أرشيف التصنيف: مقالات

علي أحمد الديري: في رثاء السيدة عصوم

أخواتي في زيارة السيد معصومة في أيامها الأخيرة

توفيت أمس، آخر صديقات جدتي سلامة سلوم في حلقتها الضيقة في الدير،عصوم، الاسم المدلل يبقى محبباً في التداول في ثقافتنا المحلية، تكبر النساء ولا يغادرن دلال أسمائهن.
أختي معصومة وجدة أمي سيدة معصومة، وزوجة ابن خالي معصومة، وكلهن قريبات من القلب في العائلة، لكن حين تقول لي إمي: تسلم عليك عصوم وتسأل عنك، أعرف مباشرة أنها السيدة معصومة بنت سيد عبد الله سيد هاشم.
أسمع صوت سلامها الرخيم الحنون يضرب في قلبي. تعزيني بالأمس أمي، وهي لا تدري بأنها تزيد وجع فقدها في قلبي: كانت تحبك وكأنك سيد من أبنائها السادة. وتضيف: رحم الله أم السادة، لقد أعطاها الله من بر الأبناء، على قدر صفاء قلبها، كانوا يحملونها على أكف قلوبهم، من غير ملل ولا جزع، طوال فترة مرضها الذي أقعدها لأكثر من عشر سنوات، بل إنهم أخذوها لزيارة الإمام الرضا بمشهد المقدسة وهي على حمّالتها، لتهدأ روحها المشتاقة لأهل البيت.
ربطتني صداقة طفولة بابنها السيد إبراهيم، كان صورة من أمه في طيبته وأخلاقه وصفاء قلبه، كان من دوننا حين تقع عينه على كسرة خبز في الطريق يأخذها بحنو بالغ ويقبلها ويرفعها على إحدى الجدران كي لا تطأها الأقدام، إنه احترام للنعمة لا أشك أن أمه السيدة معصومة قد أودعته في معتقده وسلوكه، فصار علامة في أخلاقه.
عدت لرسالتها الصوتية الأخيرة لي في العيد الماضي “هلا ومرحبا يا بوي، شحوالك، حيا الله شيخ علي، حيا الله شيخ علي، يواليك يا بويي العافية وطولة العمر” كانت تظنني على الهاتف معها، وتنتظر ردي عليها. لم يسمح فارق التوقيت بيننا أن أسمعها ردي في الوقت نفسه لتطيب نفسها المشتاقة لكل شيء يذكرها بصديقة عمرها سلامة سلوم، فالأكيد أن تضاعف محبتها لي تأتي من جهة ما احتفاء بسلامة. تخبرني أختي فاطمة أنها يستحيل أن تنسى ذكر سلامة في أي زيارة تذهب إليها، كأنها تعالج قلبها باستعادة حكاياتها معها، فقد شكّلت ثلاثيا خاصاً جمع بينها وبين شقيقتها بتول وصديقتهم سلامة. كبروا وما كبرت عادت الطفولة وبراءتها فيهم، لا تشتهي الواحدة منهم ثوباً وإلا أحبت أيكون لصديقتيها مثله، حتى حين كبر سيد محمد ابن بتول وصار يعمل بالخارج، أخذت تشترط عليه ألا يأتيها بثوب مفرد، لا قلب لها أن تلبس ثوباً لا تلبس مثله سلامة وعصوم.
ظلت ترسل لي هداياها ولم يقعد المرض حواسها عن تفقدي، ولم تمنعها مغادرتي للوطن طوال هذه السنوات من وصلي، وكأنها تشمّ فيّ رائحة سلامة. حين وصلتني هديتها (تولة) العود الفاخرة، صرت أستخدمها بحرص بالغ في شتاء بيروت وصنعت على وقع رائحتها العابقة ذاكرة جميلة، وانتقلت معي للشتاء الكندي القارص تدفئني بحميميتها. في زيارتها قبل الأخيرة، كانت متألمة حين اعتذرت لها أمي عن قبول هديتها لي، قالت لها غير مسموح أن نرسل له شيئاً بعد أن صار في كندا، لم يعد الأمر كما هو حين كان في بيروت.
تحكي لي خالتي خاتون عن وعيها بهذه العلاقة الحميمة بين أمها والشقيقتين عصوم وبتول، تقول وعيت على الدنيا، وكأني أراهم يعيشون معنا في البيت، يترددون على مجلس أمي ومأتمها طوال اليوم، هكذا كانت تفعل عصوم وبتول وأمهم مريوم بنت حجي عبد الله البابور، وأختهم غير الشقيقة شروف التي أصبحت ملاية رئيسية في مأتم جدتك.
تضيف الخالة خاتون التي تتلمذت على صوت (شروف) وملايات مأتم أمها، وقُدّر لها أن تكون في الدفعة الأولى لبنات الدير الملتحقات بالمدرسة وسط معارضة اجتماعية واسعة: وُلدت في اليوم نفسه الذي أنجبت فيه عصوم ابنتها الكبيرة فاطمة سيد حميد سيد موسى (أم حسين)، وأكملنا بصداقتنا صداقة الأمهات وصداقة العمات أيضاً فقد كانت عمة أمي (بنت الحايي) صديقة عمة عصوم (هاشمية سيد هاشم)، لقد أتاحت الجيرة القريبة إلى حد تلاصق البيوت أن تمتد علاقاتنا الاجتماعية عميقا.
أذكر من هذه الطفولة جماليات تفوق الوصف، لقد أطلقت شيخة جدة فاطمة لأبيها على فاطمة لقب (المشمومة) لفرط محبتها لها وتدليعها، وجدت تشابهاً بين قصر فاطمة وجمالها ورائحتها الزاكية، حتى غدا الاسم المحبب بيننا لفاطمة هو (المشمومة). أما أنا فقد كان خباز والدي يصنع حلوى مميزة، وتدليعاً لي فقد أطلق عليها اسمي (صرة الخاتون).
ما انقطعت (عصوم) عن مأتم سلامة حتى وهي على كرسيها المتحرك، تغالب مرضها لتتحمل مشقة الحضور، وحين وجدت في سنواتها الأخيرة أن المرض ألزمها الاستلقاء على الفراش، صارت ترسل تبرعاتها للمأتم في كل المناسبات.
تلفتني أمي وهي تحكي عن بيت سيد حميد سيد موسى زوج عصوم، إلى أني مدين في حياتي لهم، فقد كان سيد عيسى (الضرير) الأخ الشقيق لسيد حميد، هو من تعتمد عليه سلامة سلوم لتوفير الأضحيات صعبة الشروط، فهو من يعرف كيف يُحضر لك الطُمطم الأسود والديك الصحيح ليفدي حياتك من تهديدات (التابعة) التي دوماً تهددني بأخذ أعز ما أملك، وما كان غيرك.

