أرشيف التصنيف: حوارات

الروائي النرويجي يوستن جاردر في حوار خاص .. «2-2»

لو كنت أعلم أن«عالم صوفي» ستترجم لخمس وخمسين لغة لكتبت عن الفلسفة العربية الإسلامية والهندية والبوذية

الوقت – محمد المبارك – علي الديري:
زار جاردر البحرين ليومين برفقة زوجته وناشرة أعماله السيدة منى هنينج، صاحبة دار المنى في السويد، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، حيث ألقى أول من أمس محاضرة بعنوان ‘’احرص على تغذية خيالك’’. ولد الكاتب النرويجي (جاردر) في الثامن من شهر أغسطس/ آب العام .1952 ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر وهو يمارس الأدب والتعليم معاً. اشتهر بكتابته للأطفال بمنظور القصة داخل القصة. روايته ‘’سر الصبر’’ هي التي جعلته معروفاً لدى الجمهور النرويجي. وحصل من ورائها على جائزة النقد الكبرى. لكن كتاب ‘’عالم صوفي’’ هو الذي أخرجه للعالمية، حيث ترجم إلى أكثر من ثلاثة وخمسين لغة، وبيع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وفي ألمانيا وحدها تعدت مبيعاتها المليون نسخة.
وتم تحويل الرواية لفيلم سينمائي، وأيضا تم تحويلها للعبة فيديو، وحاليا يتم تقديم جائزة سنوية للأعمال المختصة بتطوير ودعم البيئة باسم (جائزة صوفي) مقدمة من غاردر وزوجته.
لقد عبر جاردر في بداية حوارنا معه عن سعادته بالتعرف إلى البحرين، لافتاً إلى أنه وجدها ‘’مكاناً متعدداً وكوزموبوليتاني’’، وأبدى إعجابه ببيت القرآن الذي زاره وقد بهره فن الخط العربي والمخطوطات القرآنية.
الوقت: تتصدر روايتك الشهيرة عالم صوفي، عبارة غوته التي تقول’’الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة’’. لقد كانت روايتك رواية لهذه الدروس، لكن لماذا أسقطت منها الألف سنة التي كان فيها العرب والمسلمون يتولون إقامة هذه الدروس؟ لماذا أسقطت المرحلة العربية والإسلامية من تاريخ الفلسفة؟ هل يمكن أن نقرأ هذا النسيان بالرجوع إلى طبيعة المركزية الغربية التي تجد في الغرب مركز العقل والعالم والأنوار، وما عداه ظلام وجهل؟
غاردر: هذا سؤال مهم جداً. إن رواية ‘’عالم صوفي’’ تدور حول الفلسفة الغربية وقد كتبتها أصلاً من أجل الجمهور النرويجي فقط. لأنني لو كنت أعلم أنها ستترجم لخمس وخمسين لغة مختلفة لكنت كتبت أيضاً ليس عن الفلسفة العربية الإسلامية فقط بل عن الفلسفات العظيمة الأخرى مثل الفلسفة الهندية والفلسفة البوذية. ولكتبت كيف أن الفلسفة الإغريقية/الرومانية تفرعت في العصور الوسطى، بعد بعثة النبي محمد، إلى ثلاثة فروع كما يتفرع نهر. وهذه الفروع الثلاثة هي: الأول هو الترث العربي الإسلامي والثاني هو التراث البزنطي الأورثذوكسي والثالث هوالتراث الروماني.
وقد اندمجت هذه الفروع الثلاثة مرة أخرى في تراث عصر النهضة. فأرسطو مثلاً لم يكن معروفاً جداً في أوروبا في العصور الوسطى، والذين تكفلوا بحفظ فلسفته وتطويرها هم المسلمون، وقد طور المسلمون ليس الفلسفة فقط بل العلوم أيضاً. والعلوم الحديثة ترجع بأساسها للعلوم العربية مثل الكيمياء والفلك والحساب. فلهذا عندما بدأ عصر النهضة، استفاد فلاسفة أوروبا من مؤلفات ابن رشد وغيره من المسلمين في الاطلاع على فلسفة أرسطو.
لكن تراث أفلاطون تكفلت بحفظه الكنيسة البزنطية الأورثذوكسية. كما كتبت أيضاً في ‘’عالم صوفي’’ عن دور إسبانيا الثقافي المؤسس أصلاً على التراث الإسلامي، وكان هذا بمثابة الجسر الذي عبرت به الفلسفة الإغريقية/الرومانية إلى عصر النهضة.
إضافة لذلك، لو دار بخلدي وقت كتابة ‘’عالم صوفي’’ أنني أكتبها للعالم وليس للنرويج لكنت أضفت فيها فصلاً عن الحدث المفصلي الذي حدث في الجزير العربية العام 622 م عندما هاجر النبي محمد إلى المدينة المنورة. وفي الواقع أنني كتبت كتابا عن الإسلام أسميته ‘’الله أكبر’’.
 الوقت: هل ترجم هذا الكتاب؟
غاردر: لا لم يترجم. كما أني كتبت بشكل علمي أيضاً عن الثقافة الإسلامية والفلسفة الهندية في كتاب للمدارس الثانوية. وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإيطالية، والإسبانية، والبرتغالية البرازيلية.
إنني ومنذ عشرين عاماً أعتبر نفسي كاتباً روائياً، وقد عملت على الكتب التي ذكرتها قبل أن أتفرغ لكتابة الرواية فقط. لهذا أستطيع أن أقول إنني لست جاهلاً ولا متجاهلاً للإسلام، وأنني أعرف الكثير عنه رغم أنني لست مسلما.
إذاً لم يكن هناك سبب لـ’’نسيان’’ الفلسفة الإسلامية في ‘’عالم صوفي’’ سوى محدودية المشروع نفسه، عندما حددت له أن يكون ذا طبيعة أوروبية وليست عالمية. وقد ذكرت هذه المحدودية في الرواية، ففي الفصل المتعلق بالفيلسوف ‘’هيوم’’ أقارنه ببوذا، وأذكّر القارئ عندها أنه كان هناك تراث كامل في الفلسفة الإسلامية في ذلك الوقت، لكن في ذلك العصر كانت الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية تعيشان من دون اتصال ببعضهما أبداً، ثم بدأ الاتصال بينهما ابتداء من القرن الحادي عشر، وازداد في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. كان العلم في العصور الوسطى متقدماً عند المسلمين أكثر مما هو في أوروبا بكثير.
الوقت: تؤكد في ‘’سر الصبر’’ أن هناك دائماً جوكراً يخترق السر الخفي. إنه ذلك القزم المنبهر بالوجود، والذي عليه أن يكتشف نفسه بنفسه، ويرى من الأشياء ما لم يتح لأحد غيره أن يراه. أي سر خفي يسعى جوستاين غاردر إلى اختراقه، بوصفه جوكراً، عبر رواياته؟
غاردر: نعم، كتبت عن هذا الجوكر. ففي الرواية يذهب صبي إلى المخبز ليشتري كعكاً، فيجد في إحدى الكعكات كتاباً صغيراً جدا (ذكرني بالمناسبة ببعض نسخ القرآن المتناهية الصغر في بيت القرآن) لا يمكن قراءته إلا بمنظار مكبر يعطيه إياه قزم التقاه في محطة بنزين. وكلما أمعن الصبي في قراءة الكتاب يجد أن قصة لعبة ‘’الصبر’’ تحكي حياته هو.
وفي قصة داخلية أخرى داخل الرواية، تتحطم سفينة متجهة من إسبانيا إلى المكسيك ولا ينجو منها إلا بحار واحد يلجأ لجزيرة غير مأهولة. لم يحمل البحار معه من السفينة إلا كومة ورق لعب ‘’الصبر’’ وقد كانت في جيب سترته. يبقى البحار على الجزيرة سنين طويلة يقضي أيامه في اللعب مع نفسه لعبة ‘’الصبر’’. وفي ذلك الوقت في العام 1790 زمن القصة كانت أوراق اللعب تحمل صور شخصيات مثل القزم. يبدأ البحار في تخيل أحاديث يجريها مع شخصيات ورق اللعب. وفي يوم ما ينتبه إلى جماعة من الناس تنزل الجزيرة، لكنهم لم يكونوا سوى شخصيات ورق اللعب، كل الشخصيات كانت تتكلم إلا أنها لم تكن تسأل أسئلة، إلا شخصية الجوكر الذي يصل لاحقاً. إنه اللامنتمي الذي يفكر بشكل مختلف عن الآخرين. إنه الفيلسوف.
هل ترى نفسك تلعب دور الجوكر عبر رواياتك؟
غاردر: لا بد أن أقول هنا انني أعتبر أن بدايتي ككاتب كانت منذ بدأت أطرح الأسئلة في سن الحادية عشرة، عندما اقتنعت أنني جزء من لغز كبير. شعرت يومها أنني لامنتم. شعرت أنني مثل هذا الجوكر الذي نتحدث عنه هنا. لكنني لم أعد أحس بذلك الآن لأنني أشعر أن خبرت الحياة بالطريقة نفسها التي خبرها كثيرون غيري.
؟ تخلص رواية ‘’سر الصبر’’ إلى أننا لسنا سوى أقزام تعيش في الهواء الطلق. أقزام لا تجيد التفكير بقدر ما تجيد التخدير، وأن البشرية برمتها ليست سوى لعبة صبر عملاقة، كيف نفهم البشرية بما هي لعبة صبر؟ وكيف نفهم البشر بما هم أقزام؟
عندما كنت مراهقاً شعرت بالاغتراب، لأنني كنت أرى أنني الوحيد الذي كنت أفكر بالطريقة التي كنت أفكر بها. أحياناً أعتقد أن هناك جوكراً صغيراً داخل كل منا. كلنا يولد جوكراً ولكننا نكبر فنتحول إلى شخصيات اللعب الأخرى التي لا تحسن طرح الأسئلة، لا ينجو من ذلك المصير إلا أولئك الذين يبقون على الطفل الجوكر بداخلهم.أنا منبهر بالوجود وأعتقد أننا لن نقدر أبداً على حل لغزه، لذلك فالمجال مفتوح لمختلف الاعتقادات.
الوقت: يقول المتصوف الكبير ابن عربي في القرن السادس الهجري، رأينا الماء يقبل صورة لون الأوعية وما يتجلى فيها من المتلونات فيتصف بالزرقة والبياض والحمرة حتى قيل لون الماء لون إنائه ثم استقرأنا العالم فنظرنا في الأمور فرأيناها كلما لطفت قبلت الصور الكثيرة فنظرنا في الأرواح فوجدناها أقبل للتشكل في الصور من سائر ما ذكرناه، ثم نظرنا في الخيال فوجدناه يقبل ما له صورة ويصوّر ما ليست له صورة فكان أوسع من الأرواح في التنوّع في الصور ثم جئنا إلى الغيب في التجليات فوجدنا الأمر أوسع مما ذكرناه. ويصل من ذلك إلى القول ‘’تنوعت الصور الحسية، فتنوعت اللطائف، فتنوعت المآخذ، فتنوعت المعارف، فتنوعت التجليات. فوقع التحول والتبدل في الصور في عيون البشر’’
إلى أي حد تلتقي محاضرتك عن الخيال، مع ما يقوله ابن عربي، من حيث هو سر تنوع المعارف والتجليات والمعاني والصور والبشر؟
غاردر: للأسف لا أعرف ابن عربي لكني قرأت كثيراً عن التصوف الإسلامي. سأتكلم في محاضرتي بالتأكيد عن الخيال وكيف يوصلنا لمعرفة تعدد الخلق. كما سأغطي جوانب الخيال التي تجعلنا نرى كم هو متعدد ورائع، هو الكون، سأتكلم أيضاً عن القصص الخيالية وقصص الأطفال وكيف أنها تعطينا خبرة أقوى عن محيطنا وثقافتنا. وسأتكلم عن أهمية التراث الشفاهي وكيف أنه مازال ينحدر في عصرنا هذا. لهذا أعتقد بأهمية تسجيله لكي نحافظ على نقله للأجيال المتعاقبة.
أحب أن أضيف شيئاً يتعلق برواية ‘’عالم صوفي’’ عن الأنوثة. فأنا أسأل كثيراً عن سبب كون بطلة الرواية ‘’صوفي’’ أنثى؟ وأجيب أحياناً: ولماذا لا؟ وفي أحيان أخرى أقول: ليس لدينا في النرويج إلا نوعان: ذكر أو أنثى. ولكن في الواقع كان لا بد لصوفي أن تكون فتاة، لأن ‘’صوفي’’ تعني في نطق كلمة ‘’الفلسفة’’ باللاتينية (فيلوسوفي) وهي تأتي في سياق مؤنث. وحتى كلمة ‘’حكمة’’ بالعربية هي كلمة مؤنثة على حد علمي. وبالطبع فإن إلهة الحكمة في المثيولوجيا الإغريقية مؤنثة.
فلماذا اكتسبت الحكمة صفة الأنوثة؟ لا أعرف بالضبط ولكن لدي نظرية بهذا الشأن. فأنا أعتقد أن محاولة فهم الأشياء هو أمر مهم بالنسبة للنساء – وهو ما تدور عليه الفلسفة – أما بالنسبة للرجال فالأهم لديهم أن يفهمهم الآخرون. تعرف مثلاً تلك القصة من أيام سقراط، ذهب بعض سكان أثينا للعرافة في معبد دلفي وسألوها أن تخبرهم عن أحكم الناس في أثينا. قالت لهم العرافة إنه سقراط، ولكن سقراط نفسه قابلهم متعجبا من قول العرافة قائلاً إنه لا يعرف شيئاً، وأن ذلك – عدم المعرفة – هو الشيء الوحيد الذي يفهمه جيداً. ولكن في الوقت نفسه كان هناك أناس يعتقدون أنهم يعرفون الكثير من الأشياء، وقد سموا فلاسفة، لأنهم كانوا يسعون إلى أن يفهم الناس أفكارهم. لكن سقراط كان هو الفيلسوف الحقيقي لأنه كان يحاول أن يفهم، أن يفهم نفسه ويفهمهم ويفهم العالم.
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=94423

