أرشيف التصنيف: حوارات

حوار مع ابتسام الكتبي

ابتسام الكتبي لـ«الوقت»: المجتمعات الخليجية أكثر حداثة من نخبها الحاكمة
الإصلاحات في الخليج رهن أسعار النفط.. والمطلوب رهنها بإطار ثقافي

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:
وصفت دائماً أنها راديكالية وصاحبة مواقف متشنجة. رغم ذلك فإنها مقتنعة إن صوتها ليس فريداً وتتشارك معها فيه نخب كثيرة. غير أن ابتسام الكتبي تقول مستدركة ‘’الاختلاف الوحيد يكمن في أن صوتي أكثر جرأة’’. عندما كانت في الثانوية العامة سمعت لأول مرة عن ‘’الجبهة الشعبية لتحرير البحرين وعمان’’، وحين سافرت للدراسة في القاهرة أتيح لها تكوين علاقات رفقة مع الشبيبة البحرينيين من منتسبي الجبهة والأعضاء في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين – فرع القاهرة، في الوقت نفسه. تقول ‘’شكلت هذه الرفقة البواكير الأولى لتنشأتي السياسية’’. وآنذاك كانت مدينة القاهرة ولاتزال تنبض بدقّات وعي قومي عريض خلفته الحقبة الناصرية. والحال فقد تواءم هذا مع تنشئتها الأولى لينتج في المحصلة حماساً ضافرياً حيال قضايا كان يندر المتحمسون لها في البيئة التي يصدر عنها صوتها. مع نهاية عقد التسعينات أكملت كورس التنشئة السياسية بنيلها درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية، فعادت إلى بلدها الإمارات ليبدأ كورس التجريب وامتحان الحصيلة المعرفية التي راكمتها على ضفاف الرفقة البحرينية والدرس في قاعات الأكاديميا معاً. فكانت مواقفها تتدفق جائلة عبر أثير الفضائيات وهادرة بالقضايا المطروحة على الدولة الخليجية وضرورات التحديث السياسي. الآن تشغل الكتبي كرسيّ العلوم السياسية بصفة أستاذ مساعد في جامعة الإمارات، داعمة بذلك ظهورها الإعلامي بالسجالات اليومية مع الطلبة التي تعوّل عليها كثيراً. قالت ‘’تأسيس ثقافة الانتخاب أهم من صندوق الانتخاب نفسه’’. ‘’الوقت’’ التقت بابتسام الكتبي على هامش تقديمها ندوة في البحرين قبل نحو أسبوعين بدعوة من جمعية المنتدى. فيما يلي مقتطفات من الحوار معها:
ينظر إليك بوصفك صاحبة صوت راديكالي بعد كل مواقفك الصريحة الموجهة حيال نقد النخب الحاكمة في الخليج. دعينا نفهم بداية البيئة الثقافية التي ينبثق منها صوتك. هل هناك في تراث عائلتك مثلاً، ثقافة سياسية دعمت ولادة هذا الصوت؟
– لا أستطيع أن أدّعي هذا الشيء. ليس في عائلتي فقط، إنما حتى في عموم بلدي الإمارات. ليس ثمة تراث سياسي على غرار التراث الموجود في البحرين بالنسبة إلى وجود عوائل تشتهر بالمعارضة أو حتى بالنسبة إلى وجود ثقافة سياسية عامة لابأس بها. لكن أستطيع أن أقول إن هذا الصوت بدأ في التشكل في مرحلة الثانوية، حين كنت أتابع أخبار الجبهة الشعبية لتحرير البحرين وعمان. في الواقع، أدين إلى الجبهة بتشكل بدايات وعيي السياسي، وقد تأكد هذا العامل لدى ذهابي إلى الدراسة في مصر واحتكاكي بالطلبة البحرينيين الأعضاء في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين – فرع القاهرة. في العلوم السياسية يتم دراسة مفهوم اسمه ‘’التنشئة السياسية’’، وهو يتوجه من بين ما يتوجه إلى جماعة الرفاق المحيطين بوصفهم مؤثراً في عملية التنشئة. وهو ما كان عليه حالي بالنسبة إلى علاقتي مع الجبهة والطلبة البحرينيين. زد على ذلك، أن مصر كانت تغلي آنذاك. فحتى مرحلة الثمانينات كان لا يزال البعد القومي طاغياً. كنت أشاهد التحركات الشعبية، المظاهرات وطرق التعبير العامة وكنت أتأثر. توافق ذلك مع وجود تيار بين الإماراتيين أقرب إلى الأيديولوجية اليسارية. كل هذه الأمور شكلت البيئة الثقافية والسياسية التي وجهت قناعاتي لكي تسير في اتجاه معين، أنت سميته ‘’راديكالياً’’.
إلى أي درجة يمكن القول إنك معارضة؟
– في المجمل، لا أحبذ تعريفي على جهة أنني معارضة. لكن إن شئت، فأنا معارضة فقط للسياسات التي لا تدفع باتجاه وجود دولة القانون والمؤسسات والحريات والمواطنة. أرى من غير المناسب في هذا العصر أن تظل دولنا محكومة بالمنظومة التقليدية السابقة نفسها. معارضة أيضاً لكلمة ‘’تدرج’’ التي أرى أنها تستخدم من أجل عمل فرملة لعمليات التغيير، كما لو أن شعوب الخليج غير شعوب العالم قاطبة أو أنهم الوحيدون الذين لا يمكن لهم أن ينضجوا. رغم أنهم من بين أكثر الشعوب العربية تعليماً، وتكاد تنعدم فيهم الأمية. وحتى في الحداثة التكنولوجية، فالدول الخليجية هي الأكثر تحديثاً.
لست وحيدة لكنني الأكثر جرأة
لكن كان لديك تصريح سابق تصفين فيها الشعوب الخليجية بأنها شعوب ‘’حديثة’’ عمرياً بمعنى أنها ليست بعراقة شعب مثل شعب المصري. على صلة بذلك أن الحداثة التي تشيرين إليها ليست نتاج عملية تاريخية، وهي ارتبطت بظهور النفط. الأمر الذي يدفعنا إلى سؤالك عن: إلى أي حد يمكن التعويل على الثقة بهذه الشعوب التي سبق وأن وصفتها بأنها أكثر من حداثة النخب الحاكمة؟
– حسناً، لن أسميها حداثة أو أي شيء لكن أسميها خلخلة. لقد عمل النفط على خلخلة العلاقة بين المجتمع الخليجي والنخب المهيمنة لصالح الأخيرة. في الفترات التاريخية السابقة لظهور النفط، صحيح كان ثمة شعور اجتماعي سائد عن الحاكم بوصفه أباً أو راعياً لكن لم يكن ثمة خنوع. أيضاً، الملكية لم تكن موجودة بالشكل الذي نجدها فيه اليوم: ملكية الأرض ومن عليها. كان هناك نوع من التشاور ولم يكن المجتمع ملغىً بشكل كلي. لكن كل ذلك غدا موجوداً اليوم بفعل الثورة النفطية التي أنتجت نوعاً من الاكتفاء لدى الحاكم يكون قادراً معه على الاستغناء عن المجتمع. لذلك تجدني أكرر باستمرار أن النخب الخليجية قد أخذت بكل أسباب الحداثة التكنولوجية والاقتصادية، في حين وقفت عاجزة أمام الحداثة السياسية. فهنا فقط يجري الإلحاح على أن هذا لايتناسب مع قيمنا العربية أو الإسلامية. شيء محير جداً، تجد أن السلط القائمة، الخليجية أو حتى العربية، تشجع شعوبها على الخروج في مظاهرات منددة حين يجري المس ببعض الرموز الدينية. لكن هذه الدول نفسها لا تستنكف من قمع شعوبها حين تتوجه المظاهرات إلى المطالبة ببعض الحاجات اليومية الملحة، الحريات أو ارتفاع الأسعار أو ما شابه.
هل يجد خطابك مقبولية لدى النخب الإماراتية أو هل استطاع أن يخلق له أرضية للحوار مع المشتركين في القناعات نفسها؟
– خطابي ليس فريداً، هناك الكثير ممن يحملون هذه الأفكار، إنما الفرق بيني وبينهم هو أنني أجهر بصوتي. جزء من الإشكال الذي يقع فيه المثقفون هو أنهم يريدون أن يكونوا مثقفي السلطان وفي الوقت نفسه مثقفي الشعب. لا، هذا غير ممكن برأيي، لا بد من اختيار مكان بين المكانين. أستطيع أن أزعم أن هناك تياراً يتعاطف معي، لكنه لايجد وسيلة للتواصل. ليس ثمة قنوات لذلك، غير الكتابة في الصحف أو الظهور في التلفزيونات، لكن طبعاً خارج نطاق الصحف والتلفزيونات المحلية لأنها لاتسمح بتمرير الأفكار التي تنوي تمريرها بحرية.
ثقافة ديمقراطية ممنوع أن تسود
كيف وجدت كتاب ‘’رؤيتي’’ لحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي على أساسه قامت مدينة دبي. هل تتفقين مع بعض النقد الموجه بشأن أنه عجز عن رؤية التحديث السياسي الذي على أساسه ينبغي أن تكون المدينة قائمة؟
– لقد أنجزت دبي الكثير في المجال الاقتصادي لكن من دون أي منجز سياسي. ربما لأنها تسير في ذلك على خطى النموذجين الكوري والصيني في التنمية. إذ كلا النموذجين يقومان على تحديث اقتصادي من دون تحديث سياسي. دبي غير معنية أساساً بالسياسة، وهذا ليس من الآن. إنها لا ترسم لنفسها نموذج دولة سياسية، إنما دولة مفتوحة للاقتصاد. وفي الاقتصاد المطلوب هو الاستقرار من أجل جذب رؤوس الأموال لا أكثر أو أقل، أما السياسة فهي لا تتناسب مع ذلك.
لكن هل يمكن أن تكون هناك مدينة قائمة على تحديث اقتصادي من دون تحديث سياسي؟
– المشكلة أن سكان دبي قطرة في بحر عمالة أجنبية مائج، ناهيك عن مشكلة موازية تتعلق بضعف الثقافة السياسية. أضرب لك مثالاً، في السنوات الأخيرة جمع بعض السكان الأجانب المقيمين في دبي قرابة 20 ألف توقيع وأرفقوها بعريضة احتجاج نظراً لأن مستثمراً أراد بناء مبنىً كان سيحجب عنهم رؤية الشاطئ. وهو الأمر الذي لم يجرؤ أحد من الإماراتيين على فعله. هذا لا يعني أن ليس لدى الإماراتيين مطالب ملحّة، لكن ثقافتهم السياسية، فضلاً عن ممارستهم، لا تؤهلهم للتفكير في أسلوب العرائض كوسيلة من وسائل الاحتجاج أو المطالبة. في حين أن معظم العمالة الأجنبية آتية من بلدان ديمقراطية تعد فيها وسائل التعبير هذه بمثابة خبز يومي. ثمة مشكلة أخرى هنا، وهي أن هذه الثقافة السياسية الراسخة من غير المرجح أن تحدث تأثيراً لدى المواطنين الإماراتيين، على غرار مثلاً التأثير الذي أحدثته العمالة الفسلطينية في الكويت، كون الاحتكاك بين العمالة الأجنبية والمواطنين معدوماً. فالإماراتيون كما سبق وأن أشرت قطرة في بحر، ثم إن دبي تعيش في ما يشبه الكانتونات، حيث إن كل جالية معزولة عن الأخرى.
الانتخابات ليست كل شيء
عملت في فترات مختلفة في لجان لها علاقة بإعداد برامج أو مناهج تعليمية تتعلق بالثقافة الوطنية. هل استطعت أن تعكسين جملة أفكارك المتعلقة بالحداثة السياسية والثقافة الديمقراطية داخل هذه البرامج؟
– لا أستطيع القول إنني عكست الحداثة السياسية، لكنني سعيت إلى وضع معارف سياسية يكون مؤداها النهائي إيجاد نوع من التثقيف السياسي. معارف من قبيل عملية الانتخاب وأشكال أنظمة الحكم وأيها يمكن أن يكون ديمقراطياً وأيها لايكون انطلاقاً من أسس الأنظمة الديمقراطية. في منهج حقوق الإنسان مثلاً، جرى التركيز على الحقوق المدنية والسياسية من باب تعريف الطالب بحقوقه. في هذه الحدود كنت أمارس دوري، خصوصاً وأنه بالنسبة إلى منهج علمي فالواجب الأول هو الالتزام بالنظرية، أي أنك لايجب أن تصدر عن انطباعات أو آراء سياسية. تلك كانت وجهة نظري، وربما لو كان لدى آخرين وجهة نظر أخرى تصدر عن غير توجهي لجاءت المناهج بصيغة أخرى. تماماً كما كانت في السابق مناهج التربية الوطنية، حيث يجري التركيز على التاريخ وتصوير الانتماء على أنه مجرد الارتباط بأرض وعلم. إن شئت، تلك الأشياء التي عكستها من خلال شغلي لهذه الوظائف.
كان لديك رأي أيضاً حول أن التأسيس لثقافة الانتخاب أهم من صندوق الانتخاب نفسه. هل يعني ذلك اقتناعك بأن التحديث السياسي على صعيد المجتمع يكون سابقاً تحديث الدولة؟
– برأيي، إن الإطار العام الذي تأتي الانتخابات بموجبه أهم من الانتخابات نفسها. ذلك أن هذا الإطار يتصل بالثقافة الديمقراطية. فالانتخابات هي التي أوصلت هتلر (1889 – 1945) إلى السلطة، وكان ذلك عبر الممارسة الديمقراطية. بالتأكيد، حين لاتكون هناك ثقافة انتخابية سابقة للعملية الديمقراطية فإن النماذج التي ستأتي هي من شاكلة هتلر، والعكس صحيح أيضاً. مشكلة الأنظمة أنها تهتم بصندوق الانتخاب لتحسين وضعها وامتصاص ضغوط الداخل والخارج معاً، فتجد فيها انتخابات لكن في الوقت نفسه تجد الحريات الصحافية مخنوقة. نعم، قناعتي أن الانتخاب ليس كل شيء، فمسألة الشفافية أهم، كذلك الحال بالنسبة إلى الفصل بين المالين العام والخاص. هذه أسئلة جوهرية ينبغي أن تطرح وتناقش اليوم في الخليج.
لهذا السبب الخليج تأخر
هناك أكثر من مقاربة تطرح في عملية تفسير الخلل في الدولة الخليجية. ثمة أطروحة تقوم على تحليل عنصر القبيلة، وثمة أطروحة تقوم على تحليل الميراثية، وثمة أطروحة ثالثة أخيراً تقوم على تحليل الريعية. كيف تجدين هذه الأطروحات الثلاث، وإلى أي منها تميلين؟
– كلها مجتمعة، لكن دعني أقف هنا عند الأطروحة الريعية. لقد تزامن ظهور النفط مع نقص حاد في عدد السكان. الأمر الذي أنتج سهولة في توزيع ريع النفط واستخدامه في شراء الولاءات. لهذا قلت إن ظهور النفط خلخل العلاقات لصالح السلط الحاكمة على حساب المجتمعات. في السابق كان هناك نوع من المشاركة. كانت هناك دورة نخبوية ماشية، وكان أفراد القبيلة يتدخلون في اختيار الحاكم، نظراً لكون الظروف الصعبة آنذاك تستوجب اختيار حاكم يصل بهم إلى برّ الأمان. فكان الحاكم لا يعبر عن سلالة فقط إنما كان الأحكم والأقدر أيضاً. أتى الاستعمار وخلخل هذه المعادلة عن طريق ما كان يدفعه من أموال وإيجارات مقابل تأمين خطوط المواصلات واحتكار حقوق التنقيب عن النفط في بيئة مستقرة لكن على حساب الديمقراطية. ومع اكتشاف النفط، اكتملت عملية الخلخلة، فأصبح الحاكم مستقلاً عن الناس تماماً، صار هو المعطي والواهب. تلك كانت السيرورة التاريخية التي مرت بها معظم دول الخليج، ربما باستثناء الكويت. هذا يفسر إلى حد ما أن شعوب المنطقة تقاعست عن التعبير عن أية مطالبات سياسية في الوقت الذي كانت شعوب العالم كلها تطالب. فالريع جعل الحاكم يستغني عن الضرائب وبالتالي عن الاحتياج إلى المحكومين، وصار العكس، الناس هم المحتاجون للحاكم ومعتمدون على ما يضن به عليهم. وأصبح الدخول إلى دورة الريع مرتبطاً بدرجة القرب أو البعد من الشخص الواهب. هذا جزء من الصورة، الجزء الآخر يكمن في الثقافة السياسية. فقد ظلت الذهنية العامة تنظر إلى الحاكم بوصفه أباً وراعياً، الأمر الذي أعاق تعميق فكرة تداول السلطة. يجب ألا ننسى العامل الخارجي أيضاً، الذي لم يفصح عن مبادرات جدية حيال عملية الإصلاح. وحتى حين ارتفع صوت الغرب أخيراً بشأن إصلاح الأوضاع في الدول العربية، سرعان ما ظهر كذبه.
الأطروحة الريعية.. نواقص في التحليل
ناقشت في رسالة الدكتوراه أطروحة الدولة الريعية التي هي في النهاية نموذج تفسيري يحلل قصور بناء الدولة وعدم إنجازها. ما هي أوجه قصور هذه الأطروحة بنظرك في تفسيرها للدولة الخليجية؟
– لدى مناقشة الأطروحة الريعية تواجهك مشكلة أن جميع المقاربات السابقة لها كانت تقتصر على مقاربة البعد الاقتصادي. لم يحاول أحد تناولها من زاوية البعد السياسي والعلاقات التي تخلقها على هذا المستوى. بالنسبة لي، فقد كان اشتغالي على هذا البعد تحديداً. بمعنى آخر، أن المقاربات السابقة ركزت على كيف أن الاقتصاد الريعي أنتج منظومة ريعية ملاكها وجود أفراد يأنفون من العمل اليدوي ثم يتلقون مكافأة لا تتناسب والجهد المبذول. وهو الأمر الذي تم التسالم على تسميته ‘’العقلية الريعية’’. لكن أحداً لم يسأل عن انعكسات هذه العقلية على الدولة والمجتمع. في الواقع إنني لا أريد حتى استخدام كلمة دولة، نظراً لعدم وجود دول بالمعنى الحقيقي للدولة. ثمة سلط سياسية موجودة، والريع همش المجتمع لصالح هذه السلط. لو دققت قليلاً في الفترات التي سعت فيها السلط القائمة إلى الدخول في تسويات ولو شكلية مع مجتمعاتها لوجدت أن ذلك يحصل في الفترات التي يتراجع فيها مردود العائد النفطي، أو ينحصر تأثيره. سترى أن الإصلاحات التي عمّت بعض دول المنطقة حصلت في الفترة التي أعقبت تحرير الكويت (1991). وقد تزامنت مع نقصان العوائد النفطية طيلة الفترة التي تلت منتصف الثمانينات. صحيح إن الحرب رفعت أسعار النفط، لكنها أوجدت عجوزات مالية كبيرة في الموازنات بسبب كلفة الحرب. فكان ثمة انكشاف مالي للدول الخليجية بموازاة من الانكشافين الأمني والعسكري. وهو الأمر الذي أظهرها في صورة هشة. وآنذاك سادت موجة الحديث عن الإصلاح أغلب دول المنطقة، ولأول مرة ظهرت مطالبات سياسية في السعودية. وفي البحرين تم العمل بنظام مجلس الشورى. المشكلة أن هذه الإصلاحات، لاتسير ضمن وتيرة واحدة. فحين تكون هناك عوائد نفطية كبيرة تنتكس العملية الإصلاحية وتسود القبضة الحديدية، وعلى العكس تتسارع وتيرتها مع انكشاف العائد النفطي. تلك الجوانب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأطروحة الريعية، لكن أحداً لايفضل تناولها فيما يجري التركيز كما أسلفت على الأبعاد الاقتصادية.
ثمة أيضاً البعد الثقافي المتعلق بمفاهيم الناس عن الحاكم وفصل الديني عن السياسي والمواطن الفرد، الأطروحة الريعية لاتضع كل ذلك في الاعتبار. دعينا نتحدث بصراحة هنا عن مسألة العلمنة.
– هنا أيضاً تجد أن النخب الحاكمة ركبت الدين واستخدمته كأساس لشرعيتها. ظلت فكرة العلمانية التي هي فكرة محايدة حيال الأديان والطوائف بعيدة عن ممارساتها. بل على العكس، لقد أضافت على الدين تراثها القبلي. وهو الأمر الذي أوجد عندنا دولة قبلية بلباس عصري. لذا فأنا أقول صحيح كان هناك تحديث لكنه ظل تحديثاً خارجياً لم يطل الجوهر. الجوهر ظل تقليدياً. ظل الحاكم نفسه شيخ القبيلة. في حين أن الحداثة تستوجب قيماً جديدة غير القيم الموجودة. نتحدث عن العلمانية بوصفها فكرة حيادية ونتحدث عن الدولة المدنية. وهنا لا توجد مشكلة من أن يكون المجتمع متديناً في الوقت الذي تكون فيه الدولة مدنية.
ثقافة للديمقراطية أولاً
ألا يحوي هذا الكلام تناقضاً، ذلك أن الدول الموجودة عاكس موضوعي للأحوال في المجتمع. دعينا نأخذ القبلية التي تحدثت عنها، أليست السلط الموجودة عاكساً ليس إلا للروابط القبلية في المجتمع، بمعنى أنها لم تقم باستحداثها. الأمر الذي يؤشر على أن الخلل مجتمعي قبل أن يكون متعلقاً بالسلطات المهيمنة؟.
– هذا يرجعنا إلى الكلام الذي قلناه بشأن تأسيس ثقافة للديمقراطية. بوجود ثقافة ديمقراطية لن تكون هناك نخب مستبدة. أزعم أن الدولة في الخليج لا تعكس المجتمع.. المجتمع أكثر حداثة من الدولة. ثمة مطالب اجتماعية تنادي بالانفتاح والحريات في حين الدولة لاترضى بهذا. لو كانت الدولة عاكسة لذلك لتمثلت هذه الأفكار في مؤسساتها.
ماذا تقولين إذن بشأن نماذج الانتخابات التي جرت في بعض الدول العربية وأفرزت قوىً غير حديثة، إما قبلية أو إسلامية؟.
– أقول إن سبب ذلك غياب ثقافة ديمقراطية. في ظل القهر لابد أن تأتي مثل هذه التيارات. متى تضعف هذه التيارات؟. فقط بالممارسة. خذ مثال الإسلاميين في تركيا الذين يعدون مثالاً ناجحاً. صحيح إن تركيا بلد غير عربي، ولكنها مثال فقط على أن الإسلاميين يمكن أن يصلوا إلى مواقع متقدمة من دون أن يقوموا بتغيير قواعد اللعبة. شخصياً، ليست عندي مشكلة في أن يحكم الإسلاميون شريطة أن يحترموا قواعد اللعبة السياسية ولا يقصون الآخرين.