علي الديري، يوم الصحافة العالمي: أُحِبّك يا بوسطة! 

#أحمد_البوسطة

الصحافي أحمد البوسطة في حفل تدشين كتاب سيرة جدتي سلامة سلوم
الصحافي أحمد البوسطة في حفل تدشين كتاب سيرة جدتي سلامة سلوم

#يوم_الصحافة_العالمي

أُحبّك يا بوسطة! منذ صباح هذا اليوم، يوم الصحافة العالمي وأنا أقلّب صورك، أبكي مرّة وأضحك أخرى، وأتحسّر بينهما، أعيد تعريف الغربة بأنها الحالة التي لا أستطيع فيها أن أصل إليك. أعود أقرأ شيئاً من سيرة أوراقك المبعثرة، أسلّي نفسي بالوصول إليك، وكسر غربتي عنك. كلّما حاولت الدخول في صورك الكثيرة، سمعت قهقهاتك الكبيرة. كبير أنت يا بوسطة على أن تُحبس في قفص في بيت السلطان أو أي بيت آخر. تحضر المأذنة الطويلة التي أذّنت فيها لأول مرّة بنداء تحديك وتمرّدك، أقرأ قصّتها في أوراقك ولا أستطيع أن أغالب مخازن الضحك التي عبّأتها فينا كلما التقيناك على منصّة سرد شيّق من سرودك اللانهائية. 