الروائي النرويجي يوستن جاردر في حوار خاص

لم أكن أطمح في «عالم صوفي» إلى أبعد من أن أخرج عملاً تعليمياً في الفلسفة «1-2»

الوقت – محمد المبارك – علي الديري:

يزور جاردر البحرين ليومين برفقة زوجته وناشرة أعماله السيدة منى هنينج، صاحبة دار المنى في السويد، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، حيث ألقى أول من أمس محاضرة بعنوان ”احرص على تغذية خيالك”. ولد الكاتب النرويجي (جاردر) في الثامن من شهر أغسطس/ آب العام ,1952 ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر وهو يمارس الأدب والتعليم معاً. أشتهر بكتابته للأطفال بمنظور القصة داخل القصة. روايته ”سر الصبر” هي التي جعلته معروفاً لدى الجمهور النرويجي. وحصل من ورائها على جائزة النقد الكبرى. لكن كتاب ”عالم صوفي” هو الذي أخرجه للعالمية، حيث ترجم إلى أكثر من ثلاثة وخمسين لغة، وبيع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وفي ألمانيا وحدها تعدت مبيعاتها المليون نسخة. وتم تحويل الرواية لفيلم سينمائي، وأيضا تم تحويلها للعبة فيديو، وحاليا يتم تقديم جائزة سنوية للأعمال المختصة بتطوير ودعم البيئة باسم (جائزة صوفي) مقدمة من غاردر وزوجته.

لقد عبر جاردر في بداية حوارنا معه عن سعادته بالتعرف إلى البحرين، لافتاً إلى أنه وجدها ”مكاناً متعدداً وكوزموبوليتاني”، وأبدى إعجابه ببيت القرآن الذي زاره وقد بهره فن الخط العربي والمخطوطات القرآنية.

الوقت: لقد كتبت في صحيفة الأفتن بوسطن النرويجية يوم السبت أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان بتاريخ 5-8-,2006 مقالا أثار ردود أفعال شديدة في الصحافة والتلفزيون: إننا لا نعترف بدولة إسرائيل كما لم نعترف بنظام الأبارتايد العنصري في جنوب إفريقيا، وكما لم نعترف بنظام طالبان. وكما كان كثير منّا لم يكونوا قادرين على الاعتراف بعراق صدام حسين، أو بالإبادة الاثنية التي مارسها الصرب. الآن لابدّ أن نعتاد على التفكير بأنّ إسرائيل بشكلها الحالي قد صارت تاريخاً ماضياً، ونحن لا نؤمن بمفهوم شعب الله المختار”.

كيف تقرأ زيارتك اليوم إلى المنطقة العربية، في سياق تزامنها مع أول زيارة رسمية للرئيس جورج دبليو بوش للشرق الأوسط التي استهلها بزيارة إسرائيل متعهداً بالحفاظ على أمن إسرائيل ”كدولة يهودية”، ومشدداً على أن الولايات المتحدة وإسرائيل حليفان قويان، ومصدر هذه القوة هو الإيمان المشترك في قدرة الحرية البشرية”.

– غاردر: حسب المعايير الدولية ربما يكمن الحل الأمثل في دولة واحدة لا يتميز فيها اليهود عن غيرهم. أعتقد أن مفهوم الدولة اليهودية غير مقبول ولا يتوافق مع الأفكار المعاصرة. كما لا أعتقد أنه يجب أن تكون هناك دولة إسلامية أو مسيحية. فحتى النرويج مثلاً، وبطريقة ما، هي رسمياً دولة مسيحية وأعتقد أنها لا يجب أن تكون كذلك. الأفضل للدولة الحديثة أن تكون علمانية، وهذا تحد يجابه الكثير من الدول في العالم، خصوصا العالم الإسلامي فكما تعلم أنه لا يوجد في تاريخ الإسلام تفريق واضح بين الدين والدولة.

الوقت: بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة الأميركية، ألا ترى أنها تقع في نوع من التناقض، فهي من جهة تقود بشكل ما العالم الديمقراطي ومن جهة أخرى هي تدعم فكرة الدولة اليهودية؟

– غاردر: أوافقكم. كما أن فكرة أن لكل اليهود في العالم الحق في الاستيطان في إسرائيل هي ما أقصده بتشبيه إسرائيل بنظام الأبارتيد. من الواضح أن الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة يتعرض للمضايقات اليومية الآن بشكل يذكرنا بالمضايقات التي كان يعاني منها اليهود في أوروبا إبان العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. لا أعتقد أننا يجب أن ننسى المحرقة، التي تعرض لها اليهود على يد النازيين، ولأننا رأينا هذه المحرقة، فإننا لا نقبل المضايقات والإذلال الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني من نساء وأطفال ورجال بسبب جدار العزل، ونقاط التفتيش. لقد سمعنا قصصاً عن حوامل تعرضن للموت بسبب التأخير والمضايقات على الحواجز الإسرائيلية التي حالت دون وصولهن للمستشفى في الوقت المناسب.

الوقت: لقد اشتهرت بهذه الآراء الناقدة لإسرائيل، فهل تعرضت بسببها للمضايقات في إسرائيل أو في مكان آخر؟

– غاردر: لا. لكن دائماً عندما تنتقد إسرائيل، يتهمونك بمعاداة السامية. وأرى أن من السخف أن تلصق بي هذه التهمة لسببين. الأول أنني طبعا لست معادياً للسامية، والثاني أعتقد أن كل الناس متساوون في الإنسانية ويجب أن يعاملوا بالطريقة نفسها. والشعب اليهودي شعب طيب كغيره من الشعوب. كما أن هناك الكثير من اليهود الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية. إن هذه التهمة هي سلاح يستخدمه ما يمكن أن نسميهم ”أصدقاء إسرائيل” ضد كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية. لكنها تؤذيني لأنني أكره أن أكون معاديا لأي نوع من الناس. أشعر بأنني إنسان، وأن كل إنسان له قيمة الإنسان الآخر نفسها. أنا أشبه إسرائيل بالقوة الاستعمارية التي تستغل الشعوب التي تحتلها بعد أن تذلها.

لقد كتبت مقالاً لاحقاً للمقال الذي ذكرته، عبّرت فيه عن آرائي بشكل أكثر وضوحاً، وأعتقد أن غالبية الناس في النرويج يوافقونني في هذه الآراء. رغم أنك لن تستنتج ذلك من الجرائد. لكنني تلقيت ردوداً غاضبة من أصدقاء إسرائيل في النرويج، ومن إسرائيل أيضاً فكتبي مطبوعة بأكثر من 55 لغة، منها العبرية، والقراء في إسرائيل يعرفونني. لم أفكر بذلك عندما كتبت المقال الذي انتشر حول العالم في غضون يومين فقط، بما فيها الجرائد العبرية في إسرائيل.

الوقت: هل يمكن للمثقف أن يأخذ موقفاً كهذا في دول أوروبية أخرى؟

– غاردر: سؤال جيد. نعم سيكون من الصعب إصدار مقال نقدي كهذا في بلد كألمانيا مثلاً. لأنه ولأسباب تاريخية، يعد انتقاد إسرائيل في ألمانيا من جملة التابوهات، لكن الأمر ليس كذلك في بلدي النرويج.

  الوقت: يبدو أنك تعول على الأطفال في أعمالك الروائية أكثر من أي شيء آخر، فبطل »سر الصبر«، الطفل هانس توماس، 12 عاما، يسافر مع والده إلى اليونان لكي يلتحقا بالأم »انيتا« التي هاجرت إلى بلاد الفلاسفة قبل سنوات بحثا عن الحقيقة. ورواية ”عالم صوفي” تبدأ مع يوم عادي لصوفي أمندسون بطلة الرواية ذات الأربعة عشر عاما، حيث عادت مع صديقتها جورون من المدرسة، فتفاجأت للمرة الأولى أن هناك في صندوق البريد رسالة لها موجهة بالاسم. ورواية ”فتاة البرتقال” تُحكى من وجهة نظر الشاب الصغير جورج، لقد كتب جون قبل وفاته بأيام قليلة رسالة لابنه جورج ذو الأربعة أعوام؛ كي يقرأها حين يكبر، وبعد أحد عشر عاما من وفاة جون تعثر عائلة جورج على هذه الرسالة وتسلمها له، يقرأها جورج ومن ثم يحكي لنا قصته مع رسالة والده، الرسالة كانت تحوي قصة وسؤالا، قصة حب والده لفتاة البرتقال، وسؤال يطرحه بعد سرده للقصة.

لماذا يبدو أبطالك من الأطفال غالباً؟ ولماذا تلجأ إلى تقنية الرسائل دائماً؟ ولماذا تدور في أجواء البيئة النرويجية؟ هل لهذا علاقة بكونك أستاذاً يمارس تدريس الفلسفة وتاريخ الأفكار؟ وهل يهدد الأطفال الرواية بالتحول إلى الجانب التعليمي بدلاً من الفني؟

– غاردر: سؤال جيد أيضاً. أولاً ليست كل رواياتي تدور أحداثها في النرويج، فقصة ”فتاة البرتقال” مثلاً تدور أحداثها في أسبانيا. أما بالنسبة للأطفال، فدعني أذهب لبداياتي ككاتب. عندما كنت في الحادية عشرة، أتذكر أنني شعرت فجأة أنني جزء من لغز كبير، وأن الكون أحجية كبرى. لجأت لوالدي ولأساتذتي وقلت لهم: ألا تعتقدون أن الوجود أمر غريب وعجيب؟ لكنني صدمت بالإجابة: لا، ليس غريباً على الإطلاق. لكنني ألححت: إذن أنتم تعتقدون ان الوجود أمر عادي؟ وكانت الإجابة: نعم، بالتأكيد. كبرت وأنا ماأزال أعتقد أنني أنا المحق. ماأزال أعتقد أن الحياة لغز. لهذا عندما بدأت أكتب، أردت أن أنقل هذا الشعور الذي أحسست به وأنا صبي صغير. يمكن القول إن هناك طريقتين ليصبح المرء كاتبا: فهناك مجموعة من الكتاب تحب اللعب بالكلمات مثلما يلعب الرسام بالأشكال والألوان. لكن هناك فئة أخرى من الكتاب، وهم الذين يشعرون أن لديهم أشياء يريدون قولها. أعتقد أنني أنتمي لهذه الفئة الثانية.

أنت محق عموماً في أنني أستخدم الأطفال كشخصيات في رواياتي أكثر من الكبار، رغم أن الكبار قد يكونون رائعين أيضاً مثل شخصية معلم الفلسفة في رواية ”عالم صوفي”. لكن الأطفال يسألون أفضل من الكبار.

أما بالنسبة لسؤالك عن الجانب التعليمي، فأقول إن رواية ”عالم صوفي” هي رواية تعليمية بالتأكيد. عندما كتبت هذه الرواية، لم أكن أطمح من خلالها أبعد من أن أخرج عملاً بيداغوجياً تعليمياً في الفلسفة. رواياتي الأخرى تدور فيها فلسفة لكنها ليست كتب فلسفة، أعني أنها ليست كتباً تعليمية، تعلم الفلسفة. لا أعتقد أنني كنت معلماً في هذه الكتب، لكنني يمكن أن أكون مجرد مرشد أشير إلى الكون.

في رواية ”عالم صوفي” أنا أعلّم فلسفات معينة، لكن في رواياتي الأخرى أشير فقط محاولاً نقل حماسي بالوجود إلى قرائي. ألتقي بأشخاص من مختلف الأعمار، وأسألهم أحياناً: ألا تعتقدون أنه أمر عجيب أن نعيش؟ ألا تعتقدون أن الحياة قصيرة؟ يجيبون في بعض الأحيان: نعم أنت محق، لكنني لم أفكر بهذا من قبل.

كما أستلم الكثير من الرسائل والإيميلات، من قرائي، وأغلبها من الفتيات. أعتقد أن الفتيات يقرأن أكثر من الفتيان. هي آلاف الرسائل. وهي تختلف عن بعضها كثيراً لكنها غالباً ما تشترك في أمر واحد. غالبا ما يكتبون ”قبل أن أقرأ كتابك كنت أشعر أنني مختلف عن الآخرين لأنني أسأل الكثير من الأسئلة ولا يُبدي الآخرون اهتماماً بهذه الأسئلة. لكن بعد أن قرأت روايتك عرفت أنني في الواقع كنت أسأل أسئلة فلسفية”. كما يكتبون أيضا ”التجارب التي تعبر عنها في كتابك فيما يخص إحساسك بأنك جزء من لغز، هو إحساسي نفسه من زمان لكنني لم أخبر به أحداً من قبل”.

