أرشيف التصنيف: مقالات

في حوار مع الدكتورة ميّ صيْقلي

مي صيقلي

جريدة الوقت: الدكتورة ميّ صيْقلي مؤرخة اجتماعية. تعنى بدراسة وتدوين الجانب الشفهي من التاريخ، وتؤكد على أهمية التسجيل الشفهي في إعادة بناء التراث التاريخي الفلسطيني. تخرجت عام 1966 من جامعة بيروت تخصص تاريخ وسياسة. وأنهت الماجستير عن تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا عام 1973. حصلت على الدكتوراه عن التاريخ الاجتماعي- الاقتصادي الحديث للشرق الأوسط في جامعة إكسفورد البريطانية عام 1983. كانت أستاذة التاريخ في جامعة كاليفورنيا بين 1993- 1995. وهي تدرِّس حالياً مادة التاريخ والتراث في جامعة واين ستايت بالولايات المتحدة الأميركية. كانت أستاذة التاريخ في جامعة البحرين بين 1983 – 1993. ألّفت عدداً كبيراً من الكتب والمقالات المتخصصة في التاريخ العربي. وهي تعمل الآن على دراسة مقارنة بين المرأة البحرينية والقطرية، تتناول فيها المرأة التي لها مساهمات بارزة في المجتمع، من منظور المرأة نفسها. ترى صيْقلي أن هوية المرأة البحرينية، تعرَّضت إلى تغييرات سريعة، بفعل تقدُّم المرأة في التعليم، وبفعل انخراطها في السياسة، خاصة بعد التحوُّلات السياسية التي شهدتها البحرين في الفترة الأخيرة.

حديثنا سوف يدور حول ثلاثة محاور. المحور الأول سوف يبدأ بالتاريخ الصغير، وهو تاريخكِ الشخصي وتكوين سيرتكِ على هذا المدى الطويل. ثم سنتحدَّث عن جانب من التحوُّلات النظرية في علم التاريخ. بعد ذلك سوف ننتهي إلى الدراسات التطبيقية التي عملتِ عليها. دعيني أبدأ بسؤال: ماذا يعني لميّ صيْقلي أنها مؤرخة؟

صيْقلي: لا أدري كيف أستطيع أن أصف نفسي بأني مؤرخة، إلا أنني أشغف بدراسة وتتبع ما قد حدث، وأحاول أن أربطه بالواقع وأخرج منه بعِبَر لما يحدث لنا. إن التوقيع والموَقَّع مهم جداً، ولكن صوت الناس أيضاً بالنسبة لي تاريخ. وإنْ كان التاريخ الشفهي لا يمكنه أن يرتكز على نفسه، دون أن يكون له البُعد الموَقَّع والأصوات الأخرى التي وُجدت في التاريخ.

كيف تميِّزين بين كونكِ مؤرخة، وبين وصف المسعودي مثلا أنه مؤرخ؟ ما الفرق بين مؤرخ اليوم ومؤرخ الأمس؟

صيْقلي: إنني لم أصل إلى قناعة بأن أستمع إلى الصوت الحالي، إلا لأنني بدأت أشكك في التاريخ القديم والأشياء الموثَّقة. وكانت تجربتي بالتاريخ من خلال دراساتي. فعندما كنتُ أقوم بدراسة تاريخ فلسطين بالتحديد، وأطَّلع على الأرشيف الموجود، شعرتُ بأن أولئك الذين كتبوا التاريخ ووثقوه، هم أيضاً بشر وُجدوا في فترة محددة، ووصفوا ما وصفوه برؤية محددة. وبالتأكيد كانت هذه الرؤية متأثرة بالوضع الذي قدَّموه. مثلاً، عندما قمتُ بدراسة وثائق الانتداب البريطاني، من سنة 1918 إلى سنة 1939 بالتحديد، كانت تظهر لي أسماء من الواضح أن لها رؤية معينة. هؤلاء لم يكونوا يكتبون عن العرب ولا عن الفلسطينيين، ولا عن دور اليهود والاستعمار في تلك الفترة. ووجدتُ أن هناك شائبات عليَّ أن أتأكد منها، فليس كل ما وُثِّق تاريخ. عندما درست تاريخ الثورة سنة 1939 كان يوجد في وثائق محددة مثلاً مصطلح «الثوار»، فمن هم الثوار من وجهة النظر تلك؟ إنهم يختلفون عن أولئك الذين يحدِّثني عنهم الناس، عندما أتوجَّه إليهم بسؤال: من هم «الثوار»؟. أجد أن لديهم رؤية مختلفة وخلفية أخرى. فالقصة ليست لراوٍ واحد، التاريخ هو بين هذا وذاك، وعليك أن تعطي تحليلاً وتفسيراً من منطلق من الذي وثَّق؟ ومتى وثَّق؟ ولماذا وثَّق؟ وكيف وُثِّق الموضوع؟ لكي تستطيع أن تصل إلى القصة. لأنه في النهاية لا توجد حقيقة مجردة. الحقيقة هي بِعِدَّة رؤى، وحين تُغلق إحدى هذه الرؤى فلن يكون ذلك تاريخ.

دعينا نعود إلى بداية تشكُّل هذا المفهوم لديك، في بداية تكوينكِ الأكاديميّ.

صيْقلي: أولاً، أنا كبقية نتاج جيلي، تخرجتُ من مدارس علَّمتنا التلقين والتدريس العادي. فبدأت أقرأ لكتَّاب ومؤرخين عالميين، وبدأت أتعلم كيف يضعون النقد، وكيف يتناولون الرؤية والرؤية الأخرى. كانت شهادتي الأولى من بيروت. وفي بيروت تعاطيتُ مع عدة أساتذة عرب وأجانب، يُدرِّسون التاريخ من منطلق يختلف عن الذي درسته. كانوا يدرِّسوننا أن هذا هو التاريخ، وهذا هو الواقع! بعد ذلك تكوَّنت لديَّ تساؤلات كثيرة ليس على التاريخ فقط، بل على أمور أخرى أيضاً منها الدين، وبعض الثوابت التي كانت لديّ. التساؤل هو ما أوصلني لأن أصير مؤرخة. من الطبيعي أنني مررت بفترات ضعضعة، ولكن قراءاتي للعديد وللكثير من المفكرين العرب في تلك الفترة، سياسيين وغير سياسيين، منهم فايز صايغ وصادق جلال العظم وطريف الخالدي ووليد الخالدي، ساعدتني كثيراً. فقد كانوا جميعهم في بيروت في تلك الفترة، إضافة إلى العديد من الأساتذة الأجانب الذين أثَّروا عليَّ فكرياً. لأن طريقة التعليم كانت تختلف كلياً عما تعوَّدتُ عليه. عليكَ أن تقرأ للكل ومن جميع النواحي لكي تحاول أن تصل إلى قناعاتك ولما تظن أنه واقع. ثانياً، أنا فلسطينة من مهاجري 1948، وكنتُ محظوظة لأني أهلي استطاعوا أن يوفروا لي تعليماً، وأن يوجهوني كي أعتمد على نفسي وأقف على رِجليّ. كانت هذه التجربة بالنسبة لي أساساً ومعياراً آخذ به الأمور التي كنتُ أُقدِم على دراستها.

كان تفكيري السياسي قد بدأ وأنا في المدرسة، في فترة ثورة الجزائر. كنتُ في مدرسة فرنسية، وكان هناك تعتيم على الأخبار، فكانت تهرَّب لنا المعلومات عن جميلة بوحيرد وغيرها. فكنتُ أختبئ تحت السرير وأقرأ على ضوء مصباح يدوي صغير عن ما كان يحدث. في تلك الفترة استطعتُ أن أتعرف على نفسي كفلسطينية تؤمن بقضية الشعب الفلسطيني، وبالحق المهضوم. وهذا ما كان عليه جو أسرتي التي تربيتُ فيها. كان نصف أهلي في الخارج، وكنا نمرّ بفترات حزن رهيب سنوياً. أنا مسيحية، وكان يُسمح للمسيحيين في عيد الفطر بأن يخرجوا، فكانت عمتي تأتي لزيارتنا، وكنتُ أرى أبي وأعمامي كيف يستغرقون في البكاء. كانوا يسألون عن الأهل، من مات منهم ومن ما زال حياً. فقد كانت العلاقات مقطوعة، وكنا نحن وقتها في الأردن. كانت هذه تجربتي التي وعيتُ عليها منذ أن كنتُ طفلة في الخامسة أو السادسة. وكل هذا يبني ما أنت. أنا نتاج هذه الخلفية ونتاج دراساتي وتجربتي.