http://alwaqt.com/art.php?aid=110631

حوار مع حازم صاغية 3

حازم صاغية يفتح ملفاته لـ«الوقت»: قبل كل شيء…

مشكلتنا في لبنان ثقافية (3-3)
الطبقة الوسطى العربية جبانة ومستقيلة عن دورها التنويري

الوقت – حسين مرهون وعلي الديري:
في مطلع الثمانينات كان حازم صاغية واحداً من بين جمهرة شبان يافعين ممن راحوا مطلقين قبضاتهم في الهواء هاتفين بحياة ثورة إيران الخمينية وحياة قائدها الروحي روح الله الخميني. لكن زخم الهتاف لم يدم طويلاً، إذ لم تكد تنقضي أشهر قليلة حتى كانت القبضات تتراخى تحت وطأة انكسار أفق التوقع وسرعان ما أتى الطلاق. الأمر نفسه كان من نصيب تطواف له سابق على ذلك – وهتافات وقبضات حماسية لقائد شعبي يروح وقائد يجيء! – حَرَثه ما بين الورشتين الناصرية فاليسارية. الآن، فإن قبضات حازم لم تعد تهتف بشيء. قال ‘’انتهت الخرافة.. الشعوب ليست عظيمة، إنها أسوأ من الأنظمة بكثير’’. حديثاً جداً عاد ليستقرّ في عاصمة بلده (بيروت) بعد إقامة طويلة دامت نحو العقدين في مدينة الضباب (لندن). يبدو متخففاً كثيراً من ‘’روشتات’’ الوعد والخلاص، ‘’الروشتة’’ الوحيدة المتبقية لديه والتي تمثل اليوم أقصى مطمح عنده ‘’تقريب الناس إلى بعضهم، يصبح الشيعي أقلّ شيعية والسني أقلّ سنية، ومثل ذلك المسيحي’’ لا أكثر أو أقل. ‘’الوقت’’ التقت بحازم صاغية على هامش زيارته إلى البحرين قبل أسبوعين بدعوة من جمعية المنتدى، وفيما يلي الحلقة الأخيرة من الحوار معه:
قلت في سيرتك الفكرية ‘’إن فضيلة الماركسية تعليم حاملها نقدها هي نفسها’’. ويبدو أن الناقد قد صاحبك حيث انتهيت بعد تطواف ضافٍ على الورش الأيديولوجية إلى جعل فكرة الدولة مبتداك ومنتهاك. على صلة بذلك، فقد مرت تجربتك الصحافية بتحولات عدة وكنت الناقد مرة أخرى، لكن إلى الصحافة باعتبارها مكوناً من مكونات الدولة الحديثة. دعنا نبدأ من تجربتك الصحافية في ‘’السفير’’.. ماذا تقول عنها؟.
– أجواء العمل في ‘’السفير’’ قريبة من أجواء العمل النضالي، حيث يتوجب على الصحافي الداخل إليها أن ينهض بأعباء من جنس النضال الأيديولوجي. وآنذاك كنت يسارياً شاباً، وكانت ‘’السفير’’ تحتضن إليها مجموعة من الصحافيين اليساريين، منهم شباب مثلي ومنهم كبار أيضاً، من أمثال ياسين حافظ وميشيل كامل وغيرهما. لكن افتراقي مع ‘’السفير’’ حصل مبكراً جداً، تحديداً منذ العام .1981 ويمكن لأي شخص أن يراجع ما كنت أكتب في تلك الفترة ويقارنه مع ما كان يصدر عن الخط العام للجريدة ليكتشف بسهولة أنني كنت بمكان والجريدة بمكان آخر. كان رأيي عهدئذ، وهذا واحد من بين افتراقات أساسية مع ‘’السفير’’، أنه ينبغي أن توجد دولة حتى يتمكن المرء من معارضتها. ولكن أن تتم معارضة دولة غير موجودة أصلاً، فإن هذا أسهل طريق إلى البربرية والفوضى المطلقة. يحكم من يحكم، لا يهم، المهم أن يأتي من يحكم ومن ثم يمكن معارضته لو توفرت ضمانات. إذاك نشأت عندي فكرة تقول إن الأمور لا تعرّف سلباً إنما تعرّف بالإيجاب. أعطيك مثالاً هنا، في العام 1985 انسحبت إسرائيل من صيدا وجرى التهليل لذلك من أطراف عدة، في ‘’السفير’’ وغيرها. لكن بالنسبة لي فقد كتبت مختلفاً مع أجواء التهليل، قلت إن هذا ليس تحريراً. التحرير ليس أن ينسحب العدو، إنما أن يتم إلحاق الأرض التي انسحب منها إلى المركز/ إلى الدولة. كان رأيي أنه إذا ما انسحبت إسرائيل من صيدا وحلت مكانها العصابات والطوائف والميليشيات المسلحة فإن هذا الشيء ليس منه فائدة سوى لإسرائيل كونها قامت بالتخلي عن مسؤولياتها باعتبارها دولة محتلة حيال صيدا. لا، لم يكن هذا تحريراً يفرح به، فالتحرير أن تأتي بالأرض من العدو وتربطها بدولة، اقتصادياً وأمنياً وتعليمياً. ولكن مجرد أن تنسحب إسرائيل فهذا شيء أقرب إلى الاجتماع القبلي، تذهب قبيلة وتأتي أخرى، وليس الاجتماع القائم على العيش ضمن دولة. لهذا قلت إنني تحوّلت من التعريف السلبي للأمور إلى التعريف الإيجابي. وهكذا، فأن تكون وطنياً ليس معناه أن تكون ضد أحد، إنما تكون مع أحد، وفي موضوعنا هو الدولة. كان ذلك منعطفاً أساسياً في التفكير، بين ما كنت عليه من قناعات وما كان عليه خط ‘’السفير. 
وكيف جرى الفراق مع ‘’السفير’’؟.
– بمودة بالغة، فطلال سلمان (ناشر صحيفة السفير) صديق عزيز، وكان قادراً على أن يستقطب لصحيفته أصواتٍ متعددة. وإلى حد الآن تجد ‘’السفير’’ قادرة على القيام بهذه التوليفة. فصحافيون مثل عباس بيضون وحسام عيتاني ووسام سعدي وغيرهم يكتبون بشكل مختلف عن الخط الذي يصدر عنه طلال. لكن في الحقيقية، فالحياة مع ‘’السفير’’ لم تنته، إنما انتهت من بيروت. وتحديداً حين توفر لي عرض في لندن لدى افتتاح مكتب صحيفة الحياة هناك (مطلع الثمانينات). ويومذاك كانت بيروت مدينة لا تطاق، لا ماء ولا كهرباء ولا حتى قابلة للعيش. جاء العرض، وذهبت، فكان الفراق.
أنا في مكان ‘’والسفير’’ في آخر
هل كانت تجربة لندن مع ‘’الحياة’’ امتداد للتحول الذي بدأ من ‘’السفير’’ أم اتخذت ملمحاً آخر؟
– لا طبعاً، كانت امتداداً للتحول الذي بدأ في بيروت منذ مطلع الثمانينات. لكن طبعاً، ففي لندن استفدت من مناخ صحافي أكثر غنىً.
لكن هل كنت مستوعباً من قبل الخط العام في ‘’السفير’’، في حدود السنوات القلائل التي عملت فيها معها، أم كان ثمة شد وجذب؟.
– بالنسبة إلى الخط العام، فكما ذكرت، كنت بمكان والجريدة بمكان آخر. أسوق مثالا آخر إضافة إلى الأمثلة التي توقفت عندها. في العام 1983 وقفت ‘’السفير’’ ضد أمين الجميل في ‘’الجبل’’، وكانت تريد إسقاطه، وكان موقفي على العكس. لم أكن أحب الجميّل لكن لم يكن إسقاطه شاغلي. أيضاً وقفت الصحيفة ضد اتفاقية 17 مايو/ أيار (اتفاقية جرت إثر سلسلة من المفاوضات بين لبنان وإسرائيل بعد 32 جولة من المفاوضات وجرى عرضها على البرلمان اللبناني) في حين كنت أنا معها. كان رأيي وقتذاك انه إذا ما كان ممكناً عقد صلح مع إسرائيل وتعود الأراضي اللبنانية فلم لا. فالنزاعات في آخر الأمر لابد أن تكون لها نهاية، ولايوجد نزاع في المطلق ينتقل من جيل إلى جيل، وإلا أصبحت نزاعات لا تاريخية. ولا سيما أن أثر هذه النزاعات، على لبنان تحديداً، هو أنها منعت من تحوله إلى دولة.
ما الذي أخذت من ‘’السفير’’ إذن؟.
– أخذت أشياء كثيرة، تعلمت أن أكتب وأساجل كما تعرفت إلى أصدقاء عزيزين جداً، وكثير منهم لا يزالون أصدقاء إلى الآن. في الواقع، هناك الكثير الذي أخذته.
هل توافق صديقك وليد نويهض توصيفه للمراحل التي مرّت بها ‘’السفير’’ لجهة خطابها الصادر، بين ‘’شقفة’’ قومية عروبية استمرت لغاية خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان (1982)، ثم بعد ذلك ‘’شقفة’’ من خطاب المقاومة و’’شقفة’’ من الحريرية وإعادة الإعمار استمرت إلى وفاة رفيق الحريري (2005)، لتنتهي أخيراً ابتعاداً كلياً عن مشروع الدولة لصالح مسار المقاومة ومعارضة حزب الله – عون؟
– إلى حد ما صحيح. لكن للإنصاف، فأنا طيلة هذا الوقت كنت في لندن. أي أنني لم أتابع ‘’السفير’’ بدقة كما لو أنني كنت في بيروت، فالجريدة لم تكن متاحة بصورة يومية. كنت أتابعها بين وقت وآخر.
تخدير التناقضات
نقل عنك إبراهيم الأمين قولك ‘’إن طلال سلمان يملك سحراً غريباً. تختلف معه في السياسة، وتختلف معه في المهنة، وتشكو من قدرته على التلاعب بك، ولكنه ينجح في كلّ مرة في إقناعك وأنت خارج من مكتبه بأنك أمام فرصة العودة للعمل في المكان الأحب إليك’’. ما الذي كنت ترمي إليه من وراء إطلاق هذه المقولة؟.
– طلال شخص لطيف جداً، ولديه قدرة كبيرة على تخدير التناقضات بينه وبين المختلفين معه. ينسيك إياها قليلاً، ويشغلك بهمومه.
يبدو أنك أنت أيضاً قادر على تخدير التناقضات. موت جوزيف سماحة الذي يمثل الطرف النقيض لك على مستوى المواقف السياسية، موته في بيتك في لندن مثال واحد على ذلك. ماذا تقول؟.
– ربما، لكنني وجوزيف لم نكن نخدر تناقضاتنا. كنا مختلفين جداً، وكنا كلما سنحت الفرصة للقاء نتشاحن ونتشاجر. المنطلقات السياسية شيء والصداقة شيء ثان.
حسناً، قبل أن تذهب إلى جوزيف لإيقاظه لتجده قد فارق الحياة فيما قرأنا عنه من نهاية تراجيدية في حينه. ما الذي كنتما تتشاجران بشأنه معاً قبل خلودكما إلى النوم؟.
– في السياسة تحدثنا قليلاً، ذلك أن الوضع لم يكن ملائماً للكلام فيها. فأنا كنت مهموماً بوفاة زوجتي مي (غصوب) – توفي جوزيف بعد أسبوع واحد من وفاة مي – وفي الوقت نفسه لم يكن جوزيف بصحة جيدة. عرفت ذلك لاحقاً. لذا لم نتحدث في السياسة.
لكن هل هي سمة لصيقة بجيلكم الصحافي.. أنت وجوزيف ووليد نويهض والبقية. فعلى الرغم من كمّ التناقضات بينكم جميعاً إلا أنكم قادرون على الحفاظ على جو الصداقة فيما بينكم؟.
– تحييد السياسي عن الصداقة شيء موجود، على الأقل إن شئت عند عدد من الأشخاص معروفين لدينا جميعاً.
كيف تلقت صحيفة ‘’الأخبار’’ التي هي مشروع صديقك جوزيف قبل أي شيء، نقدك الكاسح إليها، فيما كتبت عنها في ذكرى مرور عام على تأسيسها؟.
– طبعاً لم يسرّوا به، لكننا احتفظنا بصداقتنا، بيير صعب وخالد صاغية وآخرين.
لهذا السبب تقول يعجبني فلان
