الطاقة، وقد طاقه طوقاً وأطاقه إطاقة وأطاق عليه.. فهو في طوقي أي في وَسْعي’’ وإذ كنت لا أرى تناقضاً ولا مفارقة بين الطوقين عند ابن حزم بهذا المعنى فمنهجبته الظاهرية تؤكد أنه إنما كان يقصد أن في طوقه أي وسعه أن يتحدّث من الألفة وعن الأحكام وفق منهجية سردية في الأولى وفلسفية أرسطية في الثانية، وإذ يعلق الديري صراحة وفي أكثر من مكان أنه لا ينصح بقراءة كتابه لمن لا يستطيع تحمل مشقة القراءة، لأن قراءته ستكون متعبة ،وأنه غير مسلٍ، فإنه أيضاً ليحض على قراءته مستفزاً القراء ومحرضاً إياهم على ذلك بتأكيده على أنه للصبورين من القراء فقط، علماً أن مادة الكتاب التي هضمها صاحبها هضماً عميقا تؤكد منهجيته التحليلية والتي تقتضي الأمانة في حقها الإقرار بسهولة بل وسلاسة العرض واللغة به مادته التي تنثال بين يدي وعيني القارئ ناهيك عن عقله.
وقد تضمن الكتاب بفصوله الأربعة التي ختمت بقول الكاتب ‘’ان ما يسميه ابن حزم (تراكيب الكلام) هو كيفية من الكيفيات التي يمكن للعقل فهمها وتمييزها، استناداً إلى مفهوم الدليل الظاهري المبني بناء منطقياً في إطار مصالحته لمشكلة المعرفة واللغة والفهم، لذا فالدليل يمثل خلاصة العقل الظاهري، إذ به تعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه، بالرجوع إلى المقدمات اليقينية الضرورية، وما ينتج من ذلك من معرفة يقينية يعدها ابن حزم علماً، ‘’فالقضية إنما تعطيك مفهومها خاصة وإنّ ما عداها موقوف على دليله’’ موظفاً بذلك – ابن حزم – حسب الكاتب الأدلة المنبثقة من قوانين المنطق الأرسطي التي تجد فيها الظاهرية أداة علمية تحقّق لفهمه معرفة موضوعية بعيداً عن تدخلات الذات، في خطاب حسب الكاتب عند ابن حزم وفي ضوء ما سبق لا يعطيك مدلولاً يتعدّى المدلول الذي ركبت عليه ألفاظه.
ومما لاشك فيه أن الكاتب قد اختار واعياً ابن حزم ليدلل على التعارض الحاد بين معنى الطوق الذي هو الطاقة والسعة بمعنى التطويق وبين معناه الذي هو الطاقة والتأويل، وبالتالي بين المنهج الظاهري عن الآخر الباطني في عdairycopyمق الفلسفة الاسلامية، وفي الجدل الدائر بينهما سالفاً وحاضراً، مقراً بفضل ابن حزم في اعتبار الفقه الذي لا يسوق المنطق الأرسطي لا يمكن الثقة في فهمه للنص الديني وأنه أي – ابن حزم – قد أعاد كتابة منطق أرسطو باللغة العربية، وبالأمثلة الشفهية في ‘’التقريب لحدّ المنطق’’ ممثلاً بذلك نموذج العالم الذي تتقاطع فيه المعرفة المنطقية والبلاغية واللغوية والأصولية واللاهوتية (علم الملّل والنحل)، إلاّ أن المنهجية كما أسلفنا تتعارض عند الكاتب بين علم تحليل الخطاب الذي يجب أن تندرج أصول الفقه تحت مظلته، وبين الفقه الذي تندرج تحت مظلته أصول علم تحليل الخطاب، مستدعياً مجدداً الحدّة التي هي هنا بمعنى التناقض بين الظاهرية التسليمية والباطنية التأويلية، بين تطويق وطاقة.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=81661

الإسلاميون واليسار والديمقراطية

نقلا عن جريدة المساء المغربية

استضاف فندق (Ibis) مسافر في العاصمة الرباط، السبت المنصرم، أشغال ندوة-مناقشة عامة في موضوع «الإسلاميون، اليسار والديمقراطية»  ضمت عددا من الفاعلين والمهتمين السياسيين والحقوقيين، تميزت بنقاش مستفيض حول تشخيص طبيعة العلاقة بين الحركات الإسلامية واليسار والإمكانيات المتاحة لاشتغالهما المشترك وحدود ذلك.
الرباط – يونس مسكين:

فندق (Ibis) مسافر في العاصمة الرباط
فندق (Ibis) مسافر في العاصمة الرباط

بدا الصحافي محمد العربي المساري متفائلا وهو يؤكد أن في المغرب تقاليد الحوار، وأننا مجبولون على التفاوض، فيمكن المراهنة على المصالحة مع الذات والمصالحة الوطنية، و«مهما كانت الاختلافات، فإن الجميع سينصهر في بوتقة مغربية، لكوننا أول من انفصل عن الإمبراطورية العربية الإسلامية»، واعتبر أن عقلانيتنا تتمثل في صومعتنا المربعة عكس تلك المستديرة في المشرق… فيما جزم بأن هذا التصنيف بين إسلاميين ويساريين ليس هو السائد في المجتمع المغربي، كما أن الصدام ليس حتميا بين فئات المجتمع.
جرى هذا الحديث في الجلسة الثانية لندوة «الإسلاميون، اليسار والديمقراطية» صباح السبت المنصرم، والتي حضر جلستها الأولى الناشط الأمازيغي أحمد عصيد الذي اعتبر أننا بعد أن ورثنا عن الاستعمار دولة مزدوجة: مخزن تقليدي وإدارة عصرية، بات الطرفان (اليسار والإسلاميون) يمثلان هذه الازدواجية، أي مشروع حداثي ديمقراطي ينادي به العلمانيون، مقابل مشروع إسلامي، فالتياران معا هما نتاج تحولات المجتمع المغربي لما بعد الحماية. معتبرا أن الصراع بين التيارين يتم في غياب الديمقراطية وفي ظل حكم مطلق يستغل الصراع ليقدم نفسه كبديل عنهما معا، فكلما اشتد الصراع يبدو أنهما يلجآن إلى هذا الحكم لطلب تدخله، مثلما حصل بخصوص خطة إدماج المرأة في التنمية. ونتائج ذلك، في رأي عصيد، أن النقاش العمومي لم يربح شيئا ولم يتطور الوعي العام نظرا للطريقة التي استعملها الإسلاميون من التحريض والاتهام بالعمالة… وهذا ليس في صالح الديمقراطية، لأن التحريض يخلق ذهنية مهيجة داخل المجتمع. وكانت النتيجة أن شكل الملك لجنة ملكية عززت شرعيته ولم تكن لصالح أي من الطرفين.
فيما ذهب صلاح الوديع إلى أن الإيديولوجيات الدينية لا تتوافق مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، متسائلا عما إذا كانت الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية تستطيع أن تتبنى الديمقراطية وتتخلى عن التصورات الإقصائية، «لا أحد يمكن أن يجيب ويؤكد أو ينفي ذلك»، يقول الوديع قبل أن يستدرك: «الحركات السياسية الإسلامية مرشحة لتليين إيديولوجيتها مع تطور المجتمع، ليس لحربائيتها بل لأن القاعدة التاريخية لا ترتفع». ذلك أن الحركية السياسية، عند صلاح الوديع، هي عندما تتواجه الإرادات الفئوية والطبقية وتسفر عن حصيلة هي جماع كل هذه الإرادات، حيث يقفون على أن نتيجة تدافعهم لا تعكس طموحاتهم كما تصوروها في البداية، وهذا ما يصطلح عليه بـ»عتبة الديمقراطية»، أي وعي الجميع بضرورة تحقيق توازن بفضل الردع المتبادل، لكن الأمر لا يقف عند الوعي بهذه الضرورة لأن فكرة الديمقراطية خاضعة للتطوير الدائم. «فهل تريد الحركات الإسلامية تحقيق التنمية البشرية وبناء الدولة القوية»؟ يعود الوديع إلى التساؤل، «أم استرجاع أمجاد الدولة الإسلامية؟» في الحالة الأولى تكون هذه الحركات قد أقرت بأن الوطن هو المرجع وبالتعدد في هذا الوطن، وستناقض بنفسها مسألة الاستخلاف الديني، لأن الديمقراطية ترتبط بالدولة الوطن لا بالمرجعية الدينية. وهذا السؤال الذي يطرح اليوم على الحركات الإسلامية، يؤكد صلاح اعتمادا على خبرته وليس بصفته باحثا سياسيا ولا متخصصا في الإسلام السياسي، سبق وأن طرح على اليسار، الذي اعتبر في وقت معين أن الديمقراطية وحقوق الإنسان فكرة مرفوضة تعبر عن طموح بورجوازي، قبل أن يحدث التحول وتصبح زعاماته قائدة لعملية المطالبة بحقوق الإنسان.