يبدو أن هذه التجربة متوترة بألم الواقع وصيروراته، وفي نفس الوقت بتحوُّلات فكرية. أحياناً تؤثر التجربة المريرة في مسار الباحث، بحيث يكون ذا مسارٍ واحد، ويرى الحقيقة فقط بما عاشه. فكيف استطعتِ أن تجعلي البُعد الأكاديمي بعداً يتحكَّم في دراستك للواقع، دون أن يخضع هذا التوتر للبُعد الأكاديمي؟

صيْقلي: هذه كانت أكبر معضلة ونزاع خلال حياتي الأكاديمية. أنا أريد أن أوصِّل القصة، ولكن من الناحية الأكاديمية البحتة، الواضحة، الصادقة. لأنني أعرف خصوصاً وإنني متواصلة مع كتابات الغرب، كيف كانت الصورة لدى الغرب عن القضية الفلسطينة، مُتَناولة بشكل خاطئ. فكان أهم شيء بالنسبة لي هو توصيل القصة. وهذا هو السبب الرئيسي فيما اخترته في مجالاتي العلميّة.

كتبتُ تاريخ حيفا، وهي مدينة أهلي. وقد تمَّ الاعتراف بأن الكتاب أكاديمي بحت من جميع النواحي. وظهرت دراسات تحليلية في الكتب والمجلات الغربية تناولت هذا الكتاب. وكذلك في بعض المجلات العبرية في إسرائيل وفي بعض الدول العربية. أنا في النهاية بشر، ولكني حاولتُ جهدي ومن جميع المنطلقات أن أنقل القصة كما هي. نقلتُ ما لي وما عليَّ. كان من المهم بالنسبة لي أولاً أن أفهم ما هي الحركة الصهيونية، وما هو دورها في عملية استلاب حقي وحق شعبي. اسم الكتاب (تاريخ حيفا العربية)، كتبته بالإنگليزية، وقد تُرجم إلى العربية. كان الكتاب أطروحة الدكتواره التي قدمتها. هنا استطعتُ أن أفهم ما هي قصة الوثائق. وخلال هذه الفترة بدأتُ أكتب في التاريخ الشفهي، لأنني رأيتُ أنه من اللازم أن يصل الصوت.

في فترة السبعينات استطعتُ أن أصل إلى بعض العناصر المعمِّرة من قبل الحرب العالمية الأولى، والموجودة في حيفا. وقد أخذتُ الكثير من المعلومات من هذه الأصوات، من تجربتهم الأولى. لقد كانت أحداث 1948 مطموسة. إن ما حدث للفلسطينيين كان بداية الهوليكوست، والذي هو مستمر إلى الآن. لذلك أرى كما يرى الكثير من الفلسطينيين، أنه من الضروري أن نأرشف الذاكرة الفلسطينية، والصوت الفلسطيني، وأن نكتب عنه أيضاً. صار لي خمسة عشرة سنة، وأنا أُجمِّع ما يتعلق بالذاكرة الفلسطينية، ولديَّ قاعدة بيانات بالقدر الذي تمكنني به ظروفي.

ليست هناك غرابة في أن تذهبي إلى تاريخ حيفا. فمسيرة تجربتك فيها كل التبريرات التي نستطيع أن نتفهم من خلالها لماذا ذهبتِ إلى تاريخ حيفا. ولكن سؤالي هو: ما هي النظريات المعرفية في العلوم الإنسانية، في تلك اللحظة التي أعطتكِ مسوغاً ومبرراً لكي تدرسي هذا التاريخ بهذا المنظور؟

صيْقلي: أولاً، كتابي اسمه تاريخ حيفا، ولكن نمطه يتعدى حدود حيفا. الكتاب هو عن التجربة الفلسطينية، وحيفا هي مثال أعظم بالنسبة للمدن الفلسطينية، وعملية تهجير أهلها وتغريبها. ما حدث في حيفا حدث في بقية المدن الفلسطينية، وهو يحدث إلى اليوم. هذه أهمية هذا الكتاب. كانت حيفا مهمة بالنسبة لي، لأن فيها أقربائي، ولأن من السهل أن أصل إليها بسبب العلاقات التي لي معهم. الكتاب هو لكل القضية الفلسطينية ولكل الاحتلالات التي حدثت في الدول العربية. إنه يتحدَّث عن إبعادنا، عن حضارتنا وتجريدنا من شخصيتنا الأساسية، وعدم ربطنا بالبُعد الحضاري الذي كان لدينا. ربما تكون فترة الدراسة التي تناولتها في الكتاب قصيرة، ولكني حاولتُ أن أدخل فيها كل هذه النقاط الجديدة، التي تُعتبر النواة الأساسية لعملية ما يحدث اليوم.

قمت بتدريس علم الآثار في البحرين، ولكن الرسالة واحدة. فعندما كنتُ أدرِّس التاريخ القديم، كنتُ أذهب بطلابي إلى المدافن الموجودة في البحرين، ومنها نعود إلى دور السلطة، وإلى الإنسان، وإلى علاقة الإنسان بأرضه وبحضارته. ما أحاول أن أقوله أن بي نفحة الأستاذ المدرِّس، فكان من الضروري أن أصل إلى هذا النمط الرئيسي وأستخدمه.

لا بدَّ أنك رجعتِ في السبعينيات، إلى مراجع علمية، أعطتكِ المسوِّغ المعرفي لأن تدرسي تاريخ الحكايات والتاريخ الشفهي، وأن تشككي في الوثائق التي تكتبها السلطة الرسمية. ما هي هذه المرجعيات؟

صيْقلي: كانت مرجعياتي الأولى هي أصوات الناس الذين كانوا قريبين مني، والقصص التي كان يحكيها لي والدي وأعمامي وأخوالي وخالاتي. خصوصاً بالنسبة للقصة الصغيرة المتمثلة في فلسطين. فيما بعد انفتحت على الأدب الفلسطيني وعلى الشعر الفلسطيني، وكان كله يتحدَّث عن التغريب والغربة والمكان الأول! فلا تستطيع أن تبتعد وأنت تدرس، عن كل هذا إن كنتَ إنساناً مفكراً. لقد عمِلتُ في المخيمات، وأثَّرتْ بي قصص الناس التي يحكونها، إضافة إلى القصص التي سمعتها من أهلي. كان هذا هو مرجعي الأول، وكان الأدب الفلسطيني هو مرجعي الثاني.

إن أول من كتب عن سقوط حيفا وأسباب سقوط حيفا، هو وليد الخالدي، ولم يكن أحد في الغرب قد سمع بما كتبه، فسألتُ أهلي: هل شهدتم تلك الفترة؟ قالوا: نعم، وهذا هو ما حدث وليس ما كتبه الغربيون ثم يدَّعون أن هذا هو أرشيفنا! هنا أنتَ كمؤرخ تأخذ كل ما هو موجود وتبدأ بالمقارنة. وبالتأكيد يجب أن تأخذ في الاعتبار كأكاديمي، موضوع الذاكرة وضعف الذاكرة. فمن الضروري عند إجراء أي دراسة شفهية أن يؤخذ بعين الاعتبار ضعف الذاكرة.

أنا الآن أقوم بدراسة عن قرية اسمها «سحماتا» تقع في قلب منطقة الجليل الأعلى. وهي قرية دُمِّرت سنة 1948. أقل من ثلث سكانها مسيحيون والباقي مسلمون. سمحوا للكثير من المسيحيين بالبقاء، وهُجِّر البقية إلى سورية ولبنان ودول أخرى. لقد قمتُ بزيارة هذه المواقع، والتقيتُ بالعديد من الناس الذين هُجِّروا، مسيحيون ومسلمون، واستمعتُ إلى تجربتهم سنة 1948 وما بعدها. قمت بتجميع هذه المعلومات وحاولتُ أن أعيد بناء هذه القرية من ذاكرة هؤلاء الناس. فهل يستطيع أحد أن يكذِّب حكايات خمسين شخصاً لم يلتقوا ببعضهم لخمسين سنة مضت؟!

كيف تتصرفين مع عملية انتقاء الذاكرة؟

صيْقلي: على الباحث المجرِّب أن يكون متفهماً لعملية الانتقاء. ثم بعد أن تلتقي بهذه الشخصيات الكثيرة، التي تتواجد في أماكن مختلفة، ولا تلتقي ببعضها، وتسمع كل واحدٍ منهم يعيد نفس القصة بحذافيرها، ويتفقوا جميعهم في رسم صورة القرية، وفي ذكر أسماء أهالي القرية، فسوف تطمئن لهذا التاريخ. من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات طفيفة في النقل، ولكن فحوى القصة والتهجير والمعاناة وكل ما حدث لهم واحد.