هناك تفسير محتمل لسر انتشار رواياتي، وهو ربما بسبب أنني أسأل فيها أسئلة كلية تخص كل الناس.أنا أؤمن أن السؤال يحمل قوة كبيرة، وأننا يجب أن نشجع على طرح الأسئلة. من المهم للآباء والمدرسين أن يشجعوا الأطفال على طرح الأسئلة.

أذكر أنني أيام حادثة الحادي عشر من سبتمبر كنت في مؤتمر في براغ. وهناك أخبرتنا امرأة أميركية عن سؤال ابنتها وهي تشاهد الرئيس بوش ينهى خطاباته دائماً بعبارة ”ليبارك الله أميركا” فتسأل أمها ”لماذا لا يقول الرئيس ليبارك الله العالم بدل أميركا فقط؟”. كان ذلك سؤالاً جيداً ولكنه أيضاً سؤال صادم، سنزعج الرئيس الأميركي بالتأكيد لو وجهنا إليه هذا السؤال. ربما نتوقع أن يصدر سؤال كهذا لا من طفلة بل من شخص كبير. أنا نفسي لم يكن ليخطر ببالي أبداً هذا السؤال. تذكرني هذه الحادثة بقصة الأطفال ”الأمبراطور العاري” التي كتبها الدانماركي الشهير ”هانز أندرسن”. في القصة، يخدع محتالان الإمبراطور بإقناعه بأنهما سيصنعان له أفخر الثياب على وجه الأرض، وهي ثياب لا يمكن للأغبياء أن يروها، يلبسانه الثياب الوهمية، فيخاف الأمبراطور أن يقول إنه لا يرى ثيابا عليه، والكبار حوله يخافون من الاعتراف بأنهم لايرون ثيابا على الإمبراطور خشية أن يفضحوا غباءه، لكن كان هناك طفل فقط كانت لديه الشجاعة ليصيح بأمه: ”أمي، لماذا يمشي الأمبراطور عارياً؟”.

أتساءل وأنا هنا في العالم العربي والإسلامي: هل يشجع الناس على طرح الأسئلة؟ أتخيل أنه في المدارس الدينية لا توجد ثقافة الأسئلة لأنه يتم تعليم الأجوبة وليس الأسئلة.

الوقت: ولكن ألا ينطبق هذا على أي جماعة مؤمنة؟

– غاردر: بالتأكيد. هذا ينطبق على المدارس الدينية المسيحية فنحو خمسين بالمئة من التجمعات المسيحية في الولايات المتحدة لا تعلم الأطفال طرح الأسئلة. والمؤسف أنه في أميركا وفي بلدي أيضاً يتكلم الناس عن ”الأصولية” وهم يعنون بذلك الأصولية الإسلامية، دون أن يروا أن الأصولية المسيحية تؤسس نفسها بشكل كبير في الغرب حتى ظهرت آثارها جلياً في السياسة الخارجية الأميركية. فمثلاً هناك أناس كثيرون في النرويج يؤمنون أن ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم هو إعداد لظهور المسيح حسب ما يتنبأ الكتاب المقدس، وأنه من أجل ذلك لابد من أن تقوم حروب في المنطقة، وأن يبني اليهود دولتهم الكبرى هنا. وهذا يقودنا لملاحظة الأصولية اليهودية أيضاً.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=94059

حوار مع الشيخ محسن آل عصفور: سيرة عمدة كتاب الأخبارية الفقهي «الحدائق الناضرة»

من لوحات ملف الأصولية والأخبارية

يطيب للشيخ محسن العصفور لقب ‘’صقر آل عصفور’’ الذي أطلقه آل عصفور عليه، ويطيب لي أن أسميه ‘’صقر الأخبارية’’ فهو من صقور الأخبارية المتشددين، فلغته مشحونة باليقين الأخباري، والأخباريون لا يركنون إلا لليقين القاطع، لذلك فلغته قطعية اليقين دوماً، لا تعرف المواربة ولا المجاملة ولا الإيماء، ولا تحتاج إلى أن تستنتج ذلك، فهو لا يكف عن القول إنه لا يخشى في أخباريته لومة لائم. شديد دوماً في مواقفه وقاطع دوماً مع المختلفين معه، وعلى الرغم من إفراطه في اليقين إلا أنه لا يعرف السكون الذي يمنحه اليقين الأخباري، فهو مليء بالحركة والنشاط، مشاريعه أكبر من شخص وليست أقل من مؤسسة، فاجأني بحجم مركزه الذي أطلق عليه ‘’مؤسسة مجمع البحوث العلمية’’ ويستعد قريبا لافتتاحه، كما أنه يعمل حالياً على تأسيس جامعة الشيخ حسين العلامة في مقر حوزته التاريخية في الشاخورة. في هذا الحوار الذي ننشره على ثلاث حلقات، يقدم الشيخ محسن، حديثاً مطولا حول جهوده العلمية في إعادة نشر التراث الأخباري.
بروفايل : تبدو اليوم أنت الأكثر اهتماماً بالتراث الأخباريةالذي كان موجوداً في مدرسة البحرين الأخبارية منذ القرن الثامن عشر الميلادي، كيف تولد لديك هذا الاهتمام؟
– ليس هذا الاهتمام وليد الصدفة ولا وليد ظروف خاصة وإنما بحكم الامتداد الرسالي والوظيفة التي تنوء بها رجالات هذه الأسرة جيلاً بعد جيل بفضل من الله تعالى وتوفيقه وكوني من سلالة العمود الفقري العلمي لهذه الأسرة في هذه المملكة من الطبيعي أن نشهد توارثا للزعامة الدينية بدرجاتها المختلفة، ونحظى باهتمام وعناية وتوجه الرأي العام والخاص، إن أسرة آل عصفور هي أكبر أسرة علمية أنجبتها البحرين، وقد ناهز العهد العلمي لهذه الأسرة الأربعة قرون وانتشر الكثير من رجالاتها العلمية في ربوع العالم الإسلامي في إيران والعراق ودول حوض الخليج وأنجبت أكبر زعامتين دينيتين ومرجعيتين عالميتين أولهما المحقق الشيخ يوسف وثانيهما ابن أخيه جدنا العلامة الشيخ حسين قدس الله نفسهما الزكية، وكان لهما دور كبير في إثراء المكتبة الإسلامية وإيجاد نقلة في تاريخ الفقه الإسلامي الشيعي، ومن الطبيعي أن يفرز هذا الواقع، وراثتنا لهذه المسؤولية، وهذا العبء وهذا التراث حيث مازلنا نعني به جيلاً بعد جيل وبحمد الله قد تهيأت لي من الظروف ما لم تتهيأ لغيري، وهذا يجعلني أكثر عبئاً وأكثر مسؤولية.
بروفايل: لكن يبدو في لحظتك بدأت العناية أكثر قوة في بعث هذا التراث..
– لقد قمت منذ السنوات الأولى من الدراسة في مدينة قم بجمع ما نتمكن من جمعه من المكتبات الخطية من تراث علماء البحرين من مكتبة السيد المرعشي والسيد الكلبايكاني ومسجد الأعظم ومكتبة الحضرة الرضوية في مدينة مشهد ومكتبة مجلس الشورى بطهران وذلك للتمهيد لتحقيقه وطبعه ونشره.
بعث تراث الأخبارية
وقد تمكنت بحمد الله من تحقيق ست مجلدات من الموسوعة الفقهية (الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع)، ورسالة الأشراف في المنع من بيع الأوقاف، ومحاسن الاعتقاد، وشارحة الصدور (منظومة في الأصول الخمس الاعتقادية) وكتاب سداد العباد وكنز المسائل للشيخ عبدالله الستري، وقد طبعت، وهي متداولة في الأوساط العلمية وان شاء الله سنسرع الخطى بعد إنشاء مؤسسة تحقيق ونشر خاصة تعنى بنشر تراث علماء آل عصفور.
جمعت فهارس أكثر المكتبات الخطية في إيران وتم جردها واستخراج أسماء وأرقام إيداع الكتب الخطية الخاصة بتراجم علماء البحرين، معجم تراجم علماء البحرين يزيد على العشرين مجلدا. لقد بدأ شغفي بمطالعة كتب تراث أعلام أسرتنا قبل سن الخامسة عشرة وكان لي رغبة ملحة أن أسجل إضافة مهمة لهذا الكتاب تلحق بالأصل، وأول ما خطر ببالي بعد الالتحاق بحوزة قم في السنة الأولى هو اختصار هذه الموسوعة لتكون رسالة عملية يرجع إليها مقلدو الشيخ يوسف وكذلك سائر طلاب العلوم الشرعية عند محاولة فهم فتوى الشيخ يوسف في المسائل المختلفة عند النقل عنه.
ثم خطر ببالي بعد حوالي خمس سنوات تأليف المقدمة الفاخرة لكتاب الحدائق الناضرة، وأنهيت بحمد الله ثلاث مجلدات منها في فترة قياسية لا تتعدى خمسة الأشهر وقد طبعت المجلد الأول منها آنذاك وبعد اشتهار خبره في الحوزة ونشر مجلة الحوزة مقالاً عنه بالمدح والثناء أرسل الي الشيخ علي إسلامي مدير قسم النشر بجامعة المدرسين لإبرام اتفاقية لطباعة الكتاب والحاقة بالأصل الحدائق في طبعات الحدائق المستقبلية بل وإبرام اتفاقية لإعادة تحقيق كتاب الحدائق من جديد بعد نشر مجلة مرآة التحقيق (آينة بجوهش) لمقال لي حول الأخطاء المطبعية والتخريجية لطبعة النجف والتي تتولي جامعة المدرسين إعادة طباعتها بالأفست كلما نفذت نسخها.
ويتناول المجلد الأول مقدمة عن تاريخ الفقه ونبذة عن تاريخ أسرة آل عصفور واستعراض العهد العلمي لهذه الأسرة الذي نبغ فيه جمع من رجالات هذه الأسرة وعلى رأسهم الشيخ يوسف وابن اخيه الشيخ حسين وتناول الظروف التي تزامنت مع عصره وما جرى عليه من تنقلات وارتحال من البحرين مسقط رأسه إلى القطيف أولاً ثم إلى ايران واستقراره في شيراز ثم هجرته إلى فسا والاصطهبانات ثم إلى بهبهان ثم إلى كربلاء والاستقرار فيها حتى الممات وكذلك ذكر أساتذته وتلامذته والعلماء المعاصرين له ونقل كلمات الثناء عليه في كتب التراجم.
وأما المجلد الثاني فيتناول شخصية الشيخ يوسف العلمية في خطوطها العامة والتفصيلية ونظرياته بشكل مختزل مستنداً إلى عباراته في كتبه مع ذكر النص والمصدر والإجابة عن الكثير مما أثير حول شخصيته من تساؤلات وشكوك خصوصاً عدوله عن مسلكه الأخباري في الوقت الذي كان فيه الزعيم الأوحد للمدرسة الأخبارية في مدينة كربلاء بلا منازع وكانت تشد له الرحال من الدول والحواضر العلمية للتتلمذ عنده. وتمّ الكشف لأول مرة بالتفصيل ما جرى عليه في آخر حياته من تآمر واضطهاد على يد الوحيد البهبهاني وما قام به الأخير من وشاية لحاكم كربلاء والاستعانة بمدد من الجند لمنعه من التدريس في الحرم وصرف الناس عنه بالقوة وفرض الإقامة الجبرية عليه ثم تسفيره إلى قرية المسيب على بعد سبعين كيلومتراً حيث قضى آخر أيامه فيها، ولا يبعد أن دس إليه السم للقضاء عليه بعد فشل كل الوسائل في منع الارتباط به وقصة دفنه بالقرب من ضريح الإمام الحسين تحت قبته في الحرم الحسيني.
والمجلد الثالث دراسة مفصلة عن كتاب الحدائق ومنهجيته ومصادره وما امتاز به من منهجية ونسخه وأماكن وجودها في المكتبات الخطية وطباعاته.
وأما المجلد الرابع فهو شرح وتعليق على المقدمات الاثنتي عشرة التي وضعها الشيخ يوسف في مقدمة كتابه الحدائق لبيان الفرق بين الأصوليين والأخباريين والانتصار لمنهج الأخباريين الذي سيعتمده في منهجية استدلاله وقوة تمسكه بمنهج أئمة أهل البيت المأثور.
ولكن حدثت مستجدات متسارعة في تلك الفترة حالت دون إنجاز جامعة المدرسين لتلك الأمنية التي كنت أطمح إليها وهي طباعة كتاب الحدائق بتحقيقي وتعليقي مع مقدمتي الفاخرة وتتمة جدي الشيخ حسين لـ(عيون الحقائق الفاخرة) في دورة متكاملة في واحد وثلاثين مجلداً كما كان متفقاً عليه.
تقرير سبحاني
إذ اتفق في تلك الفترة أن أعلنت جامعة طهران عن دراسة ماجستير في التاريخ محوره دراسة عن حياة الشيخ يوسف البحراني ومنهجه العلمي، وباعتبار ان الجزء الأول كان مطبوعاً ومتوافراً في قم فعمد بعض طلاب تلك الجامعة من مشائخ الحوزة إلى الاتصال بي لطلب تصوير بقية الأجزاء للاستفادة منها في تحضير رسالاتهم لطلب الماجستير واختصار الطريق على أنفسهم، فأخبرتهم بأن جامعة قم ستقوم بطباعته.
وستكون هناك زوبعة لأن الكثير من الحقائق التي طمست وتمت المغالطة فيها سيتم الكشف عن زيفها وحقيقتها، بالمصادر والأرقام فبلغ الخبر إلى مدير قسم النشر الذي طلب سحب الكتاب من قسم الصف وإحالة أجزائه إلى لجنة الرقابة العلمية والتي من ضمن أعضائها الشيخ جعفر السبحاني والشيخ محمد المؤمن عضو مجلس الخبراء وبعد شهر تم إرسال التقرير من هذين الشخصين، وقد منعت من الاطلاع عليه باعتبار انه سري وشأن داخلي وتم تسريب ما تضمنه عبر احد الموظفين حيث زرته على انفراد وسمح لي بقراءته دون أخذه معي أو تصويره، وقد قرأت فيما ورد في تقرير الشيخ جعفر السبحاني أن الكتاب مهم وجدير بالطبع لكن ينبغي حذف بعض الأمور التي تثير الحساسية وان كان ما فيه من حقائق لكن ليس كل ما يعلم يقال.
وقرأت فيما ورد في تقرير الشيخ محمد المؤمن أن الكتاب تضمن أموراً مهمة ولكن طلب حذف مواضع علمت عليها باللون الأحمر في النسخة المرفقة بهذا التقرير، خوفاً من إثارة الشكوك بالمسلك الأصولي والطعن فيه، وقد أبدى خشية من طرحها كي لا يعود مجد الأخبارية في حوزة قم.
وقد شاهدت تلك العلامات بالخط الأحمر حول المتون المطلوب حذفها وبعد مراجعة المدير الشيخ علي الإسلامي، سلم لي نسخ الكتاب الأصلية بخط يدي وطلب مني حذفها كشرط لطباعة الكتاب، فرفضت حذف الجميع، وبعد مراجعة أخيرة حول الموضوع عرضت عليهم حلاً وسطياً وهو أن يطبع الكتاب بالنحو الذي طلبوه، لكن يسمح لي بطباعة الكتاب بالنحو الذي أريده بدون حذف، وذلك بأن لا يكون لهم حقوق الطبع.
ولكن تزامن في تلك الأيام فترة الانفراج السياسي في البحرين والسماح لجميع المبعدين والمهاجرين الذين مضى عليهم أكثر من عشر سنوات فعدت إلى البحرين وانقطع التواصل معهم وتجمد الاتفاق برمته.
وبعد سنوات حدثت هناك حركة تغييرات في أكثر الجهاز الإداري ولم أراجعهم حول الموضوع حيث توقف نشاط قسم الطبع في جامعة المدرسين بالكامل وتوقفت طباعة كتاب الحدائق مضافاً لغيره.