مجرد  نقيض للاستبداد؟

إثارة مسألة الديمقراطية من خلال التاريخ أثارت برلماني حزب العدالة والتنمية الذي بدا هادئا وهو يؤكد أن موضوع الحرية والمجتمع وعلاقات التعاقد والتأثير والصراع والتوافق موجود منذ خلق الله الإنسانية وليست وليدة اليوم، واستغرب كيف أن التاريخ يقف عند الأوربيين، فمنذ آدم عليه السلام، يؤكد عبد العزيز رباح، جاء الأنبياء برسالة ذات مضمون اجتماعي شامل، ومقاومة استبداد فرعون جاء برسالة سماوية، فكانت رسالة موسى رسالة ثورية ضد ظلم فرعون. معتبرا أن المواجهة بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى كانت سياسية وليست عقدية، ذلك أن المرجعية الدينية مرجعية تحريرية بالدرجة الأولى، فلو أن الإسلام اقتصر على العلاقة بين العبد وربه لجاء القرآن في حزب واحد يوضح هذه العلاقة، يقول رباح. أما عن موضوع الندوة فقد أقر بأن كثيرا من التيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تريد أن تطمئن على المستقبل بعد صعود الحركات الإسلامية إلى سلطة القرار في عدد من الدول، موضحا أن الحركات الإسلامية ثلاث: الأولى جاءت لمواجهة الحكام  وظهرت منذ وفاة الرسول، والثانية جاءت تنادي بالإصلاح من الداخل وتربطه بعلاقة الأمة بأعدائها فتجنبت إضعافها بالخروج على الحاكم، والثالثة تولت التشريع للسلاطين كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرهما، حيث يوجد مثقفون ينظرون للأنظمة القائمة.
وفيما أكد عمر إحرشان، الرئيس السابق لشبيبة العدل والإحسان، أن الديمقراطية هي نقيض الاستبداد، وهي آليات «فصل السلط وتوازنها…» لكن البعض يريد أن تصبح الديمقراطية دينا، وهنا مكمن النقاش، كما أن هناك توجه اللادينية وهو غير ممكن، بينما يوجد بين العلمانيين صنف كارهٌ للدين وآخر متخوف من الدين، وهذا الأخير يمكن التحاور معه. واعتبر أحمد عصيد أن للإسلاميين تصورا تكتيكيا وبراغماتيا للديمقراطية، ذلك أن هناك من يحتفظ بمشروعه في رأسه وليست الديمقراطية لديه إلا مرحلة، «فيجب القطع مع ازدواجية الخطاب لدى الإسلاميين». مؤكدا أن ليس هناك وضوحا لمعنى الديمقراطية في الأذهان، فهناك قواعد لا يمكن بدونها لخيار الأغلبية إلا أن يؤدي إلى مزيد من الاستعباد، فإيران مثلا، يقول عصيد، لا تزوّر الانتخابات، لكن ليست هناك ديمقراطية وهناك مصادرة للصحف التابعة للرئيس نفسه (على عهد محمد خاتمي) من طرف سلطة أقوى هي المرشد الديني. تلك القواعد هي احترام الآخر وحقوقه الأساسية، فليس من حق الأغلبية أن تعدل القوانين التي بلغت بفضلها السلطة، أي القيام بإنهاء الديمقراطية. تحامل أغضب رباح الذي استغرب عدم التجرؤ على انتقاد دول مثل فرنسا التي تمنع مناقشة قصة المحرقة اليهودية أو التشكيك فيها، «أم أن فرنسا تقوم بتمويل ندواتكم؟» يقول رباح مخاطبا عصيد في نقاش ثنائي. وذهب برلماني حزب المصباح إلى أن الحركات الإسلامية تدرجت بسرعة لتبني الديمقراطية وحقوق الإنسان، ليس كآلية استغلالية، بل كقناعة نظروا لها وأصّلوا لها وأقاموا لها المدارس للإقناع بها، فتم التأصيل لفكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر بأشكال مختلفة. بل إن حماية واحترام أبناء الديانات الأخرى عقيدة لدى المسلمين، يقول رباح.

