أرشيف التصنيف: حوارات

حوار مع سليمان زغيدور1-2

التقته «الوقت» على هامش ندوة في مركز الشيخ إبراهيم.. سليمان زغيدور
أدين إلى فرنسا بمعرفة الحضارة العربية.. والصحافة عرفتها في «المخبزة»

”حارس الليل لكن ليس حارس القبيلة”. هكذا يلخص الصحافي الفرنسي من أصل جزائري سليمان زغيدور موقفه من مهنة الصحافي اليوم بعد ثلاثين عاماً من العمل في الصحافة. ويقول ”إنني أعمل في الصحافة لأنني أحب هذه المهنة وليس لأنها شيء خارق”. ويجادل زغيدور أن الصحافة اليوم تواجه تهديداً بفعل ثورة المعلوماتية والإنترنت أكثر من ذاك الذي كانت تواجهه على الدوام من طرف الديكتاتوريات وأجهزة الرقابة. كما ينتقد التعريفات التي تحصر وظيفة الصحافي في عملية نقل المعلومات.  قال ”تلك مهمة يمكن أن تؤديها وكالات الأنباء لكن مهمة الصحافي شيء آخر تماماً”. وأضاف موضحاً مستنداً إلى تجربته في هذا المجال ”أنتمي إلى مدرسة ترى إمكان صبغ الخبر بإضاءات إنسانية وعاطفية شريطة الموضوعية”.
وهو الأمر الذي يعتقد أنه يشكل نقطة الافتراق مع الصحافة المعاصرة التي تغلب عليه شروطاً معيارية. مثل معظم جيله، لم يدرس الصحافة لكنه عرفها ”في المخبزة” كما يعبر مستفيداً من حكمة فرنسية. ”الوقت” التقته على هامش زيارته إلى البحرين في فبراير/ شباط الماضي للمشاركة في ندوة عن ”المسلمون في أوروبا” بمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. فيما يلي مقتطفات من الحوار معه:
قبل كل شيء، كيف تعرّف نفسك؟

– أعمل صحافياً وكاتباً منذ أكثر من ثلاثين عاما. في هذه الفترة غطيت ثلاث مناطق، وهي: أميركا اللاتينية، الشرق الأوسط، روسيا وآسيا الوسطى.
 هل تشعر بانتماء إلى بلد معين أو منطقة معينة وأنت في فرنسا الآن؟
– أقيم في فرنسا منذ أكثر من ثلاثين عاما. لا أشعر بأي غربة في هذا المكان ولا حتى في المناطق التي عملت فيها. جميع المدن التي عشت فيها أحببتها. في السبعينيات عندما بدأت أحتك مع عالم الصحافة في الجزائر، كانت الجزائر ملجأ لكل المعارضات.. التشيلية والبرازيلية والأرجنتينية. وهو الأمر الذي عرفني على عدد كبير من المثقفين والفنانين والأطباء من هذه البلدان، ودفعني إلى زيارتها لاحقاً، رغم أنني كنت مراهقاً. زرت البرازيل بمساعدة من منظمة اليونيسكو لعمل دراسة عن الهجرة العربية في أميركا اللاتينية. هناك عرفت أن في البرازيل وحدها أكبر جالية عربية في العالم ? نحو 10 ملايين من أصول سورية ولبنانية وفلسطينية -. وأول كتاب كتبته كان عن ”الهجرة العربية في أميركا اللاتينية”. بموازاة من ذلك، كانت الجزائر على علاقة وثيقة بالاتحاد السوفيتي. كان الأخير يحرص على أن يرسل للجزائر عدداً من المجلات على سبيل الدعاية. كان من بينها مجلة ”الشرق السوفييتي”. وفيها كان يمكن أن تجد معلومات ضافية مدعمة بالصور عن مدن مثل سمرقند وبخارى، وعلماء مثل الترمذي والزمخشري وابن سينا والخوارزمي. وهو الأمر الذي دفعني إلى زيارة أوزبكستان. 
هل يمكن القول إن طفولتك في الجزائر قد التقت بمختلف أشكال المعارضات الموجودة في العالم؟
– لا، أنا لم أتعرف على المعارضات بقدر ما تعرفت على ثقافات البلدان التي وفدوا منها. لم تكن العلاقة سياسية إذن، فساعتئذ كنت صبياً مراهقاً. أستطيع القول إن العلاقة كانت ثقافية، وقد اكتشفت الثقافة والموسيقى البرازيليتين من خلال جماعات المعارضة. 
وإلى أين قادتك هذهِ المعرفة بالثقافة البرازيلية؟
– الآن أنا أتكلم اللغة البرازيلية بطلاقة. سافرت في أنحاء أميركا اللاتينية وتعمقت كثيراً في دراسة تاريخها الأدبي، الموسيقي والسياسي.
* لنعد إلى الوراء قليلاً، كيف كانت ظروف هجرتك إلى فرنسا؟
– لم تكن هجرتي أمراً خارقاً للعادة. كنت في العشرين من عمري، وكان لدي، حالي حال معظم العوائل الجزائرية، أخوال وأعمام وأبناء عمومة يقيمون في فرنسا. كنت على معرفة باللغة الفرنسية فيما الثقافة الفرنسية تخترق معظم نظام حياتنا كجزائريين، ولها وجود عميق. لذا كانت الجسور موجودة بين الجزائر وفرنسا، وهو الأمر الذي سهل ظروف هجرتي.
ولكن ألم تكن تجربة جديدة، وجودك الأول ضمن المجتمع الفرنسي؟
– طبعاً. فقد كان لدي عشرون سنة، ورغم ذلك فقد عرفت الخروج من حضن العائلة والعيش فرداً. فكان اكتشافي المبكر جداً للحرية والوحدة والمسؤولية. ذلك كان الشيء الجديد في لقائي الأول مع فرنسا.
 هل قطعتك هذه التجربة عن العالم العربي؟
– على العكس تماماً. حين ذهبت إلى فرنسا لم أكن أعرف معنى كلمات مثل الشريعة أو الفقه أو السنة النبوية أو السيرة. هناك بدأت أهتم بهذه الأشياء ورحت أدرس التاريخ العربي والإسلامي ومن ثم درست الديانات الأخرى. العيش في فرنسا حررني من بعض القيود الفكرية، الشعورية وحتى اللاشعورية، ولكن في الوقت نفسه جعلني أقترب أكثر من الثقافة والتراث الحضاري العربي.
 هل عرفت ذلك عبر الدراسة الأكاديمية أم عبر شيء آخر؟
– أجمل ما تعلمته كان عن طريق الاتصال المباشر مع الناس. أغلب الأشياء تعلمتها وأنا على أرض الواقع أكثر مما تعلمتها من الكتب أو على مقاعد الجامعات. فمن خلال اللقاءات مع مؤرخين ومع كتاب ومع فلاسفة وجامعيين ودبلوماسيين وناس بسطاء كونت معظم حصيلتي.
 كيف تكونت موهبتك الصحفية مع الهجرة إلى فرنسا؟
– قبل الهجرة كنت أعمل في جريدة جزائرية للأطفال. وحين وصلت إلى فرنسا في العام 1974 بدأت أعطي اهتماماً لقضايا الشرق الأوسط. مع السفر إلى البرازيل في الثمانينات ألفت أول كتاب باللغة الفرنسية وكان – كما أسلفت – عن الهجرة العربية. بعد ذلك عملت أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر عبر ترجمة أشعار نحو 40 شاعراً مهجرياً من العربية إلى الفرنسية. ثم رحت أكتب عن قضايا أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، وألفت عدة كتب في هذا المجال. بموازاة من ذلك، كنت أعمل صحافياً، وقد وضعت مؤلفاً عن شعائر الحج من منظور صحفي.
 كيف كان تلقي كتاباتك في هذا الشأن؟
– هناك من لم يستحسن الفكرة. قيل لي إن الكتاب يلقي الضوء على بعض الأشياء السلبية في موسم الحج. من جهة أخرى، فإن هناك من استحسن الكتاب ورأى أنه يقدّم المسلمين كبشر. منع الكتاب في دولتين عربيتين، كما ترجم إلى الروسية واليونانية والطليانية في حين لم يترجم إلى العربية.
هل من الممكن لو تُرجم للغة العربية أن يُرينا شيئاً لا نعرفه؟
– لم يكن هدفي من تأليف الكتاب البوح بأسرار أو فتح أبواب مغلقة إنما الكتابة عن تجربتي في موسم مهم في حياة المسلمين. وبما أن هؤلاء يمثلون خمس العالم فقد وجدت أن الكتابة عن شعيرة من شعائرهم أمر يهم العالم أجمع.
ما هي الظروف التي ألفت فيها هذا الكتاب؟
– ذهبت للحج وعايشت معظم المحطات التي يمر بها الحجاج، منذ الإحرام في مطار جدة حتى طواف الوداع. فعملت كل الطقوس من البداية للنهاية غير أن الفرق بيني وبين الحجاج أنهم بعد أن يصلوا كانوا ينامون في حين كنت أخرج دفاتري وأكتب. لم أكن أنام.
حسناً، فأنت بذلك قد مارست عملا صحفيا وعملا فكريا أيضا. لكن هل كانت لديك دراسة أكاديمية للصحافة؟
– لا، لقد تعلمت الصحافة من خلال الممارسة. ”في المخبزة” كما يقول الفرنسيون. معظم الصحافيين الفرنسيين من جيلي ? في حدود من أعرف – لم يدرسوا الصحافة إنما تعلموها في حقل الحياة اليومية. لكن الآن غدا الوضع مختلفاً. أستطيع القول إنه في السنوات العشر الأخيرة تغير الأمر، جميع الصحافيين الذين بدأوا ممارسة المهنة في هذه الفترة، درسوا الصحافة بشكل أكاديمي ولاحقاً انخرطوا في الحياة العملية.
هل تجد فرقا ما بين الجيلين؟
– طبعا. أنتمي إلى مدرسة تقوم على شيء اسمه ”ستايل”. فمع النزاهة والموضوعية كان يسمح لك بالإفصاح عن عواطفك في الكتابة شريطة ألا تطغى على تقييمك للأمور. كأن تطمس عيوب طرف أو تبرز عيوب طرف آخر. كانت هذه المدرسة تسمح بذلك. لكن في المدرسة الحديثة أًصبحت الأمور أكثر معيارية ”ستاندرد”. غير مسموح ذلك إطلاقاً.
الحديث عن الصحافة يفتح على مسألة اللغة كونها مادة الكتابة. كيف هي علاقتك مع اللغة؟
– أعد نفسي محباً للغة. حين الصبا كنت أفتح القاموس وأقرأه. كنت أحب تتبع جذور الكلمات، وقادني ذلك إلى دراسة اللغات السامية. أحب الفرنسية، ولدي علاقة كبيرة مع الألفاظ والكلمات والحروف والنحو، وكأنها علاقة مع شريحة وليست علاقة مع مجرد كلام.
 وأين ذهبت الكتابة باللغة العربية؟
– لم تتح لي الفرصة. لو كنت بقيت في بلد عربي لكنت كتبت بالعربية. أستخدمها في التواصل مع الأصدقاء ولكن كلغة عمل لا. اللغة العربية ليست لغة عمل، للأسف، والأمر راجع لأسباب منطقية، أي ليس لاختيار أو ميول.
من خلال تجربتك الصحفية، كيف تعرّف الصحفي. وأين يمكن أن نجد هذا الصحافي الذي تنحاز إليه؟
– قبل ذلك أشير إلى أن مهنة الصحافة دخلت اليوم في حقبة صعبة جدا. تماماً كما حصل لدى اختراع المطبعة (1420) حين وجد الخطاطون أنفسهم في سلك البطالة. الأمر نفسه يحصل اليوم مع ثورة الإنترنت. الكثير من الصحافيين مهددون اليوم أكثر من التهديد الذي يحيق بهم من جانب الديكتاتوريات أو أجهزة الرقابة. فالإنترنت ثورة إعلامية رهيبة، ولا أعرف إلى أي حد سيؤثر في العمل الصحفي اليومي. تخيل أنك تستطيع وأنت في سيارتك التقاط صور بهاتفك النقال لأي حادث وقع في أي مكان من العالم. لهذا فأنا رداً على سؤالك أحب أن أعود إلى الصحافة بمعناها الأصلي النبيل. الصحفي ليس هو الشخص الذي يزودك بمعلومات عن خبر أو حدث ما، فهذا الخبر بإمكانك أن تجده في أي وكالة أنباء. الصحفي هو الذي يعطيك الخبر من خلال نظرة إنسانية، من خلال تجربته، وكأنه يأخذ بيدك ويجعلك تفهم لحظة الخبر. يربط الخبر مع الماضي ويضعه في إطار اجتماعي أوسع. يعطيه حيوية أكثر.
 هناك مثل فرنسي يعرف الصحافي بأنه ”حارس القبيلة الليليّ”. إلى أي حد تتفق مع ذلك؟
– حارس ليليّ نعم لكن ليس حارساً للقبيلة. شخصياً لا أحب أن أقدس المهنة. الكثير من الكتاب والصحفيين والموسيقيين عندما يتحدثون عن مهنهم يتحدثون عنها بتقديس كبير. شخصياً أقول.. إنني أعمل في هذا المجال لأنني أحبّه وليس لأنه عمل خارق. تربيتي وتكويني جعلتني أحبّ هذه المهنة، فأنا أعمل بها لأنني أحبها لا لأن هناك نظرية تقف وراءها. لم أكتب ولا مرة في حياتي كلمة حقد ضد أي شعب. عندما أكتب أتمنى أن يعرف الذين يقرأون لي أنني أكتب لأنني أفكر بهم. لولاهم لما استطعت الكتابة، إذ لا أحد يستطيع الكتابة لنفسه. إذا أردت درساً في العلاقات الدولية، سمه فلسفياً إن شئت، فيجب أن تثق بالحكمة التالية: أن لا تفقد الأمل في البشر. لقد عملت في مناطق كان يعصف بين شعوبها حقد رهيب. ومع ذلك فلدى هذه الشعوب مزاياها أيضاً. في أي مكان ستجد هؤلاء الناس. هذا أكبر درس تعلمته من خلال ممارسة المهنة. كل الناس عائلة واحدة. حتى أولئك الذين يكرهون بعضهم البعض. 
لماذا ذهبت إلى الريبورتاج الصحفي بالذات، ولم تذهب إلى أي تخصصٍ آخر؟
– لأني كنت أحب الحركة والسفر ولدي فضول. أحب أن أرى الناس الذين لا يشبهونني وأن أكون في مجتمعات لا تشبه مجتمعي. مجتمعات لديها ثقافات تناقض الثقافة التي أملك.
 لكن أي المجتمعات هو مجتمعك.. الفرنسي؟
– نعم، حاليا هو المجتمع الفرنسي، ولكن هناك جزء من تربيتي الجزائرية.
 هل لا زلت مرتبطا بهذا الجزء؟
– طبعا، فكل عام أذهب للجزائر.
هل كوّنت عائلة فرنسية؟
– عائلة فرنسية جزائرية. فقد تزوجت فرنسية من أصل جزائري.
 هل كانت هوية عائلتك مركبة؟
– أبداً، الهوية قضية أيديولوجية وليست قضية وجدانية، وهي تهم المفكرين ولا تهم الشعب. معركة الناس الرئيسة هي معركتهم في سبيل القوت في حين التفكير في الهوية هو تفكير نُخب. رغم أنني آتٍ من أعماق أعماق الجزائر. أتحدر من أبسط جزء في المجتمع الجزائري. أبي وأمي أمّيان. نشأت وسط البقر والماعز وعشت الحرب. والآن أنا أعيش في فرنسا وأتحدث ست لغات. لكن رغم ذلك فأنا لا أعرف ما معنى كلمة ”الهوية”. حين أعود إلى قريتي كل عام أشرب حليب الماعز وآكل التين والخبز بالبصل وأكون سعيدا. السنة الماضية زرت البرازيل، وأولادي بعثتهم إلى أميركا. ثم سافرنا جميعاً إلى الجزائر. ولم يشعر أحد منا أنه انتقل من عالم إلى عالم. كأن الواحد منا يسبح في الماء وحين يخرج فمن البحر إلى النهر. من الممكن لو تذوق الماء فإنه سيشعر أنه مالحاً، لكن الفكرة الرئيسة.. أنه يعوم في الماء نفسه.
لكن ألا تعتقد أن هذه الفكرة المنفتحة التي تملكها كانت ستتغير لو أنك تزوجت فرنسية من أصول فرنسية؟
– كان ذلك سيمنعني من أن أتزوج بها. 
وعلى هذا الأساس اخترت الزواج من فرنسية من أصول جزائرية؟
– أنا لم أختر، إنما أحببت قبل ذلك. لو كانت زوجتي يابانية وأحببتها لكنت قد تزوجتها أيضاً. كنت دائما أفكر بالزواج من المرأة التي أحبها.
نحن الآن بصدد الثقافة نفسها. فأولادك عندما يكونون في أميركا ويعودون إلى الجزائر لا يشعرون بهذا الفرق كونهم يتحدرون من خلفية ثقافية واحدة. لكن لو كانت أمهم أساسا أميركية الأصل أو إنجليزية أو فرنسية فسيكون الوضع مختلفا إن كانت لا تقبل بذلك؟
– أحيانا يكون هناك صراع وتكون مشكلة بسبب أن بعض الناس يعتقدون أنه إذا كان ثمة اختلاف بين ثقافة وأخرى فهو يعني رفض الثقافة الأخرى. بنظري هذا خطأ، فالاحتلاف لايعني الرفض. مثلا أنا أحب البرازيل كثيرا، وحين أزور بعض أصدقائي البرازيليين أجد عندهم لحم الخنزير. أنا لا أحب الخنزير، ليس لأسباب دينية إنما لأنني لا أحب أكل اللحوم الدسمة. هذا اختلاف واحد، لك أن تسميه ثقافياً إن شئت، لكن في جميع الأشياء الأخرى نحن متحابون جداً. العولمة أحدثت ثورة. رغم حواجز اللغة والديانة غير أن هناك تربة بشرية في العواطف أصبحت تجمع كل الناس بعيوبهم وفضائلهم. وقد تجد أحياناً قواسم مشتركة مع شخص نيوزلندي أكثر منه مع شقيقك أو ابن عمك. هذه هي الثورة التي دخلنا فيها. أصبحنا عائلة كونية، ونحن الصحفيين في الطليعة.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=123762