هل كان الدرس الأكاديمي في تلك اللحظة يثقُ بالروايات الشفهية أم بالوثائق المكتوبة؟

صيْقلي: ما زال هناك نزاع حاد، بين ما هو مكتوب في وثيقة وما يُنقل شفهياً. وهذا موضوع جاد وفي غاية الأهميّة. ويوجد الكثير من المؤرخين الذين يرفضون النقل الشفهي، ولكن عددهم تقلص الآن. فلو أخذنا مثلاً الدراسات التي تناولت الهنود الحمر، فسوف نجد أن تاريخهم قد طُمس بالكامل، ولا يوجد غير التاريخ الشفهي الذي نقل لنا بعض الأمور المتعلقة بهم. يستطيع التوثيق أن يكذِّب هذه الحكايات كما يشاء، وينكر تعرُّض الهنود للقتل والإبادة، وينكر الدور الذي قام به الأمريكان لدفع الهنود إلى تعاطي الكحول والمخدرات. ولكن بالمقابل توجد لدينا الدراسات التي تحكي حقيقة ما حدث لهؤلاء الهنود. نحن ندرس التوثيق الشفهي لكل هذه الفئات التي هُمِّشت في التاريخ الموثَّق وليس القصة الفلسطينية وحدها. يوجد إلى جانب القصة الفلسطينية الكثير من القصص. فهناك مثلاً القصة الأرمنية، والقصة اليهودية في أمريكا، وتجربة يهود ألمانيا. فإذا كنا نصدِّق قصص هؤلاء جميعهم، لمَ لا نصدِّق ما يقوله الفلسطينيون؟! إن هدفي الرئيسي هو أن أوثِّق ما لدى هؤلاء قبل أن يرحلوا.

إن العناية بالسرد لم تحدث فقط على مستوى التاريخ. لنقل أنه فيما بعد الحداثة اهتمت جميع العلوم الإنسانية بسرد الإنسان الصغير، وسرد التجارب الفردية، والتجارب اليومية. هذا الاهتمام جاء في الفلسفة وفي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وفي غيرها من المجالات. سؤالي: على مستوى التاريخ، ما هي المرجعيات الفكرية والنظرية التي كنتِ تستقين منها هذا التحوُّل؟

صيْقلي: أنا في الواقع مؤرخة اجتماعية. وكان من المهم بالنسبة لي إدخال العلوم الأخرى في دراساتي. إن علم الأنثروبولوجيا جزء رئيسي من الجانب الذي أعمل عليه. والنمط الذي أتبعه عندما أقوم بتسجيل المعلومات هو نمط أنثروبولوجي. في بعض الحالات عندما أقوم بعمل دراسات كمية، وأعمل دراسات تطبيقية لها، أعتمد على علم الاجتماع. الفلسفة والسياسة أيضاً لهما دور أساسي في عملية الفكر الأوسع. فأي دراسة – وأنا لا أعتبر نفسي مؤرخة شفاهية بحتة-  أدخل فيها علوماً عديدة. فالجانب الشفهي لا يستطيع أن يرتكز بمفرده، ولا يمكن الاعتماد على السرد وحده دون الاعتماد على علوم أخرى. أرجع لما هو موثَّق، وقد آخذ به أو أرفضه، بحسب ما تؤكده القصة أو تنفيه. إنني أرجع كذلك للأدب. إنني أقرأ مثلاً رواية (باب الشمس) لإلياس خوري، التي تتحَّدث بأكملها عن القصة الفلسطينية والسرد الفلسطيني. فكل هذه الأمور معاً، تملأ وتؤكد وتوثِّق الأمور التي أقوم بدراستها. أقوم الآن بعمل دراسة عن البحرين، وسوف أعتمد على التاريخ الشفهي، ولكن التاريخ الشفهي بدوره يعتمد على التوثيق.

لنقل إن تجربة الحداثة الغربية، هي التي كانت مسؤولة عن ظاهرة الاستعمار. وإلى حدٍ كبير هي المسؤولة أيضاً عن قضية فلسطين. لكن الغرب نفسه شهد مراجعات نقدية لما أفرزته الحداثة، وهي المرحلة التي سمِّيت بما بعد الحداثة، وجاء فيها مفكرون كبار، من نيتشه إلى فوكو ودريدا وغيره. هؤلاء قاموا بمراجعة الحداثة بنقد شرس جداً، ضرب صميم الحداثة. لدينا في هذا المجال أسماء مهمة جداً، كإدوارد سعيد وهومي بابا وغيرها من الأسماء الكبيرة، التي أعادت المنطلقات النظرية لمفهوم العقل ومفهوم الإنسان والحضارة والتاريخ والوثيقة والقانون. فكيف تعمل لديكِ كل هذه الأمور؟ هل لديكِ صلة بهذه الجوانب النظرية؟

صيْقلي: نعم، لقد عملتُ مع إدوارد سعيد، بالخصوص في عملية تقييمنا لعملية التأريخ الفلسطيني (الهيستريوغرافيا  Historiography). توجد إعادة لفهمنا خصوصاً لما بعد الحداثة. ولإدوارد سعيد دور أساسي في نقدنا لما كُتب، ونقدنا لما نكتبه الآن أيضاً. حتى إدوار سعيد نفسه تعرض للنقد في بعض رؤاه المحدَّدة. ولكن الدراسات اليوم تعتمد على عملية النقد. ونحن نرتكز على هذه الأسس النظرية. إن العملية هي عملية تراكم فكري.

لننتقل إلى اهتمامك بمجال تشكُّلات المجموعات النسائية. هل هي نقلة أخرى لكِ من التاريخ إلى المجتمع؟

صيْقلي: نعم بالنسبة لي كانت نقلة. ولكن في الواقع، إن المرأة ودورها، يجب أن يكون جزء لا يتجزأ من بداية التفكير في كتابة التاريخ. وكان الخطأ خطئي لأن اهتماماتي في البداية كانت سياسية بحتة، وإن كانت لا تخلو من الجانب الاجتماعي، إلا أن اهتمامي بعملية توثيق الموضوع السياسي، جعلني أتجاهل المرأة. وإن كنتُ قد أعطيتها دوراً في تلك الدراسات، إلا أنه دور هامشي لا يُذكر. ومع مرور الوقت ومع نضوجي العلمي والشخصي، أدركتُ أهمية أن ألتفت لدور المرأة ولحقِّها. في اعتقادي إن للمرأة دور أساسي في عملية تفسير المجتمع، إنها المفتاح الذي يتيح لنا أن ندخل المجتمع. لقد أوليتُ المرأة اهتماماً منذ حوالي خمسة وعشرين سنة فقط. بدأتُ أنظر للتحركات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، عبر رؤية المرأة. وأنا أعتقد أنه إذا أخذت المرأة حقها في المجتمع، فإن الإنسان ككل سوف يأخذ حقه. أصبحت المرأة محوراً أساسياً لدراساتي، وأظن بالفعل أنها محور.

ما الذي أنجزتيه في هذا المجال؟

صيْقلي: إنني أقوم بتجميع كل ما يمكنني جمعه عن المرأة الفلسطينية، خصوصاً في المخيمات. أحاول أن أرصد نضال هذه المرأة ويوميات هذه المرأة. ما كتبته عن الفلسطينيات لحد الآن هو دراسات عامة. ولكن عن البحرين لي دراسات تحليلية عن دور المرأة في التحوُّل الاجتماعي، وبعض التبدلات الدينية. فقد عشتُ هنا في البحرين عشر سنوات، وبدأتُ أتحسس هذا التحوُّل الاجتماعي. ورأيتُ من خلال ارتباطاتي بالآخرين كيف أن دور المرأة في الريف يختلف عن دورها في المدينة. فقد عشتُ في السنابس وعشتُ أيضاً في مدن بحرينية. ويوجد لديَّ أصدقاء على جميع مستويات المجتمع البحريني، والناس هنا تقبَّلوني. تقبلوني في القرية وفي المدينة. والمجتمع هنا في البحرين صغير، لذلك أتاح لي أن أتناوله بالدراسة.

ماذا لو تحدَّثنا عن المرأة في البحرين وتشكيلها جندرياً؟ كيف أنتج المفهوم المرتبط بالجندر صورة ودورا ووظيفة للمرأة على المستوى الثقافي؟ لقد لعب الدين دوراً كبيراً جداً في البحرين، وهو لا يزال يلعب هذا الدور. تحليل المكوِّن الديني في تشكيل صورة المرأة ودورها، يصطدم دائماً بحساسيات كبيرة في مجتمعنا. ألم تصطدمي بهذه الحساسيات وأنتِ تبحثين عن تاريخ المرأة في البحرين؟

صيْقلي: لقد أدليتَ بجوابي. ما تقوله صحيح. للدين دور، وقد جرَّبتُ أن أكتب عن هذا، وقابلت نساء من الطائفتين. لكنني أعتقد أن ليس الدين وحده هو المسؤول، لأن الدين هو تعبير عن أمور أخرى. فالدين هو أيضاً طريق إلى التفكير السياسي، وقد اتضحت الآن الصورة لي أكثر من ذي قبل، صار الدين يعبِّر عن رؤيته للاقتصاد الاجتماعي الموجود.