 

أُحبّك يا بوسطة! وأشعر بعجز قاتل، لأنه لا يمكنني أن أكتب إليك، ولأن ما أكتبه الآن على الأغلب لن يصل إليك وأنت في أشدّ حالاتك شوقاً إليه، أتعلل أحياناً بالحديث عنك مع (نور) الفتاة المحرقية التي أوصلتني بها في سنوات المحنة، وقلت لي إنها تحلم معنا بغد أفضل، إنها تحبك بشكل خرافي وهذا مؤشري على طاهرة قلبها الفتي. 

أتأمل في صورتك وأنت ترفع عن قميصك قميصاً آخر، يظهر رسماً يحمل أيقونة نبيل رجب مذيّلاً بتحية (كل عام وأنت حرّ يا نبيل)، وبيدك الأخرى تلوّح بعلامة النصر مرفوعة إلى السماء، وابتسامتك الدائمة في شفتيك أحلى من سكّر المقاهي التي تشتاق إليك. 

لوحة أحبك يا بوسطة
لوحة أحبك يا بوسطة

أُحبّك يا بوسطة! ولا أجد غير جدار بيتنا أخاطبك عبره، أسترجع رسالتك التي خططتها في ورقة وعلّقتها في جدار صالون هيبا الثقافي في بيتنا، كتبت لي: “رفيقي علي.. كنتَ بيننا غصباً عليهم، وكان الحفل يليق بك، دمت بحرانياً”.أحب صوت هذا النداء (رفيقي) في لسانك بحنوّه ورائحته الرأس رمّانية وفرادته، فهو في لسانك منزوع من الإيديولوجيا الصُلبة، والتنظيم الحزبي، تنطقه وكأنّه نداؤك الخاص. لم أجد أفضل من رسالتك أشرح بها لابنتي أماسيل معنى مفهوم (بحراني) من غير توجّسات طائفية، فمن يستطيع أن يزايد عليك وأنت الذي فرّغت شحنتك الطائفية من أعلى مأذنة مسجد (بن ساعد) وأنت لم تبلغ بعد مراهقتك في ذلك الوقت، ولا حتى في هذا الوقت، وهذه إحدى كراماتك المحبّبة. 

 

أُحبّك رفيقي بوسطة! ولا أجد أمثالاً لك لأعوّض بهم عن هذا الحب الغائب، فقد جمعتَ فيك: الصحافي والمناضل والمثقف والكاتب وبسطة في الخُلُق، جعلتك قريباً من الجميع بتفاوت أجيالهم وتوجهاتهم. قل لي: كيف أجد هذا المجموع في شخص غيرك، لأسلّي نفسي عنك، لقد محّضتنا تجربة 14 فبراير حتى ما عاد شرف الكلمة مجموعاً في شرف إنسانيتنا، بل صارت مومساً يلعب بها صبية لا شرف فيهم ولا ثقافة لهم ولا كرامة تعصم ضمائرهم. 

قل لي كيف أجتاز هذه الغربة والوحشة وبيني وبين رفقتك شياطين الكلمة؟!

 

لرواية الوهابية التي لا يعرفها محمد بن سلمان

 

photo_2018-05-02_13-00-41

علي العلوي*

ينبغي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي صرح في حواره الأخير مع «الأتلانتك» أنه لا يعرف أي شيء عن الوهابية، أن يقرأ كتاب «إله التوحش» (2016 ـــ مركز أوال) للباحث والناقد علي الديري. هذا الكتاب يوثق رحلة الوهاب من العينية حتى الدرعي، ثم لقاءه بمحمد بن سعود عام 1745، ويدفع قارئه للتساؤل عن أساس فكرة عبد الوهاب، وعن أهداف دعوته السياسية.

لا يخرج الكتاب عن الرواية الرسمية السعودية المأخوذة من المؤرخيْن: ابن غنام الذي رافق عبد الوهاب في دعوته، وابن بشر الذي وثق قيام الدولتين السعوديتين الأولى والثانية في كتابه «المجد في تاريخ نجد». بحسب الرواية، كانت الدرعية لا تزال حيّاً فقيراً لا يتجاوز عدد منازله السبعين، عند وفود عبد الوهاب إليها. إلا أنها غدت بعد بروز دعوته وتحالفه مع محمد بن سعود، مكاناً يطفح بالبذخ، يزيّن فيه الرجال أسلحتهم بالذهب والفضة.