قطب «حريم السلطان»؟

تدرج كان صلاح الوديع قد سجله على اليسار نفسه بعد أن نبه إلى نسبية الحديث عن المرجعية الإسلامية، وأن على الحركات الإسلامية أن تقر بهذه النسبية ونسبية مقاربتها واعتبارها تأويلا من بين تأويلات، لأن الإسلام عرف انقسامات في تأويله، مؤكدا أن العيب لا يتمثل في اعتماد المرجعية الإسلامية، بل العيب هو ادعاء تأويل واحد للدين كمرجعية وحيدة. وهذا التعدد في الفرق الإسلامية واستمرارها دليل على نسبية التأويل ومسوغ لمجادلة الحركات التي تجهر بالمرجعية الإسلامية. فيما طالب الوديع بالإقرار بحرية اللاتدين، لأن الإيمان، بالنسبة إليه، مسألة شخصية وموقف فردي بين الفرد وخالقه، ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الإنسان مسؤولا شخصيا عن إيمانه، مؤكدا أن الانقسام على أساس تأويل الدين لم يسبق له وجود في المجتمع المغربي. فيما اعتبر أن الديمقراطية ليست مجرد نمط اقتراع واحتساب للأصوات، بل هي اختيار فكري ينطلق من قيمة الفرد والاختيار الحر والتعاقد… ولا يمكن ادعاء الديمقراطية إذا كان البرنامج السياسي يعادي مبادئها حتى لو فاز هذا البرنامج بأغلبية الأصوات، أما إذا كان هذا البرنامج يفاضل بين الأحزاب، فإننا «نكون قد أخللنا بأسس الديمقراطية، لذلك يجب على القانون أن يفرض عدم استعمال الدين في السياسة، لكون الاستقواء بالمقدس الديني كبح للديمقراطية».
علي أفقير، عن حزب النهج الديمقراطي، اعتبر أن التناقض الذي يخترق المشهد السياسي ليس هو الذي بين اليساريين والإسلاميين، بل إن هناك ثلاثة أقطاب: قطب القوى البرلمانية الملتفة حول الملكية (الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي، العدالة والتنمية…) وهي تتفق على الرأسمالية والليبرالية والملكية بشكلها الحالي ودين الدولة (الإسلام السني المالكي) والمناوشات بين مكونات هذا القطب هي بمثابة المناوشات بين حريم السلطان. وقطب ثان تشكله المعارضة الإسلامية (العدل والإحسان والسلفية الجهادية بفروعها) وهي معارضة جذرية للحكم تستمد مرجعيتها من الدين، وهو قطب ماضوي تنحصر معارضته في الجانب السياسي وتفتقر إلى مشروع اقتصادي اجتماعي، لكنه يتعرض للاضطهاد. أما القطب الثالث فهو اليسار الجذري (اليسار الماركسي، أي النهج الديمقراطي الذي يمثل استمرارية التيار الماركسي اللينيني) «ونحن لا نهاجم التيارات الإسلامية الجذرية المعارضة، بل الحكم المخزني»، يؤكد أفقير. فيما ذهب مصطفى المعتصم عن حزب البديل الحضاري،  إلى القول: «خسر الإسلاميون وخسر اليساريون وخسرت الديمقراطية حين لم ننجح في تتويج المسار الذي يفترض أن يوصلنا إلى ديمقراطية حقيقية، فقد عاد الفاسدون وانتصروا أمام الصمت المتواطئ للسلطة وليس الحياد السلبي». وأضاف: «لقد أخلف مهندسو القرار داخل السلطة الموعد، فهل نقبل أن نبقى محتقرين؟ وهل تترك القوى الوطنية الديمقراطية صناع القرار السياسي يصنعون مغرب المستقبل لوحدهم؟». معتبرا أنه من حقنا أن نكون قلقين جدا على مستقل بلادنا بعد الذي حصل في 7 شتنبر وتشكيل الحكومة، ولا بد من وقفة تأمل في الحصيلة وطرح الأسئلة الحقيقية والإجابة عنها بمسـؤولية وشجاعــة.

«البحرين» يلتقيان

أشغال الندوة التي تغيب عنها كل من عبد الصمد بلكبير وعبد الحميد  أمين كما كان مسطرا في البرنامج، تميزت باستضافة ضيف قادم من دولة البحرين، «بلد مساحته 700 كلم مربع ولا يتعدى عدد سكانه نصف المليون، لكنه ببحرين، أحدهما حلو والآخر مالح يتعايشان بهدوء»، يقول علي أحمد الديري محاولا تلطيف الأجواء بعد احتجاج عبد العزيز رباح على مسير الجلسة، المعطي منجب، الذي بدا مشاطرا لرأي عصيد في كون الحركات الإسلامية قامت بالتهييج في موضوع المدونة. ورغم نقاط التقارب بين التجربتين المغربية والبحرينية، والتي جاء الديري لعرضها، فإنه راح يستعرض المسار المتعثر للإصلاح السياسي في بلاد النصف مليون، ذلك أن عائلة آل خليفة جاءت إلى البحرين سنة 1783، رغم أن هناك اختلافا حول الكلمة المناسبة: جاءت أم فتحت أم غزت أم استولت، يقول الديري قبل أن يبوح: «لا زلنا في البحرين نخشى فتح تاريخنا، هناك شيء من الحظر». فقد استقلت البحرين عن «قبيلة بريطانيا» سنة 1971 وتم وضع أول دستور سنة 1973 والذي كان متقدما جدا ورافقه إحداث مجلس وطني (برلمان)، لكن كل ذلك تم وأده سنة 1975 بدخول البلاد في نفق مظلم إلى غاية سنة 2000 مع المشروع الإصلاحي الذي أسفر عن وضع دستور جديد سنة 2002 حمل تراجعات كثيرة عن سابقه، «ذلك أن البرلمان الحالي لا يستطيع أن يشرّع أو أن يسقط وزيرا»، يقول الديري قبل أن يعتبر أننا نحتاج إلى مراجعة فكرة الدولة، لأنها في الأساس فكرة تقوم على أنها إدارة عقلانية واجتماعية تؤمن الحرية وتنزع الخوف، أي أن الناس يطيعون القانون وليس الناس، فيخرجون من طاعة العامة إلى الطاعة العامة. فيما اعتبر أن العلمانية تعني فصل الخوف عن الدين، أي ألا يصبح الدين أداة إرهابية وتخويفية في يد الدولة، قبل أن يقذف بحسرته قائلا: «لدينا رئيس وزراء واحد منذ الاستقلال».

علي الديري الدار البيضاء 2007

«النظام المخزني
هو المستغل الأول للدين»