من لوحات ملف الأصولية والأخبارية

بروفايل: أين هي اليوم الطبعات الأولى من كتاب الحدائق؟
– من الأمور المألوفة القديمة التي جرت عليها العادة بين العلماء في الحواضر العلمية أن الكتب لا يتم استنساخها وتداولها في حياة مؤلفيها، ولا تشتهر إلا بعد وفاة المؤلف، أما كتاب الحدائق لأهميته العلمية وكونه أول كتاب استدلالي موسع يحوي الأقوال والأدلة ومناقشتها في تاريخ الفقه الشيعي ويتناول الموضوعات بشكل استدلالي مسهب، هذه الطريقة لم تكن معهودة قبل تاريخ الشيخ يوسف، فقد عني النساخ بنسخه ونشره عناية كبيرة كما طبع طبعة حجرية منقحة مضبوطة في سبع مجلدات في مدينة تبريز الإيرانية قبل أكثر من مئة سنة ويرجع السبب في ذلك إلى أن الشيخ يوسف يعد رائد ومؤسس الاستدلال الشيعي من أوسع الأبواب حيث تميز منهجه بالدقة العلمية المتناهية في تحري نشأة الفرع الفقهي واستقصاء أدلته وتتبع من اختاره من المعاصرين والمتأخرين ومتأخري المتأخرين على حد تعبيره.
تتمة الحدائق
وكان أول المقتفين لمنهجيته تلك، هو ابن أخيه و تلميذه جدنا الشيخ حسين إذ أكمل بوصية منه، ما تمكن من إكماله من كتاب الحدائق الناضرة، تحت عنوان ‘’عيون الحقائق الفاخرة في تتمة الحدائق الناضرة’’ وقد طبع في مجلدين وشرع في تدوين موسوعاته الاستدلالية الضخمة كالسوانح (سبع مجلدات خطية) والأنوار اللوامع (أربعة عشر مجلداً) والرواشح الذي لو قدر له الإكمال، لأصبح أعظم كتاب فقهي في تاريخ الإسلام، و لو طبعت أجزاؤه الطباعة الحديثة، لكانت في حدود ثلاثين مجلدا، وهو بعد في الطهارة وبداية أحكام الصلاة، ولو قدر له الإكمال حتى نهاية كتب الفقه، لنافت أجزاؤه على المئة مجلد.
وكذلك اقتفى أثره كل من جاء من بعده من الفقهاء الموسوعيين من أمثال صاحب الجواهر المعروف الشيخ محمد حسن النجفي في كتاب الجواهر في شرح شرائع الإسلام ومفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة للسيد محمد جواد العاملي.
بروفايل: ألم يبلور الأصوليون منهجا استدلاليا قبل الشيخ يوسف بكثير؟
– التراث الفقهي الشيعي ككل مر بمراحل متعددة حتى وصل إلينا، ولدينا محاولات جديدة وجادة لدراسات مفصلة عن المراحل التي مر بها منذ عصر النص الأول والنهاية التي وصل إليها في عصرنا هذا، وكيف بدأ بسرد النص الروائي معنعناً بالأسانيد ثم من دون أسانيد ثم بدون قائله ممن روي عنه من أئمة أهل البيت.
كما المقنعة للشيخ المفيد والنهاية للشيخ الطوسي، ثم توسع الكتب الفقهية وعناوين الأبواب والمسائل والتفنن في الاختصار والترتيب والتبويب كما في كتاب الانتصار للسيد المرتضى والمراسم لابن سلار ثم نشأة فقه الخلاف والمقارنة مع المذاهب المخالفة والتي بدأها شيخ الطائفة الشيخ الطوسي.
وبلغ ذروتها العلامة الحلي في كتاب الخلاف وتذكرة الفقهاء ومنتهى المطلب وتحرير الأحكام وظل المنهج الفقهي يتعدد ويتنوع حتى بدأ المنهج الاستدلالي يتوسع بين فقهاء المذهب أنفسهم وتصديهم لمناقشة بعضهم البعض فيما اختاروه والانتصار لما يختارونه بالاستدلال عليه.
كل هذا التراث على تنوعه ومراحل توسعه يوجد اليوم في متناول أيدينا وعند الاستقراء السريع لجملة ما صنف، ننتهي إلى انه لا يوجد كتاب قبل الحدائق تناول الفقه الاستدلالي بهذه الطريقة وهذه السعة مضافاً لعرض معاني الروايات ودلالتها على ما يستدل عليه من أحكام ويستفاد منها من وجوه بغض النظر عن كونها أصولية أو إخبارية، بل ومحاكمة الطرفين الأخباريين والأصوليين إن تبين أن أحداً منهم خالف الدليل وتنكب عن الصراط وانحرف عن الجادة.
بروفايل: لماذا لم يكمل الشيخ حسين دورة الحدائق الفقهية كما أوصاه الشيخ يوسف؟
– لقد أكمل بعض مباحث لواحق كتاب النكاح وأنواع الطلاق والفراق من الظهار واللعان وبقية أحكام ما يتفرع عليها من الأحكام في مجلد تحت اسم (عيون الحقائق الفاخرة) في تتمة الحدائق وقد شرع فيه من الموضع الذي انتهى إليه قلم الشيخ يوسف في كتابه الحدائق.
وقامت جامعة المدرسين بطباعة هذه التتمة في مجلدين وقد الحق بموسوعة كتاب الحدائق وقد طلب مني أن أقدم له، فقدمت لتلك الطبعة مقدمة مختصرة طبعت في أول الكتاب.
وقد حال بينه وبين إكمال بقية الكتب الفقهية الأخرى حسب تسلسل التبويب المعهود حتى نهاية كتب الفقه استشهاده على يد الغزاة العمانيين بتاريخ 21 شوال سنة 1216 هـ بعد أن احتلوا البحرين سنة 1215 هـ.
وقد عثرنا على نسخة الأصل من المجلد الأخير من كتاب الحدائق، وتلك التتمة بخط كل من الشيخ يوسف وخط الشيخ حسين قدس سرهما.
وسنحضرها، ليتم عرضها -إن شاء الله تعالى- في مركزنا الثقافي الذي نحن بصدد إكماله وافتتاحه في القريب إن شاء الله تعالى.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=86604

حوار مع أركون

محمد أركون في حديث خاص مع «الوقت» يفتح النار على خصومه

ويرد لهم الصاع بالصاع

الخطاب الإسلامي منقطع عن العالم و… عن العقل

 

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:

كان المفكر الجزائري محمد أركون يحلم عندما غادر البحرين في العام 2002 بعد زيارة صغيرة دامت ثلاثة أيام. لقد فوجيء بحجم تلقيه في بلد خليجي صغير لا يكاد يُرى على الخارطة. ولكن الآن الحال تغير. كيف ساء الأمر؟ لأن خطاب الردح التهييجي لم يجرِ – هذه المرة – على ألسنة خصومه التاريخيين (الأصوليات الدينية) ممن تمسهم اشتغالاته بشكل أو آخر؛ إنما جرى على ألسنة جامعيين وأساتذة أكاديميين. وتلك هي المفارقة!. ونظرة واحدة على ملتقى ‘’بحرين أونلاين’’ على شبكة الإنترنت، وهو الملتقى الذي شهد صولات وجولات على خلفية زيارة أركون الأولى، كافية لإعطائنا فكرة عن كيفية تعامل ‘’خصومه التاريخيين’’ أو، الأصح الخصوم الطبيعيين، معه في الزيارة الأخيرة. إذ لا نكاد نعثر في الملتقى على أي موضوع يتعلق بأركون، وخلا ‘’الملتقى الإسلامي والفكري’’ من كل ما له صلة به أو بمحاضرته التي ألقاها الثلثاء 13 مارس/ آذار في مركز الشيخ إبراهيم، فيما اتخذ الممثلون الاجتماعيون من رجال الدين ووكلاء المراجع وآيات الله الموقف نفسه.

أين المشكلة إذن؟. إنها هناك، في المكان الأكثر صلة – هذا ما يفترض! – بنشاط أركون البحثي والأكاديمي: جامعة البحرين. ويقول أركون هنا ‘’لو كنت أعلم أنهما أستاذان جامعيان لوجهت لهما كلاماً جارحاً’’، في إشارة إلى الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية الدكتور منذر عياشي وأستاذ الهندسة المدنية والعمارة بكلية الهندسة الدكتور مصطفى بن حموش.

كان الأخيران قد ألقيا مداخلتين ‘’ساخنتين’’ غضون النقاش الذي أعقب محاضرته عن ‘’قضية الأنسنة في المجتمعات الغربية والمسلمة المعاصرة’’، واتهماه فيهما بالصدور عن موقف أيديولوجي ونفي قداسة القرآن الكريم، كما عبرت عن ذلك أسئلتهما ‘’النارية’’.

وأضاف أركون ‘’أتحدى أي شخص أن يأتي لي – من ما قلته – بكلمة واحدة تنتمي إلى الأيديولوجيا أو إلى أي حزب سياسي (…) هاتوا لي بكلمة واحدة من كتبي تدل على ذلك’’، موضحاً ‘’هذا ليس كلام إنشاء إنما هي إستراتيجيتي في التدقيق وتحليل الخطاب’’.

وتابع ‘’ليس من حق الأستاذ الجامعي أن يستعمل أساليب جدلية محضة في النقاش (…) ليس من حقه أن يتظاهر أمام الجمهور بأنه يحترم الموقف العلمي بينما هو بعيد عن ذلك’’ على حد تعبيره.

وتساءل أركون ‘’لا أدري هل كتب واحد منهما (عياشي، بن حموش) صفحة واحدة عن مفهوم الأنسنة في الفكر الناطق باللغة العربية وفي السياقات الإسلامية (…) سأكون سعيداً لو عرفت ذلك، وسيسرني أن أقرأه وأعترف لهما بالمساهمة الإيجابية فيه، وخصوصاً إذا كانت مساهمتهما في شيء لم أقله – أنا – حتى الآن’’.

وقال ‘’هذا ما كنت سأقوله لهما أمام الجمهور لو عرفت أنهما أستاذان في جامعة البحرين (…) هذه هي النزاهة الفكرية التي يجب أن يتقيد بها كل أستاذ يعلم الشباب ويحترم مهنته’’ على ما عبر.