 

سليمان زغيدور في سطور..
سليمان زغيدور هو رئيس تحريرTV5 ومراسل كبير عمل لدى صحف محلية مثل لوموند وجيو وتيليمارا والباييس (اسبانيا) وأند اكس (المملكة المتحدة) وناشينال ريفيو (الولايات المتحدة). وهو باحث مساعد بمعهد البحوث الدولية والاستراتيجية (ايريس) وقد عمل عديد المرات مستشاراً حول قضايا المغرب والشرق الأوسط. 
ولد عام 1953 في القبيلة الصغيرة في الجزائر، يعيش في باريس منذ عام .1974 وهو كبير محرري مجلة الحياة la vie الأسبوعية منذ .1991 مخرج ريبورتاج ”الحج إلى مكة” لبرنامج: مبعوث خاص، فرانس,2 ومستشار في برنامج ”خاص بالجزائر” الذي يخرجه ”تييري تتوللير”، ومستشار في قضايا: المغرب، الشرق الأوسط، وذلك لكل من:Pour TF1, RF3, RF1, TV Canada.
من مؤلفاته: ”مكة، في قلب الحج”، ”الرجل الذي أراد مقابلة الله”، ”الإسلام في 50 كلمة”، ”الحياة اليومية في مكة، من أيام محمد وإلى يومنا هذا”. كما أعد كتاباً حول العلاقة بين فرنسا والإسلام منذ احتلال الجزائر .1830
؟حصل على عدد من الجوائز، أهمها:جائزة كليو للتاريخ ,1990 جائزة فرانس ميديتيرانيه ,1982 جائزة كولومب الذهبية للسلام، من مؤسسة البيرتو مورافيا، 1996.

حوار مع مي الخليفة

الشيخة مي الخليفة في أول حوار لها بعد أن غادرت كرسي الوكيل المساعد:

لم أراهن على غير الثقافة، ويحركني الغضب والحب

http://www.awan.com/node/84202

لا يحضر اسمها في مكان إلا ويكون محفوفاً بجدل غير مسبوق. امرأة تكثر (غير مسبوقاتها) على نShMaiphoto حو غير مسبوق. تطلق رهاناتها، ثم تمضي إليها ولا تكترث. تقول في أول حوار معها بعد أن غادرت منصبها الرسمي: "لم أراهن على أحد، لم أراهن إلا على نفسي وعملي".

متمردة عنيدة، مقاتلة شرسة، لا تلين ولا تنكسر، لا تعترف بالسرب، ولا بالمؤسسة الرسمية التي كانت تنتمي إليها متمثلة في وزارة الإعلام. تمردت على وزراء ثلاثة متعاقبين خلال أعوام أربعة وعدة أشهر؛ هي مدة توليها منصبها كوكيل مساعد.

تتجاوز أية سلطة إدارية تعيق تنفيذ مشاريعها المتعلقة بالثقافة والتراث. مشاريعها لا تسكت وليس لها سقف. تعمل منفردة ولا مكان لاستراحة المحارب ضمن أجندتها المكتظة دائماً.

على الصعيد الرسمي؛ هي الوكيل السابق لقطاع الثقافة والتراث الوطني التابع لوزارة الإعلام. أنجزت خلال توليها هذا المنصب عدة مشاريع غير مسبوقة، مثل تسجيل قلعة البحرين ضمن التراث العالمي، وإنشاء متحف قلعة البحرين بدعم من القطاع الخاص. والانضمام إلى عضوية لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو، وقد سجلت البحرين رسميا في تلك المنظمة، ومن مشاريعها غير المسبوقة، إنارة القلاع، فقد نجحت في إقناع القطاع الخاص لتحمل تكاليف إنارة قلعة البحرين، وقلعة عراد وقلعة الرفاع.

وقد توّجت مشاريعها غير المسبوقة إضافة إلى جهدها البحثي وأنشطتها الثقافية، بالحصول على وسام (غير مسبوق محلياً في مجال الثقافة والآداب)، وهو وسام الفارس في يناير/ كانون الثاني من العام 2008.

المرأة المراهنة تلك، هي الشيخة ميّ بنت محمد آل خليفة. أخضعت الشارع الثقافي البحريني إلى جدل مثير. جدل تصاعد مع تزاحمات برامجها ومشروعاتها وإدارتها وتحركاتها وجرآتها الإدارية (غير المسبوقة أيضاً).

قيل إنها المرأة التي "أشعلت حرب داحس والغبراء في البحرين"، وأنها قسمت الشارع الثقافي إلى قسمين، بين منحاز لها ومنحاز ضدها. بين ذائب في عزفها المنفرد، وبين ساخط لاختراقها المنفلت عن السرب. وبين طرف ثالث أقل، أراد أن يبقى على طرف من النزاع.

§ الرهان الأخير..

على الصعيد الشخصي والخاص؛ هي صاحبة مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث (تم افتتاحه 2002)، وهو المركز الرئيس لمشروع ممتد لا تزال مساحته آخذة في التوسع بسرعة ملفتة. من هذا المركز انبثقت عدة بيوتات محلية برزت كمحطات ثقافية جاذبة: مثل بيت الصحافة، بيت الشعر، بيت الموسيقى، بيت الكورار، ومكتبة اقرأ. كان لهذا المشروع دوره البارز في إثراء الحركة الثقافية البحرينية داخلياً وخارجياً على نحو غير مسبوق أيضاً.

ورغم المنصب الرسمي الذي تبوأته ميّ في القطاع، إلا أنها تعلن بخلاف المتوقع: "أنا لا أراهن على المؤسسة الرسمية، أنا أراهن على الثقافة فقط". "رهان الثقافة"، هو أيضاً عنوان محاضرة ستقدمها مي نهاية يونيو الجاري في أحد البيوتات الثقافية في فرنسا، بتنظيم من المثقفين العرب في فرنسا. في هذه الورقة ستقدم ميّ منظورها الخاص عن رهانها الخاص؛ رهانها للثقافة وعلى الثقافة، وذلك من خلال أنموذج تجربتها البحرينية.

§ شيء آخر..

لا تراهن ميّ إذاً، على منصبها أو وظيفتها، بل تراهن على شيء آخر. تقول "المنصب الذي كنت فيه كان محدودا وصغيراً ودون سقف مشاريعي. ليس له صلاحية. أنا أعطيت المنصب حركة وإيقاع مختلفين، لأني كنت أتحرك من خلال شخصي، لا من خلال منصبي. عندما أتيت المنصب كنت واقفة على سبعة كتب، وكان لدي مركزان ثقافيان نشطان، وكانت لي علاقة متينة بشخصيات لها ثقلها الاجتماعي والثقافي. لا يمكن إغفال دور العلاقات الشخصية في تعزيز وجود المثقف وترسيخ مكانته. العلاقات توسِّع مدارك الإنسان وتفتح أمامه أبواباً جديدة وأفكار. نحن لا نكتفي بذواتنا، نحن نتعلم في كل يوم الجديد".

ثم توضح "العمل الذي قمت به في المؤسسة الرسمية لم يكن عملاً. أنا لست موظفة أسترزق. أنا لم أذهب للوظيفة، الوظيفة هي التي أتت لي. أنا سيدة كنت أعمل في بيتي: أرسم، أكتب، أعمل دراسات تاريخية. ثم قمت بإنشاء مركز ثقافي. كان دافعي إلى ذلك الثقافة. حب الثقافة فقط. وخلال شهور أربعة فقط، تجاوزت أنشطة هذا المركز بتألقها وحيويتها أنشطة بعض المؤسسات الرسمية. عندها أوكلت لي مهمة الإمساك بالقطاع الرسمي. وكنت متخوفة من ذلك. أتيت القطاع الرسمي وعملت بنفس الإيقاع ونفس الحب. لم تكن علاقتي بالعمل في القطاع علاقة عمل، كانت علاقة حب"

وتوضح "الآخرون الذين كانت توكل إليهم نفس وظيفتي، يأتون مكاتبهم في المتحف، ثم يجلسون. أنا أدخل المتحف فلا أجلس. أدور في داخله لأبحث عن الزوايا التي تتيح لي أن أنعشه من خلالها. المتحف عندي مؤسسة تعليمة أساسية. هي ليست مكاناً لوضع الآثار والمعروضات. المتحف يجب أن يكون صرحاً ثقافياً، يجب أن تقام فيه أنشطه ثقافية. يجب أن يُحرك كي يفعل وجوده الثقافي. وهكذا حرصت على أن أجعل من هذا المكان متحف، وشيء آخر".

§ تحرك المحب..

تفتخر ميّ بما حققته في المتحف من انجازات، وما جعلت له من حضور غير مسبوق، فتضيف "كان المتحف يغلق أبوابه يومين كاملين هما الجمعة والاثنين، بالإضافة إلى عصر يوم الخميس، وأوقات الظهيرة من الثانية حتى الرابعة كل يوم. لفتتني السفيرة التركية إلى أنها حاولت زيارة المتحف على مدى أربع مرات، لكنها كانت تأتي لتفاجأ في كل مرة أن المتحف مغلق. منذ الأسبوع الأول لتسلمي القطاع، عملت على فتح أبواب المتحف يومياً من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساء. فصار متاحاً للجميع في أي وقت. صار باباً يدعوك للدخول إليه"

ربما لهذا، لا ترى ميّ أنها قد أُخرجت من حقل الثقافة والتراث. تقول "لا أحد يخرجني من مكاني. عملي ليس حيث الكرسي. عملي هو في الثقافة والتراث. هذا هو ما يسكنني. أعمل وفق محرّك داخلي. أعمل في هذا بلا هوادة وبلا راحة. لن أقف عند منصب. المنصب كان تبعة مكلِّفة جداً. رجوعي الثاني للقطاع كان بهدف حماية المواقع الأثرية؛ تسجيل قلعة البحرين في قائمة التراث الإنساني هو هدفي. كتبت ذات مرة شيئاً عن علاقتي بقلعة البحرين وطفولتي قريباً منها. ما تم انجازه لدخول قلعة البحرين شيء خيالي. لا يمكن للموظف أن يعمل وفق هذا الجهد الخيالي ما لم يكن مسكوناً بالحب. فـ(بالحب تحرك المتحرك) كما يقول ابن عربي. قلت قبلاً أن ما يحركني هو حب وغضب. حب لأشياء وغضب من أشياء. لماذا يتركون هذه الآثار دون حمايتها. الحب هو ما يبقى لا الحسبات. هؤلاء تحركهم حسبات سياسية وضغائن، لكن لا يحركهم الحب"

لكن ماذا تشعر ميّ تجاه القطاع الآن، وقد غادرته؟ تقول مي "أنا لدي مشاريعي ماضية فيها. لا أنكر أني أخشى أن تدمّر الانجازات المتحققة، وعيني عليها. لكن لا يحق لي الآن أن أتكلم عنها. أنا الآن خارج المؤسسة الرسمية. لدي الكثير مما أقوله. لكن الذي أستطيع أن أقوله هو أتمنى أن تتواصل الأمور. سأجلس خارجاً الآن وسأتفرج. والوقت هو الحكم. والفرص لا تتكرر"

§ ترف الثقافة..

لا تختلف الأطراف الثقافية بشأن قوة حضور ميّ في الساحة الثقافية، وما تشعله فيها وما تشغله من حراك ثقافي متفرِّد، لكنها تختلف بشأن تفاصيل إدارتها للقطاع، وعلاقتها بكل من رؤسائها ومرؤوسيها والأطراف المختلفة معها. كما تختلف بشأن معالجة ميّ لقضاياها الخلافية. إلا أن قضية "فصل قطاع الثقافة عن وزارة الإعلام"، تأتي على قائمة نزاعات ميّ وصراعاتها الداخلية، ما جعل ميّ لا تعترف بأي قرار إداري يظهر سيطرة (الإعلام) على قطاع (الثقافة والتراث)، أو يعرقل أي من مشروعاتها فيه. الأمر الذي استجلب بدوره خناقات مستمرة بينها وبين وزراء ثلاثة توافدوا على الإعلام خلال توليها منصبها الرسمي. فيما "كانت حقبة الوزير الثاني هي الأخف وطأة" كما تقول.

تمكنت ميّ، وبوحيٍّ من قوة رهانها، أن تجعل اسمها قريناً لكل ما يحضر فيه اسم الثقافة والتراث، وأن تجعل من الثقافة حديثاً شارعياً بعد أن كان حديثاً نخبوياً يدور داخل جدران أسوار مغلقة. تراهن ميّ على ذلك عبر قولها " لم يكن استقلال الثقافة موضوعاً مطروحاً عند أحد من قبل. لم يكن الشارع تعنيه الثقافة ولا يلفته نشاطها. كان الشارع منشغلاً بهمه اليومي وشأنه السياسي والحياتي فقط. الكثير من الناس كانت ترى إلى الثقافة أنها محض ترف؛ أن تحضر أمسية موسيقية فهذا ترف، أن تتعنّى للمشاركة في أمسية ثقافية فهذا ترف. الجدل الذي أحدثته الثقافة مؤخراً، سلباً كان أو إيجاباً، جعل الثقافة تأخذ موضعاً (ما) بين اهتمامات الناس. صارت حديثاً يتحرك بين الناس ويحرِّكهم. صارت الثقافة قريبة أكثر من الناس، قريبة من أعينهم وحضورهم".

ورغم ما حرَّكه هذا الجدل باتجاه الثقافة وأحاديثها. إلا أن ميّ أخذت الجانب الأكبر من التأييد، بقدر ما أخذت الجانب الأكبر من النقد كما حدث في ربيع الثقافة الأول، ما تلاه من أحداث يرتبط بعضها بتجاوزات ميّ الإدارية فيما يتعلق بمشاريع القطاع. إذ ارتفعت العديد من الأصوات الرسمية والإعلامية والثقافية، منددة أن "لا أحد فوق القانون"، مرجعة اختراقات ميّ (غير المسبوقة) في وزارتها وبرامجها، إلى انتمائها إلى الأسرة الحاكمة. لكن ميّ وعلى خلاف ذلك ترى أن "كوني من الأسرة ظلمني كثيراً".

§ الاستثمار..

الاستثمار في الثقافة، كان أحد المشاريع التي رفعتها ميّ لتوظيف رؤوس الأموال الخاصة، بغرض دعم المشاريع الثقافية، ومنها تجديد المباني وإنشاء المتاحف. أشارت ميّ أن أجندتها الاستثمارية كانت تتضمن 19 مشروعاً لتأسيس البنية التحتية للثقافة، بالاستعانة بأفضل المتخصصين في مجالاتهم، وكان أبرز تلك المشاريع تجديد المتحف الوطني وبناء المسرح الوطني وإنشاء متحف للفن الحديث. تقول ميّ " رفعت شعار الاستثمار في الثقافة. وأنا مستمرة في هذا البرنامج من خلال مشاريعي الخاصة الآن. وهي سائرة بهذا الاتجاه. لكن المؤسسة الرسمية لا تعترف بهذا".