تكتب مقالاتك بناء على تكنيك خاص يقوم على استثمار اللغة العربية من حدودها القصوى. وواضح أن لعبتك الأساس تقوم على مقترح اللغة الذي يبدو جزءاً مكوناً أصيلاً من مكونات تجربتك الصحافية. من أين جاء هذا الولع باللغة؟.
– أولاً أنا أحب اللغة العربية كثيراً، لأسباب تتعلق بجدتي كما ذكرت في سيرتي الفكرية، وثانياً لأنني أعتقد أن على الكاتب أن يعنى باللغة. أي أن الكتابة ليست فقط أن تقول فكرة إنما أيضاً بأية طريقة تقولها. في الأحزاب الشمولية ليس مطلوباً ذلك، إذ المهم قول الفكرة ولا يهم بعد ذلك كيف تقال، ذلك أن المهم هو المضمون.. مع كذا أو ضد كذا. وهو ما تكتشف مع مرور الزمن أنه (المضمون) قد مرّ عليك ألف مرة، ما يعني ذهاب الشكل والمضمون على السواء. لا، بنظري إن على الكتابة أن تعيد الاعتبار للغة، وليس كافياً أن يكون الرأي قويماً وصادقاً، فهذا الشيء يعطي واعظاً، لكن لا يعطي كاتباً بنظري. الكاتب يجب أن تكون لديه علاقة خاصة باللغة، وهو ما يجعلك تقول إن فلاناً تحب أو لا تحب أسلوبه. في الحياة المعتقدية ليس مطلوباً الأسلوب، المهم هو إعلان موقف، وعلى هذا تجد أن لغة الحزبيين تقترب من لغة البيانات. ينتفي الأسلوب في الأنظمة المعتقدية التي تلغي الفرد وخصوصيته.
الملحوظ أيضاً أن كثيراً من تقنياتك الكتابية ترجع إلى المكون الفلسفي أو الفكري بشكل عام. فلجوؤك أحياناً إلى القيام ببعض التفريقات المفاهيمية من قبيل ‘’الأشياء تُعرّف إيجاباً لا سلباً’’ أو ‘’لست مع الغرب لكن مع أن أكون مثله’’ كلها تقوم على تشغيل المكون الفكري وتظهيره عبر آلة اللغة. هل يمكن أن نعزو ذلك إلى مكون خاص؟.
– ربما الثقافة الغربية لها دور، ذلك أنها ثقافة تهتم بالتفاصيل كثيراً. ألفت هنا إلى واقعة لست متأكداً من صحتها. يقال إن جمال الدين الأفغاني التقى في باريس بفيكتور هيغو. فكان أن سأله هذا السؤال: ‘’ما هو أعظم شيء في العالم’’. وفيما يروى أن هيغو استغرب للسؤال بداية، لكنه عاد ليستأنف قائلاً: ‘’الوردة’’. وحصل أن انتقل الاستغراب إلى الأفغاني نفسه، وكتب يقول إنه توقع من هيغو أن يجيب بأشياء من قبيل المروءة والشجاعة والكرم إلخ إلخ. بنظري إن هاتين طريقتان في التفكير، طريقة تخرج من أرض الواقع، أعني من التفاصيل، وأخرى تهبط من سماء الأفكار الكبيرة.
قبل كل شيء فمشكلتنا ثقافية
نلحظ أيضاً أن كتاباتك مشفرة جميعها بجهود مفكرين كبار لهم لمساتهم الواضحة على حقل الفلسفة خصوصاً. أسماء مثل ميشيل فوكو، جنونه، ألتوسير، وبنيويته، سيغموند فرويد، ومركزية الطفولة.. وغيرهم كثر ممن تتضافر توظيفاتهم بين كتاباتك. وفي مقارباتك لمشهد الاجتماع اللبناني نلحظ تركيزك على المدخل الثقافي وضرورة جعله مقاربة ضمن المقاربات المطروحة. ما أهمية ذلك؟.
– ثمة مسألتان هنا، أولاً إن افتراضي الأساس يقوم على أن المشكلة الأساسية عندنا في لبنان مشكلة ثقافية. فمثلاً تصالحنا مع فكرة الحداثة من خلال الدولة راجع إلى تصور ثقافي قبل كل شيء. وثانياً، يتعلق بمزاجي الشخصي فأنا أحب الثقافة أكثر من السياسة. ربما شغلت السياسة الحيز الأكبر من كتاباتي، ولكن تظل الكتابة الثقافية أحب الأشياء إلى نفسي. وشخصياً أفضل أن أحضر فيلما في السينما أو أشاهد مسرحية على أن أتابع أمراً سياسياً. برأيي إن الثقافة هي التي تؤنسن السياسة. السياسة بلا ثقافة شيء قاسٍ وكالح ويمكن أن تقتل إنساناً من دون رفة جفن، فيما تعلمك الثقافة الانتباه إلى الألم. تستطيع لدى قراءتك رواية ما أن تحب بطلين مختلفين في الوقت نفسه، أو تخرج من فيلم محتاراً وتجد العذر لنفسك. في حين يتعذر ذلك في السياسة. بهذا المعنى أقول إن الثقافة تؤنسن السياسة. 
إلى أي حد تجد الصحافة اللبنانية، والعربية عموماً، قادرة على أن تشتغل بالتفاصيل، تبتعد عن لغة المجموع وتقترب من لغة فردية؟.
– الصحافة مرآة الحالة الثقافية العامة، والمشكلة بنظري مطروحة على الحياة الثقافية العامة قبل أن تكون مطروحة على الصحافة. في لبنان يتحدثون عن المشكلة الإثنية، على رغم أهمية هذه المشكلة، إلا أن الكتابة المستمرة عنها تعطي انطباعاً أن لبنان محور الكون. لا، لبنان ليس محور الكون. بنظري، مطلوب استدخال عناصر عالمية جديدة في النظر إلى الأمور. لا يمكن أن تناقش تجربتك مع غض النظر عن تجارب الآخرين. خذ مثالاً على ذلك، في ظل كل الضجيج السياسي القائم بشأن عداء أميركا للإسلام لم يستوقف أحد أن أميركا نفسها هي من أوجدت دولة مسلمة في أوروبا، وهي كوسوفو. لم يتوقف أحد عند ذلك، لأن أحداً لا يريد أن يقف. ثمة ميل جماعي نحو عدم إدخال عناصر جديدة على وعينا.
كان العراق فضيحتنا جميعاً
هل تجد أن للفرق الكامن بين الإسلام العربي والإسلام غير العربي تأثيراً على ما تسميه الميل إلى عدم إدخال عناصر جديدة. في أفغانستان مثلاً، لم نشهد على رغم التدخل الأميركي، تفجيراً للهويات القديمة بالمستوى الذي شهدناه في العراق؟.
– ثمة عيوب لاحصر لها رافقت الحرب على العراق. لكن حتى هنا، ثمة وعي سحري جاهز يفترض أن الطائفية لم تكن موجودة في العراق، وأن الأميركي هو الذي أوجد هذه الطائفية. لا، هذا وهم، لا يوجد شيء يحصل بين ليلة وضحاها. لقد كانت هناك طائفية، وكان صدام حسين كابتاً عليها بقوة تاركاً إياها تعتمل في الخفاء، أي تحت الأرض. حين أزال الأميركان صدام، خرج إلى السطح وجه العراق الحقيقية. وبهذا المعنى، فقد كان العراق فضيحة لنا كلنا.
في سياق الحديث عن التفاصيل الصغيرة، كانت لك مساهمة على مستوى خطاب الفردانية من خلال كتاب ‘’مأزق الفرد في الشرق الأوسط’’. لم نجد هذا التفصيل، أي الفرد ومشتقاته، بعيداً عن خطاب زملائك الليبراليين في حين تستحوذ قضايا أخرى، سياسوية في الغالب أو سوسيوثقافية، على جل اشتغالاتهم؟.
– بنظري مسألة الفردية أو الفردانية (تمييزاً لها عن الأنانية) هي مسألة أساسية في عملية التقدم. فحين تعامل نفسك كفرد فإنك تتعامل معها كمواطن. فحين تقترع مثلاً، فإنك تقترع لمن يلائم مصالحك وقناعاتك، ليس لأن العشيرة تريد هذا الشخص أو جماعتك أو أو. وفي مسألة الفردانية، فأنا أعرف أشخاصاً أفترض أنهم حداثيون وتقدميون لكن في الوقت نفسه أسمع منهم بين فترة وأخرى أحاديث عن رغبتهم في تزويج بناتهم لفلان من الناس. أو أنهم يريدون لأولادهم وبناتهم بعد استكمال دراستهم الرحيل عن أوروبا خوفاً عليهم. ولست أدري حقيقة ما علاقتهم بذلك! هم أفراد وأولادهم كما بناتهم أفراد. يتصل بذلك، الموقف من العلاقة بالحياة. برأيي إن الإفراط في الإقبال على الشهادة له علاقة بعدم نظرتنا لذواتنا كذوات، ذوات بمعنى جمع ذات. فالذي يدرك أنه فرد لايقتل نفسه بهذه البساطة، لكن الذي يفكر أنه جزء من كل، أمة، دين، طائفة وشعب، فإنه يقتل نفسه ببساطة. إن حب الحياة مربوط بالفرد.
تزوجت مي غصوب بـ’’المدني’’
كيف تمثلت خبرتك الفردية في علاقتك بشريكة حياتك.. مي غصوب؟
– كان بيننا حب كبير جداً، وكانت هناك استقلالية كبيرة فيما يتعلق بالرأي وباتخاذ القرارات. لم يكن أحد منا يلزم الآخر بأشياء لا يريدها. بعض الأصدقاء كنت أحب السهر معهم، وكانت هي لا تحب. بالمثل، كان لديها أصدقاء وصديقات كثر ليسوا من جملة أصدقائي. كان ثمة تعاقد بين الاثنين على الاستقلالية والحرية يجعل منا متساويين.
؟ كيف كان زواجكما، وفق أية صيغة من العقود؟.
– من خلال عقد مدني.
؟ هل كان الزواج حصيلة التقاء أيديولوجي معين؟.
– لا أبداً، كنا نختلف على أشياء ونختلف على أخرى. كان الجامع الأكبر بيننا، اهتمامات ثقافية وفكرية. في السياسة كنا نتفق أحياناً، ونختلف أحياناً أخرى.
؟ بعد موت مي، إلى من آلت دار الساقي أو كيف صار وضعها؟.
– لا أعرف، لم تكن لي علاقة بالدار إلا من خلال مي آنذاك. لكن أتصور أنها بخير.
لكن لماذا لم تكتب شيئاً عن مي. قطعة صغيرة في ‘’الحياة’’ فقط؟.
– برأيي لا يزال الحدث طازجاً. لكي تكتب عن شيء فأنت بحاجة لمسافة زمنية. ساعتذاك تستطيع أن تنظر إلى المسائل بـ’’رواقة’’ أكثر.
إلى أي درجة تؤمن بما يقال عن أن المال الخليجي قد أفسد الصحافة اللبنانية، والميديا بشكل عام؟.
– كل مال يفسد الإعلام، لكن كل إعلام لا ينشأ بدون مال. هذه لعبة جدلية لا يوجد مهرب منها. برأيي إن المسؤول عنها ليس الشخص الذي يدعم ويقدم المال إنما عدم وجود طبقة وسطى شجاعة في العالم العربي. لماذا لا تبادر الطبقات الوسطى إلى إصدار صحف مستقلة!؟ أين الطبقات الوسطى العربية!؟ لماذا هي مستقيلة تماماً من مهماتها!؟ لماذا هي جبانة وغير قادرة على مصارحة الجماهير بعدد من المسائل!؟ لماذا الطبقات الوسطى لا تتحدث عن الإصلاح الديني أو يكون لديها هم على مستوى تعميم الوعي بالحداثة!؟ أسئلة كثيرة…
قبل أن نختم، كيف تصف تجربتك مع جريدة ‘’الحياة’’؟.
– مقنعة ومريحة، وهو أمر واضح من خلال ما أكتب. ليس ثمة الكثير من المشاكل. أكتب المقال وأشرف على ملحق ‘’تيارات’’.
وكيف تصف الصحافة اللبنانية اليوم؟.
– مازلت جديداً على لبنان. إذ لم تمر غير شهور ثلاثة منذ أن عدت للاستقرار في بيروت.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=109385