لنتحدَّث عن النمط الأيديولوجي للتدين..

صيْقلي: في الفترة التي درَّستُ فيها في البحرين، لم يكن التدين بشكله الآن واضحاً. كان عدد المحجبات عندي حوالي 5% وحين عدتُ وجدتُ النسبة صارت 98%. في تلك الفترة كان يوجد تمييز وتعبير من عدة اتجاهات. الآن أخذ الدين دوراً حَدِّياً وتغيَّرت الأوضاع. ولكني أيضاً أظن أن المجتمع قد تسيس بطريقة أكبر. في عملية الانفتاح سمعتُ أصواتاً لم أكن أسمعها، أو ربما سمعتُ بعضها ولكنها لم تكن طافية كما الآن. أنا لا أريد أن أُحِدَّ المسألة بالدين، ولا أعتقد أن هذا هو المفروض. إنني أرى المرأة الآن تطالب بحقوقها، وصارت أوعى لما هو دورها، وهي كما قلت المنظار الذي نشاهد من خلاله المجتمع.

الآن توجد طفرة أدبية أيضاً، لأن الناس تعلموا. إنني أرى جيل الطلاب الذين قمتُ بتدريسهم، عندما أتيتُ إلى البحرين سنة 1984، قد ظهروا للمجتمع. توجد في المجتمع ثقافة ضيقة للبعض، ولكن توجد أيضاً ثقافة واسعة للبعض الآخر. من الصعب أن نضع الآن قصة تقول أن هذا ما كان موجوداً وهذا هو الشكل النهائي. نحن نعيش الآن فترة بلورة، وتحرُّك، وتهيئة. والمرأة لها دور أساسي في هذا، وهي تُستغل كعامل، لكنها في بعض الأحيان، تكون في موقع القوة، وتنظر لحالها كامرأة لها دور سياسي واقتصادي واجتماعي وعلمي وأدبي وديني.. إلخ. وهذا كله ما زال في بداياته، ولا أعتقد أن البحرين وصلت إلى الرصيف. إن شاء الله أستطيع أن أقوم ببعض التحليل في الدراسة التي أنا بصددها الآن.

ما هي هذه الدراسة؟

صيْقلي: هي دراسة مقارنة عن المرأة البحرينية والقطرية، تتناول المرأة التي لها صوتٌ واضح الآن في عملية التحوُّل. وهي تجربة لدراسة المرأة من منظور المرأة نفسها.

ما هي العينات التي تناولتها الدراسة؟

صيْقلي: إنني ما زلتُ في بداية المشروع، ولا شيء واضح الآن.

بالنسبة لـ 98% اللاتي تحجبن في الثمانينيات، كيف تنظرين إليهن الآن بمنظور الجندر؟ ما الذي حجبهن؟ وما الذي تغيَّر في منظورهن؟ وكيف أصبحن يرون أنفسهن؟

صيْقلي: سوف أتحدَّث من منطلق غير علمي، لأنني لم أقم بالدراسة لحد الآن، ولم أقم إلا بمقابلات لفئة صغيرة في فترة معينة. لقد شاهدتُ عملية التحوُّل وعشتها. لم تتحوَّل نسبة المحجبات إلى 98% دفعة واحدة، وإنما تمَّ ذلك على مراحل. حدثت في الثمانينات تبدلات سياسية في البحرين، وكان الوضع السياسي مكبوتاً، والإنسان أينما يكون يميل إلى أن يكون ضمن حلقة التديُّن، فلا أحد يستطيع أن ينزع الله مني، وربما يكون هذا أحد الأسباب. من الأسباب الأخرى أيضاً أن الحركات الدينية نفسها وعت لدورها وإمكانياتها في تعبئة المجتمع بطريقة معينة. وكان الشكل الواضح هو الحجاب، لذلك أُعطي دوراً في الشارع. هناك أيضاً عامل ثالث، فقد حدثت عملية انفتاح في العالم كله، في الشرق والغرب. وصارت هناك عودة للدين بعد أن تعقدت حياة الإنسان، التي صارت تتحكم فيها الماديات. وهذا أدَّى إلى حدوث عملية تديُّن حقيقي. لقد صار الحجاب مطلباً في المجتمع. وعندما ترغب فتاة في أن تتزوج، فهي تعلم أن رغبتها سوف تتحقق بسهولة إذا كانت محجبة، وهذا شيء معروف.

ظاهرة التحجب التي انتشرت في العالم، صارت تشكِّل العالم كله، إلى درجة أنه يُقال إن ما هو موجود الآن، هو حرب بين الأصوليات وليس بين الحضارات. سؤالي هو: كيف يمكن أن نفهم أن ليس فقط العودة لأشكال التديُّن المختلفة، وإنما أيضاً استدعاء الهويات التاريخية. باعتباركِ مؤرخة. كيف يمكن أن نفهم هذه الاستدعاءات التاريخية المهمومة بهاجس التأصيل؟

صيْقلي: إنني أعيش في أمريكا في منطقة فيها الكثير من الجاليات الإسلامية. لدينا الآن زخم عربي إسلامي، وشيعي وسني، خصوصاً الشيعة القادمون من جنوب العراق ومن جنوب لبنان. هناك تشاهد عملية الردة بوضوح. يوجد في المنطقة فتيات لم يكنَّ محجبات لكنهن تحجبن. وبنفس النمط نرى في بعض المناطق في أمريكا عملية الردة المسيحية. نرى العودة إلى الكنيسة وإلى اللباس المحتشم. هذه ظاهرة في نظري تعبِّر عن فشل المجتمعات الجديدة (Modern Society) في إعطاء حلول لمشاكل المجتمع. بعض طلابي وطالباتي كانوا يقولون لي إنهم حين يطَّلعون على ما في هذه الدنيا، وما الذي تبقى لهم، وما الذي يخفيه لهم المستقبل، وعندما يقرؤون عن بوش والسياسات الجديدة، وعندما يسمعون يومياً عن الذي يحدث في العراق، فإنهم يصابون بحالة اكتئاب شديد! كل هذا يؤكد أن هناك فشل مجتمعي. والناس تبحث عن الحلول، سواء في الغرب أو في الشرق. لأن الجميع يشعرون بأن المبادئ والأخلاق شيء أساسي وسند مهم، لكي يستطيعوا أن يحيوا في هذه الدنيا. إن النظريات والفلسفات التي كانت سائدة، كاليسار واللاديني فشلت أيضاً في إيجاد حلول لمشاكل بعض الناس. فما زال الليبراليون موجودين في الغرب، وما زال اليسار موجوداً. وهؤلاء يكتبون لنا ما نريد أن نقرأه.

هناك أيضاً شيء مهم، إن وجود اليمين السياسي في أمريكا، ووجود سياسة تمجِّد هذا الشكل للاحتلال، وتمجِّد هذا النوع من الحياة المريحة، التي تعتمد من أجل راحتها على امتصاص الشعوب الأخرى، سوف يكون لها تبعاتها. فهذه أيضاً بدأت بالتفكك. فما الذي يعنيه هذا بالنسبة لانتشار التديُّن اليميني؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال الآن. ولكنني أعتقد أن عمليات فتور قد بدأت، وعمليات ضعف في قبول هذا اليمين السياسي، وليس من الضروري أن يكون اليمين الديني، لأن الديني يأخذ وقتاً أطول بكثير كي يتفكك أو يضعف، أما السياسي، فهو مرتبط بالاقتصاد وبالحياة اليومية، ومرتبط أيضاً بأبنائهم الذين يموتون في العراق. أنا مثلاً لديَّ طالب محامي في الجيش الأمريكي، وقد قالها لي بوضوح إنه وبقية المحامين في الجيش يرفضون ما حدث وما يحدث في العراق. ما أحاول أن أقوله، هو أن هذه الصور متفتتة. هناك من ينادي الآن بمحاكمة بوش ويقول (Impeach Bush). ففي أمريكا دستور يسمح لهم بالتعبير، ولكن كيف يمكن أن نترجم كل هذا؟ من الصعب عليَّ أنا أن أحلِّلها لأنني لستُ محلِّلة سياسية.

هناك من يتحدَّث عن عودة للقرون الوسطى، نراها ليس على المستوى السياسي فقط بل على المستوى الثقافي، وعلى مستوى تشكيل المرأة، تعمل هذه العودة بشكل أكثر انغلاقاً.