وتضيف قائلة "سعيدة أنا أني تمكنت من إنشاء متحف ثاني في البحرين؛ متحف قلعة البحرين. وهو متحف يخدم الموقع الأثري الأهم في البحرين، ويحتوي على دليل سمعي. يتيح لك أن تستأجره لتتعرف من خلاله على الموقع. يحتوي الدليل ترجمة بثلاث لغات العربية والانجليزية والفرنسية". ثم تضيف "وزارة الإعلام رفضت توفير موظفين للمتحف. تطوع 60 شخصاً للعمل في المتحف. كانوا يعملون طوال الوقت دون مقابل. بقى منهم الآن 6 فقط".

تعيب ميّ على الوزارة تجاهلها لمشروع هام مثل المتحف، وتعتبره استهدافاً لا للشخص، بل للوطن المستفيد الأول من مثل هذه المشاريع. تقول "هناك أشخاص لا ألتقيهم في أفكارهم ولا أشخاصهم. لكن نوعية ما يقدمونه من عمل يفرض عليّ دعمهم وتقديمهم على غيرهم في كثير من الأشياء. مادام هؤلاء سيقدمون شيئاً متميزاً يظهر وجه البحرين. أنا لا أدعم الأشخاص هنا. بل أدعم البحرين. يجب أن يكون حلمي أكبر من الذات"

§ الفصل القاطع

وحول مطالبتها المستميتة والعنيفة بالفصل بين قطاع الثقافة والإعلام، تقول ميّ "لا يمكن أن تأتي بمهندس وتطلب منه أن يقوم بعملية جراحية. ولا يمكن أن تأتي بطبيب وتطلب منه أن يقوم بهندسة بناء. الإعلام جهاز خطير. ووزير الإعلام لديه الكثير ليقوم به في هذا الجهاز. نعلم أن الإعلام جهاز لم يتم توظيفه بالشكل الصحيح حتى الآن. أما الثقافة والتراث فهي مسؤولية كبيرة أخرى. هي لون آخر وطبيعة أخرى. هي عمل مختلف تماماً".

توضح ذلك قائلة " في الثقافة والتراث، أنت تتحدث عن هوية. بدون هوية أنت تفقد خصوصيتك. إذا لم تعمل على فرض خصوصيتك أمام العالم، وإذا لم تعمل في الوقت ذاته على تطويرها بشكل ملائم، فأنك تضيع. إذا لم تبرز خصوصيتك وتكون معتزاً بجذورك، فإنك تمحى، وتمحى معك كل جذورك. كان لدي حلم كبير. المشروع الذي أحمله بحجم وطن. لم يكن بحجم شخص. كنت أريد أن أنشئ سبع متاحف. إلى جانب خطط أخرى تعمل بموازاتها".

أما عن اختلاف إيقاعها مع إيقاع العاملين في حقلها الثقافي، تبرر ميّ "إيقاعي الذي أعمل به خيالي. ليست لدي دقائق من أجل راحة. ربما عيبي أنني سريعة جداً. من لا يستطيع مجاراة سرعتي أتجاوزه سريعاً. ضاعت علينا أشياء كثيرة فيما مضى، ولم يعد مقبولاً أن نمشي بإيقاع أبطأ".

وعن ملتقى «الثقافة في البحرين – واقع وتطلعات» الذي عقد في نادي العروبة في 11مايو2008 والذي شاركت فيه 11 مؤسسة ثقافية، تقول مي " وفق معياري الثقافي يكفي أن يقول أحد المثقفين ببقاء القطاع تابعاً للإعلام كي أرى أن الحوار الثقافي معه غير منجز"

253

§ رهان داخلك..

لكن كيف ترى ميّ إلى المثقفين الذين تعتقد أنهم خيبوا ظنها، وكيف تتعامل مع الجهات الرسمية التي كانت كذلك؟

تقول "ليست لدي خيبة. لم أعول إلا على نفسي. لم أعتمد على أحد في أي شيء. في كل شيء كنت أحفر لوحدي. لا أتكئ على عصا أحد. الجميع لهم المعزة في نفسي. لكني لم أعتمد إلا على نفسي. تجربتي تثبت لي مع الوقت أن رهاني على الأشخاص خاسر، ورهاني ليس إلا على نفسي. ما يحركك هو داخلك لا خارجك. لا يحركك موقع رسمي أو منصب، ولا مثقفين يدورون حول أنفسهم. هؤلاء لا يحركوني. هناك في الحياة أشياء جميلة. أنا أتذوقها. هذا هو ما يحركني. وهناك أناس يصلني حبهم. هذا يعطيني حماية نفسية. وهذه الأشياء تكفيني".

وتضيف "أنا أطوف سريعاً. لدي أشياء كبيرة أريد أن أنجزها. أحتاج وقتي لأمضي فيه. لن أدخل في الجدل الدائر لأنه لن يؤدي إلى شيء. سأتركهم يتناقشون ويأتمرون. أنا لا أؤمن بالكلام. أؤمن بالعمل فقط. عندما أرى طفلاً يقرأ كتاباً في مكتبة (اقرأ) التابع لمركز شيخ إبراهيم، أشعر بالإنجاز. حتى نساء الكورار عندما يأتي إليهن الناس في بيت الكورار، ويسألونهن وتجيبهن هؤلاء النسوة من خبرتهن، أشعر بالإنجاز. الإنجاز هو رهاني".

§ حصار الثقافة..

لم تكن الأشهر الستة التي سبقت مغادرة مي لقطاع الثقافة يسيرة. بل كانت ممتلئة بالضغط النفسي والعصبي كما تقول مي "خلال ستة شهور تعرضت لأكثر مما تتعرض له غزة في حصارها. لقد منعوا عني كل شيء. كل الصلاحيات الإدارية والمالية بشكل لا يمكن الصمود معه ليوم واحد. كان تحطيم أعصاب. أنا أردت أن أبقى حتى النفس الأخير. كانوا يريدونني أن أستقيل من تلقاء نفسي، حفظاً لماء الوجه. لكني كنت أقول: احضروا من تريدون وضعوه مكاني، لكني لن أستقيل بنفسي. كنت أريد أن أكشف أقنعة الوجوه كلها. حتى اللحظة الأخيرة. عرفت قبل مدة بأن هناك من سيأتي مكاني. ومع هذا بقيت أحضر معارض وأقوم بافتتاحات رسمية"

مقطع آخير ترويه ميّ من الضغوط التي تعرضت خلال هذه المدة. تقول "كنت قبل أكثر من عام، قد عقدت اتفاقاً مع متحف في فرنسا بخصوص متحف الأقنعة الذي افتتحناه في ربيع الثقافة 2008، قبل أسابيع قليلة من موعده تصلني رسالة من الوزير، بأن لا داعي لإقامة هذا المعرض. المعرض كلفته نصف مليون دينار. حتى قبل 10 أيام لم يكن في يدي فلس واحد. الوزارة لم تدفع شيئاً. هل يمكن تخيل صعوبة تدبير مثل هذا المبلغ خلال تلك الفترة. المعرض الآن موجود، ولا يزال قائماً. أنا غادرت المتحف وهو باق هناك. لا يهم. أريد أن أعمل باسم البحرين. لا يهم باسم من يظهر. مؤمنة أنا تماماً، أن "العمل الصالح ثوابه في العمل نفسه" هذا ما تعلمته ذات رسالة أبوية من إبراهيم العريض، قامة البحرين الثقافية التي سيحتفل مركز الشيخ إبراهيم بمئوية مولدها في نهاية هذا الشهر في اليونسكو. وتقدير الناس هو شيء مكمِّل، لكنه ليس هو الثواب نفسه"

§ ربيع الثقافة..

لكن ماذا عن مصير المتاحف السبعة الآن وربيع الثقافة؟

تجيب ميّ "توقفت، كانت تلك مشاريعي، وقد توقفت بعد خروجي". ثم تضيف "متاحف العالم الجديدة الآن، كلها تدار عبر مؤسسات أهلية. حضرتُ مؤتمر في سيسيلي في إيطاليا تحت عنوان خصخصة التراث، يشير إلى أنه لا سبيل لتطوير المواقع الأثرية وتطويرها وصيانتها والاستفادة منها وتشكيل حركة سياحية ثقافية صحيحة إلا من خلال القطاع الخاص"

وماذا عن ربيع الثقافة؟

"ربيع الثقافة سيستمر. هو مشروع مشترك بين بين مركز الشيخ ابراهيم وبين مجلس التنمية. لا أعرف لماذا يريدون إخراجي من ربيع الثقافة. هؤلاء المثقفون يدورون حول أنفسهم. أنا من أعطاه الاسم. وأنا من أعطاه الشعار. هذا المشروع قام على 3 أشخاص. كنت أنا، ومعي دالية عماشة رئيسة قسم السياحة في مجلس التنمية الاقتصادية، وايمان هنداوي المديرة التنفيذية لمركز الشرق الأوسط للثقافة والتطوير وصاحبة مشروع سوق عكاظ "الربيع مستمر. النجاح الذي حققه لم يكن متوقعاً بهذا المستوى. أنا أخذت الجانب الأكبر من رصيد النجاح ومن رصيد النقد. التكاليف بالكامل هي مدفوعة من مجلس التنمية. لكن تكاليف أنشطة مركز شيخ إبراهيم، خلال ربيع الثقافة أنا أدفعها بالكامل. وبرنامج العام القادم للمركز جاهز، وهناك أسماء كبيرة ضمن برنامجنا، لكن لن أعلن عنها الآن"

§ حين سكتوا..

الآن وبعد أن غادرت ميّ رسمياً موقعها، سكتت الأصوات الضاجّة كلها؛ الصفحات الثقافية والأعمدة والمثقفون والبرلمانيون. بدت هذه الأصوات وكأنها تقاطرت صمتاً بعد كانت تتقاطر صفوفاً بالكلام. لكن ماذا عن قطرات ميّ بعد كل هذا؟ وماذا عن مشروعاتها؟ هل تأثرت أم لا تزال تنهمر كعادة اكتظاظها؟

"لست مشاريعي قطرة، بل سيلاً متدفقاً لا يتوقف عن الانهمار". بهذا تراهن مي على قطراتها، ثم تضيف "لم تبدأ مشاريعي مع منصبي في المؤسسة الرسمية، ولم تتأثر أثناءه، فكيف تتأثر الآن؟ مشاريعي الخاصة آخذة في التوسع، وبزخم أكبر، وبدعم خاص أكبر، لا وقت لدي للالتفات. وقتي أقايضه بالعمل، وأقبضه إنجازاً صرفاً أهديه للثقافة. وقتي ليس كلاماً".

ثم تضيف " نعم. المثقفون الآن سكتوا. ارتاحوا. دعهم يرتاحون. دعهم يبقون مع المؤسسة الرسمية. الثقافة في نظري إبداع حر لا يمكن تقييده"

وحول برنامج أجندتها الأقرب تقول "الأقرب سيأتي نهاية يونيو الجاري، نقوم من خلال المركز بالتنظيم لاحتفالية خاصة في فرنسا باسم الشاعر إبراهيم العريض (1908- 2008). اليونسكو لديها برنامج يتيح الاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على شخصيات لها ثقلها ووزنها الثقافي والعلمي. تقدمت لهم باسم إبراهيم العريض الذي يكمل مئويته نهاية هذا الشهر، وقد تم قبول طلبي". توضح ميّ تفاصيل الاحتفال "سنعمله من خلال مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، في إحدى القاعات الرئيسية في اليونيسكو. يتضمن البرنامج فعالية تتناول سيرته، وكتيب يتناول نبذة عن حياته، كذلك مراسلاته مع بعض الأسماء المعروفة، سيكون هناك ما يشبه المعرض، يحتوي على الكتب المطبوعة عنه في ركن من الأركان. سيكون معه معرض متكامل".

أما عن الجمهور الذي سيحضر الاحتفال، فتقول مي "الجمهور كلّه فرنسي ما عدا أصدقاء معدودين سيأتون من هنا وهناك. وجهنا دعوة إلى 800 شخص. سيكون الاحتفال على مدى خمسة أيام تمتد من 23 وحتى 27 يونيو الجاري". هناك، وفي الفترة نفسها سيكون لميّ لقاء يجمعها بالمثقفين العرب في فرنسا، تلقي فيها محاضرة حول تجربتها الثقافية، توضح "المثقفون العرب في فرنسا مثل محمد أركون وأدونيس وعيسى مخلوف ونبيل أبو شقرا، قاموا بتنظيم محاضرة لي فترة وجودي هناك. أسميت ورقتي "رهان الثقافة. البحرين نموذجاً". لكني لن أضيف الآن توضيحاً أكثر كي لا افسد عليَّ ورقتي".

لكن هل يبدو شيئاً غريباً، أن تكون مئوية العريض ليس لها أي التفاتة هنا في البحرين؟

تضحك مي، ثم تجيب " ماذا أفعل إذا لم يكن أحد ملتفتاً إلى هذا. لم أسمع أن أحداً هنا قد فكر في عمل شيء بمناسبة هذه المئوية. بيت العريض نفسه كان سيهدم، وكانت هناك رخصة لبناء عمارة سكنية مكانه. بالإمكان سؤال المالك الأصلي عن ذلك. كانت إجراءات الهدم منتهية، ولم أحصل على ذلك البيت إلا بعد معاناة شديدة. لكن لا أحد يعرف كيف حصل كل ذلك".

وعن سلسلة مشاريع مركز الشيخ إبراهيم، تقول ميّ " ترقبوا أربعة بيوت جديدة ستفتتح بين سبتمبر وأكتوبر. الأول سيكون مركز معلومات عن البيوتات. والثاني في مركز الشيخ إبراهيم، إذ ستتحول صالة الزوار إلى فناء يضم مأثورات الشيخ إبراهيم، وسيتم افتتاح قاعة خاصة جديدة ملحقة بالمبنى. الثالث هو افتتاح بيت القهوة، وهي مقهى على الطراز الحديث تقدم خدمة ثقافية لزوار المكان. أما الرابع فهو ملحق بيت الزايد، وهو امتداد لبيت الزايد، يتصل به من الطابق العلوي. يمكن عمله كمكتبة متخصصة للصحافة". تقول ميّ ذلك ثم تعقب " أنا أرى الأشياء وهي منتهية. لا أراها وهي قبل ذلك".

هل هذا كل جديد المركز؟ تضيف مي "الآن أيضاً سنبدأ العمل في بيت التراث المعماري. كما سنقوم ببناء نُزُل للضيوف الذين يأتوننا من الخارج".

أما أكبر مشاريع ميّ في المحرق، كما تقول فهو عمارة مطر. تقول " هذا أكبر المشاريع حتى الآن. هو مشروع خيالي. سلمان بن مطر كان من أشهر تجار اللؤلؤ في البحرين. لدينا وثائق أصلية. مكتبي الرئيسي سيكون هناك. وسيتضمن المشروع مقهى خاص، وسيكون جو جديد للمقاهي لم تعرفه البحرين"

ثم تضيف " في عمارة مطر، سيبقى الجزء القديم كما هو. لكن الإضافة ستكون عبارة عن معرض دائم للفنانين البحرينيين. بالإضافة إلى دعمه للمعارض الفنية. وهي خدمات مجانية يقدمها المركز. فالفكرة من إنشاء مركز الشيخ إبراهيم هي العطاء لا الأخذ"

يؤخذ عليك أنك لم تولي القطاع الثقافي الأهلي شأناً ذا بال من خلال شغلك منصب الوكيل المساعد. أو على الأقل، لم تقاتلي لأجله كذاك، قتالك من أجل مشاريع كرست لها جهدك ووقتك: تسجيل قلعة البحرين ضمن قائمة التراث العالمي، أو حجز كرسي للبحرين في لجنة التراث. كيف تردين على ذلك؟

صدر قانون الآثار للبحرين سنة 1970، وعدل بالمرسوم بقانون رقم (17) لسنة 1985، وعدل بمرسوم بقانون رقم (11) لسنة 1995لحماية الآثار. وهو قانون دون المستوى المطلوب، ولا يمكني بهذا القانون منع البلدية من تدمير المواقع الأثرية وعلى الرغم من جهودي في مجال حماية الآثار، لم أتمكن من تعديل هذا القانون، فكيف يمكنني أن أعدل قانون الجمعيات الصادر عام 1989وسط هذه الحروب الشرسة.