تذكر الرواية أيضاً أن الدعوة الوهابية كانت قائمةً على التوحيد والغزو، وأن عبد الوهاب الذي صنّف كل من ادعى معرفة الإسلام والتوحيد قبله «كاذباً ومفترياً»، هو سليلٌ للنبي في رسالته ومسيرته، وحتى في تحمله للأذى ونزول الوحي عليه. لاحقاً، يوضّح الديري في كتابه أن تفسير عبد الوهاب لمفهوم التوحيد يختلف عن تفسيرات غيره من علماء الدين. إذ إن التوحيد لديه يكمن في الاختصام مع عباد الله، قبل أن يختصم الله معهم، وأن الجسر الوحيد الذي يصل المؤمنين بربهم هو الطاعة.
الطاعة هنا، لم تعد طاعةً للخالق فقط، إنّما طاعة لعبد الوهاب والسلطة السياسية المتمثلة بآل سعود. هذه الاستراتيجية، هي التي مكنت عبد الوهاب في غزواته التي وصفها ابن بشر بأنها «أينما سلكت ملكت وأينما حلت فتكت وسفكت»، بعد سنتين من ولادة دعوته.
يسترسل الديري في شرح هذا المفهوم: «قد تبدو مفاهيم الانقياد والاستسلام والطاعة لله من الناحية النظرية صحيحةً ومسلّماً بها في تعريف الإسلام، لكن حين نعاينها في تطبيقها العلمي، فإنها تستحيل إلى استسلام آخر وطاعة أخرى وبراءة أخرى لغير الله، إنها استسلام إلى مفهوم التوحيد كما صاغه محمد بن عبد الوهاب، وطاعة للجهاز التنظيمي الذي أنشأه في دولة الدرعية، وصار في ما بعد جهازاً يحدد مفهوم الإسلام وتطبيقه الصحيح». تأسست الدولة السعودية الأولى (1745-1818) على فتاوى التكفير: فإما أن يكون المرء موحِّداً يغزو، أو كافراً يُغزى. هذا الأمر أنتج تاريخاً أُحادياً، وهوية لا تقبل التعدد. يسأل الديري عن رواية الأطراف الأخرى كالشيعة، الإسماعيليين، والمتصوفين، أو حتى المذاهب السنية المعارضة للدعوة الوهابية. ويعتبر أن الدولة السعودية فشلت في تطوير عقد اجتماعي حتى هذه اللحظة «الذين كانوا أعداء للدعوة وللدولة هم أيضاً أعداء للدعوة وللدولة اليوم، بل إن الذي لا يعتنق عقيدة الدولة في التوحيد هو خارج المواطنة ويقام عليه الحد الشرعي». ومن اللافت أن الديري لم يعتبر الممارسة العنفية التي رافقت تأسيس الدولة السعودية حالةً خاصة، مستدركاً بذلك ما توصّل إليه الكاتب والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان حين قال: «وقائع العنف حصلت في بدايات كل التشكيلات السياسية». لكن المختلف في هذه الحالة، هو عدم تخلي المملكة السعودية عن العنف، بل تشريعها له كصيغة للمواطنة عن طريق الوهابية. يقول الباحث في هذا السياق: « لم يعد يكفي قول لا إله إلا الله للتوحيد، ولا الإيمان بذلك، لتكون موحداً، وبالتالي مواطناً يصان دمك وعرضك ومالك عليك أن تنضم إلى جيش الدرعية».
إن استراتيجية عبد الوهاب، على رغم نجاحها، تحمل مفارقة كبيرة. حين كان هذا الداعي يوعز بمحاربة «المشركين» كالحنابلة وغيرهم من طوائف المسلمين، كان أيضاً يطالب بطاعة آل سعود كأنهم «آلهة مفترضة». وقد أكد ذلك الديري عندما ذكر: «هذا ما فعلته الوهابية باسم التوحيد، حولت ولي الأمر وسلطته وأجهزة حكمه إلى خالق، يجب طاعته والامتثال لأمره والقبول بالمعنى الذي يعطيه للدين واعتبرت الخروج عنه أو عليه أو الاختلاف معه هو الكفر ودونه القتل».
مع تعاظم نفوذ آل سعود، أصبحت الوهابية أداة تتحكم بالدين بحسب إرادتهم. وتحولت معها الزعامة إلى دولة، والمشيخة إلى مؤسسات، كما حال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما هيئة كبار العلماء التي يعينها الملك، فباتت ممثل دين الدولة الشرعي. لذلك بتنا نجد أن المؤسسة الدينية التي تحرّم التقارب بين الأديان مثلاً، هي نفسها التي تبيح التمثيل الدبلوماسي للدول الغربية في السعودية، وتبرر تعاونها مع «جيوش الكفار» في حرب الخليج. وعلى المنوال نفسه، نرى فتاويها حول سياقة المرأة مثلاً تتراقص بين الإجازة والمنع، بحسب ما يقتضيه الموال السياسي.
يتيح لك «إله التوحش» أن تفهم الأدوار ومتغيرات المرحلة، وأن تستوعب الفكرة الوهابية من متنها. في ضوء كل ذلك، ستدرك أن ما يجري الترويج له اليوم في السعودية على أنه إصلاح وعودة للإسلام المعتدل، ليس إلا إعادة تموضع للمؤسسة الدينية الوهابية في السعودية، وتجديد للفتاوى لتتكيف مع المزاج السياسي الجديد وتصبغه بالشرعية. هكذا يصبح نافذاً وواجباً للطاعة، ويكون هو التوحيد ودونه الكفر.
* ناشط بحريني.