ورداً على سؤال، علق ‘’أدعو جامعة البحرين – كما سائر الجامعات – إلى إعطاء الأفضلية لتدريس علوم الإنسان والمجتمع والإبستومولوجيا التاريخية اعتماداً على ما ينتجه الباحثون بهذا الصدد على مستوى العالم’’.

وأضاف أركون ‘’يجب أن نتعرف على جميع ما يصدر في هذه العلوم، ومن ثم تطبيقها على التدريس الخاص بجامعاتنا وعلى الطلبة الذين يتكونون ويتخرجون منها’’.

يشار إلى أن محمد أركون، هو أستاذ سابق في جامعة السوربون في فرنسا، وقد أشرف على العديد من رسائل الدكتوراه لطلبة يعدون اليوم من خيرة المشتغلين في حقول النقد والمعرفة، وحالياً هو متفرغ للبحث والتأليف.

وتابع موضحاً ‘’… ثم الاهتمام بتكوين الأساتذة الذين يعلمون الشبان (…) الأنظمة التربوية التي تدرس في جامعاتنا لم تسنح لها الفرص لتلقي هذا التكوين’’، مستدركاً ‘’لكن ذلك يجب أن يكون واضحاً الآن، وذلك هو ما قمت به طيلة حياتي الأكاديمية مدرساً في جامعة السوربون وأجيال من الطلبة يشهدون على ذلك’’ وفق تعبيره.

وقال رداً على الانتقادات التي أخذت عليه عصبيته في أثناء النقاش ‘’من الطبيعي أن أغضب، فأنا إنسان’’، موضحاً ‘’من يتحدث عن الأنسنة فهو إنسان مثل سائر الناس’’.

لم يخرج تناولك للأنسنة في محاضرتك عما تناولته في كتابيك ‘’معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية’’ و’’نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي’’. فهل كفّ مفهوم الأنسنة عن أن يولد اختلافه وفرادته؟

– يقول ‘’لا، لم يكف. إنما لأنني كنت أتحدث في محاضرة عامة أمام جمهور متنوع. فيه من قرأ كتبي وفيه من لم يقرأ. لو كنت أتحدث في سيمينار خاص (حلقة نقاشية) لكان الأمر مختلفاً. لذا وجدت من الضرورة إعادة طرح المفهوم عبر استعادة ما كتبته بهذا الصدد وعبر العودة إلى ذاكرته في السياقات العربية والإسلامية.

في الواقع، فإن أركون يفرق بين نوعين من الأنسنة، تلك التي تقوم على المحتوى الديني، وهي تحترم الإنسان وترفع من شأنه بقدر ما يطيع الله وتعاليمه وأوامره ويتقيد بالشعائر الطقوس، وتلك الأنسنة التي تقوم على المحتوى الفلسفي، وهي تعطي للإنسان حرية كاملة واستقلالية ذاتية بعيداً عن المرجعيتين الدينية واللاهوتية.

رغم ذلك، يؤخذ عليك أنك لم تعطِ مفهوم الأنسنة راهنيته. خصوصاً ونحن نشهد هذا التفجير الضافر للهويات وللذاكرات الصلبة، وبطريقة هي على الضديد تماماً من النزعة الإنسانية التي دافعت عنها منذ أطروحتك في الدكتوراه قبل ثلاثين سنة وحتى محاضرتك الأخيرة؟

– يعلق أركون ‘’هذا صحيح. كان بودي أن أقوم بهذه المطالعة، لولا ضيق الوقت، خصوصاً وأنني أطلت في المحاضرة. ما أشرت إليه هو ما أسميه سوسيولوجيا الذاكرات الاجتماعية’’، موضحاً ‘’تتوجب دراسة هذه الذاكرات، لا من خلال خصوصيتها المحلية إنما بوضعها في السياق العام لجميع الناطقين باللغة العربية’’.

وتابع ‘’علينا أن لا نبقى مقيدين في إطار الخطابات الإسلاموية المحلية. هذا الموقف يجب الإلحاح عليه وتبنيه. وخصوصاً هنا في البحرين’’، مضيفاً ‘’البحرين مجتمع محدود حتى على مستوى خريطة العالم العربي. يجب التركيز على الخطابات الإسلاموية في جميع العالم الناطق باللغة العربية’’ حسب تعبيره.

وقال أركون ‘’إذا انخرط المثقفون في هموم محلية ضيقة، وليس على أساس دراسة سوسيولوجيا الذاكرات الاجتماعية في امتدادها العربي والإسلامي العام، وأيضاً في امتدادها التاريخي، فإن هذا سيجعلهم بعيدين عن تحصيل فهم بالظاهرة’’.

وأضاف رداً على سؤال آخر ‘’يجب عدم الخلط بين ما يحمله المخيال الاجتماعي اليوم الذي يشير إلى وجود الشيعة والسنة من جهة، وبين الموروث القديم والقديم جداً الذي يقوم عليه الوعي الشيعي والوعي السني’’، موضحاً ‘’هذا الموروث بقي موروثاً يستغله المخيال، ولم يعتن به البحث التاريخي والأنتروبولوجي والعقائدي (…) هذه مشكلة’’.

هل نالت فترات بناء الحوزات في النجف وقم والسياقات التي تكونت فيها، وتأثير كل ذلك على التيارات الشيعية، (نالت) نصيباً من اهتمامك؟

– يقول أركون ‘’نعم، وهناك باحثون كثيرون قاموا بذلك. ويجب ألا يتوقف هذا الجهد، لأن هناك أشياء كثيرة لا تزال لم تدرس’’، مضيفاً ‘’تنبغي دراسة ما جرى ويجري في قم منذ القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، وخصوصاً ماذا حدث ويحدث منذ ثورة (آية الله) الخميني’’.

وأضاف ‘’اطلعت على كتب تحليلية عن أنواع الإنتاج الفكري الذي يصدر من تلك المدينة التي لها تاريخ كبير كما وتأثير كبير (…) ما يجري في قم مثلاً ينتمي إلى العمل الأصولوي أكثر مما ينتمي إلى الفكر التأصيلي أو الفكر النقدي الخاص بعملية التأصيل’’.

واستدرك ‘’حتى هذا التمييز بين الأصولوية والأصولية لا أسمعه عند الناطقين باللغة العربية. أكتشف دائماً أن الناس يكتفون بالأصولية السلفية’’، موضحاً ‘’لا صلة أبداً بين علم الأصول كما تأسس وتم استعماله على مدى قرون عند الشيعة والسنة معاً، وبين ما يجري الآن’’ على حد تعبيره.

ورداً على سؤال آخر ذي صلة، علق أركون ‘’عندي دراسات كثيرة حول الأصولية والإخبارية. هناك كتب صدرت أخيراً وبينت الفرق بينهما. وأنا كتبت في هذا الموضوع، ولكن باللغة الفرنسية’’، مضيفاً ‘’رغم أن التيارين مختلفان وبينهم صراعات كثيرة إلا أنهما يشتركان في مسألة أنهما يتحركان داخل التقليد نفسه’’.

وقال ‘’لا يمكننا أن نعتمد لا على هذا ولا على ذاك، لأن كليهما لا يتقيد بالتحليل على حسب المناهج الألسنية والتاريخية’’.

تحدثت كثيراً في كتبك عن ما تسميه التضامن الأيديولوجي بين الدولة والأرثوذكسيات الدينية. كيف نقرأ ذلك في ضوء أن بعض الدول أصبحت تلجأ إلى استبدال النخب الليبرالية بنخب أخرى دينية لتأمين نوع من الشرعية لنفسها. خصوصاً وأن الأخيرة – أي التيارات الدينية – هي المهيمنة على الشارع الآن، فيما الليبراليون لا حول لهم ولا قوة؟

– يجيب ‘’أقول إن الداعم الوحيد لمشروعية الدولة هو إنتاج مباديء فلسفية لكل عملية تشريعية’’، موضحاً ‘’لأن المشكل المطروح اليوم والذي يناقش في الغرب بإسهاب بتمثل في السؤال التالي.. ما هو المصدر أو المصادر التي ينبغي أن ينبني عليها الاجتهاد التشريعي في أي مجتمع؟

وقال ‘’الاعتماد على الإسلاميين أو الشريعة الإسلامية يسهم فيما أسميه الفوضى الدلالية. ذلك أن الخطاب الإسلامي في جميع المجتمعات العربية والإسلامية خطاب منقطع عن العالم أو عن احترام ما يقوم به العقل’’.

وشدد أركون على ‘’ضرورة طرح السؤال المتعلق بطريقة تأصيل الاجتهاد التشريعي في مجتمعاتنا’’، معتبراً أن ‘’الدول اليوم لم تعد قائمة بالمعنى القديم للدولة’’.

واستدرك ‘’ما يضاعف من هذا المشكل هو أنه ليس هناك تشريع أو قانون يعتمد عليه على المستوى الدولي. فما نسميه اليوم تشريعاً دولياً هو شرع بنته بعض الدول الأوروبية التي سيطرت على العالم منذ القرن التاسع عشر’’، مضيفاً ‘’لذا لا يمكننا القول إن هناك قانوناً دولياً محترماً، بل هناك قانون مفروض بالقوة’’.

وقال ‘’كان هناك تيار قوي في فرنسا يدعو إلى الاعتماد على إحداث تصور جديد لمفهوم التشريع’’، مضيفاً ‘’القضية تكمن إذن في كيف نتصور المباديء التي يجب أن يتقيد بها العقل البشري على مستوى العالم لبناء شرع آخر. إذا قمنا بهذا الجهد، فإن الشريعة الإسلامية ستسأل نفسها أين يقع مكانها في هذا الشرع’’ على ما عبر.

عولت كثيراً على دراسة تشكل الألوهية في المجتمعات، وكيف أننا نحتاج إلى إعادة قراءة هذا التشكل لكي نؤنسن مجتمعاتنا. كيف ذلك؟

– يقول أركون ‘’هذا داخل في باب الدراسات المتعلقة بالخطاب القرآني. وهذا أيضاً لم نشرع فيه بسبب أن الخطاب القرآني لا يزال طاغ على الذهنية الإسلامية العربية’’.

ورأى أنه ‘’مادمنا لم نفكك الخطاب القرآني كله عن طريق الألسنية، وما دمنا لم نفرق بين ذلك وبين ما يأتينا ويفرض علينا منذ قرون من طريق الخطاب اللاهوتي، فإن المشكلة ستظل باقية’’، لافتاً إلى ‘’أن ذلك لا ينطبق على الإسلام وحده إنما على اليهودية والمسيحية أيضاً’’.

وأضاف ‘’مثلاً من يذكر اليوم ذاك الجانب المتعلق بإسرائيل القديمة والذي يتناوله القرآن تناولاً إيجابياً بإسرائيل القديمة. لا أحد ذلك أن إسرائيل المعاصرة ألغت تماماً الذاكرة القرآنية الإسلامية عن إسرائيل القديمة’’.

وتابع موضحاً ‘’هذا ليس تجريحاً في القرآن بل تذكير للناس بأن هناك ظاهرة قرآنية ألغاها التاريخ المعاصر الذي هو تاريخ أيديولوجي وسياسي’’.

وقال أركون ‘’مثال آخر يتعلق بصورة النبي موسى في الخطاب القرآني. إن من يعتني بقراءة القرآن، لاشك سيواجه صعوبة في التفريق بين الصورة القرآنية للنبي موسى وتلك الصورة التي يفرضها المخيال المعاصر لإسرائيل المعاصرة’’.

وأضاف ‘’انظر إلى قوة المخيال (…) البعض يعد ذلك تجذيفاً أو هدماً للقرآن أو ضرباً لقداسته. قل لي.. أين هو التجذيف؟. أين هو الهدم؟. أين هو نزع القداسة؟.’’ وفق تعبيره.

وتابع موضحاً ‘’هذا ما أسميه الفوضى الدلالية، وأنا أصر على استعمال هذا المفهوم حتى يدخل في الفضاء التداولى (…) ذلك هو المخيال الجبار الذي يجعلنا نعيش كلنا في خطابات استلابية. حتى أصبح استعمال الفكر في المجتمعات العربية كله واقع تحت سيطرة هذا الاستلاب’’.

ورداً على سؤال آخر، أوضح أركون ‘’أنا أستخدم مصطلع (الألوهية) ولا أستخدم مصطلح (الله). ذلك أننا لايمكن أن نخرج من (الله) القرآني في اللغة العربية. واستخدامه سيحدث تشويشاً وسوء تفاهم وفوضى دلالية كبيرة. يجب دائماً أن نجتنب الفوضى الدلالية. لايحق للباحث أن يساهم في إنتاج فوضى دلالية. وأناأكافح ضد هذا’’.

أخيراً، ماذا ستقول عن زيارتك الأخيرة إلى البحرين؟

– يجيب ‘’فوجئت بحجم الصراعات الواقعة بين المكونات الاجتماعية في البحرين (…) زيارتي الأولى في العام 2002 لم تكشف لي ذلك عن قرب’’، ‘’خرجت في الزيارة السابقة بانطباع إيجابي، ولكن ربما لأنني كنت أحلم’’.

وأضاف ‘’كان يمكن لهذا المجتمع الصغير أن ينهض ويتعايش في إطار مواطنة حديثة، بيد أنني لاحظت تقهقراً كبيراً على هذا المستوى’’ وفق تعبيره.