حوار مع مجدي خليل2

مجدي خليل لـ «الوقت»: الأصولية حكر على الإسلام.. وأميركا بيد العلمانيين

المثقفون العرب دعاة تقدم.. بينما صناعته تحتاج إلى القوة وهي بيد الغربيين

الوقت – حسين مرهون، علي الديري: 

الحقائق قابلة لأن تتغير باستمرار. هذه حقيقة جديدة: لا أثر للأصولية المسيحانية على أميركا، ولا حتى اليهودية. على الأقل هذا رأي الباحث مجدي خليل، الأميركي من أصل مصري قبطي وعضو مركز ابن خلدون للدراسات.

في الأعوام الأخيرة التي أعقبت غزو أفغانستان والعراق بدت هذه الحقيقة قوية وأقلّ استجابة إلى النقض. وقد أسهمIMG_4148 الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بمعاونة المحافظين الجدد في إدارته على تكريسها عبر سلسلة من التعبيرات أطلقها على خلفية الحرب على الإرهاب وكانت ذات صبغة دينية. في الوقت الذي كانت مراكز الدراسات وأجهزة قياس الرأي تشير إلى ارتفاع جنوني في نسب التدين في أميركا، وهو ما كان يتنافى مع صورتها كواجهة للعالم الحديث.

ومع ذلك، فإن خليل تحفظ في ترتيب نتائج كبيرة على ذلك. قال «مايزال القرار بيد علمانيين». وقد جادل بشأن أن الأصولية اليوم هي حكر على الإسلام. في حين انتفت تماماً عن المسيحية واليهودية، مستدركاً «حتى الباقي منها فغير مؤثر». «الوقت» التقته على هامش تقديمه ندوة قبل أسابيع من تنظيم جمعية المنتدى. فيما يأتي الحلقة الثانية من الحوار معه:

التقدم بيد باريس وطوكيو وواشنطن ولندن

لستَ قبطياً متديناً وتصف نفسك بالليبرالي. لكن الملحوظ في كتاباتك أنك تلجأ لدى تحريرك بعض المصطلحات إلى تعريفات دينية. تقول معرفاً الإصلاح إنه «نشدان الكمال المسيحي». وتشترط في الشخص المصلح أن ينطلق من سياق يبقيه ضمن أرضية «الداخل المسيحي». كيف تفسر هذا التناقض؟

– رأيي أن كل دين يرتبط بمجموعة من القيم. في الإسلام مثلاً، هناك قيمتان رئيستان، وهما العدالة والإيمان بالله. والعكس، فإن أرذل قيمتين في الإسلام هما الظلم والشرك بالله. في المسيحية أيضاً هناك مجموعة من القيم، لكن القيمة الرئيسة، هي المحبة. تمثل هذه القيم خيوطاً رئيسة لمقاربة الأمور ضمن دائرة الإسلام أو المسيحية. بمعنى آخر، إنك لا تستطيع شطبها أو تجاوزها. لكن ليس معنى ذلك أنك تؤمن بهذا الدين أو ذاك. أنت تستقي فقط أهم ما فيه. وبالتالي، فإنك بخصوص التعريفات التي أوردتها عني، لا تستطيع أن تنتزعها من السياق العام للكلام.

لكنك تقدم طرحاً للإصلاح أقرب إلى أن يكون لاهوتياً. فأنت تميز بين ماتسميه «المصلح» و«المعارض» – للكنيسة – وتجعل من المصلح شخصاً مربوطاً بالمسيحية وعارفاً بها فيما تقتصر وظيفته على إيصالها إلى الكمال من الداخل؟

– هذا التعريف أوردته في سياق ورقة كنت قد أعددتها أساساً لتلقى داخل الكنيسة القبطية في مصر. فسياق الحديث إذاً كان مختلفاً ومداره يحمل شيئاً من الخصوصية تتعلق بالكنيسة المصرية فقط. لكن إن شئت، فيمكننا التحدث عن المصلح عموماً. المصلح في إطار نظريات التقدم الذي هو كما لا يخفى صاحب خصائص أخرى.

حسناً، لو دعيت الآن لإلقاء محاضرة خارج الكنيسة، كما في تجمع علماني أو حتى في واحدة من البلدان الإسلامية. كيف ستقوم بتعريف المصلح وهل ثمة مصلح خصوصي وآخر عمومي؟

– سبق أن كتبت شيئاً من هذا القبيل تحت عنوان «الصراع بين دعاة التقدم وحراس التخلف». وقد فرقت فيه بين دعاة التقدم وصناع التقدم، كما عرفت أيضاً حرّاس التخلف. قلت إننا – نحن المثقفين العرب – دعاة تقدم في حين أن الغربيين صنّاعه. ذلك أننا لا نصنع التقدم، فصناعته تحتاج إلى قوة. فيما الغرب وحده من يمتلك القوة اليوم. أما نحن فكما أسلفت.. فدعاة تقدم فقط، وقد ضعت نحو عشر نقاط بمثابة خصائص، ولك أن تعتبرها تعريفاً متبنى من قبلي إلى المصلح: أن يتبنى قيم الديمقراطية، الرأسمالية الغربية، يكون منفتحاً على الغرب، وفي حالة سلام مع إسرائيل إلخ إلخ. المشكلة عندنا في المنطقة العربية، وهذا الأمر ينطبق على مثقفين أيضاً، أن هناك تقديساً للصراعات. فحين تستمع إلى صحافي مثل محمد حسنين هيكل تجد نفسك دائماً ضمن دائرة خط أساسي، هو الصراع. بينما أنا أرى الأمر من جهة معاكسة، أن الخط الأساسي في العلاقات الدولية هو التعاون.. السلام. أما الحروب والصراعات فهي استثناءات. وقلت في هذا المقال أيضاً إن صناعة التقدم تمر بباريس وطوكيو وواشنطن ولندن فيما تمر صناعة التخلف من دول مثل أفغانستان وباكستان وإيران والسودان ووو. إن ثمة ركائز إلى التقدم، أولها هو خبرة الآخرين. التجربة الغربية هي اليوم موضع خبرة البشرية الرئيس.

السلفية الدينية أقوى من التيار الإصلاحي

لكن مدار حديثك الرئيس كان عاماً والورقة جرى نشرها من قبلك في منتدى علماني «منتدى الحوار المتمدن» وكنت تقول الإصلاح «سعي الكنيسة نحو الكمال» من دون أن تلفت إلى أنك كنت تعني «الإصلاح الكنسي».

– لا، هذه مقالة كنسية، ولا علاقة لها بموقفي من الإصلاح بالمعنى العام.

هل تتبنى ضمن هذا الموقف تفريقاً كان يعقده بعض الفلاسفة المسلمين مثل ابن رشد الذي كان يفرق بين الخطاب الذي للعامة وذاك الذي للخاصة؟

– لا، أبداً. كل ما في الأمر أن هناك مصطلحات ذات طبيعة خاصة. ورأيي، أن عليك ضمن بعض السياقات أن تخاطب الجمهور بمصطلحاته التي يفهمها. أي أن تتكلم بلغته. لكن إن شئت، يمكنك أن تسألني عما أعبر عنه من خلال السياقات العامة.

حسناً، ثمة جدل كبير يدور في أوساط المثقفين بالنسبة إلى موقفهم من الإصلاح. هناك من يبني موقفه من الإصلاح عبر استعادة لحظة عصر النهضة: محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي ومجايليهم. وهناك من يستعيد لحظة الحداثة الأوروبية، بدءاً من ديكارت وسبينوزا فاللاحقين. في حين لا تبدو أنت، أو لا يظهر من كتاباتك على الأقل، أنك معني بهذا الجدل. ما السبب؟

– على العكس، فقد كانت لي كتابات في هذا الإطار. وقد تحدثت عن أربعة مشروعات إصلاحية طرحت في المنطقة. أولها كان مشروع ابن رشد (1126 – 1198) وكان مداره هو إعمال العقل في تأويل النص وتوظيف ذلك لصالح فكرة التقدم. الآخر كان مشروع محمد عبده (1849 – 1905) وكان يدور بشأن تأويل المصلحة، أي البحث في النص عما يوافق المصلحة. وكان الثالث مشروع علي عبدالرازق (1888 – 1966) الذي وضع كتاب «الإسلام وأصول الحكم» وعمل على تأصيل فكرة فصل الدين عن الدولة. وكان الأخير – الذي تحدثت عنه – هو مشروع المستشار محمد سعيد العشماوي (1944) الذي اشتغل على إثبات فكرة تاريخانية النصوص. لكن المشكلة أن كل هذه المشروعات فشلت رغم أن جميعها تعاملت مع الدين كمكون أساسي. فابن رشد حرقت كتبه، وعبده انقطعت مدرسته، وعبدالرازق طرد إلخ إلخ. ومرة أخرى، أثبتت السلفية الدينية أنها أقوى من التيار الإصلاحي بكثير.

على ماذا تعول إذاً بالنسبة إلى الإصلاح في العالم العربي. على الموقف الأميركي مثلاً، نعرف أن لك مواقف سابقة تؤيد فيها مسائل التدخل لتعديل بعض الأوضاع. والحق أن ذلك يختلف تماماً عمن أشرت إليهم لجهة تبنيهم الإصلاح انطلاقاً من جهود داخلية. أم ماذا؟

– أبداً، لا يوجد تعارض بين النموذجين. أنا لا أتبنى الإصلاح الأميركي إنما الرؤية العالمية للإصلاح المتفق عليها من قبل دعاة التقدم. العالم ليس أميركا وحدها. هناك رؤى عالمية مشتركة. مسائل مثل الحريات أو الفصل بين السلطات أصبحت أشياء ذات طبيعة كونية. وحين نتحدث عن حقوق الإنسان اليوم نتحدث عن حقوق توافق عليها المجتمع الدولي بأسره وليس المجتمع الأميركي. بالنسبة إليّ فأنا أتبنى ما اتفق عليه المجتمع الدولي، والإنسانية جمعاء، حيال مسائل مثل هذه. كانت الإنسانية قد راكمت تراثاً عريضاً بشأن مسائل حقوق الإنسان. لكن بدءاً من العام 1945 غدا هذا التراث مكتوباً. أصبحت هناك مواثيق واتفاقيات ومحاكم دولية موقّعة من قبل نحو 193 دولة، ما يعني أنها ليست أميركية. القاعدة الأساس أنك تريد الارتقاء بالإنسان، حريته وكرامته. ولدي رأي هنا، أن سيادة الإنسان من خلال ما يمثله عنصرا الحرية والكرامة أهم من سيادة الدول.

العرب أفشلوا مشروع الأميركان في العراق

لكن هل تعزل نموذج الإصلاح هذا عن خلفيته السياسية. بمعنى آخر، هل مفهوم الإصلاح الذي تطارح لأجله بالبناء على موقف المجتمع الدولي يخلو من أية أجندات سياسية؟

– شخصياً، أتبنى مسألة فصل الهدف عن الوسيلة. أي أنني لست معنياً تماماً بمن الذي يتبنى المشروع أو يساعد عليه. ما يهمني هو المضمون، صحيح أو لا. لصالح الإنسان العربي أو لخير المنطقة أو. بعد ذلك، سواء أتى الإنقاذ من الغرب، الهند أو السند، الأهم هو الهدف.

لكن ما يمكن أن يؤخذ عليك هنا، هو أن هذا الطرح لا يحترز إلى جوانب تتعلق بأبعاد سوسيولوجية. فأنت نفسك كتبت مقالاً بعنوان «بعد عام من سقوط بغداد» رسمت فيه صورة وردية للواقع. في حين نعرف الآن جميعاً النتائج التي أفرزها التدخل الأميركي كانت حرباً على الهوية. إلى أي حد يمكن أن يستقيم طرحك بشأن الإصلاح من دون التدقيق في الوسيلة؟

– أواظب منذ خمسة عوام على كتابة مقال عن سقوط بغداد. تجدني في آخر مقالاتي على العكس، أرسم صورة متشائمة. أخبرك أكثر من هذا، في العام الماضي تمت استضافتي وأربعة من رجال الإعلام من قبل صحيفة «واشنطن بوست»: غسان تويني والمرحوم أحمد الربعي وناظم شفيق وسلامة نعمات. أسمونا.. الخمسة المؤيدون لغزو العراق يتحدثون بعد أربعة أعوام. كلنا قلنا، إن الأمر كارثة. في الواقع، لقد تداخلت كثير من الأمور، حكومات دينية، طوائف، فاختلط الحابل بالنابل. أصبحنا أمام مشروع تناحر طائفي، ميليشياوي. لكن في الأصل، فأنت تبني مواقفك انطلاقاً من أهداف محددة. وحين أؤيد الإطاحة بديكتاتور، وإعادة التوازن لشعب من الشعوب، فذلك تأييد مشروع. أما النتائج فشيء آخر. أنا أعتبر أن أميركا فشلت في العراق.

حسناً، مادامت قد وصلت إلى هذه النتيجة، ألا يستدعي منك ذلك مقاربة جديدة لنموذج الإصلاح المطروح على المجتمعات العربية. ليست مسألة أنك تؤيد أو لا تؤيد، إنما مقاربة تأخذ في الحسبان بالأبعاد السوسيولوجية؟

– للأسف، العرب هم من أفشلوا المشروع. فقد كانت لدى الأميركان نوايا حقيقية. كانوا يريدون جعله نموذجاً، وقد صرفوا مبالغ طائلة لأجل ذلك. لكن العرب لعبوا دوراً سلبياً. روجوا كلاماً فارغاً، أن الأميركيين أتوا للبقاء في حين لم تكن أهدافهم تعدو إسقاط الديكتاتورية وجعل البلد مستقراً، في حالة سلام مع إسرائيل، خالٍ من العنف، مع ضمان استمرار تدفق النفط. تلك كانت أهدافهم، بعضها تحقق وبعضها الآخر لا. نجحوا في إسقاط صدام، امتصوا القاعدة، وسيطروا على العنف نسبياً، وأبعدوا شبح الإرهابيين. منذ العام 2001 لم يحصل أي عمل إرهابي في أميركا. لقد نجحوا نسبياً في كل ذلك، لكن ما يهمني على المستوى الشخصي لم ينجح. تلك هي الكارثة. أخفقوا في جعل العراق بلداً ديمقراطياً، أو جعله نموذجاً في المنطقة. وقد أسهم العرب بدور كبير في ذلك.

أقول «غزواً» ولا أقول «فتحاً»

وتحول بذلك العراق من نموذج كان يراد له أن يصبح نموذجاً لكل المنطقة إلى مضرب مثل في الفشل لكل المنطقة، كما يحلو لرئيس تحرير مجلة «نيوزويك» فريد زكريا أن يعبر. هل توافق على ذلك؟

– لا، لا أتفق مع ذلك. أعرف الخلفية التي ينطلق منها فريد زكريا. إنها تنطلق من منظور أقرب إلى المأزوم. ذلك بحكم خلفيته الثقافية كما أسلفت، في حين رؤية الغربي أكثر تفاؤلاً وأقدر على خوض المغامرة، يتحرك ويغزو. نعم ثمة فشل حصل في العراق، لكن تلك ليست كل الصورة. هنالك مواضع نجح فيها الأميركان.

حسناً، لننتقل إلى مسألة أخرى ذات صلة، وتحديداً عند مفهوم استخدمته في كتاباتك لدى وصف أوضاع الأقلية القبطية التي تنتمي ثقافياً إليها. قلت.. الأقباط غرباء على أرضهم منذ «الغزو» العربي. ألا تجد أن استخدامك لمصطلح «الغزو» هنا يرتبط بعلاقة ما مع مفهوم الإصلاح الذي تدافع عنه؟

– هل تعرف أن الخميني استخدم المصطلح نفسه. قال.. الغزو العربي لفارس. قال أيضاً.. أخذنا الإسلام ولم نأخذ العروبة. وهو ما يعني أنني لست وحدي من استخدم هذا المصطلح. وإلا قل لي.. ما المصطلحات التي يمكن أن نصف بها الحالة هذه. في أميركا، نحن نستخدم المصطلح نفسه لدى الحديث عن التدخل في العراق. نقول غزواً ولا نقول فتحاً. أما بالنسبة إلى أهداف الغزو، نبيلة أو لا، فتلك مسألة أخرى. وهكذا، فحين جاء عمرو بن العاص إلى مصر (19 – 21هـ) جاءها غازياً. كانت دولة فرعونية وحوّلها إلى مستعربة. وأرجو ألا يفهم الأمر على أنني ضد حركة التاريخ. لا، فأنا أصف فقط. أقول «غزواً» ولا أقول «فتحاً».