 

رابط الموضوع

«نسيج العمامة» أم نسيج وحده؟

4 

نسيج العمامة
حسين المحروس
المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2018

هو نسيج وحده، لا عمامة تشبه عمامته، هادئ تماماً من فرط الاطمئنان، لا تزلزله غير الكتابة، أخلص لها وحدها، اعتبرها أنثاه الوحيدة والأخيرة. النساء في حياته متعددات وهو لهن بقدر ما يهبنه خلوة الكتابة، الدرس الأول الذي يجب أن تتعلمه المرأة الجديدة في عالم السيد هو كيف تدخل عليه وقت الكتابة، أو بالأدق كيف تتركه في خلوة الكتابة، شعاره «الكتابة أحلى عندي من فتاة بكر في ليلة زفافها، أظل أكتب فلا أتوقف حتى يضطرب القلم في يدي. هذه علامة الوقت عندي».

فقد أمه وهو ابن سنتين وستة أشهر، فظل «يحن إليها حنين الشيء إلى نفسه» راح يبحث عنها في مياه ينابيع ماء البحرين الغزيرة، أخذ يلاحق صورتها المتخيلة في الماء المتدفق من عين قصّاري الشهيرة حيث النساء يجلسن على حواف جداول العين يمارسن طقوس الحياة بأشكالها المتعددة، لا بد من أن أمه جليلة بنت علوي القاروني القادمة من نهر الفرات وجدت في هذه الجلسات ما يأنسها ولا بد أنها باحت لماء البحرين بشوقها لماء الفرات، فأخذ سرها معه.

فقد أباه وهو ابن تسع سنين، عاش اليتم مبكراً من الجهتين، ورث نسيج عمامة أبيه، لكنه خرج عليه، هو وحيد أمه وأبيه، ولا بد أن يكون وحيد نسيجه، فقد أعطاه اليتم المبكر حرية أوسع، وأعطته التجربة زمناً أرحب.
ذهب الهند بتوصية من مستشار حكومة البحرين بلجريف، ليعود قاضيا مكان أبيه الذي تولى ثلاث مهمات دفعة واحدة: إدارة أموال القاصرين والأوقاف الجعفرية والقضاء.