صيْقلي: توجد بعض الصور من العودة إلى القرون الوسطى. الحرب على العراق هي عودة إلى القرون الوسطى، وكذلك استخدام التكنولوجيا الحديثة كالقوة الذرية، والهدف من ضرب إيران في حالة أنْ ضُربت إيران، أو سورية، أو التفككات التي حدثت في المنطقة ككل. من المهم جداً أن نفهم أنْ ليس الشرق الأوسط هو الهدف الرئيسي. إن الهدف الرئيسي كوني. إنهم يريدون الصين، يريدون أن يكونوا إمبراطورية تسيطر على العالم أجمع. على الأقل هذا ما أقرأه عن فلسفة المحافظين الجُدد (النيوكونز Neo-Cons )، إنهم يريدوننا في حالة غير قادرة على اتخاذ دور موحَّد يستطيع أن يوقفهم عند حدٍ معيَّن.

هل لنا أن نتحدَّث عن روح العصر؟ إن «روح العصر» كانت من الدراسات الأثيرة التي تناولها المؤرخون في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص. هل يمكن أن نتحدَّث عن وجود روح لهذا العصر مثلما نتحدث عن وجود روح للقرون الوسطى؟

صيْقلي: في الوقت الحاضر، لا أعتقد أنه توجد روح موحَّدة لعصرنا بأكمله. إن هذا العصر هو عصر التردِّي والابتذال للمبادئ والأخلاق. في السابق كانوا عندما يتحدَّثون عن الآخر وعن عن الأسود في أمريكا، يتناولون ذلك الآخر بطريقة معيَّنة، والآن يتحدَّثون أيضاً عن الآخر بنفس الطريقة ولكن بتناول موضوع يختلف عن ذاك، وأنا هنا لا أتحدَّث عن أمريكا فقط. الناس يعودون إلى الأصول الدينية الأصيلة في كل العالم، ولكن يوجد تشتت، وأظن أن هذا ما يريده جماعة (النيوكونز Neo-Cons ) في الغرب.

ماذا عن المجتمعات التي بلا تاريخ؟ كان هيجل يقول إن المجتمعات الشرقية بلا تاريخ. فهل يوجد لهذا المقولة معنى؟

صيْقلي: لا أصدِّق هذا. لا يوجد مجتمع إلا وله تاريخ.

إن فكرة التاريخ نفسها تبدو فكرة غير حاضرة في المجتمعات التي ينبعث فيها شكل من أشكال الأصوليات. إذ إنها لا تستطيع أن ترى تاريخها بمسافة. إنها متماهية مع تاريخها، وكأنها تعيش مأزقها التاريخي باستمرار، وتعيده باستمرار، وبالتالي فهو ليس تاريخ، لأنها لا تنظر إليه على أنه تاريخ أتى في فترة زمنية معينة وانتهى. هل انبعاث هذه الهويات بالشكل الأصولي يمكن أن تُفسَّر من خلال هذه النظرة للتاريخ؟

صيْقلي: هؤلاء الذين يعودون إلى هذه الهويات، من أصوليين وغيرهم، يعتقدون أن هذا هو التاريخ عن حق. هناك أصوليون مسيحيون أيضاً يعتقدون أن هذه ما هي إلا مرحلة للوصول إلى نهاية العالم. وهم ينتظرون نهاية العالم، ويُسيِّسون الفكر ويدخلون مع بعض الفئات من أجل الوصول. هذه في اعتقادي رؤية ضيقة وغير صائبة. إنني أؤمن بأن على الإنسان أن يواصل مسيرته في التاريخ، ولا أعتقد بأن العالم سوف ينتهي بالأسلوب الديني. لن ينتهي العالم إلا إذا استُخدمت الذرة لإنهائه، فإن ضُربت إيران، فربما تكون هذه بداية النهاية. لم تعد مسألة كهذه الآن لعبة. إن التاريخ متواصل، له أبعاده، يتقدَّم ويتأخر، لكنه يتكامل. نحن الآن نمر بمرحلة هابطة جداً، لكنني أتمنى أن أرى بعض التحوُّلات الإيجابية وإنْ على النطاق الأصغر. فحين أنظر الآن إلى القضية الفلسطينية، لا أراها في أسوأ مراحلها. وعندما أنظر إلى الأجيال الجديدة أتفاءل. أتفاءل أيضاً عندما أرى كيف تطوَّر التفكير لدى الأطفال.

هل يمكن أن نؤرِّخ الله في تجارب المجتمعات ؟

صيْقلي: فسِّر لي أولاً ما الذي تعنيه بالله؟

هل يمكن أن نقول أن تصوُّر الله في هذه المجتمعات مرَّ بتعاقبات تاريخية معينة؟ بحيث إن هذه المجتمعات تستطيع أن تميِّز فترات تاريخية معينة كانت تتصوَّر فيها الله مثلاً بأنه جبَّار أو رحيم أو يتسع للعالم كله.

صيْقلي: أيّ مجتمعات هذه التي تتحدَّث عنها؟أنا لا أعرف ولا أستطيع أن أقول. أنت تعرف أكثر مني إن كان يوجد تاريخ لله.

بحسب معرفتي، لا يوجد.

صيْقلي: بالنسبة للفكر الغربي الليبرالي، الله تطوَّر. الله هو المحبة والإنسانية وعلاقات بشرية. إن الله يأخذ أشكالاً وأبعاداً، وهذا مؤرَّخ. حتى التفسير والتعبير والهوية التي أعطيناها لله، الذي ننظر إليه على أنه الحل لحياتنا، أوصل حتى الغربي الليبرالي الذي بدأ من الفترة الرومانسية إلى الآن، وكان قد ضيَّع بعض الأمور. لهذا نجد أن الحركات الصوفية وغيرها من الحركات، قد أحييت في أماكن كثيرة، وهي تحاول أن تجد حلاً لتفسير الله. من الصعب أن نتحدَّث عن تفسير واحد لله.

الفواكه الفجة… الخطاب غير المطبوخ لجمعية التجديد الثقافية الاجتماعية علي الديري

كالتي هربت بعينيها

“إن مثل الدنيا شجرة ونحن عليها كالفواكه الفجة، الفواكه الفجة تتمسك بالغصون بشدة لعدم نضجها، وبعدما تنضج وتصير حلوة يضعف تشبثها بالأغصان. إن التشدد والتعصب من عدم النضج”. جلال الدين الرومي
(والفِجُّ) بالكسر النِّيءُ من الفَواكِهِ.
(الفِجُّ) من كلِّ شيء: ما لم ينضَجْ