حوار مع حازم صاغية2

الدولة هي الأمة ولا مبرر لوجود «وطن عربي» أو «أمة عربية» 3-2

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:

في مطلع الثمانينات كان حازم صاغية واحداً من بين جمهرة شبان يافعين ممن أطلقوا قبضاتهم في الهواء هاتفين بحياة ثورة إيران الخمينية وحياة قائدها الروحي روح الله الخميني. لكن زخم الهتاف لم يدم طويلاً، إذ لم تكد تنقضي أشهر قليلة حتى كانت القبضات تتراخى تحت وطأة انكسار أفق التوقع وسرعان ما أتى الطلاق. الأمر نفسه كان من نصيب تطواف له سابق على ذلك – وهتافات وقبضات حماسية لقائد شعبي يروح وقائد يجيء! – حَرَثه ما بين الورشتين البعثية فاليسارية. الآن، فإن قبضات حازم لم تعد تهتف بشيء. قال ”انتهت الخرافة.. الشعوب ليست عظيمة، إنها أسوأ من الأنظمة بكثير”. حديثاً جداً عاد ليستقرّ في عاصمة بلده (بيروت) بعد إقامة طويلة دامت نحو العقدين في مدينة الضباب (لندن). يبدو متخففاً كثيراً من ”روشتات” الوعد والخلاص، ”الروشتة” الوحيدة المتبقية لديه والتي تمثل اليوم أقصى مطمح عنده ”تقريب الناس إلى بعضهم، يصبح الشيعي أقلّ شيعية والسني أقلّ سنية، ومثل ذلك المسيحي” لا أكثر أو أقل. ”الوقت” التقت بحازم صاغية على هامش زيارته إلى البحرين أواخر الأسبوع الماضي بدعوة من جمعية المنتدى، وفيما يلي الحلقة الثانية من الحوار معه:

أشرت في سيرتك الفكرية إلى موقف طريف حصل مع أستاذة علم الاجتماع حين ردت ورقة لك وراحت سائلة إياك: ”ماذا تفعلون لو لم تستطيعوا إقناع الفئات المستفيدة من الوضع القائم؟” وكان أن أجبت: ”نصفّيها” [1]. بدا هذا الموقف أن لديك موقفاً أسطورياً من الشعوب آنذاك إضافة إلى أيديولوجيا مستعدة لأن تصفي كل من لا يقف معها. ألا ترى أنك الآن تقوم باسترجاع الدرس نفسه في طريقة دفاعك عن القناعات المستجدة؟

– النقلة الأساسية التي حصلت على الصعيد الشخصي هي مبارحة الوعي الإيديولوجي. فهذا الأخير ينطلق من فكرة ويريد تطويع الواقع وفقها. كانت الفكرة عهد ذاك تقول إن الأنظمة رجعية وعميلة فيما الشعوب على العكس، عظيمة ولها مصلحة في التغيير والتقدم. وكان الوعي تبعاً لهذه الفرضية يعد العنف مبرراً، فلا بأس – فيما لو افترضت الآن أنني أمثل حزباً أيديولوجياً يهتف باسم الأمة وباسم حاجتها إلى التقدم والحداثة – من قتل خمسة آلاف إنسان إذا كان ذلك سيكون في سبيل تقدم الملايين. حالياً أنا لا أقول بذلك، لا أنطلق من فكرة إنما من الواقع ومن معاينة دقيقة لمجتماعتنا. أرى أولا وقبل كل شيء ماذا تفرز هذه المجتمعات؟ هل تريد التقدم فعلاً!؟

في نظري لا، مجتمعاتنا لا تريد التقدم. خذ مثالاً على ذلك، فلدى انتهاء الحقبة الكولونيالية ترك الاستعمار عدداً من البرلمانات وعدداً من الإدارات الأولية والمدارس وسكك الحديد وخطوط المواصلات. فماذا فعلنا بهذه الأشياء؟. دمرناها جميعها. لا أقول إن الاستعمار جيد، أقول كان هناك قمع، صحيح ذلك لكن كانت هناك إنجازات. أقول أيضاً إنه لم يقم بهذه الإنجازات لسواد عيوننا، إنما كان يستهدف مصلحته في الأساس، فالمدارس لتخريج كوادر يدير بها مشاريعه، وخطوط المواصلات لتمرير سلعه إلينا، ولكن حتى في ذلك كانت هناك ثمة فائدة مشتركة. في المقابل، حين زال الاستعمار ما الذي حصلنا عليه؟. لا شيء إطلاقاً. والمشكلة لم تكن مشكلة أنظمة، فالمجتمعات هي التي قامت بانقلابات، أطاحت أنظمة واستبدلتها بأخرى، وكان أول ما فعلته هو تدمير البرلمانات والبنى التحتية الموجودة.

فإذا كانت مجتمعاتنا قد فشلت في المحافظة على الإنجازات التي بحوزتها، هل تريد مني اجتراح المعجزة وأذهب هاتفاً في سبيل الانتقال إلى الفجر الاشتراكي أو الإسلامي أو أو؟ إن ذلك أقصر طريق إلى الفوضى العارمة. وهنا أقول بناء على كل ذلك، إنني ربما كنت أبعد من ليبرالي، محافظاً ربما. محافظ كوني أريد التقدم ببطء شديد، بالشعرة لو أمكن أو بالملليمتر. وكلما حققتُ ملليمتر تقدم لابد أن يكون قد سبق ذلك استعداد اجتماعي. وإلا نصبنا أنفسنا نخبة أو طليعة كما لو كنا نعرف مصلحة الناس غصباً عنهم. في المقابل أقول أيضاً، إن الأنظمة الموجودة ليست عظيمة، لكنها تاركة إلى حدٍّ ما هامشاً معقولاً من الحريات، مع وضع ألف خط تحفظ هنا. ومن أجل أن يزيد هذا الهامش أو يتحسن لابد أن يحصل شيء في المجتمع ينم عن أنه يريد أكثر، يريد أكثر تقدم وليس أكثر فوضى.