فُتن السيد بمباهج الحياة وألوانها منذ طفولته، حين كان يتسلل من أبيه ليذهب مع ابن شعبان فوق حمارته إلى مدنية المنامة القريبة من بيتهم في بلاد القديم. هناك تعرّف أول مرة على الألوان والحياة بحركتها الدائمة في السوق، كسرت يده في إحدى المرات بعدما سقط الحمار أرضاً وسقط ابن شعبان فوق جسد الصغير، فافتضح أمره عند أبيه، فحظر عليه المنامة وحمارها لكن لم تُكسر رغبته، ظلت تشتعل حتى وجد امتداد سوق المنامة هناك في الهند في «لاكناو» حين وصلها في 1937 طالبا لعلوم آل محمد في حوزتها في مدرسة الواعظين. تعلم من خارج المدرسة الحياة من غير منهج، وتعلم من شيخه شيخ مدرسة الواعظين علي تقي بن أبي الحسن النقوي المنهج من غير حياة. فجمع في عقله وقلبه الحياة والمنهج. عاد البحرين مغموماً بعد سنتين بسبب الحرب العالمية الثانية حاملاً إجازة من شيخه «وإنه لشغفه بالعلم والبحث سيكون من علمائنا المحققين ورجال الدين المصلحين».

عاد مغموماً لأن ما تعلم هناك خارج المنهج لن يجده هنا، لقد تعلم كيف يوثق اللحظة في صورة، اكتشف سحر الضوء ولعبته، فراح يتعلم التصوير والتحميض، وعلى الطريقة الحوزوية راح يُدرّس ما تعلمه ويتعلم ما لا يعرفه، حتى إنه طلب من خادمه هناك أن يعلمه اللغة الانكليزية.

تعلم هناك خارج تقاليد المشايخ البحارنة في الحوزات الشيعية، كيف يركب دراجته النارية ويحرق بها نسيج برستيج رجل الدين، ويوم ضغت عليه الحكومة ليتسلم منصب أبيه في القضاء، وجد منجاته في دراجته، طار بها وسط ساحة المحكمة وأخذ يزمجر حارقاً هذه المرة هيبة رجل القضاء حتى اقتنع الجميع بمساعدة أستاذه الشيخ عبد الحسين الحلي أنه لا يمكن أن يكون قاضياً، فصار يجول بالدراجة نفسها قرى البحرين ومناطقها خطيباً للمنبر الحسيني رادفاً معه صانعه الذي يسقط به مرة ويخالف به قوانين المرور مرة أخرى مسجلاً لقب السيد أبو المخالفات المرورية.

لقد منح هذا السيد بما تعلمه سيرته حواساً، التقطها ناسج السير حسين المحروس، فاقترب منه دون أن يزعج خلوته الكتابية، قال له أريد أن أكتب سيرتك، فرد عليه السيد خذ هذا الكتيب الصغير فيه كل شيء من ترجمتي. قال له المحروس «لا يا سيد أنا أريد أن أكتب سيرتك،السيرة أكثر اتساعاً، في السيرة حركتك في المكان وحركة الزمان فيك».

لقد أبدع المحروس في كتابة حركة السيد في كل مكان مسّته حركته، مكان طفولته فقد جعل من عين قصّاري ماء سيرة، تروي تاريخ السيد وتاريخ بلاد القديم والمنامة والناس الذين عاشوا على ضفاف حركة مائها. وأبدع في كتابة حركة السيد في مكان دراسته في «لانكاو» حيث تفتح على مباهج الحياة، وفي مكان مكتبته حيث عالمه الرحب وعرشه المكين، وفي مكان محبرته حيث طاولته القريبة من الأرض إلى حد جلسته، وفي مكانه في بيت الياسمين حيث الحب فوّاح يدخل من كل مكان كرائحة الياسمين، لقد تتبع حتى حركة السيد في تسمية الأمكنة التي فيها أنفاسه: دار النسيم، دار الأرواح، دار الانشراح، دار المقام، دار السلام، دار البديع.