يمكننا أن نفهم الخطابات الاجتماعية وجماعاتها بالإحالة إلى شجرة ابن الرومي وفواكهها الفجة وفواكهها الحلوة. الخطابات في المجتمع تكتسب صفتها الاجتماعية بحسب قدرتها على تمثل التحولات التي تحدث في المجتمع. الخطاب الاجتماعي الذي لا يستجيب لسُنَّة الطبيعة كالشجرة التي لا تستجيب لفصول السَنة أو كالفواكه التي تنسى دورة نضجها.
بقدر ما يفقد الخطاب الاجتماعي صفته الاجتماعية المتمثلة في قدرته على تمثل التحولات واستجابته لسنَّة الطبيعة ودورة فصولها، يكون فجاً، أي نيئاً، غير ناضج، غير مطبوخ بسيرورة ما يحدث في المجتمع وما ينمو فيه من رشد، وما ينتج عنه من لين ورفق.
لا يوجد خطاب اجتماعي فج كله ولا خطاب اجتماعي ناضج كله. ومهمة الصحافة تنضيج الخطاب الاجتماعي، وكشف مناطق فجاجته.
لقد سقتُ هذه المقدمة الطويلة نسبياً على مقالة قصيرة، لأؤمن لنفسي مدخلاً ناضجاً حد الحلاوة، للدخول على خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، الذي نشرته صحيفة الوقت كما وردها دون حذف أو تغيير، وذلك ‮يوم الأحد 41 مايو 6002م، رداً على حلقات الفراشة‮ ”‬كالتي‮ ‬هربت بعينيها‮: ‬جماعة ‏الأمر وتشكلات الذات‮”‬.
دعونا نرصد المناطق النيئة أو الفجة في خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، ونقرأها في سياق ما تحيل إليه أوصاف التجديد والثقافي والاجتماعي.
يحكم خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية على خطاب الفراشة بوصف: الحلقات المُخزية، حلقات الاستباحة، حلقات الإيذاء.
ويحكم خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية على خطاب صحيفة الوقت لنشره (حلقات الخزي والاستباحة والإيذاء) بأوصاف: العجمة والابتذال والكيد والظنون والفتنة وأقلامها، والتحريض والبحث عن مادة للتشويق، وتحقيق المكاسب الشخصية على حساب الأعراض والقيم والمبادئ السامية وكرامة المواطن، والمستوى الفجّ، واستباحة الأشخاص والأعراض المُصانة، والكيد المغلف والتحريض المبطّن، ومحاولة النيل، والتلفيقٌ والتغريرٌ بالقارئ والكيدٌ، وأنه مسلسل تسويق وحملة حاقدة ومنظمة، لا تمت لميثاق المهنة ولا لضمير الصحفيّ بشيء أبداً.
ويحكم خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية على خطاب كتّاب الوقت المتورطين بحملة الخزي والاستباحة والإيذاء بأوصاف: الفتنة والصبيانيّة، وفعال الصبا وتسليات الطفولة وفعال المراهقين ثقافياً، ممن يهوى الأضواء ويسعد بوجود اسمه وتكراره على صفحات الجرائد.
نحكم على الخطاب بأنه ناضج أو فج، بحسب طبيعة نضج الأحكام التي يطلقها على من يشاركونه في الاجتماع الإنساني ويكوِّنون معه المجتمع. ونحن نتحدث هنا عن مجتمع البحرين في عصر ما بعد الانفراج السياسية. بقدر ما تكون هذه الأحكام قادرة على تمثل لحظتها الاجتماعية، يكون نضجها. وبقدر ما تخفق في تمثل هذه اللحظة، وتظل متمسكة بغصنها من غير قدرة على مغادرته بنضج، تكون فجاجتها.
ليس من النضج أبداً أن نحكم على خطاب يقرأ بروح نقدية تجربة تشكله في شجرة مدة 16عاماً، بالخزي، في الوقت الذي تكون فيه ردود فعل مثقفي المجتمع الذي شهد تحولات جديدة، تصف الخطاب بالنضج والعمق والشجاعة والقدرة على قراءة الذات قراءة نقدية. وفي الوقت الذي لا تستخدم فيه الثمرة الناضجة أم16عاماً أي أوصاف قدحية مسيئة، يستخدم خطاب (جمعية التجديد) أقسى أوصاف القدح، وهو الخزي والاستباحة. لا يمكن أن ينضج الخطاب وهو لا يحسن تداول كلماته في المجتمع، بل إنه يعرض نفسه للخزي، متى أساء استخدام كلمة الخزي. وفي المجتمعات الناضجة يكون فيها الخزي أشد متى تغلظنا في وصف ما لا يتفق معنا، لأن المجتمعات الناضجة تتسامح مع المختلف معها، لكنها لا تقبل بالفظ الخطاب، النيئ الطبخ، الفج الثمر.
هكذا تنتج فجاجة الخزي أحكاماً تصوغها أوصاف قدحية، ولأن الفجاجة تستدعي فجاجة مثلها، فإن فجاجة الخزي، أخذت تنتج أحكاماً فجة نيئة لم يتسن لها الطبخ بالقدر الكافي. والخطاب غير الناضج هو غالباً محصلة نزق وانفعال وتعصب، لذلك تكثر في هذا الخطاب الأحكام وتقل الحكمة. والأحكام حين تنقصها الحكمة ينقصها الإحكام، فتـأتي هكذا مرسلة من الدليل والشاهد والقرينة والحجة. لذلك لم نجد في خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية غير أحكام تتلوها أحكام تتلوها أحكام، إلا أن أياً من هذه الأحكام لم يتوفر لها خطاب يدعمها بحجة، فلا نعرف وجه الخزي في هذه الحلقات؟ ولا ندري كيف استباحت حلقات الخزي الأشخاص والأعراض المصانة؟ ولا كيف هي سلسلة خزي منظمة حاقدة؟ وعلى من هي حاقدة ولمن خازية؟ ومن يقف وراء خزيها؟
هكذا، حين لا يتوفر للخطاب معرفة ناضجة بشروط التداول الاجتماعي، يتورط بالخزي. أعني يتورط بإصدار حكم الخزي واستخدامه ويرتد عليه. فبدل من أن يقيم علاقة تصله بالمجتمع ومؤسساته الإعلامية وفي مقدمتها الصحافة، يقطع صلته بسلسلة أحكامه الفجة المؤسسة على سوء استخدام فعل الخزي.
وهذا السوء في حقيقته يخزي، لأنه يكشف (وأحد معاني الخزي الكشف) سوءاً مضاعفاً، وهو سوء تقدير الآخرين. فيرى في حلقات الخزي وصحافتها وكتابها (… وفتنة صبيانيّة، وفعال الصبا وتسليات الطفولة وفعال المراهقين ثقافياً….) ويرى في خطابه النيئ (جادون كلّ الجد ولسنا من هواة اللعب ولا ممّن يتذوقونه).
أحد أسوأ العلامات التي تدل على عدم نضج الخطاب الاجتماعي، أن ينسب للقائمين عليه فضيلة الجد والبصيرة والوعي، ويصم الخطابات المختلفة معه بالمراهقة والصبيانية والعمى وفقدان الوعي، وهي علامة تكشف عن عدم بلوغه حدّ النضج الذي يتيح له مخالطة المختلف من دون مزايلة مبعثها خوف تكدر صفائه ونقائه.
إن تمسك خطاب جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية بالأمر حدّ التماهي وعدم تحويله إلى أمر تاريخي، يجعل من جملتهم (معتقداتنا الحرّة) أقرب إلى أن تكون جملة فجة أو نيئة، خصوصاً وأنها جاءت في سياق مصادرة حرية الفراشة، من أن تسأل أو تعترض أو تشك أو تطير أو تضرب بجناحيها أو أن تروي سيرتها أو أن تفك أغلفتها أو أن تخرج من شرنقتها أو أن تبر نفسها من قسم الحلم. فعن أي معتقدات حرة يتحدث خطاب التجديد وهو يماهي بين أعراضه المُصانة ومعتقداته؟ أليست الحرية تبدأ حين نفك التماهي بين الشخص وفكره وشرف العَرض ودناءة الرأي؟
التماهي هو أحد علامات عدم النضج. فالثمرة الفجة تبقى متماهية مع غصن شجرتها ولا تنفصل عنها، ومشكلة خطاب جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، تكمن هنا، في جملة (كل ما يمت إلينا بصلة). فهو خطاب يتعصب إلى هذا الكل تعصب الثمرة الفجة، ويخشى الانفصال، لأنه يرى فيه سقوطاً مدوياً.
ما الذي بقي للجمعية من أوصافها (التجديد والثقافي والاجتماعي)؟ فثمرتها تأبى أن تسقط في المجتمع لتجدد دورة حياتها وتصنع شجرة جديدة.
وبعدُ، لم تبقوا لنا علامة من علامة النضج نشيد بها في خطابكم، لندفع عنكم بها حكم الفجاجة.

المتبقي… والجماعات العربية الجديدة

 

ALZUHAIR

 

في رواية الزهير لباولو كويلو يتعرف البطل وهو في طريق البحث عن زوجته المختفية استير، على جماعة غير مألوفة تعرف بالتنغري لديها طقوس احتفالية غريبة وفلسفة غريبة، يتحدثون عن الحب والطاقة الروحية والخلق والإنسان والجنس يلتقون في مطعم ويقيمون احتفالاً هو مزيج من ثقافات متعددة شرقية وافريقية وغربية، يؤدون فيه رقصات خاصة ويمثلون فيه أدواراً بملابس غريبة ويحكون فيه قصصهم وهمومهم وتجاربهم عن الغيرة والهجر والإحباط، يحاول البطل أن يفهمهم هل هم طائفة دينية أو جماعة بويهيمية أو شيء آخر؟ «ما أزال غير مدرك المغزى من ذلك، يبدو الأمر وكأنه جلسة مساعدة ذاتية جماعية مثل الجلسات التي يعقدها المدمنون على الكحول المجهولون». تبحث جماعة التنغري tengri عن معنى جديد لوجودها وعلاقتها بالعالم، معنى يختلف عن معنى النظام السائد الذي لا ترى فيه قدرة على تفسير حياتها وحبها وولهها وفشلها ونمط وجودها. المتبقي هو ذلك الجانب من اللغة الذي يقيم الوصلات ويؤدي المعنى حتى في أصعب ظروف التفكك النحوي، وهو يشبه نبتة الجذمور التي تتصل بالحياة من أية نقطة مهما قطعت أو صلبت. يبدو المتبقي وكأنه شذرات غير مفهومة وهامشية ومحيرة ولا يمكن تسميتها تماماً كمتبقي (التنغريtengri). لم يكن الباحث عن زوجته الذي يعيش وفق نظام المعنى العام المستقر يدرك مغزى هذا المتبقي الذي يعيش على هامش النظام، وكان يحتاج إلى فترة طويلة ورحلة مضنية كي يفهم هذا المتبقي ويعثر على زوجته فيه. كان عليه أن يتصل بالحياة من جديد عبر هامش معنى غير معروف وغير معترف به. المتبقي يعمل في كل الأمكنة بما فيها النحو والشعر والمجتمع والإنسان ونظام القيم، وهو يعبث بكل المقولات والمستقرات والمألوفات، اما أماكنه المفضلة، نجدها في أجهزة اتصالنا بالحياة نجدها في غرف الانترنت وفي الموبايلات وفي (Blogger)، وفي كل ما يبدو متشذرا وغير خاضع لنظام المراقبة العام. المتبقي يعمل في اللغة والإنسان والحياة، ويشتد عمله متى تصلبت اللغة، لقد تصلبت في حياتنا العربية أنظمة الهوية والقومية والإسلامية وتصلبت معها اللغة التي تعبر عنها ولم تعد تتسع لزمن الإنسان الحديث الذي يعيش تحولات سريعة وغريبة، سيعبر المتبقي في هذه الحياة العربية عن نفسه في شكل جماعات جديدة تنشط على مستويات عدة وسيعبث هذا المتبقي في لغتها وقيمها وقضاياها وحكاياتها. «العرب الجدد» سيكونون متبقيات هذه الأنظمة المتصلبة، ليس بمعنى الباقي من هذه الأنظمة بل بمعنى العابث في هذه الأنظمة.