لكن أليس هذا هو حال الإمبراطوريات على مر التاريخ؟

– نعم، لذا فأنا لا أعترض، جميع الإمبراطوريات غزت. لكن حين نريد إدانتها فيجب إدانتها جميعاً بالتساوي. الحروب الصليبية كانت غزوات، والغزوات في ظل الخلافة الإسلامية كانت كذلك أيضاً. الأمر نفسه بالنسبة إلى غزو أميركا إلى العراق. لكن حين نذهب إلى تقييم الغزو فنحن ننتقل من التعريف إلى ضفة أخرى. هنا يجب أن نتحدث عن الآثار، إيجابية كانت أو سلبية.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=119285

حوار مع مجدي خليل

مجدي خليل لـ «الوقت»: الحال واحد على الضفتين.. كوسوفو وإسرائيل (1-2)

«النابلسي» شوّه الليبرالي الجديد.. و«طنطاوي» فاق «حنفي».. و«المسيري» بين منزلتين

مجدي خليل3

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:

الحقائق قابلة لأن تتغير باستمرار. هذه حقيقة جديدة: لا أثر للأصولية المسيحانية على أميركا، ولا حتى اليهودية. على الأقل هذا رأي الباحث مجدي خليل، الأميركي من أصل مصري قبطي وعضو مركز ابن خلدون للدراسات.

في الأعوام الأخيرة التي أعقبت غزو أفغانستان والعراق بدت هذه الحقيقة قوية وأقلّ استجابة إلى النقض. وقد أسهم الرئيس الأميركي جورج بوش بمعاونة المحافظين الجدد في إدارته على تكريسها عبر سلسلة من التعبيرات أطلقها على خلفية الحرب على الإرهاب وكانت ذات صبغة دينية. في الوقت الذي كانت مراكز الدراسات وأجهزة قياس الرأي تشير إلى ارتفاع جنوني في نسب التدين في أميركا، الأمر الذي كان يتنافى مع صورتها كواجهة للعالم الحديث.

ومع ذلك فإن خليل تحفظ في ترتيب نتائج كبيرة على ذلك. قال ”ما يزال القرار بيد علمانيين”. وقد جادل بشأن أن الأصولية اليوم هي حكر على الإسلام. في حين انتفت تماماً عن المسيحية واليهودية. واستدرك ”حتى الباقي منها فغير مؤثر”. ”الوقت” التقته في إطار تقديمه ندوة الأسبوع الماضي من تنظيم جمعية المنتدى. فيما يلي مقتطفات:

* نبدأ معك من الموضوع الأثير الذي تشتغل عليه والمتعلق بقبطيتك. كيف تشكل وعيك بقبطيتك في ظل أغلبية مصرية غير قبطية؟

– دعني أنقل الموضوع إلى ما يمكن أن أسميه العيش ضمن أقلية. بنظري، العيش ضمن جماعة أقلية يشكل تراثاً خصباً، بمعنى أن الأمر لايعود يقتصر على فكرة دراسة الأقلية، كما هو الحال بالنسبة لي، إنما معايشتها أيضاً. فأنت حين تعيش فكرة الأقلية، ومن ثم تتوجه لدراسة واقعها بالأرقام تصبح الأمور عندك أكثر وضوحاً. من هذا المنظور أقول إن وعيي بقبطيتي، أو العيش ضمن أقلية أقبطية، قد شكل لي إطارا خصباً ما دعاني إلى أن أتوجه إليه بالدراسة وفق نهج علمي لاحقاً.

* لو طلبنا منك أن تضعنا في إطار إدراكك الأول إلى كونك تعيش ضمن جماعة أقلية. هل ثمة معاناة يمكن أن تتحدث عنها هنا؟

– لا، فأنا شخصياً لم ترتبط حياتي بمعاناة. وهذا أمر مفيد جداً. فلو كنت كذلك لأصبح موقفي الآن نابعاً من أزمة. إنما الآن، فإن ميزة ما أكتبه، هو أنني لم أكن قبطياً مضطهداً. بمعنى آخر، إنني وحتى أوان هجرتي إلى أميركا كنت مواطناً عادياً لكن ناجحا. درست الاقتصاد وعملت في البنك المركزي المصري. لذلك فأنت تجدني حين أطرح موضوع الأقباط أفعل ذلك ضمن أجواء طبيعية، ما كان سيتعذر لو عشت ضمن واقع مأزوم. حين ناقشت مفهوم الأقلية القبطية ناقشتها في سياق المفهوم العام. قلت إن ثمة خللاً قائماً في المساواة، وهذا يؤثر بدوره على المواطنة. ذلك أن المواطنة تقوم على ركنين أساسيين، المساواة والمشاركة. فحين يختل واحد من الركنين يؤثر ذلك على الفكرة الرئيسة. دعني أشير إلى شيء آخر أطور به هذه الفكرة. فأنا لا أنظر إلى الأقلية انطلاقاً من عامل عددي أو من مفهوم العدد إنما انطلاقاً من مفهوم الحقوق السياسية. وهو الأمر الذي يترتب عليه أنني أعد المرأة في مصر مثلاً مشمولة بمفهوم الأقلية. هي أقلية لأنها منقوصة لجهة الحقوق السياسية. وهكذا فحين يختل واحد من ركني المواطنة، تختل منظومة المواطنة كلها. صحيح أن المواطنة حقوق وواجبات، لكنني أعتبر أن الحقوق تأخذ موقعاً أولياً في الترتيب، بعد ذلك تأتي الواجبات. من هذا المنطلق قمت بمقاربة موضوع الأقباط، وقد نشرت كتاباً في العام 1998 أسميت فيه مواطنة الأقباط في مصر بـ”المواطنة المنقوصة”. على رغم ذلك، وأرجع إلى سؤالك الآن، فإن الأمر لم يخلُ على الصعيد الشخصي من معاناة بسيطة. فأنا مثلاً، وحتى الساعة، لا تزال الصحف المصرية ترفض أن تنشر لي مقالاً واحداً، في حين تنشر لي ”الواشنطن بوست”. لك أن تتخيل أن هناك 15 حواراً أجري معي من طرف محررين في الصحف المصرية لكن أياً منها لم ينشر، ولا واحداً حتى. بالمقابل، ظهرت مئات المرات في تلفزيونات أجنبية، في حين غير مسموح أن أظهر في التلفزيون المصري. تلك هي طبيعة الدولة البوليسية، إنها تضع قوائم بأسماء من المسموح له أن يظهر ومن لا. ولكن أشدد على أن ذلك شيء عادي جداً، وهي على أي حال ضريبة أنني ناشط من أجل الديمقراطية. الديمقراطية هي النقطة الخلافية بين العالم العربي وبين العالم الحديث.

غلطة ”عبدالناصر” وإثم ”السادات”

* وصفت في أحد مقالاتك الأقباط في مصر أنهم ”غرباء منذ الغزو العربي”. كيف تبدو غربة الأقباط اليوم؟

– لنقل إنها غربة تزيد في فترات وتقل في فترات أخرى. وحتى العام 1855 كان الأقباط غرباء تماماً على أرضهم. بمعنى أنهم كانوا يعتبرون أهل ذمة ويجرى تدفيعهم الجزية وكانوا محرومين من دخول الجيش. لكن بعد هذا التاريخ رفعت الجزية عنهم فبدأوا يدخلون تدريجياً ضمن الحياة السياسية. حصل ذلك في فترة العصر الليبرالي. ووصلوا إلى مناصب مختلفة بينها منصب رئاسة الوزراء لثلاث مرات كما شغلوا مواقع وزراء في وزارات مختلفة. وهو ما أتاح لهم تكوين ثروات، فكانوا يمتلكون نسبة كبيرة من ثروات مصر. لكن مع ثورة جمال عبدالناصر 23 يوليو عادوا غرباء مرة ثانية. فقد حجمتهم الثورة اقتصادياً وسياسياً. وفي العام 1973 حين شجع أنور السادات على ظهور الجامعات الإسلامية أحكم الطوق تماماً، وتجدد الشعور بالغربة. عاد خطاب الذمية ما أدى إلى تقوقعهم.

* هل يمكن أن يدل على شيء ما تسميه العودة إلى الغربة. على عنوان رئيس فشل بناء الدولة الحديثة مثلاً؟

– طبعاً، فالدولة الحديثة اندماجية، بمعنى أنها تدمج كل من عليها على أرضية المواطنة. المواطنة هي معيار الحقوق والواجبات. وإن أنت فشلت في ذلك فأنت فشلت في بناء دولة عصرية حديثة. لقد سعى محمد علي باشا (1805- 1848 ) في هذا الاتجاه، لكن مع ظهور التيارات الإسلامية حصلت النكسة.

* هل تخلق الغربة تمايزاً من نوع ما على مستوى تكوين الشخصية القبطية، تجعلها مختلفة مثلاً عن الشخصية المصرية؟

– لا أبدا، كلنا مصريون من أصل واحد. لكن دائماً ثمة سمات توحد الأقليات، ليس في مصر فقط إنما في كل العالم. فهي عادة ما تكون أقل عنفاً من الأغلبيات. شيء آخر، إنها تكون حذرة باستمرار، فتعوض عن أقليتها بتعليم أكثر وانخراط أكثر في المناشط الاقتصادية. الأقباط في مصر متميزون علمياً واقتصادياً.

معركة إصلاح الكنيسة مؤجلة

* لكن لم لا تبدو متمايزاً أو على مسافة نقدية في موقفك من المؤسسة الدينية القبطية، أي الكنيسة. تتحدث في كتاباتك عن ”مظلومية الكنيسة القبطية” فتبدو منسجماً في حين نعرف أن المثقف على علاقة توتر دائمة مع المؤسسة؟

– لا، هذا فهم خاطئ، فأنا حين أدافع عن المؤسسة، أدافع عنها في إطار موقعها الرمزي عندIMG_4149 جماعة أقلية. من هنا فأنا أعتبر أنها مؤسسة مضطهدة. وهو ما يحتم عليّ من جهة أخرى أن أقول للأقباط في بعض لقاءاتي بهم إن معركتكم في إصلاح الكنيسة مؤجلة حتى تحقيق المواطنة. ذلك أن هذه المعركة لها أولوية، أن تصبح مواطناً كاملاً في دولة حديثة. ثم بعد ذلك يمكن أن تأتي بقية الأشياء.

* أليس هذا ما يتذرع به الإسلاميون تحديداً، أن معركة الإصلاح الداخلي مؤجلة حتى إصلاح الأوضاع السياسية. خصوصاً وأن الحركات الإسلامية مقموعة في كل البلدان تقريباً؟

– لا، ليت هم يقولون هذا الكلام أو يطالبون بتعديل بعض الأوضاع. كنا لقينا على الأقل أرضية مشتركة. حين أجلس مع بعض الإسلاميين أطلب منهم تعريف الإصلاح، فتأتي الإجابة.. قال الله وقال الرسول. لا، هذا الكلام لاينفع، نحن نتحدث عن الإصلاح كما يتم تعريفه بواسطة الأمم الحديثة. فأنا لا أرجع لتراث المسيحية الأولى من أجل أن أستقي التقدم، إنما لتراث الغرب. أيضاً، أنا أعتبر كل التجارب الماضوية فاشلة، في حين نحن أكثر نضوجاً. السلفيون المسلمون يتصورون السلف الصالح كما لو كانوا ملائكة، في حين أنهم هم أنفسهم اليوم أفضل من السلف الصالح.

أنا من سكّ المصطلح.. أنا من وسّعه

* دعني أوظف مفهوماً هنا من كتاباتك أسميته ”الإسلامية الدولية”

– (مقاطعاً) نعم، أنا من أوائل من سكّوا هذا المصطلح. لقد جرى استخدامه لأول مرة من قبل صحيفة اللوموند الفرنسية بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول. من جهتي فقد أخذت المصطلح وعرفته وتوسعت فيه. فجرى الحديث عن الإسلامية الدولية، تماماً كما كان الحديث يجري عن الشيوعية الدولية.

* حسناً، إن سؤالي يتعلق تحديداً بتصرفك في المفهوم وإعطائه هذا الحجم من السعة. فأنت انطلقت في تعريفه من إطار شمولي دمجت فيه غزوات العهد النبوي بفتوحات الدولة الإسلامية الأولى واصلاً إلى الإسلاموية الحديثة، القاعدة وبن لادن، وووو

– (مقاطعاً للمرة الثانية) لا، دعني أوضح مسألة هنا. أنا لم أدخل الخلافة الإسلامية ضمن مفهوم الإسلامية الدولية إنما ضمن دائرة الإسلام السياسي. فالإسلام السياسي بدأ مبكراً جداً، حتى وإن ظهر المصطلح متأخراً. مع انتهاء العهد النبوي، بدأ المسلمون يفكرون في دولة، فجرى الحديث عن دولة راشدية ثم دارت إلى دولة أموية فعباسية فعثمانية إلخ إلخ. هنا، وحالما بدأ الحديث عن دولة نشأ أساس ما يمكن تسميته الإسلام السياسي وطغيان السياسة على الدين. بعض الخلفاء العباسيين كانت لديهم مايشبه الكابريهات وآلاف الجواري، في حين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب ”أمير المؤمنين”. هذا هو ما أسميه بطغيان السياسة على الدين والروحانية. وما أسميه الإسلام السياسي ليس أكثر من توظيف الدين لخدمة أغراض سياسية. لو سألت الآن، ماهو تعريف الإرهاب، لقلت استخدام العنف لتحقيق أغراض سياسية. بالمثل، فإن أنت استخدمت الدين لتحقيق أغراض سياسية، فهذا لايعني أي شيء آخر غير الإسلام السياسي.

* أرجو أن تدعني أوضح سؤالي، إشكالي الرئيس يقوم على أنك في حين كنت ميالاً إلى إعطاء مفهوم ”الإسلامية الدولية” نوعاً من السعة، فتدمج فيه إضافة إلى ما أشرت إليه في المداخلة السابقة دول مثل أفغانستان وباكستان والسعودية وإيران فضلاً عن رجال دين ودعاة مثل محمد عمارة ويوسف القرضاوي ومحمد سليم العوا ومحمد الغزالي، بدوت في المقابل أكثر احترازاً لدى تناول ما يمكن أن نسميه ”القبطية السياسية”، وكنت تلجأ للتضييق أكثر والخوض في تفاصيل. فقد تحدثت في كتاباتك مثلاً عن الكنيسة القبطية في مقابل الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا أو الروسية. كما تعمل على التفريق أيضاً بين رجال الدين الأقباط الذين يمارسون السياسة من خلفية حقوقية في مقابل من يمارسونها من خلفية دينية.

– الكنيسة القبطية شيء صغير جداً في موازاة ما أسميه الإسلامية الدولية. الكنيسة القبطية لديها مشاكلها، وأنا أنتقدها من داخلها باستمرار، لكنها لاتمارس العنف. من جهة ثانية، فحين أتكلم عن الإسلامية الدولية، أو تلك الأسماء التي عددتها، فأنا أتكلم عن كوادر العنف والإرهاب. كوادر النبذ والكراهية. ذلك أن كل هؤلاء يدعون إلى العنف وإلى الكراهية ونبذ الآخر، ليس نبذ غير المسلم فقط، إنما حتى الآخر المسلمز. فالدعوة إلى الكراهية تصل في نهايتها إلى الذات. تبدأ كراهية بين الأديان، وتنتقل إلى كراهية داخل الدين الواحد، ثم إلى داخل الفرقة الواحدة في الدين الواحد، وصولاً إلى الذات نفسها. مثال على ذلك، أن الشيخ حسن الترابي حين اختلف مع الرئيس السوداني عمر البشير حول ما أسمي وقتذاك مشروع الإنقاذ، قام كل منهما بتكفير الآخر. ومثل ذلك تجد أن أيمن الظواهري يكفر الإخوان المسلمين. هؤلاء إذن ليسوا غير ”مكفراتية”، وفكرهم ذو طبيعة وبائية تنتقل وتستشري. في حين الكنيسة القبطية لاتكفر أحداً.