لقد اقترب كاتب السيرة من السيد كأنه راويتها، فإضافة إلى جلسات الساعة الثامنة التي كانت تجمع كاتب السيرة وصاحبها طوال سنوات، فقد لاحق المحروس حركة السيد في كل مكان وزمان، راح يبحث عن سيرته عند كلّ مصدر: زوجاته، أولاده، أحفاده، أقربائه، تلاميذه الصنّاع، مؤلفاته، دواوين شعره، دفاترها الصغيرة، خطبه المسجلة في أشرطة الكاسيت، مخطوطاته، ألبومات صوره الفوتوغرافية، ملحوظاته بخط يده خلف وأسفل هذه الصور، أصحاب الدكاكين والمحلات التي يعتمد عليها في تمويل منازله الأربعة وحاجياته اليومية كبائع الأغذية، الحلاق، وبائع الخضروات، بائع الأقمشة، وبائع الأحذية.

لقد أعيت هذه السيرة كاتبها طوال عقدين من الزمان، لم يزده تفرده المبدع بالسرد والتصوير إلا دهشة أكثر تجاه هذه السيرة «كلما تمادى [السيد] في السرد أخذني إلى ملامح سيرة رجل في أفق غير أفق الذين تصوروه. هذا الشخص المصنوع من هذا السرد أبعد بكثير مما في بالي من نسيج أية صورة».

رابط الموضوع على جريدة الأخبار

لماذا على كل بحريني أن يقرأ هذا الكتاب؟

[et_pb_section bb_built=”1″][et_pb_row][et_pb_column type=”4_4″][et_pb_text]

HDR_5076

*حصة بنت خميس

لماذا على كل بحريني أن يقرأ كتاب (من هو البحريني؟ بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929)، للكاتب البحريني المسقطة جنسيته علي أحمد الديري؟

لأن “ما مضى هو في المقدمة”، كما يقول شكسبير في مسرحيته “العاصفة”.

إذا كنت تسأل عن سبب عاصفة الحاضر، فابحث عن سرّ “ما مضى”. سرُّ العاصفة المدوّية التي لا تهدأ حتى تقوم كل عقد من الزمان. لا يمكن العبور إلى الحاضر ولا فهمه أو التعامل معه دون معرفة “ما مضى”.  فكيف إذا بقي الماضي من دون مواجهة تاريخية بين أطراف النزاع، وكيف إذا ظلّ عالقاً من دون اعتراف ومصالحة. وكيف إذا هو “لم يمضِ” إلاّ زمنياً فقط، وكيف إذا بقي الحاضر يكرر الماضي بأشكال مختلفة. كل ذلك يجعله في مقدمة الحاضر، لا خلف التاريخ. فهو أول ما يُرى، وأول ما تُعرف به العاصفة وتُقرأ، وهو ما يفسّر كل ما يحدث في الحاضر.

“من هو البحريني؟” كتاب يُقدم التاريخ الذي نجهله في الفترة بين عامي 1904 و1929، يقوله لا على لسان ذاكرة شفاهية متناقلة معرّضة للنسيان أو التضخيم، ولا وفق روايات نشكك أن خيالاً جمعياً مشحوناً صاغها بتحامل، بل عبر أرشيف ضخم للوثائق البريطانية، الأرشيف الذي وثّق كل ذلك التاريخ بتفاصيله الدقيقة، فيما الإمبراطوية الكبرى آنذاك، تعمل بحزم على إصلاح الأوضاع الداخلية لمستعمرتها الصغيرة، المشتعلة بالاضطرابات، حماية لمصالحها (بريطانيا)، وضماناً لأمن تجارتها، وشعارها “تجارتنا وسلامتكم”، تجارة بريطانيا ومصالحها وسلامة حكام المشايخ الخليجية.

إنه يضعنا في سياق السلطة السياسية الإقطاعية الحاكمة في ذلك الوقت (عهد عيسى بن علي)، وصعوبات إصلاحها، والتحول من مرحلة ما أسمته الوثائق بـ”اللاحكم”، إلى تأسيس إدارات الدولة من القضاء والبلديات، وإصلاح الميناء، وإعادة تنظيم قسم الجمارك، وإصلاح أمن السوق، وإنشاء قوة شرطة نظامية بدل الفادوية، وتعيين مستشار مالي للحاكم، والعمل على وضع موازنة الدولة وترشيد الإنفاق، وإصلاح المحاكم، والإصلاحات المتعلقة بصيد اللؤلؤ، ومسح الأراضي، والأشغال العامة، والتعليم.