 

رابط الموضوع: http://www.alwasatnews.com/mobile/news-543851.html

المصدر: جريدة الوسط البحرينية

أم صادق جهة الذوق

في 1961جاءت رباب الدير، أحضرَتْ معها المنامة، كان عمرها خمس عشرة سنة، لكنها لم تكن المرة الأولى، فقد زارت الدير قبلها مرتين، برفقة أخيها حسين الذي كان يعاني من كسر في رجله، قصدا بيت الحاجية (بنت مدن) المراخة الشهيرة التي ستنجب (بنت إبراهيم) خليفتها الأكثر شهرة على مستوى البحرين.ليس كمثل يدي بنت مدن قدرة على جبر الكسور، تملك يداها طاقة روحية تجبر خواطر الكسور. 

حين أبلغها أخوالها أنك ستكونين ديرية بخبرة منامية، كانت تعرف جيداً أنها ستغادر المدينة إلى قرية بعيدة لا شوارع بعد لها، قرية مازالت بكراً، لم تفتح عيونها بعد ولا شوارعها. المسافة بين الخطبة والزواج شهران، لم يكونا شهري تعارف، فهي لم تره قبل ليلة الزواج، كانا شهري حداد، لوفاة الحاج عبدالله بن عيسى مطر، أحد رجالات القرية الذي تربطه صلة نسب بعائلة زوجها.

كان ينتظرها بيت عائلة من حوش كبير على هامشه غرف صغيرة. بدا الحوش بمثابة سوق صغيرة يبيع فيه عمها الحاج أحمد سلمان السمك واللحم والدجاج. سيوفر لها هذا السوق فرصة للاختلاط بأهل القرية والتعرف عليهم والدخول في عالمهم. عبر هذا السوق ألفت لهجة الدير التي بدت لها سريعة جدا وغير مفهومة، وعبر هذا السوق انخرطت في شؤون العائلة، وصارت واحدة من جنودها المجندة لكسب الرزق.

بدا لها النظام الاقتصادي للعائلة غريباً وغير متقبل، لقد جرت العادة في القرية أن يعمل الجميع ويتسلم ربّ العائلة المال وهو الذي يتولى توزيعه وإدارته وحفظه، حين بدأت تمارس احتجاجها لتكون لها خصوصيتها في تكوين عائلة نووية ضمن البيت الكبير، بدأ عمها بحس السلطة المطلقة، يقرأ في احتجاجها ما هو أبعد من الخصوصية. وجد في هذه المنامية التي تدير أمورها ببراعة شخصية تنازعه سلطته المطلقة، وأنها ستؤسس لنمط جديد في العلاقات الزوجية، فاتهمها بالسيطرة على ابنه، ومحاولة فرض شخصيتها عليه.

لن يخفي العم إعجابه بزوجة ابنه، لكنه لن يتوانى عن مناكفتها وتحجيم دورها المنافس لسلطته في البيت، ستشتعل خلافات صغيرة، لكنها ستبقى ضمن البيت العود.

على الرغم من ذلك، لم يجد العم نموذجاً يعبر به عن المرأة التي يريدها في زواجه الثاني والثالث، غير نموذج رباب، “أريد امرأة مثل رباب”. 

في مقابل العم كانت هناك العمة الحاجة أم عبدالله، أعلنت انحيازها التام لشخصية رباب، وقدمتها على ابنتها، كانت حليفاً قوياً لكن من غير سلطة، وجدت رباب في عمتها النقيض الكامل لعمها، حتى كانت تعتبر صديق رباب صديقها وعدو رباب عدوها، بالمقابل كان على رباب أن تعمل بالمنطق نفسه، غير أنها مع زيجات عمها المتكررة اللاتي هنّ ضرات وعداوات بالفطرة مع عمتها قد أوقعها في حرج دائم، فالعمّ لا يمكن أن يقتنع بأي وفد نسائي يرافق زفافه المتكرر إذا لم تكن رباب في مقدمته، حتى إنها اضطرت مرة للهرب إلى بيت أمها في المنامة خوفاً على مشاعر عمتها، غير أنه أرسل لها من يحضرها، ويحضر معها زعلاً لازم عمتها أياماً لمشاركتها زواج إحدى ضرّاتها، أو إحدى مشاريع عداواتها.

  • خياطة الذوق

أنت لا تأتي المكان وحدك، بل تأتي ومعك مكانك الذي جئت منه، تحمل خبراته ونظامه ومعارفه وتفاصيله، جاءت رباب الدير في مطلع الستينيات، وهي ابنة 15عاماً، لكنه تحمل خبرة 5سنوات خياطة، منذ سن العاشرة وهي تتدرب على يدي أمها وخالتها فنون الخياطة: نقدة، صوف، تطريز. أتقنت هذه الفنون بمهارة بمهارة فائقة، جاءت الدير تحمل معها ماكينة خياطة، كما جاء نابليون مصر 1798م يحمل معه آلة طباعة، تبشر مصر بعهد جديد.

كانت ماكينة الخياطة تحمل معها ثقافة جديدة، لم يكن أهل الدير يعرفونها بعد، أدخلت ماكينة رباب موضة السراولة البيض الواسعة مع الفساتين القصيرة. صارت الخياطة صناعة ذوق وخيار، أصبح بالإمكان أن نختار شكل ملابسنا، نفصلها كما نريد، نشبك خيوطها وفق مقاسات أجسامنا، إنها تجربة متفردة تتيح لنا أن نكتشف فرادة أجسادنا، أصبح لكل امرأة مقاسها الخاص، ولديها خياطتها الخاصة.وصار بإمكانها أن تشتري قطعة القماش التي تعجبها، وتطلب شكله الذي تريد أن يصير عليه. صارت الخياطة ذوقاً لا مجرد ستر.

نصف زيجات أهل الدير كانت تمر بين يدي أم صادق، تخيط فساتينهم وتشكل وجوههم وترتب مسرحهم وتنظم طريقة دخولهم وتجعلهم يكتشفون وجوههم الجديدة في مرايا حفلات الزواج.

العرس الذي ترعاه أم صادق، يكون حديث القربة، والعروس التي تحظى بذوق يديها، تظل تفاخر طوال حياتها بذلك، يقال عنها (ما فوقها فوق).حتى عمها بغطرسته، يذعن لسلطة ذوقها، كانت هي من خاط فستان زواج زيجته الثالثة في منتصف الستينيات. لم تكن رباب صاحبة ذوق فقط ولا صاحبة مهارة فقط، بل كانت صاحبة ثقافة تميز مختلف الأزياء بحسب أعراقها ومناطقها وجهاتها، تعرف المرأة الميناوية من الفارسية من القطيفية من الشنشنية من المحرقية من الرفاعية من زيها، بل يمكنها أن تصف أوجه الاختلاف الدقيقة بين هذه الأزياء النسائية كلها. إنها خبيرة بتاريخ الأزياء وصناعتها.

ماكينة خياطة أم صادق
ماكينة خياطة أم صادق
  • تربية غير

لم تصنع رباب ذائقة مختلفة فقط، ولا إدارة مختلفة فقط، ولا خياطة مختلفة فقط، ولا أعراساً مختلفة فقط، إنها صنعت أيضاً تربية مختلفة. كان صادق الذي هو الآن من ألمع جراحي البحرين ابنها البكر في 1964، ويسرى ابنتها الكبرى في 1966، ويليهم لؤي وهيفاء وابتهال ونور. إنهم صناعتها بامتياز، كل شخص منهم إضافة إلى فرادته يحمل فرادة رباب أيضاً في شخصه.