حسرة قلل منها عمر إحرشان متسائلا: «بالله عليكم كيف يعقل أن شخصا حكمنا لمدة 38 سنة؟ بينما في الأنظمة الديمقراطية لا يتجاوز الشخص ولايتين في السلطة، أي عشر سنوات على أقصى تقدير». فيما كاد إحرشان للوهلة الأولى أن يجزم بعدم إمكانية التوافق بين الإسلاميين واليسار «نظرا للخلافات الإيديولوجية حد التناقض في قضايا رئيسية والصراعات الميدانية على مر التاريخ». لكنه عاد إلى مقاربة الموضوع من زاوية «مصلحة البلاد» ليجد أن العوامل المشجعة على التقارب هي الغالبة، منها إرادة الشعب وضرورة وضع حد للنزيف الذي تعرفه البلاد والذي أصبح يستحيل على أي طرف أن يوقفه لوحده. ثم إن هناك اتفاقا سياسيا على تشخيص المرحلة وأولوياتها الدستورية، علما أن معسكر الفساد يستقطب من المعسكر الآخر، حتى بات رموز اليسار يدافعون عن الفصل 19، برأي إحرشان الذي أضاف عوامل تقارب أخرى مثل الاصطفاف إلى جانب الشعب والوقوف ضد الهيمنة الأمريكية… ويخلص إلى أن صيغة التوافق هي التعايش والتعاون والتنافس، وضرورة تشكيل جبهة أو تكتل وطني لتغيير ميزان القوى لصالح الفئات الشعبية ومطالبها ووضع ضمانات لعدم العودة إلى الاستبداد.
توافق رأى أحمد عصيد أن موانعه تتمثل في تباين المرجعيات، خاصة أن هناك من يعتبر مرجعيته مطلقة فيصعب التشارك معه في أي بناء، «كما كان الحال مع عبد السلام ياسين الذي قال لنا تعالوا إلى كلمة سواء، ولم تكن هذه الكلمة سوى مرجعيته هو». بينما يقول العلمانيون، في رأي عصيد، إن الموضوع نسبي يمكننا التناظر حوله. بينما اعتبر علي أفقير أن ما يفرق بين القطبين الثاني (الإسلام الجذري) والثالث (اليسار الجذري) هو المشاريع المجتمعية ومسألة التشريع ومصدره، وعلاقة الدولة بالدين، «حيث يعتبر الكثيرون الإسلام دين الدولة، فيما ندعو إلى الفصل بينهما، ذلك أن النظام المخزني هو المستغل الأول للدين» قبل أن يضيف: «أشدد على أن خلفيات الصراع ليست دينية أو حضارية، بل هي أفقية بين تكتلات طبقية». فيما عاد المساري بتفاؤله مؤكدا أن التعلق بالدين ليس ظاهرة عابرة، بل إنه آخذ في التغلغل، «ذلك أنني عندما كنت وزيرا للاتصال، أجريت دراسة حول نسب مشاهدة القناتين، فوجدت أن برنامج «ركن المفتي» يحقق رقما قياسيا لاستقطاب المشاهدة يفوق نشرة الأخبار ويعادل الفيلم المصري، وهذا يدل على أن المغربي يريد أن يكون في سلام مع الله»، موضحا أن الإسلاميين هذبوا كثيرا من طروحاتهم وباتوا يقدمون أنفسهم كجزء من الكل، و»أعتقد أن الإسلاميين سيكفون عن نقل نموذج الإخوان المسلمين»، وأن اليسار ظل يصارع منذ 30 سنة، لكنه الآن «لم يعد مشغولا بفكرة قتل الله، أي نبذ التدين» بعد أن أرغمت صناديق الاقتراع هذا اليسار على القبول بنسبية التمثيل، يؤكد المساري معلنا أن كلمته السحرية هي المصالحة، و»ليس للدولة أن تجر الناس رغم أنوفهم نحو الجنة».

القوى التي كان يجب أن تحفز على الديمقراطية أصبحت عائقا للانتقال

مصطفى المعتصم الذي كانت كلمة «ثورة» تنفلت من لسانه مكان كلمة «ثروة» جزم بأن الدولة المغربية فشلت في مشروعها السياسي لكنها نجحت في توظيف صراع الطرفين واطمأنت إلى استحالة قيام تحالف بينهما، مؤكدا أن أغرب ما حدث في المغرب منذ 1999 هو أن القوى التي كان يجب أن تحفز على الديمقراطية أصبحت عائقا للانتقال، حتى أن بعض الإسلاميين يطالبون الملك بتفعيل صلاحياته الدستورية في موضوع المدونة ضد العلمانيين، فيما يقوم الطرف الآخر بنفس الشيء لمنع احتكار الإسلاميين للخطاب الديني. قبل أن يقول إن على الإسلاميين تهدئة مخاوف العلمانيين من الإسلام السلطاني، وعلى الطرف الآخر أن يهدئ المخاوف من العلمانية الجذرية، ويدعو إلى الجلوس إلى طاولة حوار يفضي إلى توافق وصياغة مشروع شامل، لكن مع استبعاد الأحزاب التي شاركت في إيصال البلاد إلى الأزمة. رأي كاد علي أفقير يشاطره حين اعتبر أن المسؤولية عن الوضع الحالي لا تعود إلى اليساريين (الجذريين) أو الإسلاميين (الجذريين)، واللذين تجمعهما معارضة النظام المخزني وعدم المشاركة (مقاطعة الانتخابات مثلا) ومناهضة الإمبريالية العالمية، الأمريكية والصهيونية والداعمين لها. فيما اعتبر عصيد، الذي أكد أنه لا ينتمي لا لليسار ولا للإسلاميين، أن كلا من الطرفين يسعى إلى التحالف مع السلطة لمواجهة الطرف الآخر، وقد استعملت السلطة هذه التحالفات، فبعد أن كان مخطط السلطة هو استعمال الإسلاميين ضد اليسار، هي اليوم تعود إلى استعمال اليسار ضد الإسلاميين. معتبرا أن الديمقراطية تستحيل باستعمال الدين كما هو متعارف عليه في الحركات الإسلامية، «فيجب أولا تحديث الإسلام في المنظومة التربوية وفي الخطاب الإعلامي…»، مؤكدا أننا لو عدنا إلى استفتاء الشعب حول حقوق المرأة سوف لن تكون هناك حقوق، لأن المغاربة يحقدون على المرأة العصرية بنسبة 85%، مثيرا احتجاج رباح وبعض الحضور الذي فاق الـ150 حسب المنظمين.
برلماني العدالة والتنمية أصر على أن الحركة الإسلامية في المغرب بتعدد تلاوينها أصبحت مدرسة للعالم العربي والإسلامي في تبني الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدا أنه لم يسبق للحركات الإسلامية أن قالت حرام أن يكون للملك مستشار يهودي أو وزير يهودي. لكنه أقر بأن الواقع الحالي مبني على الشك والتباعد بين الفاعلين، والسؤال هو إمكانية الوصول إلى وضع آخر.

http://almassae.biz/?issue=346&RefID=Content&Section=3&Article=5302

مشروطية النائيني5

تقريب العصمة..