الأصولية اليوم واحدة.. إسلامية

* لكن ألا يستدعي طرح مفهوم الإسلامية الدولية طرح مفهوم آخر موازٍ، وهو المسيحانية الدولية. وإلا أين يمكن أن نضع الأصولية التي يعبر عنها الرئيس الأميركي جورج بوش؟

– لا يوجد شيء في الواقع يمكن أن نسميه مسيحانية دولية.

* ثمة محللون يرون أن الصراع الدائر الآن على مستوى العالم هو صراع أصوليات. أصولية إسلامية في مقابل أصوليتين مسيحية ويهودية…

– نعم، قرأت أشياء من هذا القبيل. وهناك باحث اسمه طارق علي كتب كتاباً أسماه ”صراع الأصوليات”. لكن من وجهة نظري، ليس ثمة من أصولية اليوم غير الأصولية الإسلامية. بمعنى أنه لا توجد هناك مسيحية سياسية، نعم كانت موجودة سابقاً لكن الموجود حالياً هو دول سياسية.  فحين يخطيء بوش فإن إدارته وحدها التي تتحمل الأخطاء، فقط لا غير، بما يعني أن المحرك مجدي خليل2السياسي ليس الدين. إن بوش ليس كل شيء في الإدارة الأميركية، هناك مؤسسات على مستوى ضخم جداً يجري طبخ القرار الأميركي داخلها، ويحصل ذلك لاعتبارات سياسية بحتة. أغلب من يصنع القرار في أميركا هي اللوبيات اليهودية، ومعظم المحافظين الجدد يهود، فكيف يصح الحديث عن أصولية مسيحية. من جهة أخرى، فإن المحافظين الجدد لا يمكن الإقرار أن محركهم الرئيس هو الدين أبداً. ثمة أصولية يهودية موجودة، لكنها محدودة وليس لها أي تأثير. الذين يؤثرون في صناعة القرار هم اليهود العلمانيون. وإذا وجد مسيحيون ضمن دائرة القرار فهم أيضاً مسيحيون علمانيون. لقد انتهت الأصولية من اليهودية والمسيحية، وبقيت محصورة في الأصولية الإسلامية وحدها. وحين يجري ترداد هذا المصطلح، يقفز إلى الذهن مباشرة الأصولية الإسلامية، لأنها تتفرد بالمصطلح، تحتكره.

* أين نضع إذن ما يتحدث عنه مفكر أميركي مثل صموئيل أنتنغتون حين يقول في أحد كتبه ”من نحن؟” إن الدين هو أيديولوجية الشعب الأميركي. ثم لاشك أنت تعرف أن سيرورة الشعب الأميركي تختلف كلية عن سيرورة الشعوب الأوروبية، فجميع الاستطلاعات تشير إلى غلبة نسب التدين عند الأميركيين في حين نجد العكس لدى الواقعين في الضفة الأوروبية؟

– صحيح ذلك، إن أكثر من 75 % من الأميركيين يؤمنون بالله، أو يرتادون الكنائس والمعابد. ولكن صناعة القرار الأميركي أمر مختلف تماماً، بل هو شيء مفصول. فالدستور الأميركي يفصل فصلاً تاماً بين الدين والدولة، وصناع القرار ليسوا من دين واحد. فزلماي خليل زادة مثلاً، سفير أميركا في العراق، هو مسلم من أصل أفغاني، لكنه من المحافظين الجدد. ومثل ذلك أحمد عجمي، المفكر الشيعي الذي كان من أكبر المحرضين على غزو العراق. لكن لا أستطيع القول إن ما يحركهم هو الدين، أو أن ما يحرك المحافظين الجدد هو الأصولية المسيحية واليهودية.

* حسناً، كيف تفسر إذن تصريحات بوش لدى زيارته الأخيرة لإسرائيل واعتباره دعمها جزءا من المهمة الرسولية التي يستقيها من خلفية دينية؟

– يجب أن نضع في الحسبان أن هناك علاقة خاصة جداً بين أميركا وإسرائيل، وهي علاقة تتجاوز مسألة الأديان. في هذا السياق، أشير إلى رأي سبق وأن توقفت عنده في كتاباتي. أنا أعتبر وجود إسرائيل شبيهاً بوجود دولة مثل كوسوفو أو ألبانيا. فكما أن الغزوات الإسلامية خلفت هذه الدول في قلب أوروبا، فقد خلف الغزو الغربي إسرائيل في قلب العالم العربي. هذه إذن إحدى آثار الغزو على الضفتين، إنها تركت بقعاً إسلامية في أوروبا تقابلها بقعة اسمها إسرائيل في العالم العربي. اليوم لا أحد يتحدث عن التخلص من ألبانيا أو كوسوفو، فما معنى إذن أن يجري الحديث عن التخلص من إسرائيل!. إن شئت العدالة، فينبغي التخلص من الاثنين، لكن ذلك غير ممكن، ما يجعلنا نطرح خيار التعايش مع هذا الواقع.

ليبراليون وليبراليون.. لكن الصراع على وهم

* عودة على الحديث عن الإصلاح إلى أي حد تلتقي في أفكارك مع شخصيات مصرية مثقفة تشتغل ضمن الحقل نفسه إنما من زوايا مختلفة. نصر حامد أبو زيد أو حسن حنفي أو عبدالوهاب المسيري أو جابر عصفور أو أو؟

– نصر أبو زيد مختلف جداً، فهو مصلح حقيقي. الأمر مثله بالنسبة إلى جابر عصفور فأنا أشترك معه في مساحات كبيرة، رغم أنه من قلب النظام. لكن حسن حنفي محافظ جداً، هذا إن لم يكن أصولياً، ولا توجد مساحة مشتركة بيني وبينه. عبدالوهاب المسيري أقرب إلى حنفي، فهو الآخر إسلامي محافظ. إنني أعد شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي أكثر انفتاحاً من هؤلاء. فأنت لو التقيت في جلسة خاصة مع شيخ الأزهر ستجد أنه منفتح جداً، وهو من أتى بقانون الخلع ووافق على فوائد البنوك. وقد قال لي إنه يستطيع أن يعمل كل شيء من الإسلام، لكن المشكلة تكمن في من حواليه. في المؤسسة نفسها، الأزهر، ومن يسمون جبهة علماء الأزهر.

* لو ابتعدنا عن مصر قليلاً، إلى أي حد تلتقي مع الخطاب الليبرالي العربي الجديد ممثلاً في شاكر النابلسي والعفيف الأخضر؟

– ألتقي مع أناس كثر، لكنني أعد النابلسي واحداً ممن شوهوا مصطلح الليبرالية الجديدة. ورغم أنه صديقي، وأنا ألتقيه باستمرار وأقول له رأيي، إلا أنه أسهم في تحويل المصطلح إلى كليشيهة. لقد جرى اختزال المصطلح بصورة مخلة، واعتبر كل مؤيد لغزو العراق ليبرالياً جديداً.

* بالمقابل، إلى أي حد تلتقي مع الليبراليين العرب الذين لم يضيفوا صفة ”الجدد” إلى حالتهم وأصدروا بياناً في وقت سابق تحت اسم ”صرخة ضد التبسيط” وهاجموا فيه الليبراليين الجدد. حازم صاغية أو صادق جلال العظم أو أو؟

– الجماعتان على خطأ، ذلك أنهم ببساطة كانوا يردون على النابلسي، في حين ما يتحدث عنه النابلسي هو وهم غير موجود. هم كانوا يردون على الجماعة التي أيدت الحرب على العراق 2003 في حين أنا لا أرى أية علاقة بين الليبرالية الجديدة والحرب على العراق. نعم، يمكن القول إن ثمة علاقة بين الحرب وبين المحافظين الجدد، ولكن الليبراليين الجدد وفق الفهم الذي أتبناه منذ العام 1992 – وأنا من أوائل من استخدم مصطلح الليبرالية الجديدة – لاعلاقة لها بكل ذلك. كل من أيد الحرب على العراق عُدّ ليبراليا جديداً، هذا شيء مضحك.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=117561

حوار مع عباس بيضون

على هامش مشاركته في أنشطة مركز الشيخ إبراهيم.. عباس بيضون لـ«الوقت»:

الشعر ما عاد ديوان أي أحد

هو فن منقرض بلا سوق وأستغرب وجود شعراء شبّان

22222

الوقت – حسين مرهون، علي الديري

كون المرء اليوم شاعراً يفترض في الأقل إقراراً بالشعر كمقترح إبداعي ما يزال قادراً على قول رؤى جديدة لم يتم قولها. إلى حد ما هذا صحيح، لكن ليس مع عباس بيضون. فالشاعر الستيني اللبناني الذي تخفق راية تجربته على ضفاف خمسة عقود يقول ‘’صار الشعر حيواناً منقرضاً’’. كونه لايزال شاعراً ليس بالضرورة أمراً بذي معنى. يقول رداً على سؤال ‘’لا معنى لبقائي شاعراً حتى اليوم’’. غير أنه لا يجد دافعاً لسؤال نفسه عن الجدوى من أنه ما يزال يكتب الشعر ويحيي الأمسيات الشعرية. ويرى أن ذلك ينبغي أن يكون سؤال الأجيال الجديدة تحديداً، فهي وفدت على الشعر في فترة كان يشهد فيها كساداً حتى أنه لم يعد ديوان أي شيء. ويستدرك ‘’حين كتبت الشعر، كان لما يزل ثمة مكان يُتوخّى من الشعر وثمة مكانة’’. على رغم كل ذلك، فهو لم يقتنع حتى الآن بموت الشعر، على الأقل ما دام هناك شعراء شبان يأتون إلى الصنعة غير آبهين بظلام النهايات. وهو يدافع عن المشروعية التي يصدر عنها الشعراء الجدد، حتى وهي مشروعية تقف على إقصاء اللغة والأدبية لصالح اللّحظي سريع التبدل وشحيح العاطفة. يقول ‘’أنا واحد ممن دافعوا عن مشروعية هذا التوجه’’. ‘’الوقت’’ التقت عباس بيضون على هامش إحيائه أمسية شعرية الأسبوع ما قبل الماضي في بيت الشعر – بيت الشاعر إبراهيم العريض وحاورته.

* ربما عدّ بلدك لبنان مهداً ثانياً بعد العراق بالنسبة إلى تجربة الشعر الحديث، خصوصاً مع مرحلة مجلة شعر أواخر الخمسينات وبداية الستينات، وهي المرحلة التي تنتمي تجربتك إليها. لنبدأ من الآخر، دعنا نطالع في مآلات هذا المهد الشعري، وتحديداً في أوراق الشعر الشبابي في لبنان اليوم؟

– لست أدري ما إذا كان هناك شعر شبابي أو كتابة شبابية أو لا. لكن عموماً، فإن ما يدخل ضمن إطار ما تسميه الشعر الشبابي – من دون أن تكون لهذا المصطلح قوة موضوعية بالضرورة – لايقدم اقتراحاً أو تجربة جديدين. هو إن شئت، إحساس مختلف بالأشياء، بالزمن، المكان، الحياة والمشاهد. وطبعاً غير الإحساس الذي كانت تتوفر عليه الأجيال السابقة. من هنا فأنا أفترض أن الشعر الشبابي، هو بمثابة الانتقال إلى إحساس بالحياة مختلف، إلى حياة ثانية، وهذا ليس حكم قيمة بالضرورة. إذا ما أردت أن نتوسع قليلاً، يمكن القول إن الكتابة الشعرية تختزن داخلها أمكنة عدة، منها الصحراوي ومنها الريفي. حتى في الكتابة النثرية الأمر نفسه موجود. مثلاً القصيدة النثرية التي تعتمد كثيراً على الصوت، والتداعي الصوتي هي قصيدة صحراوية. وحين أقول صحراوية فأنا لا أدين أحداً، فقد تكون كذلك وتكون قصيدة آسرة جداً. مثال آخر، تجد المنطقة التي يخرج منها شعر (الشاعر السوري الكردي) سليم بركات (1951)، والتي تقوم على اللغة بشكل رئيس، هي منطقة صحراوية. كونها تعتمد على الإقامة في مكان واحد رئيس، وهو اللغة كما أسلفت، ما يعني أن قصيدته ساكنة إلى نفسها، وما دام الحال كذلك فإننا هنا بإزاء إحساس الصحراء. أما المنطقة الريفية، فيمكن إدراج شعر (الشاعر السوري) محمد الماغوط (1934 – 2006) في دائرتها. ثمة شعراء كثر، يمكن توزيعهم بضمن هاتين الدائرتين.

* حسناً، فأين يمكن أن نجد قصيدة المدينة إذن، قصيدة بيروت إن شئت؟

– تجدها لدى الأجيال الجديدة. إنني أفترض إن هذه الأجيال هي أجيال مدينية، بمعنى أن إحساسها بالزمن، المكان والعيش بصورة عامة، هو إحساس مديني. وفي التفصيل يمكن القول إن واحداً من مظاهر الإحساس بالمدينة هو الحضور الكبير للحظة السريعة. للسرعة نفسها، السرعة في تناول الأشياء بما يجعل من القصيدة أقل إيغالاً حتى لا أقول أقل عمقاً. مظهر آخر، هو التركيز على اللحظة البصرية مصحوباً ذلك بشحّة عاطفية فضلاً عن شحة أدبية إضافة إلى غنائية سريعة. تلك هي أهم مظاهر الإحساس بالمدينة، وهي نفسها المظاهر التي تتخلل معظم التجارب الشبابية الطالعة. وكما أسلفت، فإن هذه المظاهر لا يمكن أن تحول على تجربة أو مقترح جديدين بقدر ما تحول على إحساس بالأشياء مختلف. لكن حين نتحدث عن شعر شبابي، فإنني أفترض هنا أن هناك مكاناً للشعر، وليس للعمر فقط. العمر لايعني شيئاً، قد يتدخل في الحسم أو ربما لا يتدخل، لكن الشيء الأساس في هذه العملية كلها، هي الرؤية.

القصيدة الراهنة بلا لغة

* هل برأيك ما تسميه هنا رؤية يمكن تلمسها من التجارب الراهنة للشباب، حتى لا نقول الشعر الشبابي؟

– نعم، موجودة بدرجات متفاوتة. ومرة أخرى، أرجو ألا يفهم من رأيي تصديراً لحكم قيمة، أسوأ أو أفضل. لكن في المجمل، تجد في معظم الشعر المنجز اليوم من طريق أصوات شابة، سيطرة للحظة المرور السريعة بالأشياء، العواطف الأقل إيغالاً، الغنائية السريعة، والاستغراق في المشهد البصري. ليس ثمة منعرجات أو دواخل في القصيدة إلى حد يمكن معه القول إن شعر هذا الجيل هو بدون لحظات تأملية كبرى. وربما أمكن القول هنا إن ثمة انعداماً للمؤلف، خصوصاً بعد أن تم التخلي عن اللغة. صارت اللغة مجرد أداة إبلاغ، وهو الأمر الذي قاد إلى نوع من اللغة الواحدة، اللغة التقريرية التي يمكن أن تكتب بها كل شيء.

*هل تعني أنه ما عادت هناك أسلبة؟

نعم، إذ صار من الممكن الحديث عن عمل من دون مؤلف. وهي بالمناسبة سمة تلتصق بالفن الحديث عموماً. عدد كبير من الفنون ما عادت ثمة بصمة لمعديها بمثل ما كان الحال عليه في السابق. وفي الشعر، انتقل الأسلوب إلى العمومية، إلى اللا أسلوب تقريباً، وبالتالي إلى اللا أدب. إن شئت، من هنا يمكن أن نتحدث عن شعر شبابي.

* يبدو أن حكمك قاسٍ حيال التجارب الشبابية؟

أبداً أبداً، أنا لديّ موقف إيجابي كثيراً من هذه الظاهرة. وقد دافعت عن الشباب من هذه الزاوية بالذات. من وجود فن شبابي معاصر يمتلك مجموعة من السمات ربما لايتحملها شعراء من جيلي أو 222 من الجيل الذي قبلي. لقد أشرت في أكثر من مقام ومقال عن شعر معاصر، شعر بلا مؤلف أو خصوصية أو أسلبة انطلاقاً من أن معظم الفن الحديث مبتنى على هذه الأفكار تحديداً. انظر، لقد اعتبرت أن كلامي السابق قاسٍ، في حين كان الكلام وصفياً. لم أفهْ بأية كلمة هجومية. إن دلّ ذلك على شيء، فهو يدل على أننا نتوفر على مجموعة من القيم المختلفة.. أنت شاب وأنا كهل. ثمة كلمات ما إن تلقى تشحذ لها أحكام قيمة. كلمة خصوصية مثلاً، ما إن تدخلها في التداول، تقول مثلاً إن هذا الشعر بلا خصوصية حتى تظهر وكأنها شتيمة. بالمقابل، فإن الشعر ذا الخصوصية، يظهر كما لو كان شيئاً ذا شأن عظيم. فهذه الكلمات تستبطن أحكام قيمة. في حين كان رأيي بشأن التجارب الجديدة يتوخى التوصيف ليس إلا.