في الوقت الذي كان فيه أطفال القرية لا يميزون بين الشارع والبيت، فالشوارع كلها بيوتهم، والأتربة أحذيتهم، كانت رباب تعلم أبناءها الفرق بين آداب البيت وآداب الشارع، ملابس البيت وملابس الشارع، نظافة البيت ونظافة الشارع، قيم البيت وقيم الشارع. كانت هذه المنامية مهووسة بثقافة الفرد واستقلاله، وقد ربت أطفالها وفق هذه الثقافة، كانت معلمات المدرسة ومعلمو المدرسة يميزون ملابس أولادها ويرون فيهم شخصيتها وثقافتها.كانت تلبسهم البدلات المفصلة وتسرح شعورهم وتهندم أشكالهم، كانت تربية غير.كانت النسوة يتهامسن بينهن: (جان زين بناتنا مثل بنات أم صادق).

  • محو الأمية

كانت مدرسة الزهراء على بعد خطوات من بيتها المنامي، لكن قروناً من التاريخ تحول بينها وبين أن تصل هذه المدرسة، لقد عالجت هذه القرون التي لم تمكنها من الالتحاق بالمدرسة، بالذهاب لمحو الأمية في مدرسة الدير في بداية الثمانينيات، تعلمت الكتابة هنا، وصارت تملك مهارة الكتابة، إضافة إلى ما كانت تمتلكه من مهارة القراءة التي تعلمتها في درس القرآن.وهي مهارة مكنتها من متابعة الصحف منذ صدور الأعداد الأولى من جريدة أخبار الخليج.لقد محت مدرسة الدير أميتها الكتابية، كما ساهمت ماكينتها  في محو جوانب حية من أمية الدير.  

  • الديرية

صارت رباب اليوم ديرية، لكن بم صارت ديرية؟ صارت ديرية بما نسجته من علاقة محبة، وبما ألفته من قلوب، وما تركته من أثر، وما تشبعت به من أجواء اجتماعية، أحبها الناس هنا، بما تركته فيهم من روح جديدة.بعض الديريات فهمن نموذجها المختلف تعالياً وتكبراً، لكن ما أن يقدر لهن أن يقتربن منها حتى يكتشفن عالمها الإنساني الذي يستطيع أن يختلف مع الآخر ويستوعب في الوقت نفسه  برحابته العالم. 

عرفت الدير مناميات سبقن رباب كما عرفت الدير مناميات لحقن رباب، لكن لم يعرفن منامية كرباب. 

 

أحمد البوسطة: أسئلة متحركة لإجابات نحتاج إليها!

 

«هوامل تخرجك بنفورها وتحديها من الواحد الشامل: جواب واحد تقدمه ثقافة واحدة أو دين واحد أو مذهب واحد أو شيخ واحد أو معتقد واحد أو منطق واحد، وتصلك بهوامل المتعددين والمتنوعين والمتكوثرين». (الكاتب علي الديري).

هذا القول أعلاه جاء من نص معد للنشر في صحيفة عربية لأهم تحقيق قرأه الديري في العام 2005 في الصحيفة ذاتها عن كتاب «الهوامل والشوامل» لابن مسكويه وأبوحيان التوحيدي، الذي «أخفي قديما خوفا عليه من سخط العامة»، وعنونه بـ «ذهبت لهوامل التوحيدي أشق شارعاً جديداً لمدينة عربية جديدة». ويبدو أن الديري لم يذهب إلى التوحيدي ليحدث فجوة في شارع، بل إلى أسئلته الفلسفية» فالهوامل كما يشرحها «هي النياق الشاردة بلا راع»، وبها سمى أبوحيان أسئلته ­ وهي 175 سؤالاً ­ والتي بعث بها إلى مسكويه. فأجابه مسكويه بأجوبة سماها «الشوامل». القصد من المقدمة القصيرة التي من فرط ما فرضت نفسها كما في حالنا، هو طرح أسئلة لمطاردة التناقضات في فضاء لابد من تحرير سقفه الديمقراطي المنخفض، المقياد للحريات العامة، وفي القلب منها حرية المعتقد والحريات الشخصية، المدرجة ليس في تنويعات التطبيق والممارسة الديمقراطية الحقيقية، بل لكي نعيش وننشط من دون أن «نتناهش» أو نكشر عن أنياب واحدة تفترس زيداً، وأخرى تلمع ليخشى منها عبيد، العاشقة أو الكارهة «جيناته» لسحر التغيير من تحت «قبة البرلمان أو خارجها»، مع أن، لا الأرض ملئت عدلاً بعدما ملئت جورا، ولا هم يحزنون: فالحال كما يبدو هو الحال بالنسبة» إلى «زيد وعبيد» من المشاركين أو الممتنعين عن المشاركة في العملية السياسية الجارية في البلاد، فلا هؤلاء غيروا الخريطة السياسية ولا أولئك، وما كان موجودا، هو هو بالمقاييس نفسها، لأن اللاعب الأساسي «لا يوجد عنده إلا هذا الموجود»، ولا تسألوا كيف، ولا لماذا، وما السبب، وهل من الممكن وغير الممكن؟ فمن قبل بهذا السقف (كما تشير سبابتهم على القوى الفاعلة في المجتمع)، فأهلا وسهلا به، ومن تمرد عليه (الموجود) بقول «لا» سلمية معتقة في فلسفة المهاتما غاندي «اللا عنف»، فـ «لا أهلاً به ولا سهلاً»» ويبقى الجميع هكذا في حلم دائم، فالقابضون على ترسيخ السائد سيشددون قبضتهم عليه، إذا لم يهددوا بـمقولة «الرجوع بالأوضاع إلى المربع الأول» التي تعرفونها من كثرة ترديدها، والمتمسكون بالمكتسبات وتطويرها، سيطالبون ويطالبون من دون ممارسة للديمقراطية التي يناضلون من أجلها، والحالمون من الناس سيظلون محكومين بطرفي الكماشة: للمقاطعة أو للمشاركة، وهكذا.

ألم تلاحظوا أن الأسئلة هي هي، كما كانت عليه سنة ،2002 ولا أحد يسأل لماذا أسئلة 2002 يعاد اجترارها في نهاية ،2005 وربما ستستمر حتى مطلع انتخابات ،2006 أو ما بعدها. تعرفون لماذا؟ لأن مبررات الممتنعين عن المشاركة، وبعض المشاركين هي نفسها لما كانت عليه آنذاك» فالذين قاطعوا الانتخابات الماضية، ربما تعززت قناعتهم بجدوى تسجيل موقف من دستور 2002 ومن التراجعات التي تلت وحزمة القوانين التراجعية التي فاضت، وقد يذهبون بعيدا في سقف مطالباتهم. لأنهم يشعرون بأن «الشراكة» بين الشعب والحكم منقوصة في مجلسي الشورى والنواب، بالنسبة إلى التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، وهي المهمتان الرئيسيتان لأي برلمان في العالم لأي بلد ديمقراطي كان، أو يخطو صوب الديمقراطية. أما الذين سيشاركون ربما يجدون مبررات تنفع الناس أو تنفعهم، ومن أهمها: الحد من الفساد وفضح المفسدين ما أمكن، ومحاولات لفصل السلطات للوصول ببرلمان كامل الصلاحيات عن طريق «التدرج»، ومن ثم تخفيف الاحتقان السياسي ما أمكن تخفيفه، وتعزيز الثقة بين الشعب والحكم. إذاً، الذين سيشاركون في الانتخابات المقبلة، وإن كانوا من المقاطعين سابقا، لهم مبرراتهم، والذين سيقاطعون لهم قناعاتهم، تماماً كما كان في انتخابات ،2002 لأنه لحد الآن لم تقدم تنازلات حكومية محسوسة للولوج بسلطة تشريعية ورقابية كاملة الصلاحيات» فالأسئلة ستبقى كما كانت، والمبررات، والمبررات المضادة لم تتغير، وكأن الساعة توقفت عند الفصل التشريعي الأول في ،2002 وهنا يحتاج الناس إلى أسئلة جديدة ومتحركة، ومنطق وعقل جديدين، ونفس شغوف بالبحث للتنوير والاستضاءة، ولذلك، وكما يقول الديري في نصه: «إن الجواب يحتاج إلى حركة السؤل. إن الشامل معوز ومحتاج وفقير إلى الهامل، إلى حركته وروحه واحتجاجه ونهمه. لذلك كان ابن مسكويه محتاجاً إلى التوحيدي، محتاجاً إلى سؤاله، أكثر مما كان التوحيدي محتاجاً إلى جواب ابن مسكويه». هذا، وإلا سنظل نشرب حليب الناقة من خف الجمل.

جريدة الوسط

العدد 1206 – السبت 24 ديسمبر 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1426هـ