لقد قلت إن النائيني قد حرر إقامة الإمامة من مفهوم السلطة والدولة، كما كان الأمر عند الشريف المرتضى مثلاً وبقية الفقهاء والمتكلمين الذين يرون إقامة الإمامة إقامة للدولة، ولا دولة من غير إمامة كاملة، ولا إمامة كاملة من غير ظهور كامل للإمام المهدي.
ستكون الدولة مفهوماً أوسع من الإمامة وأكثر تعقيداً، لكنها لن تخرج عن غايتها (أي الغاية من الإمامة) المتمثلة في حفظ حقوق الناس وإقامة العدل ومنع الاستبداد. لن يكون هناك تعارض بين أن نقيم عدلا بشرياً بحسب طاقتنا على منع الاستبداد بالقانون والدستور، وبين انتظار إمام يقيم عدلاً إلهياً كاملاً.
تبقى المشكلة، ليست في الإمامة ولا في الانتظار، بل في الفقهاء أنفسهم وفي ولايتهم، ما وظيفتهم في الدولة؟ وما حدود ولايتهم فيها؟ هل تحتاج الدولة إلى الفقهاء؟ ستكون DSCN9426المشكلة في الولاية لا في العصمة، والأمر لن يخلو من استخدام العصمة عتبة لتوسيع الولاية أو تضييقها. وتلك مسألة تحتاج إلى وقفة أخرى تتجاوز استعراض آراء الفقهاء المتباينة في الولاية وحدودها.
لن تكون إقامة السلطة أو الدولة هي نفسها إقامة الإمامة في مشروطية النائيني، سيبقى حق الإمامة وتعيينها وإقامتها مسألة إلهية، لكن إقامة السلطة ستبقى مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمحكومين، سيتبنى النائيني مفهوماً حديثاً للسلطة ”حقيقة السلطة هي الولاية على أمر النظام.. الحقيقة أن السلطة هي من قبيل تولية بعض الموقوف عليهم أمر تنظيم وحفظ موقوفة مشتركة وإيصال كل حق إلى صاحبه، لا من قبيل التملك والتصرف الشخصي الدائر مدار قبول المتصدي وأهوائه ورغباته النفسية[1].
بهذا التفريق بين السلطة بما هي إقامة للإمامة، وبين السلطة بما هي إقامة للنظام، سيحرر النائيني السلطة من مفهوم الغيبة والاغتصاب، وسيحرر الإمامة من مفهوم الدولة الشرعية التي يعيشها الناس في عصر الغيبة، بمعنى أن النائيني قد حرر أفق فهم الانتظار الشيعي من التلازم بين ممارسة السلطة في شكل دولة وممارسة الإمامة في شكل معتقد كلامي. وبهذا التحرير لن تعود ممارسة السلطة اغتصاباً لمقام الإمامة بل تحقيقاً حقيقياً للغاية من فكرة الإمامة، أو للحد الأدنى من حقيقتها، والحد الأدنى هو رفع الاستبداد.
ما قوام هذه السلطة التي غايتها إقامة النظام؟ وهل تلتقي مع الغاية من إقامة الإمامة؟ يجيبنا النائيني ”ويتقوّم هذا النوع من السلطة بالولاية والأمانة، ولذا فهو كسائر الأمانات والولايات مشروط بعدم التجاوز ومقيد بعدم التفريط، والعامل الذي يحفظ هذا النوع ويحول دون انقلابه إلى مالكية مطلقة ويردعه عن التعدي والتجاوز إنما هو المراقبة والمحاسبة والمسؤولية الكاملة، ولذا اعتبرت العصمة في مذهبنا نحن معشر الإمامية شرطًا في الوليّ، فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة والحيلولة دون الاستبداد وتحكيم الشهوات[2].
العصمة بهذا المفهوم المتحرر من الجدل العقائدي اللاهوتي، ليست شيئاً مضاداً لمفهوم أهل الحل والعقد الذي يتبناه أهل السنة، فالغاية المتيقنة من المفهومين، هي رفع الاستبداد ”وأما بمقتضى مذهب أهل السنة، حيث لم يشترطوا في الوالي مطلقًا أن يكون معصومًا، ولا أن يكون منصوبًا من قبل الله سبحانه وتعالى، بل يكفي فيه إجماع أهل الحل والعقد، فإن درجة الحد من الاستبداد الناتجة عن هذا الرأي، وإن كانت لا تبلغ ما يقتضيه مذهبنا، إلا أن عدم تخطي الوالي الكتاب والسنة النبوية هو من الشروط التي اعتبروها لازمة الذكر في نفس عقد البيعة عندهم. وأقل عمل ناشئ عن ميل أو هوىً يعدونه مخالفًا للمنصب، واتفقوا على التصدي حينئذٍ لعزله[3].
هكذا تتحرر العصمة من سجون المقولات العقائدية، والتغييبات الدنيوية لمعتنقيها، وتتقرب من مفاهيم العصر(الدولة والقانون والدستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديين (أهل الحل والعقد)، هكذا حفظ النائيني للأصل بيضته العقائدية، وللدولة بيضتها الدستورية. وبهذا تتحرر السلطة في نص النائيني من كونها سنية أو شيعية وتصبح إسلامية ”وعلى هذا الأساس فإن السلطة الإسلامية لابد وأن تتحدد بعدم الاستئثار والاستبداد كحد أدنى، مع غض الطرف عن أهلية المتصدي وما يلزمه من العصمة وغيرها من الأمور التي يختص بها مذهبنا، فإن هذا هو القدر المتيقن بين الفريقين والمتفق عليه من قبل الأمة[4].
بل وتتحرر السلطة من عقدة الاغتصاب التي ثبَّت تهمتها الفقهاء طيلة قرون الغيبة الطويلة، لقد ظل مفهوم الاغتصاب يعمل في أذهان الفقهاء كخطيئة لا يمكن اقترافها، ومن يجرؤ على ممارسة هذه الخطيئة بممارسة السلطة فإنه في الحقيقة يكون قد اغتصب مقام الإمام المهدي. هكذا حرر النائيني بجرأته يد الأمة السوداء من استبداد هذا المفهوم التأثيمي، وهذا التحرير يمثل (الحد الأدنى) وهو ما يحتاجه الناس في واقعهم المبتلى بالاستبداد.
هوامش
[1]،[2]،[3]،[4]: راجع: ”تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف.

ركاز.. «نيو لوك» أو «نيو أخلاق»

 