وتابع موضحاً ‘’هذا يطرح مشكلة الانتخابات في مجتمعاتنا التي لاتزال قديمة جداً وبطركية كما كانت في عهد القبائل’’.

ورأى إنه ‘’ما كان يجب على المجتمع أن يتورط في هذا الاتجاه ويعطى الفرصة لأن تنتهي الانتخابات إلى هذه النتيجة، مهما كانت الملاحظات على هذه الانتخابات’’.

لكن وعلى الرغم من ذلك، يتابع أركون مختتماً حديثه بالقول ‘’لست محبطاً، بدليل أنني أجلس مع أشخاص مثلكم يتمتعون بنصيب من الحرية (…) هذه الظاهرة ليست خصوصاً بكم. لذلك يجب أن تنتبهوا لذلك، وتلعبوا دوركم بمعزل عن كل ما يعطي لنشاطاتكم صبغة مائلة إلى الأيديولوجيا’’.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=45917

حوار مع أحمد الكاتب

الباحث العراقي أحمد الكاتب في حوار مع «الوقت»

الفكر الشيعي الآن تجاوز الفكر الإمامي الاثني عشري

حوار جريدة الوقت مع أحمد الكاتب
حوار جريدة الوقت مع أحمد الكاتب

الوقت:تحرير نادر المتروك

وُلد أحمد الكاتب في كربلاء سنة ,1953 ونشأ كما يروي، في بيئة إسلامية شيعية، وفي الستينات وعى حركة إسلامية شابة قامت أساساً على مبدأ تحدي التيار الشيوعي في العراق. هذه الحركة كانت تركِّز على الجانب الشيعي فيها، كما يقول، ثم دخلَ الحوزة العلمية سنة 1967 و1968 منخرطاً في ذلك التيار الذي هدف إلى إقامة حكومة إسلامية، وهو الحلم الذي بدأ يراود الكثير من الحركات العراقية. كان الحزب الذي انتمى إليه الكاتب هو ‘’منظمة العمل الإسلامي’’، والحركة المرجعية للسيد محمد الشيرازي التي كانت تؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، وكتب آنذاك داعياً إلى هذا المبدأ. في هذا الحوار يسرد الكاتب تحوّلاته الدراماتيكية، ويعرض جانباً من آرائه التي أثارت حفيظة واسعة النطاق. الزملاء في ‘’الوقت’’ علي الديري، حسين مرهون ومحمد المبارك التقوا مع أحمد الكاتب في أثناء زيارته إلى البحرين، وكان لهم معه هذا الحوار:

هل بدأت كتاباتك المؤيدة لولاية الفقيه بعد طرح فكرة شورى الفقهاء؟

– لا قبل شورى الفقهاء. كان المبدأ أساساً أن الفقهاء هم الذين يتولون القيادة الشرعية، وكانوا يدَّعون انحصارها فيهم امتداداً لانحصار القيادة الشرعية في أئمة أهل البيت بعد النبي، وكانوا يرفضون أي عمل حزبي أو شورى أو انتخابات أو غير ذلك. ثم قامت الثورة الإيرانية، فوجدنا فيها مصداقاً لنظريتنا، فانخرطنا فيها وتعاونا مع إيران من أجل الحصول على دعم لإحداث ثورة في العراق والتي كان لها جذور. كنتُ أحاول أن أدرس التجربة الإيرانية في فترة بقائي في إيران في الثمانينات، وأرى ما بها من إيجابيات وأخطاء لكي أستفيد منها. طُرحت في البداية نظرية ولاية الفقيه في الدستور الإيراني، وكانت محدودة في صلاحياتها، ولكن في سنة 1988 طرح الإمام الخميني نظرية الولاية المطلقة للفقهاء، والتي اعتبرها شقاً من ولاية الله وولاية الرسول والأئمة، وموازية لهم، وأن الفقيه له صلاحيات واسعة جداً بحيث لا يعرفها رئيس الجمهورية آنذاك السيد علي الخامنئي. هذه النظرية صدمتني في الحقيقة، لغرابتها، فبحثتُ فيها لمدة سنة فقهياً وأصولياً.

ولكن اصطدام منظمة العمل مع الثورة الإسلامية كان قبل العام 1988؟

– لا، لم يكن اصطداماً في الحقيقة. لقد ابتعد السيد الشيرازي عن الانخراط في التيار الخميني باعتباره مرجعاً مستقلاً، ولكن ‘’منظمة العمل الإسلامي’’ كانت متعاونة تعاوناً وثيقاً مع المجلس الأعلى ومع إيران. لم تأتِ الحركة الفكرية عندي من نقطة اصطدام مع الثورة الإيرانية، وإنما من دراستها والتوقف عند نقطة الولاية المطلقة للفقيه. ثم توصّلتُ إلى نتيجة أن نظرية الولاية المطلقة ليس لها جذور ولا أدلة كافية. ثم حاولتُ أن أقدِّم رؤية تاريخية للبحث الذي عملته، عبر تاريخ ألف سنة، منْ منَ علماء الشيعة كان يؤمن بولاية الفقيه؟ ومنْ منهم كان يرفضها؟ ثم ما الذي ترتَّب على ذلك من أعمال سياسية أو ثورات وغيرها؟ فوجدتُ أن هناك نظريتين، نظرية ‘’التقية والانتظار’’ وتحريم العمل السياسي في عصر الغيبة عند عدد كبير من العلماء وخصوصا في القرون السابقة، ونظرية ‘’ولاية الفقيه’’ وهي نظرية جديدة بديلة أو هي ثورة على نظرية ‘’التقية والانتظار’’. نظرية ‘’ولاية الفقيه’’ طُرحت قبل مئتي سنة وطبَّقها الإمام الخميني، والسيد الشيرازي كان يدعو أيضاً إلى نظرية ‘’ولاية الفقيه’’ قبل الإمام الخميني بعشر سنوات.

نظرية ولاية الفقيه.. مائة سنة

هل طُرحت نظرية ‘’ولاية الفقيه’’ قبل مئتي سنة!؟

– نعم، وكان أول من كتبَ فيها هو الشيخ أحمد النُراقي في كتاب (عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام). في هذا الكتاب فصل بسيط في علم الأصول تناول فيه: هل للفقيه ولاية أم ليست له ولاية، ولكن علماء الشيعة رفضوها، ناقشوها ثم ردُّوها ولم يؤمنوا بها. السيد الشيرازي تبنَّاها منذ الخمسينات أو الستينات، وطرحها الخميني في سنة ,1969 وكان الشيخ منتظري في إيران أيضاً يفكِّر فيها. ثم جرَّني البحث إلى موضوعات أهم من مسألة النيابة، وهي موضوع الإمام المهدي ووجود الإمام المهدي الغائب، ونظرية الإمامة كلها، العصمة والنص والوصية.

هل هناك منْ يقرأ حالتك قراءة ليرى فيها أن مشكلتك في البداية كانت مع نظرية ولاية الفقيه، وحين أردت هدمها احتجت لهدم شيء آخر، وهو الإمامة. وحين أردت هدم الأخيرة احتجت لهدم العصمة. وهكذا… كل ذلك لأن عندك مشكلة مع ولاية الفقيه؟!

– أنا في الحقيقة كنتُ أعتبر نظرية ولاية الفقيه نظرية إيجابية، ولا زلتُ أعتبرها كذلك. إنها نظرية متقدِّمة على النظريات السابقة التي كانت تكبِّل الشيعة وتخدِّرهم. وهي نظرية نهضة وعمل، وقد كنتُ من الملتزمين بها قبل الثورة الإيرانية. لم تكن لدينا أية مشكلة معها، ربما كان بين الإمام الشيرازي والإمام الخميني مشكلة شخصية، تتعلق بدوره وموقعه. وحتى عندما قمتُ بنقد هذه النظرية، قمتُ بنقد الولاية المطلقة وليس نظرية ولاية الفقيه، وقد جرَّني البحث إلى تلك الموضوعات عن غير قصد، كانت الفكرة تجرّني إلى فكرة أخرى، إلى أن اصطدمتُ بمعلومات تاريخية لم أطَّلع عليها من قبل. والنقطة التي توقفتُ عندها بعمق هي قضية الإمام الثاني عشر، هل هو موجود؟ هل هو حقيقة؟ هل هو فرضية فلسفية؟ ووجدتُ أن العلماء السابقين يعترفون بصراحة أنهم لا يملكون الأدلة الكافية على ولادته ووجوده واستمرار حياته، وإنما هم يفترضون كل ذلك افتراضاً، وذلك من أجل إنقاذ نظرية الإمامة من التلاشي والانهيار. وهذا ما دفعني إلى إعادة النظر في نظرية الإمامة. بحث ولاية الفقيه المطلقة جرَّني إلى تلك الأبحاث واكتشفتُ أن الإمام الثاني عشر محمد الحسن العسكري لا وجود له، والإمامة نظرية فريق صغير باطني من الشيعة وليست نظرية كلّ الشيعة أو عامتهم، وأن نظرية أهل البيت هي الشورى، ولم يكونوا يدَّعو لا العصمة ولا النص ولا الوصية.

أحمد الكاتب
أحمد الكاتب

نشأة الاعتقاد الإمامي.. والسفراء

هل في رأيك، أن للسفراء دورا في تأصيل فكرة الاعتقاد الشيعي؟ هل هي فكرة شخصية أم ماذا؟

– إنها عدة عوامل اجتمعت فيها؛ عوامل فلسفية وعوامل مادية وعوامل سياسية. العامل الفلسفي هو أن نظرية الإمامة إذا كانت صحيحة فلا بدَّ أن تستمر، ووصلنا إلى الإمام العسكري ولم نرَ له ابنا، فإما أن نسلِّم

بهذه الحقيقة ونقول توفي الإمام العسكري، وانقرضت نظرية الإمامة وانتهت، وإما أن نفترض أن له ابنا لكي تستمر النظرية في الفكر وليس في الواقع، لأنه في الواقع لا وجود له، وقد استمرت النظرية في الفكر فقط. وفي الدولة العباسية كان هناك هدف سياسي عباسي وراء دعم نظرية المهدي الغائب، في مقابل الدولة الفاطمية التي كانت تقوم في ذلك الوقت في اليمن وفي شمال أفريقية، حتى تقول لهم إنكم كاذبون ومنحرفون. فكانوا يدعمون هذه النظرية في مقابل الفاطميين، ونلاحظ بشيء من الدهشة أن الخلفاء العباسيين كانوا يتعاطفون مع هذه الفكرة كالمعتضد العباسي، والناصر لدين الله العباسي الذي حفر سرداب سامراء وترك اسمه على الأبواب والمنابر، وهذا الأثر موجود في سرداب سامراء إلى يومنا هذا. كانت محاولة لإدخال الشيعة في سرداب الغيْبة، حتى يغيب الشيعة وليس الإمام. أنا أعتقد أن الاثني عشرية كانت حركة مدعومة من العباسيين في مقابل الفاطميين. وأيضاً كانت هناك مصلحة مادية وشخصية للنواب، ولم يكن النواب أربعة بل ,24 وكانت هناك جماعات كثيرة تدَّعي وجود هذا الإنسان وتدَّعي النيابة عنه، وهذه الجماعات كانت متصارعة ويكذِّب بعضها بعضاً، لأن الفكرة كانت صناعة للغنائم وقبض الأموال من الشيعة باسم الإمام المهدي.

منذ عقدين من الاشتغال على الفكرة، من 1988 إلى 2006 وصدور كتاب حول الفكر السياسي الشيعي في التسعينات، وأمام جيش الردود والهجمة التي وُجِّهت لك من قِبل التيارات الشيعية في أكثر من مكان. ما الذي ثبَّته عندك هذا الشيء وما الذي غيَّره؟ بعد هذه الفترة هل توجد بينك وبين الكتاب مسافة نقدية؟ ألم تفترق عن شيء عما جاء في هذا الكتاب كما افترقت عن كتابات سابقة حول ولاية الفقيه وغيرها من الأمور؟

– في الحقيقة عندما توصلتُ إلى هذه النتائج في بحثي سنة 1990 وبدأتُ أناقش العلماء والمراجع والمفكرين، شخصياً وعبر رسائل، ونُصحتُ بألا أستعجل في كتابة الموضوع إلا بعد أن أتجاوز كل النقاط بحثاً ودراسة. ووجدتُ أن هذه النصيحة معقولة جداً، لأن هذا الموضوع يهمني دينياً ودنيوياً، وسوف يقلب حياتي رأساً على عقب، أيضاً لو تعجَّلتُ في المسألة لربما ارتكبتُ خطأ كبيراً في بحث يتعلق بعقيدة دينية وسوف أتحمَّل وزرها. هذا ما جعلني أستمر لعامين آخرين في مواصلة البحث والنقاش، وبعد أن أتممتُ البحث قضيتُ خمس سنوات أخرى في البحث والنقاش مع العلماء. ما فاجأني بعد أن أتممتُ البحث هو أنني وجدتُ العلماء والمراجع جميعهم يغفلون عن بحث هذا الموضوع، ويهملونه باعتباره أمراً مفروغا منه وليس في حاجة إلى المناقشة. وأنا بالصدفة بحثتُ في هذا الموضوع بعمق، والحوارات التي أجريتها مع العلماء أكَّدت لي صحة ما توصلتُ إليه، وكذلك النقاشات المكتوبة التي وردت في كتاباتي فيما بعد، وجدتُ هؤلاء جميعهم يؤكدون النتائج التي توصلت إليها.