إنها مرحلة الصراع من أجل تمكين الدولة من تكوين شخصيتها القانونية، ومحاولة فصل شخصية الدولة الاعتبارية عن شخصية الحاكم، وفصل جيب الدولة عن جيب الحاكم، وسلطة الدولة عن سلطة الحاكم. كيف فُرضت الإصلاحات السياسية في عام 1923 بالقوة وبموجب ما عبّرت عنه الوثائق البريطانية بـ”الإذعان” والامتثال للقرارات البريطانية، وليس برغبة الحاكم لمدة نصف قرن، عيسى بن علي، في الإصلاح.

يضعنا الكتاب في سياق ممانعات الإصلاح ومقاومتها، أسمتها الوثائق بـ”المكائد السياسية” التي مارستها المجموعات الممانعة للإصلاحات، وسعيها المستميت لإفشالها. تلك المجموعات التي وجدت في الإصلاحات إضراراً بنفوذها وسلطتها، وضياعاً لامتيازاتها التجارية والاقتصادية التي كانت تنعم بها دون مساءلة أو عقاب.

يأخذنا الكتاب إلى سؤال يبدو بدهياً تماماً: “من هو البحريني؟”، لكنّ ولادته لم تكن كذلك، بل محاطة بصراعات سياسية مريرة وطويلة. كيف ولدت شخصية البحريني القانونية؟ كيف أصبح له جواز سفر في عام 1929؟ يأخذنا الكتاب إلى الصراعات التي خاضتها القوى السياسية ليولد هذا البحريني، ليكون هناك قانون يسمّيه ويعطيه هوية ويحميه، إلى العرائض التي واجهت المظالم لتنشأ عدالة قانونية، ويتم الاعتراف بأبناء الوطن بشراً متساوين يخضعون لقانون واحد، ومحكمة واحدة وحكومة واحدة وشخصية اعتبارية واحدة. الإصلاحات التي لم يكن بدّ منها بعد أن وجدت بريطانيا أن الأمر وصل إلى حد ما أسمته بـ”الفضيحة”، فكان ذلك ملزماً لها بالمضي في إصلاحات تعطي (البحريني) حقاً وتمنع عنه ظلماً.

إننا أمام تفاصيل متأنية تروي كل هذه “المقدّمة”، لا بتناول تاريخي جاف، بل بطريقة روائية سلسة، تشعر معها وكأنك أمام مشاهد حيّة لفيلم متحرّك أكثر إثارة من سيناريو متخيّل، وأحداث أكثر إدهاشاً في كثير من الأحيان.

“ما مضى هو في المقدمة”، لقد نُقشت هذه المقولة على أحد مجسمات متحف الأرشيف الوطني الأميركي. فأرشيف كل دولة هو مقدّمة لحاضرها، وهو سرّ تقدّمها أيضاً. ومقدّمة الكتاب تقول أهم ما فيه، بل كل ما فيه. لقد صارت “مقدمة” ابن خلدون كتاباً لوحدها، وصارت أشهر من مؤلّفه الضخم الذي كتبها تقديماً له.

يمكن القول تجاوزاً، أن كتاب “من هو البحريني” بمثابة “مقدمة” مكثّفة، غنية، لأجزاء الأرشيف البريطاني الستة الضخمة المترجمة والصادرة مؤخراً عن مركز أوال للدراسات والبحوث. أقول تجاوزاً، لأن الكتاب يحفر عميقاً في قراءته لهذه الوثائق، وفي تناول إرهاصات الإصلاح وبناء الدولة خلال تلك الفترة، وفي الوقوف عند صراعات الجماعات السياسية ومواقفها تجاه تلك الإصلاحات. إنه الكتاب التي يحتاجه كل بحريني لمعرفة تاريخه الغائب، وهو مقدمته لفهم واقعه الحاضر. باختصار: ما مضى، تجدونه في هذه المقدمة.

الميادين: رابط الموضوع

[/et_pb_text][/et_pb_column][/et_pb_row][/et_pb_section]