ننام ونصحو على فرق ديمغرافي بالملايين

قلت – في الحلقة السابقة – إن ”المجتمع السياسي” لم ينوجد في الاجتماع العربي طوال تاريخ ممارستهم السياسية. السؤال هو إلى أي حد يرتبط وجود هذا المجتمع بفكرة الدولة؟ ثم كيف يمكن الحديث عنه في ظل تعددية الطوائف بحقائقها المطلقة الشتى؟

– هناك ثورتان حصلتا على هذا المستوى ونحن مطالبون إزائهما بموقف ثقافي قبل أن يكون سياسياً أو ينعكس على الحقل السياسي. وهما أولاً فصل الدين عن الدولة، والانتباه إلى أهمية الدولة ثانياً. نحن طوال تاريخنا كنا نتحايل على الدولة. ننام ونحن أمة عربية لنصحو على أمة عربية إسلامية. كيف حصل ذلك؟. لم يسأل أحد عن ذلك رغم أن الفرق بين الصيغتين هو 800 مليون نسمة. نحن المجتمعات الوحيدة في العالم التي الدولة فيها شيء والأمة شيء آخر. نقول الوطن البحريني في الوقت ذاته الذي نقول الوطن العربي.

ماذا يعني الوطن العربي؟. بنظري هو شكل من أشكال التحايل على الدولة القائمة، وإلا فإن الدولة هي الأمة، هي الوطن. نقول أيضاً.. قطري. ماذا يعني قطري؟. هل هناك كلمة في أي من لغات العالم ترادف هذه الكلمة عندنا!. الدولة دولة، ليس ثمة دولة قطرية وأخرى غير قطرية، نقطة على السطر. كل هذه الصيغ عبارة عن نماذج احتيال حتى لا يتم الإقرار بواقعة الدولة التي هي قاطرة الحداثة الأولى والأخيرة. تعال تحدث عن حقوق الإنسان والتقدم وحريات المرأة واصمت عن الدولة، أقول لك إن هذا الطريق لا يمكن أن يفضي إلى شيء. في المقابل، ابدأ بالدولة، بنهائيتها ومرجعيتها أقول لك.. إن هذا هو الطريق الذي يوصل إلى حقوق الإنسان والتقدم وحريات المرأة.

المشكلة أننا شعوب مفصومة الوعي، فالواحد منا لا يعرف ما إذا كان لبنانياً أو عربياً أو مسلما أو مسيحياً أو ابن قبيلة أو أو أو. هذه الأشياء كلها جيدة، إن شئت، ولها الحيز الخاص بها. لكن في الحيز السياسي، أنت بحريني فقط، وإن كنت لبنانياً فلبناني أو إيطالياً فإيطالي، أي لست مسلماً ولا سنياً أو شيعياً أو عربياً. تستطيع في حال كنت مسلما مثلاً أو مسيحياً أن تذهب إلى المسجد أو الكنيسة، كما أنك حر في أن تعمل ما شئت من العلاقات اللاهوتية مع أي مسلم أو كاثوليكي آخر، أو أن تقول إنك تنتمي إلى فضاء ثقافي إسلامي أو مسيحي.

كما تستطيع أيضاً أن تحب عائلتك أو عشيرتك بأي حجم تريد، لكن كل هذه الأشياء لا علاقة لها بالسياسة. في السياسة أنت لست أيّاً من هذه الأشياء، فأنت بحريني فقط.. لبناني فقط.. إيطالي فقط. يجب الفرز بين هذه المستويات جميعاً. هذا الفرز لا يمكن أن يحدث ما لم يتم الإقرار بواقعة الدولة ونهائيتها.

ألا ترى أن فرز المستويات مطلب مثالي يقترب من مثالية المطالب الأيديولوجية السابقة؟

– هذا ممر إجباري للتقدم، أي لا يوجد مهرب. أول شيء عمله الفكر السياسي الأوروبي، هو أنه حسم الأمر مع واقعة الدولة وسلّم بنهائيتها. أنا لا أطالب بالفرز، إنما التخفيف من الضباب والفوضى. على الأقل نبدأ باستعمال المصطلحات استعمالاً سليماً. هل من المعقول أن آتي لعمل خطة اقتصادية من واقع دولة اسمها البحرين، وكذا عبارة .. ”وطن عربي”. أي أن ما أعمله بيدي اليمين أقوم بنسفه من طريق يدي اليسار، كما لو أنني أؤسس لنفسي ما أصنعه في الواقع!. حسناً، إذا كانت القصة تتعلق بوطن عربي، فلم إذن كل هذه الدول الموجودة. لم أخطط لها ولاقتصادياتها، تعليمها ومواصلاتها.

بلْع الدول مصنع العنصرية

هل يُفهم من مطابقتك بين الدولة والأمة شيئاً شبيهاً بأحاديث جورج بوش عن ”الأمة الأميركية”؟

– نعم حتماً. وهذا لايعني العنصرية بأية حال.. إطلاقاً. في نهاية الأمر، أنت لا تستطيع العيش من دون مكان محدد في حين على العكس، التغافل عن مسألة الدولة هو الذي يؤسس لنشوء النزعات العنصرية والشوفينية. فحين يأتي صدام ويبلع الكويت أو حين تبلع سوريا لبنان تحت شعارات من نوع ”الأمة العربية” أو ”الوطن العربي الواحد” أو ”إعادة الفرع إلى الأصل” فإن ذلك هو الذي يستولد العنصرية. هل تعلم أن المواطن المصري كان بمثابة ”المعبود” لدى الشعب اليمني، لعوامل عدة بينها مساهمة المدرسين المصريين على مستوى نشر التعليم في اليمن ما أدى إلى الاحتفاظ له بمودة عظيمة، إلى أن قام جمال عبدالناصر بالتدخل العسكري في اليمن (1967). بعد ذلك أخذت الأمور منحى عكسياً. وكما ترى فإن عدم الإقرار بواقع الدولة، هو مصنع كل عنصرية. إن دوام الخوف لدى الدول الصغيرة من احتمال بلعها مرة بعد مرة من قبل دولة جارة أكبر منها، لايؤسس لوضع صحي إطلاقاً، بل إلى التكاره والعنصرية المتبادلة، كونها لاتحقق إشباعاً وطنياً للدول الأصغر. إذا لم تحقق الدول هذه إشباعاً من هذا النوع تظل المشكلة قائمة.

هل الدولة – الأمة وفق المفهوم الذي تدافع عنه قائمة على أساس صهر مكونات المجتمع في أمة واحدة أم العكس، أمة واحدة ذات مكونات متعددة؟

– لا، إن عملية الصهر القسري انتهت منذ بسمارك (1825 – 1898). ما أدافع عنه يتناسب مع ما يسميه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (1929) المواطنة الدستورية. أن نقر أننا ننتمي إلى بلد واحد، نخضع لقانون واحد، نعامل معاملة واحدة كمواطنين، ونتساوى بطريقة ما في مسألتي التعليم والإنفاق [2]. أي من دون صهر أو محو للخصوصيات. ففي بريطانيا يمكنك أم تكون كاثوليكياً أو بروتستانتياً أو هندوسياً أو مسلماً، ولكن هناك الجامع المشترك، وهو الفضاء العام. ببساطة، فأنا لن أتدخل في حياتك ما دمت ببيتك، ومثل ذلك أنت لن تتدخل في حياتي ما دمت ببيتك، لك ولي أن نعمل في بيتينا ما نشاء، لكن الطريق الواقعة في الخارج هي طريق مشتركة بيننا. وبالتالي فلا بد من إرجاعها إلى مرجعية واحدة، هي مرجعية الدولة. أما إذا كنت سأعمل الطريق مسلمة كوني مسلماً، وجاري سيعملها مسيحية كونه مسيحياً، فلن يعود هناك طريق ساعتئذ. هذا الطريق ينتمي إلى الدولة، محل التآصر بين الجماعات، المحل العام، وبالتالي فلا يمكننا أن نصبغه بصبغة جماعة معينة.

لا أجد الخبز.. فكيف أسأل عن السلمون

هل المواطنة الدستورية شرط الديمقراطية التوافقية؟

– لا، المواطنة الدستورية تأتي قبل الديمقراطية التوافقية. هي شرط البقاء على قيد الحياة حالياً باعتبارنا أناساً حديثين. من دون وطنية دستورية لا توجد حياة.

لو عرّفنا الديمقراطية على أساس أنها ضمان حرية الجدل السياسي. ما الذي يجعل من الجدل السياسي اللبناني الجاري اليوم جدلاً لا يخدم فكرة الديمقراطية ولا فكرة الدولة رغم وجود حيز كبير لحرية النقاش إزاء المسائل المطروحة؟

– هناك مشكلة نواجهها باستمرار في مجتمعاتنا، وهي نقل تناقضات مجتمعات معينة إلى مجتمعات أخرى. فالجدل مثلاً كلمة موجودة لتوصيف علاقة أحزاب وأيديولوجيات بعضها ببعض. في لبنان ومثل ذلك في معظم الدول العربية لاتوجد أحزاب حديثة، هناك أديان وطوائف وإثنيات. الأمر الذي ينتفي معه وصف النقاشات التي تدور على المستوى السياسي ”جدلاً” ديمقراطياً. ألفت بالمناسبة هنا إلى أنني لست عاشقاً للديمقراطية في البلدان العربية. أنا، إن شئت، عاشق للبقاء على قيد الحياة. فقبل الديمقراطية هناك مهام سابقة لا مناص من إنجازها. وفي حال بلد مثل لبنان لا يوجد لدي أي مانع – لو أن المؤسسة العسكرية كانت موحدة – من أن تمسك بالبلد فتعطل الديمقراطية قليلاً، لكن شريطة أن تمنع الحرب الأهلية. للأسف فإن الجدل الدائر في لبنان ليس جدلاً صحياً أو ديمقراطياً بتاتاً، ما يحصل هو جدل حرب أهلية. وما إن يصبح الخيار خيار حرب أهلية، فمن يتكلم عن الديمقراطية ساعتذاك!. الأمر يشبه تماماً لو أنك لم تكن قادراً على تأمين كسرة خبز لإطفاء جوعك فتقوم رافعاً من سقف تطلبك أنك تريد سمك ”سلمون” أو ”قريدس” أو أو أو. نحن مجتمعات مهددة بالفناء لأننا لم نخرج بعد من مرحلة الطوائف والإثنيات إلى مرحلة الدولة. ”على رأسي…” كل النقاشات التي تدور بشأن الديمقراطية الدولة أولى هذه المهمات. وأخشى أن تكون المبالغة والإمعان في هذه النقاشات نوعاً من الالتفاف عليها.

الدول عاكسة للانقسامات لا منتجة

هل يمكن أن يُفهم من كلامك نوعاً من القبول بواقع الدولة العربية القائمة حالياً مادامت تحافظ على الحد الأدنى من السلم وتلغي أو تؤجل الحرب الأهلية. ماذا عن مساهمة هذه الدولة نفسها في إعادة إنتاج الانقسامات الموجودة في المجتمع؟

– ليست الدولة التي تعيد إنتاج الانقسامات في هذه المجتمعات. هناك أوليات ذاتية قائمة في العصبيات والهويات الطائفية ومهيئة بشكل مسبق لمثل هذا الانقسام. بوجود دولة من هذا النوع أو من دون دولة، فإن هذه الهويات تمثل خطراً داهماً على كل عملية التمدن. نعم، حين تتوافر دول تمنع الحرب الأهلية فأنا مع هذه الدول. ثم بعد ذلك نفكر في كيفية بلوغ درجة أعلى من الانسجام الوطني وكيفية توسيع هامش الحرية والديمقراطية إلخ إلخ. ولكن الموجود حالياً، أقصد على مستوى المجتمعات، أقلّ من الطموح بكثير.

لكن كيف يكون مبتغاي الحفاظ على هذه الدولة ما دامت تقوم على أساس تشطير المجتمع واللعب على انقساماته؟

– سبق وأن قلت.. ليست الدولة من يعيد إنتاج الانقسامات الموجودة. المجتمع بما فيه من طوائف وإثنيات لديه القابلية المسبقة لذلك. في لبنان أوحت الدولة مرة بإمكانية الذهاب في اتجاه ”الزواج المدني” فأتى الرفض من جهة الطوائف لا من جهة الدولة.

لنأخذ الدولة الخليجة مثالاً، فأنت تعرف أنها قائمة على البنى القرابية بحكم التشكل القبلي للأنظمة الحاكمة. وهي بنى تتشكل على روابط الدم ضاربة بذلك في البدائية أكثر من الطوائف التي هي على الأقل تتشكل بناء على المعتقد، كائناً ما كان الموقف من هذا المعتقد.