توجد أدلة تاريخية عن هذا الاعتقاد وتوجد أيضاً روايات عن الأئمة والإمام العسكري والمهدي وتوجد أسماؤهم بأن آخرهم هو المنتظر. هل بحثتَ في هذه الأحاديث؟ وما الذي وجدته؟

– نعم بالطبع. كان هذا جزءاً من البحث. انقسم بحثي إلى ثلاثة أقسام رئيسية، البحث الفلسفي والأدلة الفلسفية، والأدلة الروائية والأدلة التاريخية. في البداية استعرضتها جميعها، جميع ما كتبه العلماء السابقون، ثم ناقشتها دليلاً دليلا. وجدتُ أنهم يقولون أن الدليل الأقوى والمعتمد هو الدليل الفلسفي، أي الافتراض الفلسفي، ثم يأتون إلى الأدلة الأخرى، وهي أدلة روائية تركيبية، وروايات مختلقة وموضوعة ومركَّبة على بعضها. مثلاً روايات الغيْبة هي روايات رواها الواقفية عن الإمام موسى الكاظم أو عن محمد بن الحنفية أو عن فلان الشخص القديم، ثم ركَّبوا هذه الروايات على الشخص المفترض وجوده. أما الأدلة التاريخية فهي مجرد إشاعات واهية جداً لا يوجد لها سند ولا دليل ولا راوٍ معروف، إنها في منتهى التهافت. ويعترف المحققون الشيعة بذلك ويقولون إن هذه كلها روايات ضعيفة، ولكننا نأتي بها من باب المعاضدة. نحن نثبت الموضوع أولاً في الاستنتاج الفلسفي، ثم إن شئتَ أخذتَ بهذه الروايات وإن شئتَ أن لا تأخذ بها، فهذا غير مهم! إن المسألة إنْ لم تُثبت بالأدلة الفلسفية فمن المستحيل إثباتها بالأدلة الروائية والتاريخية، هكذا يقول العلماء. إنهم يعترفون فيما بينهم بأن الأدلة ضعيفة جداً.

الفكر السياسي والمهدي.. والمشكلة

يبدو من سردك أنك انتهيتَ الآن إلى أن هذه النتائج تقودك إلى مستوى البحث في مشكلة الفكر السياسي في حضارتنا الإسلامية. فهل تجد أن الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية تكمن مشكلته لدى الشيعة في تعاضده مع الإمام المهدي؟

– إن سمحتَ لي أن أوضح نقطة مهمة في هذا السياق، وهي أن الفكر الشيعي السياسي الآن، تجاوز الفكر الإمامي الاثني عشري. لم يعد الشيعة الآن إمامية اثني عشرية، إنما هذا فكر منقرض وغير عملي. لذلك بدأ الشيعة يتبنون نظريات جديدة كالنظرية الديمقراطية مثلاً، أو نظرية ولاية الفقيه. نظرية ولاية الفقيه في الأساس نظرية زيدية متناقضة مع الفكر الإمامي مطلقا، وهي مفروضة من قِبل الإماميين في القرن الرابع، وقد طُرحت في الكتب على الإمامية بأن يلتزموا بنظرية ولاية الفقيه كبديل عن الإمام الغائب، ويوجد من ردّ عليها كالشيخ الصدوق في كتابه (إكمال الدين)؛ بأن هذه الفكرة مرفوضة نهائياً ومن المستحيل أن يقبل بها، لأنها تتناقض مع ضرورة العصمة في الإمام أو الرئيس، وضرورة النص والسلالة العلوية وما إلى ذلك. أما ولاية الفقيه فلا تشترط العصمة ولا النص ولا السلالة، ومن الممكن أن يصير أي إنسان إماماً أو رئيساً. إن الشيعة الآن متقدمون جداً في الفكر السياسي المعاصر، إننا نرى السيد السيستاني مثلاً يتبنى الفكر الديمقراطي تماماً، ويُؤسس لنظام ديمقراطي جديد في العراق. إذن لستُ أنا الذي أنقد هذا الفكر، وإنما الواقع هو الذي يفرض هذا، والشيعة الآن بعامتهم قد تخلوا عن هذا الفكر عملياً، وإنْ كان قد تخلى بعض الشيعة عنه نظرياً.

عن أي شيعة تتحدث؟ هل تتحدث عن الشيعة كمؤسسة؟

– أتحدث عن الجماهير، كما في العراق ولبنان وإيران. حتى في إيران على رغم من أن نظرية ولاية الفقيه متقدِّمة على فكر الانتظار السلبي، إلا أن هناك حركة تنادي بالتقدُّم نحو الأمام ولمزيد من الديمقراطية والتخلص من هيمنة ولاية الفقيه أو رجال الدين على السلطة. يوجد الآن صراع عنيف في إيران بين أطراف تحاول أن تلغي الديمقراطية وأخرى تحاول أن تكرِّس الديمقراطية، وتلغي هيمنة رجال الدين على العملية السياسية.

تحوّل السياسي إلى دين.. واليمقراطية

ذكرتَ أن الشيعة الآن تجاوزوا فكرة الإمامة الإلهية بتحولهم إلى الأفكار الديمقراطية. إن مشكلة إثبات وجود أو عدم وجود الإمام المهدي، ليس لها علاقة بقبول الديمقراطية أو عدم قبول الديمقراطية، بدليل قوي هو أنهم تحولوا الآن إلى الديمقراطية وهم مؤمنون بفكرة الإمام المهدي كفكرة عقائدية، وهي جزء من هويتهم وجزء من مذهبهم وجزء من ديانتهم؟

– أحسنت، نعم.. صار التحوُّل السياسي إلى دين، وهذه مشكلة كبيرة في كلّ الأديان العظمى. فالكثير من القضايا السياسية تتحوّل إلى قضايا دينية. الفكر الإمامي كان فكراً سياسياً في مرحلة معينة، ثم تحوَّل إلى قضية دينية وعقيدية، ولو كان الناس يدركون جوهره السياسي، لتخلوا عنه بالمرة حتى نظرياً، وهذه النقطة بحثتها مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وكنتُ قد عرضتُ عليه كتابي قبل أن أنشره، وسألته عن رأيه في الكتاب، وكان ذلك سنة ,1995 فسألني: ما هو هدفك من هذا الكتاب؟ وما هي النتيجة والخلاصة؟ قلتُ له: أريد أن أصل إلى الشورى، أن أصل إلى الديمقراطية، فقال لي: أنا وصلتُ لها، فقلتُ له: ولكن لا يمكن لأمتنا أن تصل إلى الشورى أو الديمقراطية مع وجود فكر آخر يعرقلهما ويعوق العملية، كنتُ أريد أن نبحث في هذا الفكر لكي نصل إلى الديمقراطية بصورة قوية. صحيح أن الفكر الإمامي أصبح الآن عقيدة لدى الشيعة، ولذلك يصعب عليهم التخلي عنه، ولكن حقيقة الفكر الإمامي هو فكر سياسي، وله انعكاسات قديماً وحديثاً. كما في نظرية الانتظار السلبي وعدم جواز إقامة الدولة في عصر الغيبة، وهيمنة الفقهاء باسم النيابة عن الإمام، وكذلك ما يمثله السيستاني من هيبة دستورية ناشئة من الفكر الذي يجعله عمليا الرمز الأعلى، ما يعوق العملية السياسية. ولا يمكن أن نصل إلى الديمقراطية الحقيقية، إلا بمناقشة جذور هذه النظرية، وما الذي يستند عليه المرجع أو الفقيه، أي كونه ‘’نائب الإمام’’، فإذا كان المنيب غير موجود، فكيف تكون نائباً له؟

في قبال أزمة الفكر السياسي الشيعي، كيف نقرأ أزمة الفكر السياسي السني؟

– أنا أعدّ دراسة منذ سنوات وآمل أن يوفقني الله لإتمامها قريباً؛ وهي في تطوّر الفكر السياسي السني. أول هذه الأزمات هو تحوُّل الخلافة إلى نظام روحي وديني، فالخليفة عنصر مطلق وله مكانة دينية، وهناك طموح لإعادة الخلافة كرمز روحي للمسلمين. وأيضاً في تفاصيل الفكر السياسي السني؛ توجد ضبابية واسعة في حدود أهل الحل والعقد، وكيف يأتون ومن أين، ومنْ هو الذي يعَيِّنهم، ومنْ يمثلون، وكذلك الغموض في الطاعة المطلقة للخليفة، فالخليفة حتى لو عصى وظلم وفعل ما شاء فيجب عليهم إطاعته.

ولكن ألا يمكن أن نقول أن الفكر السني المعاصر تجاوز هذا؟

– لقد تجاوزه في بعضه، فهناك حركات منذ أكثر من مئة عام حاولت ذلك، وهي حركات تؤمن بالفكر الديمقراطي، مثل حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وآخرون قبلهم وبعدهم. ولكن هناك أيضاً محاولات سلفية تحاول إنتاج ذلك الفكر، وتمارسه حتى الآن. فالكثير من الحركات والأنظمة السياسية السنية تمارس الفكر السياسي السني للخلافة. فكر الخلافة لم ينقرض، بل لايزال حياً ويعاني منه المسلمون. إننا نعاني حتى الآن من الاستبداد الموجود في فكر الخلافة، ولكن هناك حركات إصلاحية تحاول التخلص من هذا.

وما هي الصيغة القانونية التي تصلح الفكرين السياسي السني والشيعي؟

أحمد الكاتب
أحمد الكاتب

– الحركة الإصلاحية يجب أن تكرّس الشورى وتطوّرها. هناك عقدة في الحركة الشيعية والسنية باعتبارها تجربة غربية، ودعوى أن ديننا الإسلامي متكامل، ولسنا بحاجة إلى أخذ أية تجربة إنسانية من كفار، هذه الشمولية فيها إشكال. أنا أرى أن المساحة السياسية تركها الإسلام عن عَمد للعقل وللتجارب الإنسانية، فلم يتدخّل في تفاصيل النظام السياسي، لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية. فكيف يكون النظام السياسي؟ وكيف يُنتخب؟ وكيف يتشكَّل؟ هذه الأمور كلها مساحة متروكة للأمة لكي تبدع فيها وتطوِّرها. فكما تعلمون أن الأصل في الدين هو التعبُّد، أي عدم الإبداع وكل بدعة حرام في الدين، ولكن الأصل في القضايا الإنسانية هو الإبداع وليس التعبُّد، أي الإبداع وإنتاج أي نظام جديد. وإذا حدَّدنا حدود الدين وحدود المسموح به إنسانياً وعقلياً، فسوف ننفتح إنسانياً على أية تجربة إنسانية غربية أو شرقية، وهذا لن يضرّ ديننا. التجربة الغربية هي عدة تجارب مختلفة وليست تجربة واحدة، وبإمكاننا أن نقتبس الإيجابيات بما يتوافق مع ديننا وأخلاقنا ومبادئنا وثقافتنا، ونترك الفلسفة الغربية المادية.

حلّ عقدة السنة والشيعة

لقد درستَ الفكر السياسي الشيعي من خلال إخضاعه إلى منطق التاريخ، وتوصلت إلى إسقاط مقولات مركزية وإخضاعها لهذا المنطق التاريخ أيضاً كالإمامة والعصمة، وأنت الآن تدرس الفكر السياسي السني بنفس الطريقة. هل يمكن أن نتنبأ بإحداث تحوُّل في مسيرة عملك لدراسة الظاهرة الدينية نفسها بوصفها ظاهرة تاريخية؟ كظاهرة الوحي والنص والنبوة كما يدرسها عبدالكريم سروش في ‘’القبض والبسط’’؟

– في الإسلام كلّ شيء قابل للدراسة، والإسلام يدعونا لذلك. أنا أعتقد أن الدين ثابت وخالد وهو يتعالى على القضايا السياسية المتحركة. إن المشكلة ليست في الدين بل في النظريات السياسية الدخيلة على الإسلام والتي تحوَّلت إلى دين، فأصبحت عقائد إضافية وصارت عقدة في المجتمع. هذه العقائد الإضافية إذا تخلصنا منها، ونحن نؤمن بإله واحد، وبالآخرة وبنبوة محمد، وبأن النبي محمد علَّمنا الأخلاق والمبادئ السامية والعلاقة الطيِّبة مع الآخرين، وبعض القوانين لحماية الحضارة الإنسانية، كحفظ النفس والعرض والمال والحقوق العامة.. فليست لدينا مشكلة. ويوجد هناك توجُّه غربي الآن لاقتباس هذه الأمور الإيجابية من الإسلام والاستفادة منها، فهناك غربيون من أساتذة القانون الدولي قاموا بهذه الدراسات واختاروا الإسلام باعتباره أفضل ضمان لتقدُّم البشرية وحلّ المشكلات المعاصرة الآن. إن أحد جوانب بحثي حول الإمامة هو حلّ العقدة بين الشيعة والسنة، وهي العقدة الاجتماعية المزمنة، والتي تتسبب دائماً في نزيفٍ وكراهيةٍ في المجتمع. فإذا توصلنا إلى أن الإمامة هي نظرية سياسية وليست من الدين، وأن النبي لم ينصّ على الإمام علي، وأن المسلمين هم الذين انتخبوا الخليفة، فسوف تكون هناك مصالحة بين الشيعة والصحابة، ولن يكون هناك (اغتصاب للسلطة) كما يدَّعي الشيعة الإمامية، وسوف تنتهي المشكلة المزمنة.