كل تجربة الحداثة ضد الخصوصية

حين تقول إنها تجارب من غير مؤلف، فأنا أفهم الأمر على جهة أنها تجارب منتفية الفردية. وما إن تنتفي فرديتها فهي تكف عن أن تصبح شعراً. وإلا ما رأيك؟

نعم، لكن معظم الشعر الأميركي اليوم هو شعر منتفي الخصوصية. جزء كبير من الفن الحديث مبني على انتفاء الخصوصية، بل هو ضد الخصوصية أصلاً. ثمة اختلاف هنا، بين الحداثة (Modernism) وما بعدها. ما بعد الحداثة (Post Modernism) هي نفي للخصوصية.

* لكن نفي الخصوصية لا يعني نفي الفردية.

نعم، لكنني لا أصدر حكم قيمة هنا. كل ما أحاول قوله هو أن جزءاً كبيراً من كتابة الشباب اليوم يقوم على عدم الأسلبة، على عدم الاكتراث للغة أو للأدبية بصورة عامة.

*هناك رأي لصديقك حازم صاغية يرى فيه أن الأيديولوجيات الشمولية هي التي لا تؤسلب مستعيضة عن ذلك بالمضمون. وعلى العكس من ذلك تماماً أيديولوجية الفرد الحديث، أو الفردانية التي تعتني بالأسلوب كثيراً. كيف نوفق بين هذا الرأي ورأيك القائل بانتفاء الأسلبة عن تجارب شباب ولدوا وظهرت تجاربهم فيما كانت الأيديولوجيات الشمولية الكبيرة تنهار تاركة الفسحة لظهور الفرد حيث هو القيمة أولاً وأخيراً؟

نفي الخصوصية لا يعني بالضرورة أن الحال قد آل لمصلحة التوليتارية إنما لمصلحة السوق. لمصلحة شيء يتجاوز الفرد. في الأدب أو في الفن، ما عاد ثمة من يكترث للأفراد إنما للسوق. تفتح "غاليريه" لتبيع لوحاتك، تكتب رواية للشيء نفسه، وقس على ذلك.

* معنى ذلك أن السوق أصبحت شرط العمل الإبداعي.

نعم السوق، الفردية ما عادت تعني أي شيء. في الزمن الحداثة كان ثمة مكان للفردية، لكن في الزمن المابعد الحداثي انتفى ذلك. لقد استطاع الكتاب والرسامون في السابق أن يفرضوا احترامهم على المجتمع، حيث كان ما يزال من يعطي الأولوية للفرد. حالياً، اختفى هذا الاحترام، ولم تعد الفردية قيمة بقدر ما القيمة في السوق. مثلاً، إذا ما وجد فنان على قدر من الاحتراف في رسم الوجوه، يستطيع أن يفتح له "غاليريه" ويلقى إقبالاً ورواجاً، فيصبح فنه هو الفن.

الشعر فن منقرض لا يعني أي شيء

* هل نستطيع القول إن الزمن السائد حالياً هو زمن سوق بمعنى (Consumption Culture). وبالتالي فالقصيدة قصيدة سوق بهذا المعنى وبما يعني في المحصلة أنها ابنة زمنها؟

لست أدري ما إذا كان يصح هذا الوصف أو لا. لكن أطمئنك، ميزة القصيدة اليوم، الجيدة والرديئة على السواء، أنها قصيدة بلا سوق. لم يعد لها سوق أصلاً، الشعر كله خرج من السوق، العرب والعالمي معاً. لو تابعت المجلات الثقافية الأجنبية في السنوات الأخيرة، على الأقل في فرنسا، ستجد أنها لا تكترث للشعر بتاتاً.

* يبدو أن الشعر ما عاد ديوان العرب، ربما ولا ديوان أي شيء.

نعم، لم يعد الشعر يعني شيئاً. هو فن منقرض، وبالتالي فن بلا سوق.

لكن ألا ترى أن ما ينطبق على الشعر، وهو شعر شعراء الحداثة تحديثاً، ينطبق أيضاً على كل ما يتم الاصطلاح عليه عندنا، فن حديث من مسرح وتشكيل وموسيقى ودراما إلخ إلخ. فجميع هذه الفنون في ورطة وتتزايد الشكوى من نخبويتها الموغلة، فهي أيضاً من دون سوق؟

بداية أنا أعترض على استعمل كلمة حديث أو حداثة هنا، إنها كلمة كبيرة. كلمة حداثة واحدة من ديانات المثقفين العرب التي لايوجد لها معنى. الحداثة انتهت من زمان ولم تترك من أثر علينا، ولا حتى أي أثر. في مجتمعات أخرى، الأوروبية مثلاً، نعم، وهي لذلك ولجت في ما بعد الحداثة. أما الحداثة عندنا، في المجتمع العربي، فقد انتهت بإنتاج أدب متعبد بالحداثة وممتدح لها. دعنا نخرج من هذا المصطلح.

* لقد كانت تسمية مقترحة، لكن حسناً.. هل يروك لك استخدام كلمة "شعر راهن"؟

نعم، هذا أفضل. ذلك أن الحداثة مجموعة من العناصر المتداخلة، لك أن تسميها منظومة، وهي لا تعني بالضرورة كل جديد. "الراهن" كلمة أقل ادعاء وأقل أيديولوجية. يأتي باستمرار عند الكلام عن الحداثة، جدل سوفسطائي، من قبيل هذا الشيء حديث وهذا غير حديث، حبذا لو خرجنا من ذلك واستخدمنا مصطلحاً آخر قادراً على أن يصل بنا إلى شيء.

الفنون كلها في مأزق

* طيب، لننتقل الآن إلى الإشكالية الرئيسة، وهي أن مأزق الشعر اليوم هو نفسه مأزق التشكيل والمسرح والموسيقى إلخ. ربما باستثناء الرواية.

أيضاً هنا أعترض، فالرواية نفسها في مأزق. كون أن لها رواجاً لا يعني أنها خارج المأزق. ربما رواجها الشعبي تحديداً، هو الذي يكمن سبباً في مأزقيتها، ذلك أنه جعل من أرباب السوق يتدخلون كيما يتحكموا في شكل الرواية وفي الإنتاج الروائي عموماً. ليس صدفة مثلاً أننا بعد كل التجارب الروائية الكبيرة، انتقلنا شيئاً فشيئاً إلى زمن ليس فيه رواية كبيرة. الرواية هي الأخرى انتكست، وصارت تميل إلى السهولة والتبسيط وعدم الاستغراق في الدهاليز الشكلية. برأيي، الرواية في طريقها إلى الوصول إلى ما وصلت إليه السينما. فإذا ما عدت إلى التجارب السينمائية ما قبل المرحلة الحديثة، سينما (المخرج الإيطالي) فدريكو فليني Federico Fellini (1920 – 1993) مثلاً، ستكتشف أنها سينما لا تتكرر، لا يوجد لها مثيل في كل إنتاج السينما الحديثة. وحتى لا يمكن مقارنتها بأي من الأفلام الحائزة على جوائز "أوسكار" هذه الأيام. المسرح هو الآخر، ما عاد فيه ثمة تجارب كبيرة. بدأنا ندخل في عصر، الفن فيه عموماً بلا تجارب كبيرة. الفن كله اليوم أمام خيار صعب، وبالتالي فأنا أفترض اتفاقاً إلى حد كبير مع الفرضية الموجود في سؤالك.

* لنبقَ في حدود الشعر. إذا كان الشعر فناً مقترضاً وبلا سوق، كما لم يعد ديواناً لأي شيء. فبأي معنى أنت شاعر، وأنت مدعوّ في الأساس لإحياء أمسية شعرية؟

– لايوجد أي معني. لكن أشير هنا إلى أنني في الوقت الذي بدأ فيه أكتب شعراً، لم يكن الشعر قد وصل بعد إلى المستوى الذي وصل إليه اليوم. كان ثمة مكانة له آنذاك، وربما أمكن القول إنه كان لما يزل ديوان العرب. لذا فأنا أفترض أن هذا السؤال ليس مطروحاً عليّ، إنما هو مطروح على الشعراء الشباب في الأساس. أنا نفسي أسأل: لماذا ما يزال هؤلاء شعراء في عصر نشهد فيه انحسار الشعر. على رغم ذلك، فثمة شيء إيجابي هنا، فكون الشعر بلا سوق، فهذا ترك على الأقل فسحة لتطوير إمكانية أن ينتج بشروطه.

سبب كافٍ لبقاء الشعر

* هل تجد أن ثمة مشروعية للسؤال اليوم عن جدوى الشعر أو مشروعية لتثمير مصطلح مثل "موت الشعر"؟

– يجب التفريق هنا بين الجدوى والرواج. إذا كانت الجدوى تعني الرواج فإن الشعر حتماً بلا جدوى. لكن دعنا نعقد مقاربة أخرى. أرى الجدوى تحديداً في كون الشعر مقاوماً للموت. كونه ما يزال موجوداً وما يزال ثمة شبان يجهدون على أن يصبحوا شعراء، رافضين شروط السوق، فهنا تماماً تكمن الجدوى. إنه شيء مفاجيء ما من شك، أن يخرج شبان شعراء في مجتمعات لاتعطي وزناً للشعر. وهذه بالمناسبة لا تقتصر على البلدان العربية، حيث لدى الشعر تقاليد قديمة ومايزال الشعراء يحظون ببعض من المكانة، وتجد أخبار إصداراتهم صدىً لها في بعض الملاحق الثقافية، بل حتى في الدول الغربية. ما يزال هناك شبان يأتون إلى الشعر، بالمئات، مصرّين عليه على رغم قلة الحظوة والمكانة، وذلك بنظري مبرر كافٍ وحده لكي يبقى الشعر، وإن كان غير بقادر على إيقاف موته.

* هل تشكل من هذا الأفق في رؤية للشعر دافعك إلى نقد جيلك، جيل الحداثة الشعرية وجيل مجلة الشعر الذي أوحى ذات يوم، بواسطة البيانات الشعرية وغيرها، أن الحداثة العربية إنما تبدأ من الشعر أساساً؟

كانت هناك أوهام كبيرة. لكن آنذاك، كان الشعر مايزال الفن الأول. كانت الرواية موجودة، ولكن كان الشعر هو الفن الرسمي. برأيي إن شعراء الحداثة أعطوا الشعر هذه المكانة، كونه حتى تلك اللحظة، كان فعلاً "ديوان العرب" ثم أنهم وجدوا ميزتهم في الشعر. لقد طوروا هذه الفكرة إلى حدّ تمت فيه أسطرة الشعر، صار شيئاً أقرب إلى الأسطورة. وهو ما جعل منه فناً لا تاريخياً، فناً متجاوزاً للتاريخ، وبمثابة الرسالة الشاملة. لقد وقعوا في وهم أن الواقع يمكن أن يبدأ من الشعر، وكذلك النهضة والانبعاث والخلق الجديد، فيما تمّ عطف الشعراء على ما يشبه العرق الخاص. وهو ما أوقع الشعر في حالة من الطوبى الشاملة ذات القدرة السحرية.

الأوهام.. من أين جاءت

إن شئت، فإن عمل الرواد الأوائل تمثل في إعطاء الشعر قيمة سحرية وجعل الشعر ملكوتاً مستقلأً، كما تمثل في منحه قوة تاريخية "نيتشوية" – نسبة إلى الفيلسوف الألماني فرديريك نيتشة – يقع عليها التثوير والتخريب وإعادة الخلق. فصار الشعر معهم أقرب إلى "سوبر مان" superman. بنظري إن وهم هذا التصور، أتى من مكانين. أولاً، من عبادة الحداثة، حيث اعتبر الشعر رسول الحداثة كونه التكنيك الذي رفعها على صعيد التجربة العربية. ثانياً، من تزامن عبادة الحداثة (أولاً) مع سيادة الوعي القومي الناصري، أو قل التخريب القومي. ولأول مرة صارت هناك أمنية عامة تعبر عن نفسها من خلال لغة مشتركة، تاريخ ومستقبل مشتركين ينصهران كلاهما في عنصر الأمة المرجوّة. ومرة أخرى، استُعمل الشعر بوصفه الحاضن للثقافة القومية، فأعطي وظائف تتجاوز وظيفة الشعر. حتى راح من راح يبحث في الشعر عن كل شيء، تاريخنا الماضي والمستقبل الآتي. هذان العاملان وضعا الشعر في اللاتاريخ. لكن هناك ممن بقي من جيلنا أو الأجيال التالية التي عاشت انهيار هذا السحر، افتضاحه وزواله، من سعى لنقد هذا الوهم الكبير. فجرت بإزاء ذلك، عملية عكسية تتغيّا إعادة الشعر إلى الشعر ونزع السحرية عنه، فضلاً عن نزع رساليته العامة. وعلى ذلك يمكن القول، صار الشعر شيئاً آخر، صار فناً بالكاد يكفي نفسه. أما الشاعر فقد تحول إلى مجرد مراقب أو صاحب حرفة. وهو ما كفّ معه الشعر في المحصلة، عن ممارسة دور البطل أو عالم الملكوت المستقل.

تساءلت في أحد مقالاتك ‘’من هو الشيعي في لبنان؟’’ منتقداً احتكار حزب الله وأمل لتعريف الشيعة في لبنان. ماذا يعني السؤال اليوم عن من هو الشيعي أو من هو السني في ظل عودة الهويات القديمة إلى السطح وسيطرتها ليس على تعريف الشيعة فقط في لبنان إنما على تعريف العرب قاطبة؟

– يمكن وضع ذلك في الإطار التالي.. إن لدى العرب حالياً ملجأ واحد هو الملجأ الأيديولوجي. بمعنى آخر، حين يتحدث العربي اليوم عن ماضيه فإنه يتحدث عن ماضٍ غير موجود، لكن الأيديولوجيا تطرح إمكانية استعادته. من هنا تغدو ملجأ. أيضاً حين يتحدث العربي عن الوحدة، فهي الأخرى غير موجودة، لكن الأيديولوجيا تعمل على إشاعة وهم فوقي أن ذلك أمر ممكن. وعلى هذا فإن التمسك بالأيديولوجيا – وحتى بسرابها وبتاريخ مفقود إضافة إلى وحدة لاوجود لها – هو الشيء الوحيد الذي يحفظ للعرب صورة، فيما تتحطم كل الصورة المفترضة خارج ذلك. لهذا سبب فأنت ترى أن صدام حسين أو أسامة بن لادن شخص يمكن أن يأتي في أي لحظة بينما لا يؤثر مرور الزمن على أي شيء. وهو الأمر الذي يمكن إيعازه إلى أن هذه الصور المفترضة محفوظة وخالدة إلى حدّ كبير من دون أية صلة لها بالواقع أو التجربة. هي صور سبحانية تأخذ قيمتها من نفسها وليس لها أي مقابل تاريخي. عندما تقول للعربي إنك ‘’مغدور’’ فهذه الكلمة وحدها كافية لإثارة غريزته. ولا مرة سعى إلى أن يجد مقابلاً لهذه الكلمة، ذلك أن كلمة مغدور جزء من البنية الأيديولوجية خاصته. أيضاً عندما تقول له إن عليك أن ‘’تقاتل’’ تجده يهب إلى داعي القتال فوراً. ولا مرة حاول أن يسأل نفسه عن الحاجة إلى القتال. هذه الكلمة أيضاً جزء من البنية الأيديولوجية. إنه في حالة حداد قائمة استمراريتها على الرغبة في استرجاع شيء مفقود. قد يكون اسم المفقود هذا، ‘’الوحدة’’ التي لم تتحقق ولا مرة أو أي اسم آخر. ثمة دائماً شيء مفقود يسعى العربي إلى استعادته، فيما لا يمكن تحقيق هذه الاستعادة إلا بحرب. وهو ما يفسر أننا كنا دائماً مجتمعات عسكرية، على الأقل ثمة ما يدعو إلى العيش في وهم هذه الحالة. وكما ترى فإننا موجودون في وسط عالم من الصور الأيديولوجية التي لا تتزمّن أو تناقش، وهو الأمر الذي يعني إما بقاءها مهيمنة وإما عودتها المستمرة. ما جرى أو يجري حالياً على أكثر من ساحة هو بمثابة عملية عودة إلى هذه الصور. صورة انهيار الوحدة العربية (1958 – 1961) أو صورة نكسة حزيران (1967) أو صورة النهاية الشنيعة للثورة الفسلطينية. تجد أنها صور تتكرر باستمرار من دون أن تجري الاستفادة منها في أي شيء.