rokz.3JPG

تعرف (ركاز) في موقعها الإلكتروني هويتها بالتالي ”نحن مؤسسة إعلامية مستقلة غير ربحية تهدف  إلى تعزيز الأخلاق في المجتمع الكويتي وفي المجتمعات الأخرى عن طريق التنسيق مع المؤسسات المدنية في تلك المجتمعات والدول”(i).
وتبرر (ركاز) مشروعها الأخلاقي التغييري بظهور مجموعة من السلوكيات الغربية على الشباب وكذلك الغريبة عن قيم وعادات المجتمع الكويتي، وترى إن هذه السلوكيات الغريبة جاءت نتيجة لبعد الشباب عن القيم الأخلاقية والقيم المجتمعية النبيلة وكذلك لفقدان الساحة الكويتية لخطاب إعلامي موجه.
تقدم نفسها بأنها المتحدثة والحامية لـ ”قيم وعادات المجتمع الكويتي القيم الأصيلة” وتتحدث بنبرة جماعية عن ”أخلاقنا وقيمنا الأصيلة” وتحذر من ”الأخلاقية الدخيلة” على المجتمع الكويتي. وتدعو بصوت جماعي إلى ”الاعتزاز والتمسك والرجوع إلى مبادئنا وتراثنا الأصيل”.
وتقوم فكرة (ركاز) على القيام بحملات إعلامية تحمل كل حملة منها مجموعة من القيم ومجموعة من الأهداف الخاصة، إضافة إلى بعض الفعاليات المصاحبة.وركاز، كلمة تطلق على الذهب والفضة داخل الأرض، وعلى الشيء الثابت والراسخ في الأرض.وأخلاقنا وقيمنا الأصيلة – كما يقول أصحاب المشروع- نفيسة بنفاسة الذهب والفضة وراسخة على مر العصور والأزمان، فلذلك جاء ركاز لتعزيز الأخلاق. وركاز؛ كما يقول موقعه الإلكتروني مشروع اختار ألاّ يقصر برامجه على المساجد والجوامع فخرج إلى الناس في أنديتهم وأماكن تواجدهم ومقرّاتهم وديوانياتهم. تأسس ركاز في دولة الكويت الشقيقة ويقوده الشيخ محمد العوضي. وبدأ ينتشر في عدد من الدول كالمملكة العربية السعودية، دولة قطر، دولة الإمارات العربية المتحدة، المملكة الأردنية الهاشمية، الجمهورية اليمنية، وفي بلجيكا.
زرانيق راقبْها
في النصف الثاني من الثمانينات، أخذتنا الحماسة الدينية ونحن ما نزال طلاباً بالمرحلة الثانوية، لتشكيل جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك في قريتنا (الدير) القرية البحرية الزراعية الساكنة بالنخيل الوادعة بالبحر، إلا من حركة المراهقين والمراهقات الطبيعية وحركة أشرطة الفيديو التي بدأت تظهر بين أيديهم، كان هدف الجماعة مراقبة طرقات القرية خصوصا الزرانيق فيها، والزرانيق جمع زرنوق، وهو الممر الضيق الذي لا يتسع لأكثر من عاشقين يمران فيه على خَفَرٍ وهما يختلسان هوى يمر بينهما.
كنا مدفوعين في ذلك إلى حماية الأخلاق وصيانتها، والحقيقة أن الأخلاق لم تكن مهددة، لكن حماسنا الديني الذي غذّته فينا الدروس الدينية المكثفة الأخلاق، هي التي أرتنا أن أخلاق قريتنا العفيفة معرضة لغضب الله، لكن المفارقة ليست هنا، المفارقة أن الشباب المنخرطين في حملة (راقبْها)، إذ كان هدفنا مراقبة الزرانيق المشبوهة، خصوصا الزرانيق التي لم تصلها حركة الكهرباء بعد، فيشعلها المراهقون بكهربائهم الطبيعية، هؤلاء الشباب استجابوا لطبيعتهم العمرية ونسوا مركوزات دروسهم الدينية ومواعظهم الأخلاقية، فراحوا يمارسون بطولاتهم على طريقة ما هو مركوز فيهم من طبيعة لم تمسسها ثقافة التأثيم والتحريم بعد.
الأخلاق الفسيحة
ليس هناك عنوان عريض وواسع يمكنك من أن تعتمده غطاء لأي مشروع أو حملة أو فكرة أكثر من الأخلاق والعادات والقيم والدين، يكاد هذا العنوان يكون حصناً حصيناً يحميك من النقد والمساءلة والاعتراض، بل يمكنك عبره أن تقوم بعمل غير أخلاقي وتصفه بأنه أخلاقي ضد من يقفون ضد مشروعاتك التي تستخدم فيها هذا العنوان الفسيح. ويمكنك بهذا العنوان أن تملك شارعاً أو تراقب زرنوقاً أو تحتل (رمزياً) مجمعاً أو تحتكر منتجعا، يمكنك بهذا العنوان أن تبتكر لك ما تشاء ليلاحق خطابك مؤسسات الناس الداخلية كي تضمن وصوله إليهم، إن لم يصلوا هم إلى خطابك حيث المؤسسات التي لم تعد تتسع لك.
بل عبر هذا العنوان، يمكنك أن تستنفر أعلى سلطة تشريعية ورقابية في الدولة، لتجعلها تقف معك تحت مظلة العنوان نفسه، أياً كانت تفاصيله، كما هو الأمر مع رئيس مجلس الأمة الكويتي ”قال رئيس مجلس الأمة أن شباب الكويت يعتبرون مثالاً رائعاً في تجسيد الوحدة الوطنية والتحلي بالأخلاق الراقية والحميدة، وأن ما زرعه الآباء والأجداد من الأخلاق والقيم النبيلة هو ما تعهده الأمة من شباب الكويت الذين يسطرون أروع آيات النجاح في عملهم وأخلاقهم، مؤكداً أن العمل على إيجاد مشروعات توعوية قيمة كمشروع (ركاز) تدل على حرص الجميع على الحفاظ على أخلاق شبابنا وحثهم على أن يكونوا المثال الأروع في التحلي بالقيم والعادات الأصيلة المستمدة من الشريعة الإسلامية”(ii)
وكما هو الأمر مع النائب في مجلس الأمة الكويتي ”قال النائب وليد الطبطبائي إن المشروع القيمي الأخلاقي (ركاز) يقدم تصوراً وجهداً طيباً في حماية الشباب والعمل نحو توجيههم والاهتمام بالأخلاق والمبادئ الأصيلة التي تمثل أخلاق وعادات أهل الكويت مؤكداً أن بناء حالة من التفاعل ضد بعض الممارسات والسلوكيات اللاأخلاقية هو دور جيد وفاعل وتوعوي بتحذير شبابنا وإشعارهم بأهمية التمسك بالقيم والأخلاق الحميدة”(iii).
أخلاق المناقصات
أمام هذه السلطة التي تمثل أعلى القيم الأخلاقية في الدولة، لا يمكنك إلا أن تزايد بجمل أكثر بلاغة وأكثر تماهياً وتأييداً للمشروع، وإلا ستكون ضدّ الأخلاق وضد الدين وضد القيم وضد العادات وضدّ الله. كي تحمي نفسك وتبرئ ساحتك عليك أن تتقن أخلاق المزايدة، وليس أكثر من رجال السياسة إتقاناً لبلاغة المزايدات، على الخطابات التي تتحدث باسم الآباء والعادات والتقاليد والمجتمع. وشيئاً فشيئاً تتحول المزايدات إلى مناقصات تجارية، يجري التفاوض على من هو الأحق بها.