ولكن إمامة الإمام علي شيء أساسي لدى الشيعة..

– لا ليست أساسية في الفكر الشيعي، بل في الفكر الإمامي. لو تابعنا التطوُّر التاريخي لهذه النظريات، وهي نظريات متراكمة، لرأينا أن الفكر الشيعي في القرن الأول كان فكراً سياسياً، فهو انتماء سياسي لأهل البيت وللإمام علي، ولم يحمل نظريات فلسفية في الموضوع، وبالتالي كان متصالحاً مع أبي بكر وعمر وبقية الصحابة. ولكن عندما وُلد الفكر الإمامي في القرن الثاني الهجري بدأت المشكلة تظهر، لنغرق في هذه الأساطير والحكايات، ونشكِّل عقدة مع بقية المسلمين. سألتُ بعض الأخوة السنة هنا: ما مشكلتك مع الشيعة؟ فقال لي: سبّ الصحابة، وبالفعل إنها مشكلة، فإذا كنتَ تقدِّس الإمام علي وتسمع منْ يشتمه، فسوف تكرهه وتعاديه، وهذا يؤدي إلى حدوث توتر في المجتمع. هذه الأفكار السلبية في النظريات الخاطئة، هي التي ولَّدت عقدة في العلاقات الداخلية بين السنة والشيعة على مدى التاريخ. إضافة إلى النتائج السياسية التي تُوصلنا لها القراءة الجديدة لذلك الفكر، وتُحرّرنا من هيمنة المراجع ووصولنا للفكر الديمقراطي، وبذلك سنتخلص من الإرث الثقافي السلبي الثقيل الذي يجثم على صدور الشيعة ويوتر علاقتهم بالآخرين، وهذه نقطة في حدِّ ذاتها مهمة جداً.

أنا مسلم.. وكفى

أنتَ الآن بأي معنى شيعي؟

– أنا أؤكد على أني مسلم أولاً بعفويتي، أنا مسلم ديمقراطي، أؤمن بالديمقراطية في المجال السياسي. أنا مسلم وهذا يكفي، ولست بحاجة لا إلى شيعي ولا إلى سني. ولكن التعريف الآخر هو أني أؤمن بالديمقراطية القائمة على أسس الإسلام، وعندما أقرن بين الكلمتين (الإسلام والديمقراطية) فلأن الديمقراطية أوضح من الشورى، فالأخيرة غامضة تاريخياً ومشوَّهة. وأنا شيعي باعتبار أنني أحب أهل البيت، وليست هذه قضية أساسية في الدين، أنا أوالي أهل البيت، وإن كان هناك منْ لا يواليهم فلا مشكلة في ذلك. الولاء السياسي كان في التاريخ عندما كان أهل البيت موجودين والناس يوالونهم ويلتفون حولهم سياسياً وينتخبونهم للحكم، أما الآن فلا معنى للولاء السياسي، إلا مجرد الحب، وليس صعباً على أي إنسان أن يحب هؤلاء القادة والزعماء الذين ضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية والكرم والتواضع والأخلاق الحسنة، فلماذا لا نحبهم؟

ولكن بحثك جرى استثماره في تاريخ الفكر السياسي من قِبَل السلفية السنية في مناكفاتها مع الشيعة.

– صحيح، ولكني لم أقصد هذا، وأنا أرفض هذا الاستثمار، وأدعو أيضاً الأخوة في الحركة السلفية والحركة الوهابية إلى إعادة النظر في فكرهم السياسي وفي تراثهم وثقافتهم، وأن يقوموا بدراسة تحليلية لفكرهم. هم أيضاً يعانون من مشكلة ثقافية تحوّلت إلى سياسية، وهي مشكلة التكفير المتسببة في توتير علاقاتهم مع الآخرين، وتؤدي بهم إلى أزمة داخلية، وأزمات مستمرة عبر التاريخ داخل الحركة السلفية وداخل الأمة الإسلامية، وهذه مشكلة كبيرة يجب أن ينتبهوا لها ويدرسوها، فلا يكفي أن أفرح بنقد الآخرين، لأن الإنسان الحريص على مصلحته ومصلحة أمته عليه أن يبادر إلى نقد ذاته أولاً قبل أن ينقد الآخرين. أنا لا أكتب من أجل السجال الطائفي، وأعتقد أن جميع المذاهب الإسلامية على نسبةٍ كبيرة من الصحة والصواب؛ لأنها تؤمن بالله تعالى وبالإسلام وبمحمد وبالآخرة، وهذا هو جوهر الدين. وكل مذهب لديه إضافات واجتهادات سلبية في الإطار السياسي، ولا بدَّ أن يعيد النظر فيها.

هل ولّدت كتاباتك وبحثك في هذا المجال جماعةً معيَّنة تتبنى هذا الفكر؟

– كما قلتُ: إن حركة الواقع عند الشيعة أقوى من حركة الفكر، بل ومتقدمة عليه. وأنا أشاهد حركة فكرية واسعة داخل قمّ والنجف ولبنان، في كل الساحة الشيعية هناك اهتمام وتطلُّع إلى التغيير والإصلاح والتحرُّر من مخلفات الماضي ومن اجتهادات السابقين والنظريات التراثية السلبية.

وكيف ترى المسألة على المستوى السني؟ هل حركة الواقع أيضاً متقدِّمة على حركة الفكر؟

– نعم هناك تقدُّم، وتوجد فصائل ليس من الضرورة أن نسمِّيها إسلامية، فأي حركة ديمقراطية في الوطن العربي أو الإسلامي هي حركة متقدِّمة، فهم مسلمون ويمثلون شرائح جماهيرية عريضة تؤمن بالديمقراطية، فالديمقراطية حاجة شعبية قبل أن تكون مطلباً أجنبياً لفرضه على بلادنا. هناك سعي لإقرار الديمقراطية في البلدان العربية، وتوجد حركات إسلامية تتصدر لتطبيق الديمقراطية. وتوجد حركات محافظة ومتحجرة ترى في الديمقراطية كفراً وإلحاداً وتناقضاً مع الإسلام، وبالتالي يجب أن تُقاوم الديمقراطية، وهي تضرّ نفسها من حيث لا تشعر، ولو أنها التفتت إلى الديمقراطية ودرستها دراسة جيدة، لرأت أن من الممكن أن تكون مفيدة لها قبل أن تكون مفيدة لغيرها.

العقلية السياسية السنية والشيعية

ألاحظ أنك تختصر المشكلة السنية والشيعية في المسألة السياسية، ويبدو لك بأن الحل هو الوصول إلى النموذج الديمقراطي. ألا تعتقد بأن هذا اختزال لطبيعة المشكلة وأن المسألة أعمق من المسألة السياسية وتتعلق بالمسألة الدينية نفسها والعقل الديني؟

– كلها مترابطة، فالعقلية السياسية السنية والشيعية هي مخلفات للنظريات السياسية القديمة، وتحوَّلت إلى عُقد مزمنة ومتعفنة وسبّبت مشكلات في جسد الأمة. عندما ندرس المذهبين السني والشيعي ونقوم بتفكيكهما ونعيد الدين إلى حجمه الحقيقي، ونقول إن هذه الأمور سياسية وكانت بنت تلك الظروف ويجب أن نتخلص منها وتنتهي الطائفية والمشكلات، ونتقدَّم نحو بناء النظام الديمقراطي، فإن النظام الديمقراطي سوف يحلّ الكثير من المشكلات؛ لأن الكثير من هذه المشكلات الطائفية هي بنت الاستبداد والديكتاتورية. فالطائفية تنشأ في بيئة الاستبداد، وعندما تكون هناك ديمقراطية ووعي لها وللذات والتراث، فإننا سوف نحلّ الكثير من هذه العُقد.

على المستوى الشخصي، هل عرّضتك هذه الأفكار الصارمة إلى مشكلات كثيرة، وكيف تعاطيتَ مع ردود الأفعال؟

– في الحقيقة لا توجد مشكلات كثيرة. يوجد تفاعل. وإنْ كان يوجد نوع من الصدمة الأولى، وأنا أعترف بأن الأفكار التي طرحتها هزّتني أنا أولاً، وسبّبت صدمة نفسية وثقافية لدى الكثير من الناس، ولكن عموماً كان ردّ الفعل طبيعياً واعتيادياً وأقل من المتوقع. بعض العلاقات تأثرت، وبعضها لم يتأثر، ولا زلتُ أحتفظ بعلاقات مع الكثير من الناس والأخوان، واكتسبتُ أيضاً علاقات جديدة. يوجد في صفوف الشيعة منْ كان ينتظر هذا الفكر من زمان، فهناك متابعة وتفاعل فكري معي في أوساط الحوزة العلمية في قمّ والنجف، وهو ما زال يتفاعل إلى الآن وينتج ويكتب في هذا المنحى الإصلاحي وإعادة النظر في التراث من أجل تشذيبه أو تهذيبه.

تزامناً معك، اشتغل فؤاد إبراهيم صاحب كتاب (الفقيه والدولة)، على الموضوع نفسه وهو الفكر السياسي الشيعي، ولكن الصدمة التي أحدثتها أنت لم تكن بمستوى الصدمة التي أحدثها هو. فكيف تنظر إلى عمله؟

– لقد اقتصر بحثه على تطوُّر الفكر السياسي في عصر الغيْبة، كالمرجعية وولاية الفقيه. هناك كاتب آخر في قمّ يقترب مني ويتفق معي، وهو الشيخ محسن كديفر، فقد كتب كتاب (النظريات السياسية الشيعية في عصر الغيْبة)، واستعرض فيه نحو عشر نظريات، وتوقف عند نظرية ولاية الفقيه، وقال إنها ليست أول نظرية ولا آخر نظرية، ثم تعرَّض بعد ذلك إلى الاعتقال وال طرد من الحوزة. وتوجد أيضاً كتابات أخرى، مثل الدكتور سُروش الذي يقول إن الديكتاتورية الإيرانية المعاصرة هي وليدة النظرية المهدوية.

أحمد الكاتب
أحمد الكاتب

لا تصالح مع «الإثني عشر»

ولكن يظهر في مشروعك أن فكرة المهدي أو الإمام الثاني عشر، هي الفكرة المركزية التي إذا لم نسلِّم بها فلا يمكن أن نسلِّم بأي شيء آخر أو لا يمكن أن ندخل في الفكر السياسي الشيعي. لاحظتُ أن هذه المسألة تحوَّلت لأسباب كثيرة إلى مسألة عقائدية، فإلى أي درجة يمكن أن نحمل أحمد الكاتب في مشروعه أن يتصالح مع هذه الفكرة لمسألة ترتبط على الأقل بحركة الواقع الموجودة، ويكون اشتغاله على الفكر السياسي مع التصالح مع هذه الفكرة. هل يمكنك ذلك؟

– (ضاحكاً) لا إنني لا أتبع نهجاً تصالحياً مع أي شيء. إذا كانت الفكرة صحيحة فإنني أقول إنها كذلك، وإذا كانت خاطئة فإنني أقول إنها كذلك. إنني أنظر إلى المسألة من زاويتين، من زاوية الفكر السياسي ومن زاوية العلاقات الداخلية الإسلامية، العلاقات بين الشيعة والسنة، وأرى أن هذه العلاقات مهمة جداً، وهي تصب في الخانة السياسية. يجب أن نتجاوز التكوينات الطائفية ونلغيها، نحن الآن أبناء هذا الزمان، ولدينا شيء واحد خالد هو الدين والإسلام والقرآن، ولدينا النظام السياسي الذي يجب أن نطوِّره حسب ظروفنا. إن العقدة الموجودة الآن تعيق من الناحية العملية الديمقراطية كما في العراق الآن. فحتى لو كنا في حالة سلمية، توجد لدينا عقدة في العلاقات الاجتماعية على صعيد الزواج والتعليم والسياسة والعمل والتجارة. هناك مشكلة تحت الرماد، فلماذا لا ننهي هذه المشكلة؟ توجد كراهية وعداء في المجتمعات الإسلامية، ويجب أن نحل هذه المشكلة بإعادة النظر في كل هذه القضايا، وبالذات في موضوع الإمامة وفي موضوع الإمام الثاني عشر، فهو حجر الزاوية الآن لنظرية الإمامة، والتي أوشكت على أن تنتهي عملياً ونظرياً في القرن الثالث الهجري، ولكن اختلاق فرضية الإمام الثاني عشر أدى بالنظرية إلى أن تستمر وإلى أن تتكون الفرقة الاثني عشرية على هذا الوهم الذي كان في التاريخ. فلا يمكن أن نتصالح مع هذا الواقع وهو واقع فاسد وسيء ومضر بالعملية الديمقراطية وبالمجتمع بصورة عامة، فكيف يمكن أن نتصالح معه؟

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=44713

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=45743