– حسناً، لكن هل الدولة الخليجية هي التي اخترعت البنى القرابية أو أنها عكستها فقط!. ثم هل التحلل من البنى القرابية أيسر في نطاق الدولة أو في نطاق المجتمع!. في نظري، إن التوصل إلى تسوية مع الدولة في مسائل التحديث والحداثة أيسر من التوصل إليها مع المجتمعات الهائجة. المجتمعات تقبل بفكرة التسوية ولكنها تريد الحد الأقصى منها، فالسني يريد أن يسنن العالم، ومثل ذلك الشيعي يريد أن يشيع العالم، وكلاهما لديه حقيقته المطلقة. والمجتمعات التي لاتقبل بالتسوية، بل تقبل بفكرة التسوية، تريد حداً أقصى. الدولة مهما كانت سيئة أو مترددة، لكن هي المكان الوحيد لعقد التسويات. قد لاتكون التسويات عادلة اليوم ولكن في مناخ سلمي ومطمئن يمكن تصحيحها بقليل من عمل سياسي وقليل من عمل ثقافي وقليل من عمل إعلامي. الدولة في نظري هي مشروع إن لم يكن إلغاء فتأجيل الحرب الأهلية. بقدر مايكون أداؤها جيداً على هذا الصعيد نقول.. ”إلغاء” وبقدر ما يكون سيئاً نقول.. ”تأجيل”. أما المجتمعات فهي أفران حرب أهلية. حين تقوم الدولة بعمل برنامج تعليمي تضع في اعتبارها وجهات نظر الجماعات. لكن تعال انظر إلى مدارس الطوائف، وقل لي ماذا تعلم؟. تعلم الرواية الدينية للطائفة نفسها. حسناً، كيف لنا العيش مواطنين في مجتمع واحد إذا كنت أقرأ في الكتاب الديني إن عمر بن الخطاب كان على حق والإمام علي على باطل، أو العكس إذا كان الكتاب كتاب طائفة أخرى، الإمام علي على حق وعمر بن الخطاب على باطل. في نظري، لابد من تأليف رواية فيها تسوية، أن الاثنين كانا على حق مثلاً، والاثنين غلطا، وإلا فإن الحال لاتمشي. الدولة هي التي يمكنها عمل هذه التلفيقة المطلوبة والضرورية، لكن الطوائف لاتعمل. فلكل جماعة روايتها، وهذه الرواية محكمة من الألف إلى الياء. الأمر الذي يتعذر معه عمل أية تسوية.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=108241

هوامش:

[1] يروي حازم صاغية في سيرته الفكرية ”هذه ليست سيرة” الصادرة عن دار الساقي 2007 عن موقف طريف حصل له مع أستاذة علم الاجتماع الكندية في سنوات الجامعة ”فقد ردت لي ورقة المسابقة ملأى بالدوائر الحمراء التي خطها قلمها حول تعابير استخدمتها. فحول ”خط التاريخ” وضعت دائرة وكتبت على هامشها: ”هل خط التاريخ في جيبك؟”، وحول ”بروليتاريا” وضعت دائرة أخرى وكتبت: ”كلمة عامة لم تعد صالحة”، وهكذا دواليك”. ثم يقول ”وإذا احتججت واندفعنا في مهاترة هادئة الشكل عاصفة المضمون، سألتني: ”ماذا تفعلون لو وقف ضدكم غالبية الشعب؟”، فقلت: ”نحاول إقناعها بأن نعزل الفئات المستفيدة من الوضع القائم”. وإذا أصرت وكررت سؤالها: ”وماذا لو لم تقتنع؟”، أجبت بشيء من الحسم يغالبه التلعثم: ”نصفيها”. هنا أدارت وجهها عني وتوقف السجال”.

[2] يذهب هابرماس إلى ضرورة تجاوز الصيغ الكلاسيكية لبناء الهوية الوطنية، وذلك من خلال الاعتراف بصيغة ولاء مستحدثة هي الأنسب للمجتمعات التعددية، ويسميها ”الوطنية الدستورية” وهي صيغة من صيغ ”ما بعد القومية” يتركز فيها ”الولاء الوطني” patriotic loyalty، على ”مبادئ الدستور” التي هي مرجعية الولاء بدلاً من المقولات الخلافية التقليدية من قبيل القومية والطائفة والتراث والثقافة والتاريخ المشترك وغيرها. وبحسب هابرماس فإن هذه الوطنية هي الأكثر توافقاً مع متطلبات مجتمع متعدد الثقافات، وهي أساس نافع ومفيد لبناء التوافق الوطني. (المصدر: من ورقة بعنوان ”معضلة الولاء في الدولة الحديثة” للدكتور نادر كاظم).

حوار مع حازم صاغية

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=107164

حازم صاغية لـ «الوقت»: انتهت الخرافة..الشعوب ليست عظيمة (1-3)
لم نعرف شيئاً اسمه المجتمع السياسي طوال تاريخنا.. إما عرباً أو موالي

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:

 
في
مطلع الثمانينات كان حازم صاغية واحداً من بين جمهرة شبان يافعين ممن أطلقوا قبضاتهم في الهواء هاتفين بحياة ثورة إيران الخمينية وحياة قائدها الروحي روح الله الخميني. لكن زخم الهتاف لم يدم طويلاً، إذ لم تكد تنقضي أشهر قليلة حتى كانت القبضات تتراخى تحت وطأة انكسار أفق التوقع وسرعان ما أتى الطلاق. الأمر نفسه كان من نصيب تطواف له سابق على ذلك – وهتافات وقبضات حماسية لقائد شعبي يروح وقائد يجيء! – حَرَثه ما بين الورشتين البعثية فاليسارية. الآن، فإن قبضات حازم لم تعد تهتف بشيء. قال ”انتهت الخرافة.. الشعوب ليست عظيمة، إنها أسوأ من الأنظمة بكثير”. حديثاً جداً عاد ليستقرّ في عاصمة بلده (بيروت) بعد إقامة طويلة دامت نحو العقدين في مدينة الضباب (لندن). يبدو متخففاً كثيراً من ”روشتات” الوعد والخلاص، ”الروشتة” الوحيدة المتبقية لديه والتي تمثل اليوم أقصى مطمح عنده ”تقريب الناس إلى بعضهم، يصبح الشيعي أقلّ شيعية والسني أقلّ سنية، ومثل ذلك المسيحي” لا أكثر أو أقل. ”الوقت” التقت بحازم صاغية على هامش زيارته إلى البحرين أواخر الأسبوع الماضي بدعوة من جمعية المنتدى، وفيما يلي مقتطفات من الحوار معه:
* هاجمت ومثقفون عرب آخرون الليبراليين العرب الجدد واعتبرتم في بيان صدر في العام 2005 أنهم يقومون بتبسيط العناوين الأهم في حياتنا. فكان البيان بهذا المعنى ”صرخة ضد التبسيط” وفق ما عملتم على تقديم أنفسكم وقتئذ مستحضرين في الرد بياناً آخر كان قد سبقكم لهذه الجماعة في العام .2004 كيف تجد الآن في 2008 مآلات الليبراليين الجدد بعد ثلاثة أعوام من إصداركم البيان؟
الفكرة الأساسية لم تكن رداً على بيان الليبراليين الجدد بقدر ما كانت رداً على حالة غدت تتكاثر في المنطقة العربية. في الحقيقية، كان البيان يستهدف مسائل عدة بينها خلق تمايز بين موقّعي البيان وبين من يسمون أنفسهم ليبراليين جدداً. أردنا القول إننا لسنا مثل هؤلاء. لم نؤسس الليبرالية بعد، لذلك ليس بذي معنى أن تصبح ليبرالياً جديداً. تتميز الليبرالية عن باقي التيارات المعتقدية الأخرى في كونها قليلة الإيديولوجية. فأنت لاتنطلق من أنني مع أو ضد (مع أميركا أو ضد أميركا) إنما من ماذا يناسب مجتمعي. قد تلتقي مع الأميركان صحيح، لكن قد لا تلتقي أيضاً، المسألة تتعلق بالمصالح. يترتب على ذلك افتراق أساسي مع الليبراليين الجدد. فنحن مع أن نصبح مثل الغرب لكننا لسنا مع الغرب. بمعنى آخر، فأنا أريد حريات الغرب، تقدمه وديمقراطيته، وضع المرأة، الوعي الفردي وشعور الفرد بذاته، حب الحياة، الدفاع عنها وعن المتعة. فإذا ما ترادف ذلك مع سياسات غربية توافق مصلحتي، بحرينياً كنت أو لبنانياً أو مصرياً أو أو أو، جيداً ذلك. وإذا لم يترادف، سأعارض هذه السياسات لكنني لن أحمل على عاتقي مهمة مقاتلة الغرب. بنظري، لا أحد يعرّف نفسه بطريقة سلبية، فالوطنية لاتتأتى من كونك تكره أميركا إنما من كونك تحب البحرين. أنا لست ضد الغرب سلفاً وفي المطلق، لكنني أيضاً لست معه سلفاً وفي المطلق، الغرب السياسي تحديداً، أنا مع مصلحتي. إذا اتفقنا اليوم أن حب الأميركان مفيد لي، على رأسي، وإذا اتفقنا على العكس غداً سأكره أميركا. هذه سياسات دول وليست أدياناً لكي نتعامل معها من منطلق أن أميركا هي ”الشيطان الرجيم” أو ”الرب العظيم”.
* لكن لأي درجة يمكن للمصلحة أن تكون مرجعية المثقف التي هي مرجعية السياسي حصراً. في الوقت الذي يُعتقد أن بيانكم هو بيان ثقافي في الأساس؟
صحيح ذلك لكنه ليس بياناً ثقافياً بالمعنى الذي يمكن أن تنطبق فيه كلمة ثقافي على الفن التشكيلي مثلاً أو المسرح أو أو. لنقل إنه بيان فكري سياسي انطلاقاً من أنه أراد أن يسجل موقفاً فكرياً حيال المسائل السياسية المطروحة آنئذ. لكن حتى هنا أقول إن المصلحة يمكن أن تكون جامعة بين أناس كثيرين. فنحن لن نختلف – سياسيين أو مثقفين – على كوننا نتطلع إلى تحسين وضع الإنسان في بلداننا، لكن ما عدا ذلك فهو قابل للتجريب، الأخذ والعطاء.
لستُ ليبرالياً جديداً