وأنا صدقاً لا أرغب أن أكون ضد الأخلاق، ولا أرغب في أن أكون مزايداً ولا مناقصاً. لذلك أرجو من يقرأ من الأخوة في (ركاز) نقدي لهم، أن يقرأوه على سبيل (المؤمن مرآة أخيه المؤمن) وأنا وإن كنت بمواصفات الركازيين لست مؤمناً، لكني بمواصفات غير الركازيين، لست كافراً ولا حاقداً ومبغضاً، أنا قارئ، أتوفر على قدرة في تفكيك خطابات الأخلاق، والتفكيك هنا لا يعني الهدم والنقض، بل يعني كشف ما يلتبس بخطابنا عن الأخلاق من قيم تنقض غايتنا الأخلاقية العليا وتعيق تواصلنا الاجتماعي والإنساني.
الأخلاق وخطاب الأخلاق
ومبرري في ذلك، أن خطابنا عن الأخلاق ليس هنا الأخلاق، كما أن خطابنا عن الدين ليس هو الدين، وهذا يعني أن خطاب (ركاز) عن الأخلاق، ليس هو الأخلاق، ولا يحق لركاز ولا لغيرها أن تحتكر ميدان الأخلاق وحدها أو أن تدعي أنها الممثل الحق له. وإذا كانت (ركاز) تقدم نفسها بصفتها صاحبة مهمة إنقاذ الأخلاق في مجتمعاتنا الخليجية من الانهيار والتهديدات الخارجية، فلا يحق لها، من ناحية أخلاقية، أن تعتبر المختلفين معها أو حتى الذين يقفون ضد حملاتها، من باب عدم الاقتناع، لا يحق لها أن تعتبرهم مناوئين للأخلاق أو للدين، فهم مختلفون مع خطابها فقط، كما هو الأمر بالنسبة لي.
ركاز الطريق الثالث
أقول ذلك وأنا أستحضر نبرة كتابات الإعلاميين وأصحاب الأعمدة في الصحافة البحرينية الذين وجدوا في إيقاف حملة (ركاز) في البحرين ما يتجاوز هذا الاختلاف، وحملوها شحنات غضب لا تتفق مع أخلاق التسامح. كما هو الأمر مع الزميل محمد المحميد الذي كتب في عموده اليومي طريق ثالث تحت عنوان (ركاز.. إيقافها عيب)، ”في الأمر مكيدة دبرت بليل، وهناك استجابة لضغوط من ذوي القلوب والنفوس المريضة، ممن لا يريدون تبديل سيئاتهم حسنات ولكنهم يصرون على زيادة سيئاتهم إلى سيئات..” (iv)
(الطريق الثالث) كما ظهرت فكرته لأول مرة العام 1936 على يد الكاتب السويدي ”arquis Child” هو طريق الوسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، فهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي(v). عادة ما تحول المفاهيم التي تنتج في حقل الاقتصاد والسوق إلى مفاهيم لها استثماراتها في حقل الفكر والثقافة والأيديولوجيا، وهذا ما حدث مع مفهوم الطريق الثالث.
صار (الطريق الثالث) يفتح التفكير على التعدد والاحتمال والاتساع، الطريق الثالث يفتحنا على أخلاق الاختلاف، وأخلاق الاختلاف تعد من الركازات التي تقوم عليها اليوم المجتمعات المتعددة الانتماءات، وهي تمنعنا من أن نصف المختلفين مع خطابنا بأوصاف النفوس المريضة الذين لا يريدون أن يبدلوا سيئاتهم حسنات. حين نتخذ من الطريق الثالث عنواناً لشِق كتابتنا، والكتابة بالمناسبة أصلها شق، فإن تكتب يعني أن تشق فكرة وطريقا (أو طرقا) واسعاً للآراء والأفكار، وهذا يلزمنا أخلاقياً بأن نتسع لمن لا يرون في خطابنا أو طريقنا عن الأخلاق ما يمثل رؤيتهم للأخلاق.
من حق الزميل المحميد أن يدافع عن الخطاب الذي يتفق معه، وأن يبذل ما في وسعه لنصرته مهما قل عدده، لكن من دون التعريض والغمز لمن هم على خلاف أو اختلاف معه، كما يفعل في طريقه الثالث الضيق ”فلسنا طوفة هبيطة.. وغيرنا مو أحسن منا.. وإذا كان الموضوع يحتاج إلى اعتصام أو صراخ حتى تتم الاستجابة والرضوخ وإعادة المشروع والتعهد بعدم مساسه والتطاول عليه مرة أخرى، فلن نعجز عن ذلك مهما قل عددنا..!!”.
و يبدو أن جمهور (بدلها) قد وجد في خطاب الطريق الواحد (وليس الطريق الثالث) ما يعبر حقيقة عن نبرته الأخلاقية، ولذلك راح يمتحي من القاموس نفسه: القلوب المريضة، والمعادة والشياطين والعصاة.
يعيد هذا الجمهور تمثيل خطاب (ركاز) الأخلاقي نفسه، فيقول ”هناك دائما قلوب مريضة يغيضها ان ينتشر الخير ويعود الناس إلى الأخلاق… انها سنة الله في خلقه ليعلم الصالح من الطالح، ليعلم الصادق من الكاذبrokz2.. إنها سنة قديمة، انظروا لقول قوم لوط، قال تعالى ”أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”.. إن من اتخذ القرار بإيقاف ركاز حتى لو لم يقلها بلسانه فقد قالها بقلبه.. اوقفوا ركاز إنهم يدعون للأخلاق.. ألهذه الدرجة تكون المعاداة للحملات الخيّرة والمباركة والتي تدعوا لتأصيل وترسيخ الثوابت والقيم الفاضلة، ماذا يريد هؤلاء المعارضين؟؟ أيريدون أن يبقى الغافلون والعصاة على غفلتهم وعصيانهم، أيكرهون صلاح العباد وعودتهم لرب العباد.. بشهر الخ ير الناس العاصية تتوب.. وتلتزم بالعبادات والطاعات حيث ان شياطين الجن مصفدة.. ولكن هناك شياطين من الأنس لم تصفد.. والخووووووف من هؤلاء!!” (vi)
إنها ليست أخلاق الطريق الثالث، هي أخلاق الطريق الواحد، وربما هي أخلاق طرف الطريق. وفي الطرف لا مكان لتوسط الأشياء، الطرف أقرب للسقوط، وحين تسقط الأشياء تغيب. هكذا تغيب أخلاق التوسط، ما هي هذه الأخلاق الساقطة من أجندة (ركاز) أو الغائبة عن خطابها؟ ولنتذكر أن المؤمن بما هو مرآة لأخيه المؤمن وحتى غير المؤمن، فهو ذاكرة أيضاً، لأنه يذكر أخاه المؤمن بما يغيب عنه وينساه.
أخلاق الطريق الثالث
الأخلاق الغائبة، هي أخلاق الطريق الثالث، الأخلاق التي تتوسط العالم وتناقضاته، هي الأخلاق التي لا تقسم العالم إلى خير وشر، ولا تقسم أعمال البشر إلى حسنات مطلقة وسيئات مطلقة، هي الأخلاق التي تضع سبعة ألوان بين الحسنة والسيئة، هي الأخلاق التي تخرجك من عالمك الواحد المغلق وتصلك بعالم متعدد، هي الأخلاق التي تجعلك تعيش العالم والدنيا وكأنك ستعيش فيها أبداً، لأنك بهذه الأخلاق ستعمر العالم لمن سيأتون بعدك ولمن هم يعيشون معك. لن تجد في خطاب أخلاق (ركاز) شيئاً من هذه الأخلاق، ولا شيئاً من ثقافتها، هم مشغولون بأخلاق الخلاص والنجاة الفردية، وهي أخلاق العباد والمكلفين، لا أخلاق الأحرار الذين يقيمون بحريتهم عالماً حراً ومتنوعاً.نحن نعاني فعلاً من أزمة أخلاق، لكنها أزمة الأخلاق الغائبة عن ركاز، لا الأخلاق الركازية. بل لا أبالغ حين أقول إن الأخلاق الركازية وإن بدت في بعضها محل اتفاق وقبول كاحترام الوالدين وزيارتهما، إلا أنها تلتبس دوماً بما يسيء لها، لأنها تأتي في صيغة مجموعة واحدة مغلقة، فأخلاق احترام الوالدين لا تأتي وحدها، بل تأتي مصحوبة بأخلاق أخرى وهي الأخلاق التي تُعلي من جانب من شأن الخلاص الفردي الخلاص من عذاب القبر ويوم القيامة، وتزيح من جانب آخر وفي الوقت نفسه أخلاق الطريق الثالث، هكذا تصبح قيمة احترام الوالدين إبرة ضائعة وسط كومة قش.