الديمقراطية في خدمة الديكتاتورية

كانت لك إشارة في أحد مقالاتك تحمل فيه الديمقراطية مسؤولية تحرير الهويات القديمة. وفي مقالات أخرى صرحت ‘’الديمقراطية ليست حلاً’’، ‘’الديمقراطية تعطيل للسياسة بدل إطلاقها’’، ‘’الديمقراطية من غير ديمقراطيين’’، ‘’الديمقراطية وفق النمط الميليشياوي’’ إلخ. ما تفسير كرهك للديمقراطية؟

– أحد مآخذي على الليبراليين هو تحولهم إلى دعاة للديمقراطية. أنا شخصياً لست كذلك، لست داعية ديمقراطية ولا أجد فيها حلاً. الديمقراطية اللبنانية منحة أعطيت للبنانيين وهي مبنية على التوازن ف22قط. أنا إن شئت، لا أجد نفسي متحمساً لهذا النموذج. المؤكد بالنسبة لي أن الديكتاتورية في العالم العربي ليس مردها خطأ سياسي، فالديكتاتورية هي الأيديولوجية العربية. تجد أن العرب حتى في البلدان الديمقراطية يفتقدون إلى عقل ديمقراطي. بل لدي موقف يذهب أبعد من ذلك، إن الديمقراطية كلمة تعميمها من أجل إفساح المجال أمام الديكتاتورية. وإلا ماذا يعني تسييس كل فئات الشعب أو جعل السياسة شعبوية. برأيي إن ذلك يحصل من أجل إعطاء قاعدة أكبر للديكتاتورية. بالتالي فإن الديمقراطية لم توجد في بلادنا إلا لخدمة الديكتاتورية، وهي كانت دائماً مرحلة مؤقتة من أجل عودة الديكتاتورية. وعلى ذلك فإن الموضوع لا يتعلق بالهويات فقط إنما بمشاكل أعقد.

تبدو فاقداً إلى أي أمل؟

– إنني أتحدث عن سبب عودة الشعبي الدائمة في رؤيا العرب بعامة. لم نستطع البتة أن نتجاوز كوننا قبائل باتجاه إنشاء مجتمع مدني في أي بلد عربي. إن الكلام عن عربي واحد أو أمة عربية  مجرد وهم. حين تتكلم عن الغربي أو الأوروبي فأنت تتكلم عن بناء ثقافي وسياسي أدى إلى نشوء كيان اسمه الغرب أو أوروبا. العرب يفتقدون إلى شيء مشابه، فالعربي اللبناني غير العربي البحريني. بنظري إن ما يجري في لبنان حالياً سببه إمكانية أن يشذ لبنان عن هذه القاعدة ولقابليته في أن يتغير. إن النموذج اللبناني مؤهل دائماً إلى أن يتغير على أساس مختلف. وكلما سعى بهذا الاتجاه نشبت حرب أهلية.

«السفير الثقافي» ليس أنا

في ظل هذه الأجواء كانت لديك تجربة طويلة مع رئاسة ملحق ‘’السفير الثقافي’’. كيف اقتربت من هذه الموضوعات الإشكالية عبر الملحق وما نوعية الخطاب الذي كان مسيطراً عليه بين مرحلة وأخرى؟

– الملحق الثقافي ليس مجلة نظرية ولا حتى مدرسة أو اتجاهاً أو تياراً. الملحق صحيفة بالمعنى العلمي للصحيفة. بإزاء ذلك فأنت لا تعمل شيئاً سوى أن تعكس ما أمكن التنويعات الثقافية الموجودة. تستقبل كل الآراء، كل الإنتاجات، شريطة أن تكون على قدر من المستوى. الملحق ليس عباس بيضون. الصفحة الثقافية صفحة تجارية تملك كل المقومات التي تملكها الجريدة. الجريدة تقدم كل الآراء، تقدم المشهد السياسي وتترك لكل الأطراف أن تعبر عن نفسها. بالتالي فإن الصفحة الثقافية لا تعمل شيئاً آخر وليس منتظراً منها غير ذلك.

لكن في بعض الأحيان قد تكون شاعراً فتأخذ الصفحة الصبغة الشعرية، أو ناقداً أدبياً فتأخذ صبغة النقد الأدبي، وقس على ذلك. ألم يكن لك بصمات على الصفحة عكست عبرها طبيعة خطابك؟

– لا أدعي أنني في الملحق أعمل شيئاً من هذا القبيل. ربما كنت ناشطاً أو متحمساً في المجال الثقافي لكن النشاط والحماس هذين لايتعديان النبش في القضايا أو استقبال السجالات والآراء المختلفة حين يتعلق الأمر بالصفحة الثقافية. إنني أحاول أن أترك لكل الآراء كما كل أنواع الإنتاج الأدبي والثقافي أن تعبر عن نفسها من خلال الصفحة. أعطيك مثالاً هنا، حتى القصيدة العمودية أنا دائم البحث عن قصيدة جيدة لكي أنشرها. كما أنني دائم البحث عن قصيدة التفعيلة. برأيي إنه لايحق للصحافي أن يأخذ موقفاً ضد أي نمط إبداعي، بما في ذلك القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة.

هل تحاول من خلال ذلك أن تدفع عن نفسك تهمة؟

– لا أبداً، لا أحتاج لدفع أية تهمة. بنظري إن على الصحافي أن يعبر عن الموجودات وعن عناصر الحياة الثقافية ما أمكن، مع تنوعها وحتى مع عدم الاتفاق معها. في حين الشيء الوحيد الذي يتبقى لك شخصياً هو تقرير المستوى.

أنا وعدة من نفرٍ آخرين

لكن خطابك يختلف عن خطاب ‘’السفير’’ في المطلق. على الأقل دعنا نقول الخطاب ذاك الذي تعبر من خلاله عن موقفك من طبيعة الصراع الحاصل في لبنان اليوم؟

– هذا الأمر لا يقتصر علي فقط، فلست الوحيد. هناك عدد من المحررين في الجريدة يقفون في الموقع المقابل من الخطاب العام للجريدة وفي مستوى ثانٍ من خطاب حزب الله. وهؤلاء من أعمار مختلفة لكن تجاربهم السياسية انتهت بهم عند هذا المطاف. إنهم يشكلون عدداً لا بأس به، وهم في الناتج يمنحون الجريدة قدراً من التنوع والاختلاف.

لو طلبنا منك عقد مقارنة بين ملحق ‘’السفير’’ وملحق ‘’النهار’’ بإشراف زميلتك جمانة حداد. كيف تجد المقارنة؟

– لا أعرف، لست أنا من يتوجب عليه أن يعقد المقارنة أو حتى يُعتمد عليه في ذلك. القارئ وحده من يستطيع عمل هذا الشيء. لكن بطبيعة الحال، كل من الملحقين أسس لتقاليد معينة. إلى هنا وأكتفي من دون أن أجد أي داعٍ للمقارنة أو المباهاة. أنا مجرد صحافي، والملحق الثقافي ليس أنا. إنه ملحق موجود في جريدة تخاطب كل الناس، بالتالي فهو الآخر أيضاً ملحق يخاطب كل الناس. ألفت هنا إلى أن ملحق ‘’السفير’’ ليس ملحقاً بالمعنى الدقيق للملحق، هو إن شئت جزء من الجريدة اسمه ‘’السفير الثقافي’’. في حين ملحق ‘’النهار’’ مستقل ويشكل لوحده نوعاً من المجلة المستقلة التابعة للجريدة. وبما أنه كذلك فما من شك يستوجب أن يكون متوفراً على جهاز إداري، في حين ‘’السفير الثقافي’’ مجرد ملحق أسبوعي من 4 صفحات. وهو الأمر الذي يعني أنه لا يوجد مجال للمقارنة.

لكن هل يعني شيئاً مثلاً بالنسبة إلى المثقفين اللبنانيين حين يقومون بنشر نص أو مقال في ‘’السفير’’ بدلاً من نشره في ‘’النهار’’؟

– لا أبداً فالنشر متاح لهم في ‘’السفير’’ و’’النهار’’ وفي بقية الصحف الأخرى. لا يوجد حق حصري ولا يعد نشرهم شيئاً في الصحيفة هذه أو تلك دليلاً على أي شيء

موقف واضح.. وقديم

حسناً، بالثقافة.. كيف تقارب اللحظة المشهدية الحاصلة في لبنان الآن. كيف ترى إلى أفق الانسداد المستحكم من وضعيتك كمثقف؟

– هذا سؤال سياسي.

لنقل إنه سؤال سوسيو – ثقافي نابع من كونك في الأصل تكتب مقالاً سوسيو – ثقافي أسبوعياً من خلال منبر ‘’السفير’’. إضافة إلى أنك تملك إرثاً سياسياً جاور الشعري في بعض الفترات وقد تمثل ذلك في عبورك على الورشتين البعثية فاليسارية؟

– نعم، هذا قديم جداً. لكن أقول هنا إن لدي موقفاً قديماً وليس غامضاً. لقد عبرت عنه باستمرار من خلال مقالاتي ويعرفني الناس من خلاله. أنا أحد نقاد حزب الله بصورة خاصة.

على ماذا يرتكز هذا النقد تحديداً أو ما هي مواضيعه. هل فقط على ما سبق وأن كتبت على وضعية احتكار حزب الله لتمثيل الشخصية الشيعية أم أن ثمة مرتكزات أخرى يمكن سوقها بهذا الصدد؟

– لا، ليست هذه كل القصة. أشير أولاً إلى أن كوني مولوداً شيعياً لا يعني أنني أطالب بحق شخصي. كما لا أقول بعدم أحقية حزب الله في تمثيل الشيعة في لبنان. فهو وإن لم يكن يمثل الشيعة فعلى الأقل هو يمثل جوهم العام. أنا فقط أضع هذا التمثيل موضع تساؤل. لكن إن شئت، فذلك لا يعبر عن جوهر خلافي معه. خلافي الحقيقي نابع من رؤيتي إلى مستقبل لبنان وربما إلى وجوده. وهو الأمر الذي يجعل من الاختلاف شيئاً ضرورياً لا غنى عنه. فحين يتعلق الأمر بمستقبل البلد، أو بوجوده، فهنا يغدو الموقف السياسي نوعاً من الالتزام، أي لا يمكن التخلي عنه أو تجاوزه. ضمن هذا التوصيف أشير إلى أن الخيارين المطروحين على لبنان حالياً ضمن أجواء الصراع، هما أن يكون لبنان دولة ثورية مارقة حاملة لواء مواجهة الإمبريالية حالها حال كوريا الشمالية أو إيران وسوريا وفنزويلا، أو يكون دولة طبيعية مثل أي دولة من دول الأسرة الدولية لديها التزاماتها العامة حيال حالتي الحرب والسلم وحتى حيال السلام مع إسرائيل. بعد 30 سنة من الحروب المتواصلة أجد نفسي نابذاً لفكرة الحرب، بصراحة لم تعد تروق لي. ثمة مشروعان في المنطقة، مشروع الحرب المستمرة وثمة المشروع السلمي. إن شئت فأنا مع المشروع الأخير وضد الحروب المستمرة. إن هذا هو موقفي بعد تبسيطه. برأيي، إن الحرب المستمرة فكرة مخيفة تماماً، بل خرافية في أي مكان وجدت. وبالنسبة إلى حزب الله فهو حزب جنود. والجنود وظيفتهم الأولى والأخيرة هي القتال. قد ينخرطون في الحياة المدينة قليلاً أو كثيراً لكن عملهم الفعلي هو القتال. وحين لايقاتلون يلجأون إلى تقسيم المجتمع ووضعه على حافة حرب أهلية. بالنسبة لي، كل تسييس للدين هو مشروع حرب أهلية، أكان ذلك في لبنان أو غيرها، الآن أو لاحقاً. في الحقيقة، إن ذلك ما هو حاصل في العراق وفي فلسطين أيضاً. تسييس الدين لا يؤدي إلى مكان آخر غير الحرب الأهلية. هم (حزب الله) يريدون الحرب الأهلية؟. حسناً، إنهم أحرار في ذلك لكن أنا شخصياً ضد هذه الحرب. مشكلة المشروع الثوري في كل العالم أنه لا يحسب حساب الواقع. فيما الواقع اللبناني لا يتحمل هذا المشروع المقترح عليه، إلا حين يكون المطلوب هو تدميره.. تدمير المجتمع والدولة وكل شيء. شخصياً، فأنا لست مع تدمير لبنان، تلك هي كل القصة.

سيّان مدحت على الهوية أو قتلت!

ما تعليقك على قيام أحد الزعماء السياسيين بتوظيف موقفك في سياق المغالبة الحاصلة بين الفرقاء السياسيين عبر الإشارة إلى كونه يصدر عن مثقف شيعي؟

– لقد نشرت مقالاً رددت فيه على (رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي) وليد جنبلاط. قلت بالحرف الواحد.. إن المدح على الهوية مثل القتل على الهوية تماماً، ولا يوجد أي فرق. بل قلت أكثر من ذلك.. لقد انشققنا على الجماعة منذ نعومة أظفارنا أنا وآخرون ليس من أجل أن يأتي أحد بعد كل هذه السنوات ليتذكر عنا ذلك. إنما انشققنا بسبب أن عندنا رؤية كانت تخاطب المستقبل. لذلك تجد مثلاً أن نقاد حزب الله الرئيسين كلهم من مثقفي ومفكري الشيعة. ليس أنا فقط إنما وضاح شرارة وأحمد بيضون وعلي حرب وحسن قبيسي وآخرون كثر. لكن ألفت هنا بالمناسبة إلى أن موقفي من حزب الله لا يعني أنني مع الفريق الآخر. طالما سخرت في كتاباتي من 14 آذار بسبب أنها جماعة تقليدية. حزب الله عبارة عن حزب ثوري والطريقة التي يفكر فيها استراتيجية. في حين الفريق الآخر عبارة عن جماعة تقليدية، زعماء طوائف ليست لديهم أية فكرة عن نموذج. يكذبون حين يقولون إنهم يتطلعون إلى صناعة دولة. إنهم بلا خيال حتى… ومشروعهم سخيف، لكن الفرق بينهم وبين حزب الله هو أن لدى هؤلاء مشروعاً سلمياً. هنا تحديداً ربما تجدني ألتقي معهم. خصوصاً مع عدم وجود خيار ثالث. بالمناسبة أنا أنتقد باستمرار الذين يتحدثون عن طريق ثالث، خاصة حين يكون البلد مهدداً. ثمة شعور لدي أن هناك مشروعاً تدميرياً للبلد، وكائنة ما كانت النوايا فأنا أعتقد أن تحميل البلد أعباء من دون أن يكون مستطيعاً تحمل تبعاتها، فهذا لا يعني شيئاً سوى تدميره. أنا أعتقد أن هذا البلد يستحق أن يستقر وينمو. ليس لأنني لبناني فقط، فأنا لست وطنياً، أي ليست لدي أية عصبية وطنية. إنما أولاً لأن هذا البلد ضعيف وثمة من يعمل على التواطؤ عليه، بالتالي فأنا من موقع أخلاقي أتعاطف معه. أصلاً أنا كل مواقفي نابعة من أخلاقيات أكثر مما هي نابعة من السياسة، فأنا لست معلقاً سياسياً أو أعمل على تظهير توقعات سياسية. ثانياً، لأنني أرى أن هذا البلد يدفع ضريبة محاولته أن يتقدم إلى الأمام ويكون مختلفاً. ثمة استعداد كامن في هذا البلد إلى أن يصبح حديثاً. تجد أنه بلد تتقاطع على حدوده ثلاث لغات، أقل الطبقات الاجتماعية ثقافة تتحدث بأكثر من لغة. كما تجد احتراماً لحريات الناس الفردية وللحب الحر، فضلاً عن تفتت القبيلة ووجود ملامح أولى لنشأة مجتمع. هذا البلد كان يسير في هذا الاتجاه. وتدميره برأيي هو بمثابة عقاب له لكن في حال نجح هذا التدمير فإنه سيصيب كل المنطقة.

22222

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114098