* هل أفرز بيان ”صرخة ضد التبسيط” فريقاً آخر ضمن الورشة الليبرالية، أو على الأقل ما أردتم من خلاله نعني الممايزة بين الليبراليين العرب التقليديين ومن يسمون أنفسهم ليبراليين جدداً؟
– لا، لم يفرز بسبب أنه لم يكن هناك اتجاه لاستكمال الفكرة في شكل مشروع أو إقامة أطر وتنظيمات تحقق هذا التمايز. ولكن أيضاً بمعنى ليبرالي، كان البيان محاولة في القول إن هناك أصواتاً فردية ليبرالية لاتريد أن تحسب بضمن هذا الاتجاه. هو نوع من الاحتجاج لأفراد اتفقوا – رغم وجود عشرات الأشياء التي لايتفقون عليها – على أنهم ليسوا هكذا. لم نقل شيئاً، لم نقل نحن ماذا، لأن هذه مسألة أخرى، قلنا.. إننا لسنا ليبراليين جدداً.
* لكن كيف تقرأ الآن مآلات هذه الجماعة التي أعلنت ورفاقك أنكم لستم منها على اعتبار أن الموقف الليبرالي الذي تنطلقون منه اتصال بقيم تنويرية وتحديثية في الأساس وليس بالشخص الجالس في البيت الأبيض؟
إن شئت فقد بدأ الافتراق الفعلي بيننا – أنا وعدد من موقعي هذا البيان – وبين من يسمون بالليبراليين الجدد من اللحظة التي شُنّت فيها الحرب على العراق (العام 2003). وقفنا ضد الحرب، ليس حباً في صدام طبعاً ولا إعجاباً بالنظام العراقي، ولكن لشعورنا أن العراق غير مهيأ لأن يحرر. وإلا فلو كان مهيئاً لما استدعى الأمر تدخلاً خارجياً. ما إن تضطر لعمل تدخل خارجي فمعنى ذلك أن المجتمع غير قادر على تغيير نفسه بنفسه. وهنا يوجد اختلاف أساسي ثانٍ في التفكير، أن من يسمون أنفسهم ”ليبراليين جدداً” ينظرون نظرة خارجية وبرانية للمسائل، مع أميركا أو ضدها، مع صدام أو ضده، مع التحرير أو ضده، وليس بنظرة فاحصة على المجتمعات من الداخل. لم ينتبه الليبراليون الجدد إطلاقاً إلى أن العراق يتكون من أكراد وعرب وسنة وشيعة وقبائل وعشائر، وبالتالي كيف بحسب هذه التشكيلة سيمكن مواجهة السؤال التالي: صون الوحدة الوطنية إذا ما انهار نظام الاستبداد!. برأيي إن الأميركي حرر العراق صحيح، ولكن أيضاً حرر تناقضاته. إن عملي الأساس يجب أن يكون في هذه المنطقة تحديداً، في هذه الجماعات المتشكلة سوسيولوجياً، وليس أن أكون مع أميركا أو ضدها. علينا أن نحذر من الوقوع مرة أخرى في أشكال مختلفة من الوعي القومي العربي أو الوعي الإسلامي القائم على الخير والشر، الصح والغلط. علينا أن نفكر في المجتمع، في الطوائف والأعراق بدلاً من الركض وراء الترسيمات الأيديولوجية هذه.
المجتمعات أكثر سوءاً من أنظمتها
لم يعد مقنعاً مجاراة الهتاف الشعبوي السائد.. نحن شعب عظيم ولاينقصنا سوى رحيل هذا الحاكم المستبد. أنا لا أصدق ذلك، وبنظري إن نقد النقد لايبدأ بنقد السلطات والأنظمة، كائنة ما كانت درجة سوئها، إنما بنقد المجتمعات. أنا أفترض اليوم أن تجربة إيران الإسلامية التي تحمست لها كثيراً في بدايتها تجربة سيئة، لكن بنظري إن المجتمع الإيراني أسوأ بكثير لأنه غير قادر على القطع مع هذه التجربة. لايمكن أن نأتي إلى السياسة في بلداننا انطلاقاً من الأنظمة إنما من المجتمعات. لو سألتني عن طموحي الآن حيال بلدان كثيرة، طبعاً منها لبنان والعراق والسودان، لقلت لك إن الأمر لايتعدى مسألة تقريب الناس إلى بعضهم، بحيث يصبح السني أقلّ سنية والشيعي أقل شيعية وهكذا الحال بالنسبة إلى المسيحي أن يصبح أقل مسيحية من أجل أن يتعايش الجميع بسلام في دولة واحدة. الشعارات الكبيرة لاتعمل شيئاً سوى تفجير التناقضات بين هذه الجماعات. إذا كنا نحن الآن، الثلاثة الجالسون على هذه الطاولة بيننا كل هذه الخلافات، فهل أزيد عليها قضايا أخرى تفجرها!. الشيء بالشيء يذكر، لدينا في لبنان 17 طائفة، فهل نأتي لهم زيادة على كل هذه التركيبة المعقدة نأتي بـ… مقاومة!. لا، هذا غير صحيح مثلما غير صحيح أيضاً لو أن طائفة معينة أرادت بين ليلة وضحاها عمل صلح مع إسرائيل غصباً عن أنف بقية الطوائف. هذه المجتمعات المركبة إنما تعيش بتقليل الأيديولوجيا لا بزيادتها. بتقليل الصح، كل واحد يستطيع أن ينام على الصح الخاص به في بيته، يهتف لأجله أمام امرأته وأولاده، لكن في الحياة العامة عليه أن يصل إلى تسويات مع الأطراف الأخرى في المجتمع. إلا إذا كان يريد تفجير مجتمعه ويضعه على حافة حرب أهلية. أعود إلى الفكرة الرئيسة، لايتعلق الأمر بكون أميركا سيئة أو غير سيئة، مع المقاومة أو ضدها، إنما يتعلق بقضية العيش المشترك بين عدد من الجماعات والطوائف. كيف ذلك؟. تلك هي القصة.
الدولة.. أزمة الحداثة الكبرى
* إذن أنت تتفق مع قسم من الليبراليين الجدد في مهمتهم الأساس التي تكاد تقتصر على مناهضة الأيديولوجيات الدينية وتحرير الاقتصاديات فيما يسكتون تماماً عن المسائل المتعلقة بتحديث الدول وضخّ المشروعية عليها.
– لا، أنا لم أقل لا توجد مشكلة مع الأنظمة. ولكن في حالة مجتمعات ممزقة تصبح المشكلة مع المجتمعات أكبر مما هي مشكلة مع الأنظمة. نعم لابد من الضغط على الأنظمة، ولكن من الذي يضغط!. إذا كان النظام مشكلاً من ظل طائفة إثنية معينة وأتى الضغط من طريق طائفة أخرى مقابلة، فإن الضغط ينقلب مباشرة إلى أزمة طائفية. فالذين من طائفة النظام، حتى إذا كانوا متضررين منه، سرعان ما يتحولون إلى الدفاع عنه معتبرين سقوطه خطراً عليهم. بالمناسبة هنا، أنا لست مع تحرير الاقتصاد مطلقاً. طبعاً لست مع التأميم لكنني أعتقد أن الدولة ماتزال مطالبة بأدوار اجتماعية كبيرة في مجتمعاتنا على مستوى التعليم ومكافحة الفقر. مرّة أخرى، هنا أيضاً الأمر لايتعلق بترسيمة أيديولوجية، أكون مع تحرير الاقتصاد أو… أكون ضده. فلو كانت هناك دولة حديثة تراقب ماذا يحدث بالضبط في القطاعات الاقتصادية المربحة، وتراقب كيف يرتد العائد الربحي من قطاع ما لمصلحة المجتمع ككل، جيد ذلك.. أنا مع تحرير الاقتصاد. لكن أن يأتي التحرير لصالح بعض ”النصّابين” فقط، لا أنا ضد ذلك طبعاً. هنا أيضاً، أكرر لابد أن ننظر إلى الأمر من دون يافطة أيديولجية عامة. لكن الأساس في كل هذا، هو بناء الرابطة الوطنية وإقامة الدولة. الدولة لاتعني أنها أداة قمع فقط، ففيها خدمات أيضاً وهي الذي تؤمن السلم الاجتماعي. برأيي أزمة الحداثة الكبرى في العالم العربي، هي أزمة الدولة. لم نتصالح بعد مع مسألة الدولة.
عظمة الشعب.. خرافة الخرافات
* ربما نهجس هنا بأسئلة مردها إلى واقع محلي أساساً. فتقاعس الليبراليين أو من يصنفون أنفسهم على هذا التيار عن تأمين خطاب لهم يحقق تمايزاً بينهم وبين الأرضية التي تقف عليها السلطة خلق موقفاً اجتماعياً مناهضاً ضدهم من قبيل أنهم يحابون السلطات القائمة ويسكتون عن التفكير في مشروعيتها.
نعم، لكن حين تكون المجتمعات بهذا المستوى من التردي السياسي والاجتماعي فإن الضغط والمطالبة بالإصلاح يخفّان تلقائياً على الأنظمة. الإصلاح مسألة تخرج من المجتمعات وتطالب بها الأنظمة. ولكن المجتمعات حالياً، الصوت الأعلى فيها ليس صوت المطالبة بالإصلاح. قد يرتفع صوت من هنا أو هناك من طريق بعض النخب الصغيرة، ولكن الصوت الأعلى في مجتمعاتنا هو صوت محطة ”الجزيرة”. في هذه الحالة، أنا أتمسك بالأنظمة وأصير خشبة خلاصها. ليس معنى ذلك أنني معجب بها، ولكن ماذا أفعل إذا كانت الأكثريات الشعبية العربية مؤيدة لصدام حسين أو أسامة بن لادن أو لقنبلة نووية في إيران؟ في هذه الحالة، أنا مع الأنظمة قياساً بهذه الخيارات. أنت تريد أن تختار أيضاً بناء على المعطى الموجود في الواقع. دعني أقول لك شيئاً، أنا آت من تجربة اسمها الحرب اللبنانية. حين اندلعت الحرب كنتُ يسارياً وكنتُ ممن يظنون حسب الخرافة الشعبوية أن الشعوب عظيمة والأنظمة تقمع عظمة الشعب. لكن حين انهار النظام وخرج المجتمع رأينا تحديداً ماذا عمل، الذبح على الهوية والقصف العشوائي وكلّ النذالات. من هذا المنطلق، أعتقد أن الأنظمة قيد على غرائزية المجتمعات، ذلك أن مجتمعاتنا لم تتعد بعد المرحلة الغريزية. نعم في بريطانيا أنا أقف مع المجتمع البريطاني ضد النظام، لأنني أعرف أن الشعب إذا رفع الغطاء عن نظام ما فإنه يأتي بنظام أحسن منه. لكن في مجتمعاتنا الأمور لا تسير هكذا. لنكن صريحين في مواجهة حقائق مجتمعاتنا، نحن لم نعرف شيئاً اسمه المجتمع السياسي، كنا طيلة تاريخنا إما عرباً أو موالي، شعوبيين أو غير شعوبيين، سنة أو شيعة، ولا مرة واحدة تم تقديمنا بوصفنا أفرادا مواطنين. سنغرق في الدم إلى الرقاب إذا أسقطنا أنظمة سيئة، وأفسحنا المجال لغرائزية المجتمع.نتأنت
* من هذا المنطلق ما تعليقك على من ينتقدك شخصياً ويقول إنك على صراحتك في نقد الظواهر السياسية المحدقة إلا أنك تغض الطرف تماماً عن الأيديولوجيا الخليجية، فيما تحظى الأيديولوجيا الإيرانية بقصف شبه يومي في كتاباتك. ألا يهجس ذلك بنوع من الازدواجية؟
بطبيعة الحال، أنا لست معجباً بالأيديولوجيا الخليجية ولا أتصور أن في ما أكتبه من قيم وأفكار فيه امتداح للإيديولوجيا الخليجية من قريب أو بعيد. كتبت كثيراً عن مساواة المرأة بالرجل وعن رفض حكم الإعدام والعنصرية والعبودية، إضافة إلى كتابات ضافية في نبذ التعصب، وهذه كلها على ما أعتقد قيم حديثة وتفترق في المطلق مع ما تسميه الأيديولوجيا الخليجية. إنما هناك فارق أساسي بين التركيبة الخليجية من جهة، التي هي عنصر استقرار إقليمي حالياً، وبين التركيبة الإيرانية التي هي عنصر تفجير إقليمي. هذا شيء أساسي، هناك مئة مأخذ لديّ على الأيديولوجية الخليجية، ولكنني أعدها أقلّ خطراً، أو على الأقل لاتمثل تهديداً داهماً. الخطر الداهم تمثله يقظة إيديولوجية إيرانية ثورية تهدد تركيبة الخريطة السكانية والاجتماعية والدول في المنطقة. بهذا المعنى، فالخطر هنا إنما لا أقول إن غير إيران عسل وسكر، ولكن أقول إن الخطر الأساسي حالياً هو هنا.

رئيس تحرير صحيفة «السفير» اللبنانية طلال سلمان يفتح ملفاته لـ«الوقت»:

رئيس تحرير صحيفة «السفير» اللبنانية طلال سلمان يفتح ملفاته لـ«الوقت»:
الصحافة اللبنانية في مراحلها البائسة.. ولا يمكن مقارنتها بالبحرينية.. هذا ظلم

الوقت – حسين مرهون – علي الديري:


لدى طلال سلمان ما يفتخر به. فحين أراد زعيم طائفة إثنية صغيرة، لكن مؤثرة في بلده لبنان إطلاق ”فرملة” بشأن تصريحات هجومية أطلقها فبراير/ شباط الماضي متوعداً فيها خصومه السياسيين بحرب أهلية، اختار تظهيرها من خلال جريدة ”السفير”. الجريدة نفسها التي تختصم معه في الخط السياسي ويتلقى يومياً على صفحاتها رشقاتِ النقد الكاسحة حيال كثير من المواقف. ليس هذا قدر الصحافة في لبنان أو سمة من سماتها اليومية، حتى وهي الوحيدة في محيطها العربي الممتد التي تمتلك تقاليد مهنية راسخة في هذا المجال وذات أسبقية. الأصح القول، إن ذلك قدر ”السفير” التي يستحوذ سلمان على امتياز نشرها منذ العام 1973: أن ترفع شعاراً سياسياً فاقعاً. أن تسوسه بخليط ذهبي يقوم على الاحترافية والدهاء و”المسؤولية الاجتماعية”. وأن تحوز بفعل ذلك وتلك هي النتيجة المحصّلة – على ثقة الأصدقاء والخصوم معاً.
ويعترف سلمان أن الاقتراب من بعض الشخصيات السياسية ”ذات الوزن” قد تطلب من جريدته في بعض الأحيان صوْغ مواقف جدلية أكثر من التسليم بوجاهة الثنائية الرائجة: مع أو ضد. وهذا الموقف لا يشمل طبعاً، قضايا اعتاد على التعبير عنها من موقع الانحياز التام: قناعته القومية أو نبذ الاستعمار أو قضايا التحرر و.. فلسطين.
”الوقت” التقت طلال سلمان فيما كان يزور البحرين لتقديم محاضرة عن الإعلام العربي أواخر الأسبوع الماضي، في بيت الزايد للتراث الصحفي، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث، وأجرت معه حواراً. فيما يلي:
قلت ذات مرة ”لا مفرد في حياتي، ولا مرة كنت وحدي”. دعنا نعيد صوغ هذه العبارة في ضوء عبارة أخرى لأدونيس ونقول إنك كنت ”مفرداً بصيغة الجمع”. والجمع نعرفه تماماً من خلال القضايا الكبرى التي عبرت عنها في كتاباتك. لكننا لا نعرف المفرد الذي هو أنت كيف تشكل وعبر على تخوم كل تلك القضايا. ماذا يمكن أن تخبرنا عن ”عنك” المفردة؟
– أفترض أن الكاتب ”يفترض” هو الآخر في نفسه أنه يخاطب جمهوراً. وحتى لو كان ذلك ادعاءً، فإنه لا يتوجه في كتاباته لشخص أو لمجموعة أشخاص أو حتى لحزب، إنما لجمهرة الناس وعمومهم. هذا الافتراض يجعلك دائماً في إطار مسؤولية محددة مادمت تكتب رأيك للناس. كما يجعلك أيضاً في موقع المحاسبة من طرفهم. إنك لست مجرد ناقل للأخبار، إنما شخص في موقع مسؤول ولديه رأي، هذا الرأي ”تفترض” – بينك وبين نفسك – أنه قد يكون مفيداً للناس. وبالتالي فأنت تظل دائماً تحت إلحاح تقديم الرأي لهم. تخطئ أو تصيب، تلك مسألة أخرى. نعم أنا منحاز إلى قضايا كبرى، لفلسطين وضد إسرائيل ومع حق الأمة في الحرية ومقاتلة الاحتلال أينما وجد. لكن ضمن هذا الانحياز أنا أريد أن أظل موضوعياً مع قارئي. ”أفترض” أن عليّ التوجه إلى عقول الناس وليس إلى عواطفهم، على رغم من أهمية هذه الأخيرة. أتوجه لهم بمزيد من المعلومات التي تمكنني من استخلاص موقف لي ولهم. ويبقى أنني لا أغصب أحداً كيما يتبنى هذا الموقف. بمعنى آخر، إنني لا أحمل مكبر صوت أو أدعو إلى مظاهرة، فوظيفتي مخاطبة العقول. 
لنرتقي بالسؤال قليلاً إلى العلاقة بين الأيديولوجي والصحافي. قمت بإصدار ”السفير” في مرحلة كان الخطاب القومي في ذروته، أو الأصح في نهاية الذروة. بعد ذلك انحدر هذا الخطاب، وتفلش إلى ماصرنا نشاهده من عودة خطاب المكونات البدائية الأولى إلى الواجهة. بمعنى آخر، سقطت الحاضنة الأيديولوجية لجريدتك، في حين صمدت الجريدة نفسها. كيف واكبت الجريدة ذلك، صعود القومية وتفلشها تالياً؟
– لا أحد يحب المراثي، وهي لا تنفع أصلاً في الوضع الذي نحن فيه. ولكن عندي إيمان عميق بهذه الأمة، بهذا الإنسان العربي على رغم من كل التعاسة التي يحياها. يمكن لأنني وجيلي عايشنا حالة النهوض. في بداية عمري الصحافي عايشت الهبة العظيمة للأمة في المشرق والمغرب ضد العدوان الثلاثي على مصر (1956). عايشت قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا (1958 – 1961). وأنا ممن سعى إلى دمشق ورأيت الملايين تهتف في الشوارع تحية إلى جمال عبدالناصر. عايشت بناء السد العالي (1960) والجزائر تتحرر (1962) ومصر دولة عظيمة تأخذ موقع محور أساسي في السياسات الدولية. صحيح أنها كانت هبات شعبية ناقصة، لم يكتب لها النصر التام، ولكنها أكدت الإمكان. وحتى قبل عامين (2006) عايشت وغيري نصراً حدث أمام مرأى الجميع، هؤلاء الفتية الأغرار في لبنان الذين قاتلوا لمدة 33 يوماً أشرس آلة عسكرية من دون أن يهرب منهم أحد.
من حسن الحظ أن إسرائيل تنشر بعض الوقائع. فإذن ليس صحيحاً أنه لم يتبقّ ثمة أمل أو أننا وصلنا إلى نهاية الحلم. نعيش ظروفاً صعبة أو أن الصورة قاتمة، صحيح ذلك، ولكن نقاط الضوء القليلة تدل على أن الأمور لم تنته. أنا مع الوحدة العربية حتى لو وجدت كل الخيبات التي ذكرت، لأنني أعتقد أنها عقيدة وليست موقفاً سياسياً تكتيكياً كي أغيره. لكن علي أن أتعب أكثر من أجل إعادة صياغة منطقي وتعزيزه بأدلة جديدة لها علاقة بحياة الناس.
من جهة أخرى، أشير هنا إلى حقيقة تاريخية وهي أن جمال عبدالناصر كان من أهم مؤسسي الصحافة في لبنان. لقد دعم صدور نحو 7 بين صحيفة ومجلة لبنانية في الفترة الواقعة بين أواخر الخمسينات والستينات: ”الحرية”، ”الصياد”، ”الأسبوع العربي” إلخ إلخ.
«الحريري» صعب!
 هل توافق زميلك وليد نويهض توصيفه للمراحل التي مرّت بها ”السفير” لجهة خطابها الصادر، بين ”شقف” قومية عروبية استمرت لغاية خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان (1982)، ثم بعد ذلك ”شقفة” من خطاب المقاومة و”شقفة” من الحريرية وإعادة الإعمار استمرت إلى وفاة رفيق الحريري (2005)، لتنتهي أخيراً ابتعاداً كلياً عن مشروع الدولة لصالح مسار المقاومة ومعارضة حزب الله وعون؟
– في المجمل، أنا لا أعتقد أننا انحرفنا عن خطنا العام. فأنا أيضاً، لدي طموح في رؤية بلدي يعمر بعد سلسلة من الحروب الأهلية. أشير هنا بالمناسبة، إلى أننا اشتبكنا مع الشهيد رفيق الحريري قبل وفاته بوقت كثير حين قام بتقديمنا إلى المحاكمة في العام .1993 وهي حادثة معروفة لدى اللبنانيين، فيومها انطلقت أكبر تظاهرة في تاريخ القضاء تضامناً مع ”السفير”. طبعاً ربحنا الحكم وربحنا السياسة، وتالياً صالحنا الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. أستغلّ هذه الحادثة لأقول، كانت هناك صعوبة في تحديد موقف من الشهيد الحريري. إذا اقتربت قيل إنك ”قبضت” وإذا ابتعدت قيل ”إنك تريد أن تقبض”! في الحقيقة، الحريري شخصية كبيرة على مستوى لبنان، وصعب جداً أن تعطيه ولاءك كله أو تمحض عنه ثقتك. لذلك كان هناك أكثر من موقف منه. كنا معه وقت كان في المعارضة ونقديين بإزائه وقت كان في السلطة. وحين مات، طبعاً لم نقبل بالطريقة التي مات فيها. لم يكن سهلاً أن تأخذ منه موقفاً حدياً، معارضاً أو مواليا، لذلك اتخذنا موقفاً جدلياً.
عتب خفيف على«جوزيف»
 كيف تلقيتم في ”السفير” صدور ”الأخبار” من نخبة خرجت من عندكم على رأسها المرحوم جوزيف سماحة. هل تأثرتم أو هل صحيح ما كتبه إبراهيم الأمين من أن ”شخصية كبيرة” طلبت من سماحة ”وقف سحب الكوادر من السفير”؟
– لديّ اعتزاز كبير بتجربة السفير. وأشهد هنا أنني لم أصنعها وحدي. فقد شارك معي في تأسيسها عشرات وربما مئات من الزملاء من مصر وسوريا وفلسطين، ومنهم طبعاً زملاء لبنانيون. وقد نجحنا وصارت إلى حد ما في نظر كثير من الزملاء مدرسة لها نهجها وأسلوبها. ”الأخبار” لم تكن نكسة، وقد استقبلنا صدورها بترحاب. يمكن كان عندي عتب بدافع من الصداقة والزمالة على جوزيف سماحة – رحمه الله – تحديداً كونه لم يخبرني بنية الانتقال، وأنا ألمحت لذلك في أحد مقالاتي.
إبراهيم الأمين قال إنه ذاهب لتأسيس جريدة. هو ليس أول صحافي يخرج من ”السفير” ويذهب لكي يؤسس جريدة. أنا نفسي كنت محرراً في جرائد أخرى وخرجت وأسست جريدة. فإذن، لم يكن لي الحق في الاعتراض من حيث المبدأ.
الآن، إذا كانت ”الأخبار” أكفأ مني وهي تصدر عن الخط نفسه، فإن معنى ذلك أن الإخوة يعطون جريدتهم أكثر والتقصير مني ما من شك. في المقابل، إذا استمرت ”السفير” بمكانتها نفسها، فهذا امتياز يضاف إلى رصيدها كونها لم تتأثر بمنافس جديد. بالعكس إن ذلك يعزز من خط ”السفير” أكثر ويدفع إلى مزيد من التكامل. في وقت سابق قال أمل دنقل ”صوتان صوتك، سيفان سيفك” وأقول أنا.. تنجح ”الأخبار” ولا تنجح جريدة أخرى معادية في الخط السياسي. ليست لديّ أية ضغينة حيال إبراهيم أو جوزيف، فنحن عائلة واحدة، وبيني وجوزيف 22 سنة عمل وعشرة عمر. إبراهيم عمل 15 سنة في ”السفير”. هل أمسح كل ذلك لمجرد أنهم ذهبوا لصحيفة أخرى! في ”السفير” هنالك جو أسري، كلنا نعرف كلنا. نحن لسنا صحيفة رساميل كبيرة. الكل يعرفني ويعرف أولادي وكيف نعيش ووو. أعني أنه ليس لدينا مكان للضغينة والأحقاد.
وظيفة المال الخليجي
؟تنطلق أحاديث كثيرة بشأن علاقة الصحافة بالمال، وكيف يتدخل الأخير بسطوته في إدارة الحقائق التي تعبر عنها الصحف ونظرتها إلى الواقع. ماذا يمكن أن تخبرنا عن دخول المال الخليجي إلى الصحافة اللبنانية؟
– على مستوى الصحافة ما يزال محدوداً، لكن في الفضائيات نعم. المال مفسدة من أين أتى، خصوصا أنه مال سياسي له وظيفة سياسية. ظل لبنان مفتوحاً بشكل مستمر على المال الخليجي، لكن الذي يأتي منه للصحافة بسيط جداً. أقول بسيط لكنه مفيد! لكن اليوم اختلف الأمر. ثمة كرم مبالغ فيه، وهو كرم مرتبط بتوجهات سياسية ومنابر إعلامية معينة. بالنسبة لي، فأنا ضد التوجه السياسي لهذه الدول قبل أن أكون ضد المال نفسه. لست ضد صحيفة معينة يزيد دعمها أو ينقص، أنا في الأصل ضد التوجه السياسي لصاحب هذا المال، حتى وهو في بلده، فكيف الحال إذا صار في بلدي ويؤثر علي!
إن ذلك يشكل بؤس الصحافة اللبنانية في الوقت الحالي. الصحافة عندنا فقيرة نسبياً، وفي بلد فقير نسبياً تصبح أضعف في مواجهة هذا المال. في السابق كان الأمير أو الشيخ يدفع لأنه يريد تسويق صورته أو تطريزها، لكنه يدفع الآن لأغراض سياسية. هذه الأغراض معادية لأهداف الأمة العربية والوحدة والحرية والتحرر. وبالتالي أنا ضد هذا المال، ضد وظيفته السياسية لا ضده في ذاته. 
كيف يمكن أن تصف الصحافة في لبنان الآن؟
– في مراحلها البائسة. لقد دخلنا في المستنقع. صرنا معزولين في حين أنتم مازلتم تحافظون على بعض الروابط الخليجية. نحن، إذا صارت سوريا عدواً، والفلسطيني مكروهاً، والعرب صاروا بعداء عنا، فيما البلد مشحون مذهبيا. ما الذي تتوقع أن تكون عليه الصحافة وفق هذه الظروف! نشتغل وسط ظروف قاتلة. لقد قضيت طوال عمري عروبياً وقومياً، والآن ثمة من يأتي ليحاسبني كوني شيعياً. ينسى كل وطنيتي، كل عروبتي ليأخذ من كل تاريخي أنني ولدت مصادفة من أبوين شيعيين، في حين لا يعني هذا الشيء أي شيء. هذا هو الحال في لبنان.
مقارنة ظالمة
لو أردنا عقد مقارنة مع التسليم بالعسف، بين أجواء الصحافة في البحرين والأجواء في لبنان لقلنا إن في البحرين هناك جيل ألفيني (أي بدأ الكتابة منذ مطلع عقد الألفينات وصاعداً) يهيمن على عملية إنتاج نحو 80% من كمية الأخبار والتقارير والتحليلات التي يتم ضخها إلى الرأي العام البحريني. وهذا الجيل أغلبه خارج من الورشات الدينية مع قلة بعلمانية سطحية. فماذا يمكن أن تضيف من صوبك عن لبنان؟
– لا، أعتقد أن المقارنة ستكون ظالمة، فلكل بلد ظروفه. هناك اتجاه غدا سائداً في الخليج، وهو إطلاق الصحف لأسباب ربحية تجارية. في لبنان الوضع مختلف، لاسيما صحافة الحرب أو ما قبلها. حين أسست جريدة ”السفير” خرجت على الناس قائلاً ”أنا صوت الذين لا صوت لهم، جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة مقاتلة من أجل الحق ووو”. كانت شعاراتي واضحة، وأنا أحاسب على شعاراتي. ولكن حين يقول شخص ما إنه يريد أن يعمل مشروعاً تجارياً، ماذا تقول له غير كلمة: مبروك!. في لبنان، كانت تتم العناية بالصحافي. أصبحت هناك مؤسسات صحافية، ليست كبرى، ولكنها تعتني كثيراً بكوادرها. كانت ”النهار” وكانت ”السفير”، ولا أريد أن أتحدث عن الصحف الأخرى؛ لأنني لست قريباً من الأجواء فيها. أقول في المجمل، إن من انتسب إلى الصحف كانوا خريجي جامعة، وكانت هناك كوادر مهنية. للأسف، إن هذا الحال تراجع في الفترة الأخيرة. بل أصبحنا في أسوأ حالاتنا. القضية السياسية صارت ملتبسة. كل واحد أصبحت لديه قضيته وما عادت هناك قضية موحدة. كما قلت نحن في حالاتنا البائسة، ولكن ذلك لا يعني أنه ليس هناك تراكم.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=104845