أخلاق الخلاص كما تجسدها (ركاز) تكاد تكون محصورةً في الموضوعات المتعلقة بالنهي عن الذنوب واقتراف السيئات والأمر بالطاعات وإيتاء ما يوجب الحسنات، والحسنات والسيئات تبدو في خلفية (ركاز) مفاهيم قاطعة وحادة وغير قابلة لفهم متباين أو تأويل متعدد.
ثقافة بدلها
الثقافة في إحدى مفاهيمها مجموعة من الأوامر والنواهي التي عبرها يتم تشكيل الإنسان وصياغته، بهذا المفهوم يمكننا أن نقرأ حملة (ركاز) الأخلاقية، بما هي حملة ثقافية تتجاوز مسألة حث الشباب على تبديل سيئاتهم حسنات، لتكون تبديلاً لمفاهيمهم للحياة وتجسداتها المتعددة في سلوك الناس والمجتمعات.بهذا تكون حملة (بدلها) تعني بدل ثقافتك التي ترى من خلالها العالم والإنسان، أن تكون ركازياً، يعني أن تكون خَلاصياً، ترى عالمك من خلال أخلاق الخلاص، وهي أخلاق ترى العالم خيراً مطلقا أو شراً مطلقا، وعلينا أن نعبره سريعاً كي نَخلص إلى الجنة، وإلا فالنار تنتظرنا.
دعاة «نيو لوك»
أن يخرج الدعاة بأخلاق خلاصهم إلى الفضاء العام المشترك حيث المواطنون (وليس المؤمنون على مذهب جماعة ما) بمختلف توجهاتهم، مسألة لا يمكن فهمهما في سياق التحول إلى العمل العلني بدلا من العمل السري أو العمل داخل الأقبية والغرف المظلمة أو العمل عبر المؤسسات المدنية بدل المؤسسات الدينية، كما يشير إلى ذلك الزميل جمال زويد في عموده راصد ”بعض القوم يطالبون الإسلاميين بالانفتاح وعدم الانغلاق، ويطالبونهم بعدم قصر خطابهم على المساجد ودور العبادة، ويطالبونهم بالتركيز على الأخلاق والفضائل والابتعاد عن السياسة، ويطالبونهم بالكلام وتوجيه الشباب تحت الأضواء الساطعة وفي الأماكن العامة وليس في الأروقة المظلمة وفي الدهاليز القاتمة. ويطالبونهم ويطالبونهم ولكن الوقائع تكشف أن المطلوب هو شيء آخر غير مذكور”(vii).
الخروج إلى الفضاء العام، يحتاج إلى تحول في الخطاب أو خروج على بعض مسلماته وبدهياته، أي يحتاج إلى تحول في مفاهيمنا للأخلاق والعالم والإنسان، لتكون ضمن شروط هذا الفضاء، وهذه الشروط هي نفسها أخلاق الطريق الثالث أو مقتضياته. فهل الشيخ محمد العوضي مثلا يتوفر على خطاب جديد ومغاير لخطابه الثمانيني أو التسعيني مثلا؟ وأنا هنا لا أحصر المغايرة في الموقف من السلطة السياسية وطريقة التعامل معها، فتلك مسألة تخضع لحسابات المراوغة السياسية، أكثر مما تخضع لقناعات التحول الفكري.هل منطلقات خطاب (ركاز) في مجمع الدانة، تختلف عن منطلقاتها في المساجد؟ وأنا هنا لا أعني الاختلاف الشكلي الذي هو أقرب إلى ما يعرف اليوم بالنيو لوك (New look). أن نخرج إلى المجمعات بنيو لوك، لا نيو أخلاق، فهذا يعني أننا نستخدم الفضاء العام لصالحنا الخاص، لا للصالح العام والصالح العام هو ما يفتح الناس على بعضهم انفتاحا يفضي بهم إلى قبول اختلافهم والدفاع عن آرائهم بحجج كلامية.
حملة (ركاز) هي حملة دعاة بنيو لوك لا بنيو أخلاق، وهنا لا أعني أن أخلاق الصدق يمكن أن تتحول إلى تمجيد إلى أخلاق الكذب، لكن أعني أن أخلاق تمجيد رفض خروج المرأة للفضاء العام، يمكن أن تتحول إلى أخلاق تمجيد تؤكد أهمية خrokzروجها ومشاركتها. وأن مصفوفة أخلاق الخلاص التي تركز على يوم القيامة وعذاب القبر يمكن أن تتحول إلى أخلاق الخلاص من أمراض التعصب ورفض الآخر وقبول التعدد، وهكذا نكون بنيو أخلاق. ويبدو أن هذا الفرق  لم يلحظه أيضا بيان الاستنكار الذي أصده الأمين العام لجمعية المنبر الوطني الإسلامي ورئيس كتلتها النيابية عبداللطيف الشيخ، إذ يقول ”في الوقت الذي يطالب أصحاب الاتجاهات الأخرى من المتربصين بالإسلاميين بانفتاحهم على الآخرين وعدم قصر الخطب والمحاضرات على دور العبادة ويطالبونهم بالابتعاد عن السياسة والتركيز على الأخلاق والفضائل وتوجيه الشباب في العلن يأت هذا المنع والإيقاف غير المبرر لحملة من شأنها أن تسهم في بناء المجتمع وترسيخ قواعده على أساس إسلامي عصري وهي ليس لها أدنى علاقة بالسياسة”(viii).
وأخيراً، إذا كان ليفي بريل Lévy Bruhl يذهب في تحديد الأخلاق بمطابقة السُّلوك للواجب، فإن الواجب هذا مرجعيته اليوم لا أخلاق الخلاص حيث الجماعات المغلقة على زمنها ومذهبها ومقدساتها، بل أخلاق المجتمع المفتوح المتعدد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=80624

الهــــوامـــش
i انظر موقع (ركازhttp://www.rekaaz.com/
ii انظر التصريح في (قالوا في ركاز) في موقع (ركاز(
iii انظر التصريح في (قالوا في ركاز) في موقع (ركاز(
iv جريدة أخبار الخليج، 4 أكتوبر,2007 عمود الطريق الثالث،
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp?Article=205405&Sn=RYTH&IssueID=10785
v انظر: غادة موسى، الطريق الثالث.. تحولات الليبرالية أم أمل الاشتراكية؟
http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/2001/02/article2.shtml
vi انظر تعليقات الجمهور في موقع ركاز.
vii جريدة أخبار الخليج، 4 أكتوبر,2007 عمود راصد،
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp?Article=205408&Sn=RASD&IssueID=10786
viii انظر: بيان جمعية المنبر الوطني الإسلامي، في جريدة أخبار الخليج
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_Articles.asp?Article=205433&Sn=BNEW&IssueID=1078668701=DIeu