الميدان يستعيد صورته

عندما شاهدت أماسيل (10 سنوات) صورة غاندي مطبوعة على الورقة النقدية الهندية، كان سؤالها بديهياً: «ليش، ما عندهم ملك؟»، ليأتي الجواب: «لأن ليس لديهم ديكتاتور». تحرّرت الورقة الهندية من صورة الديكتاتور، بعدما أسقطه نضال غاندي للديموقراطية. ويوماً ما، ستسقط الديكتاتورية من أوراقنا النقدية، وتحل محلها صور الذين حررونا منها، وحينها سنعرف كلفة التحرير الباهظة. المصورون، كما الكتّاب والشعراء، ارتبط معظم تاريخهم ببلاط السلطان، كانوا صوته وضوءه وإيقاعه، ولم يتحرروا منه إلا حين تحررت ميادينهم العامة، فصار عندهم بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة).

متابعة قراءة الميدان يستعيد صورته

جدتي سلامة سلوم

2013-04-26-115900.jpeg
علي ولد سلوم*
“إنها زهرة في حديقة الله، خسارة لنا ومكسباً للجنة”
جدتي (سلامة) التي وسع قلبها كل العالم، انتقلت إلى سعة الله.ما أضيق الأشياء بعدك، وما أوسع الأشياء معك.
كنتُ الأقرب لقلبها ولم أكن الأبر بها، الأبعد عن سماع أنفاسها الأخيرة وهي الأكثر انتظاراً لإسماعي إياه، ظلت تنتظرني كثيراً، أعدها أن الأيام المتبقية قليلة، ولم أكن أعلم أنها تقيسها بقلبها كما اعتادت أن تقيس كل شيء، كنت أظنها تبالغ في أثر بعدي على قلبها ومرونته على تحمل الأذى، وهي التي تحملت كل مصاعب الحياة. ظلت تجمع العملات المعدنية، تعدها لفرحة رجوعي، لست أدري كم فيها من فئة الدوار(500 فلس) لكني أعرف أن فيها لؤلؤة قلبها التي تدور بحثاً عني.
لم أفارق حضنها حتى مرحلتي الجامعية، حرمتني شيئاً واحد فقط، وهو الشعور بنداء كلمة (جدتي). لم تتركي لي مجالاً لأعرف الفرق بين الأم والجدة، لا وصفا ولا اسما ولا إدراكاً، في دلالها المفرط لي، وجدت أن اسم (جدتي) لا يُدرك ولا يوصف. لم أعرف أن أناديها يوماً بغير كلمة (أماه).
كنت حفيدها الأول، بعد أن أجهضت أمي مرتين بتؤم، جئت محفوفاً بأحجبة وأحراز وطقوس وأضحية، لا يعرف تفاصيلها غيرها والحاجية مريم جان.نذورها الكثيرة ظلت تحفني بها، وكأنها مراسم احتفال تجددها في كل مناسبة، لتطمئن أن الحياة التي مُنحت لي، ستظل للأبد. هي الآن في أبديتها البيضاء، تحفها ملائكة الرحمة، والأكيد أنها ستسأل عن رفيقاتها اللاتي كنّ رفيقاتي حيث مأتمها ومجلسها اللصيقان ببعضهمها كما الفرح والحزن لصيقان بها، تغلّب الأول دوماً ولا تذلل الثاني ليصير فرحاً آخر، هي هناك في الأبدية البيضاء مع صديقات الزمن الجميل: مريوم وصفوي وزهيرة وشروف. رحلنْ قبلها واستوحشتْ هي الدنيا بعدهن، آن لهن أن يفتحن هناك مجلس أنسهن من جديد مرحبات بها، وعلى طريقتهن في تدليلها، لابد أن ينادينها: سلامة سلوم.

كانت تتسلى في انتظارها لعودتي لوطن حضنها، بأن تحدث قائمة المدعوين لحفل عودتي، وحين يقترب منها اليأس، تلجأ للحلم، فتجدد أملها بأن تحكي لأمي كيف رأت عودتي في نومها، لكنها لا تذكر أنها كانت تحلم، هي تحكي الحلم في صيغة الحقيقة الواقعة. وتمعن في واقعيتها بأن توجه بعضا من عتبها إلى من قصروا في الحضور أو إلى من قصر في دعوتهن أو القيام بأصول ضيافتهن.

في الصف الاول ابتدائي دخلت نوبة بكاء حادة فوق الكرسي المدرسي ولا أحد كان يعرف سببها، المدرس ظنها وحشة اليوم الأول في المدرسة، في حين أنها كانت وحشة تخيل اليوم الأول بدونها. كنت أتخيل إمكانية أن أفقد جدتي وأنا بعيد عنها في المدرسة. كنت أرى في هذا البعد فراقا يدعوني للبكاء بحرقة. اليوم أجد في كل هذا البعد القاسي موتا آخر، يضاعف من فداحة فقدها. لا أسترجع الآن لحظات ذاك الطفل بقدر ما أسترجع الطفل نفسه في أشد لحظات الفقد وشدائدها. ما أوحش اليوم الأول دونها!

ما كان لي أن أكبر قبل رحيلها، اليوم فقط أشعر أني لم أعد ذلك الطفل الذي يتخطفه خوف أن يفقد أمه سلامة، ما أوحشه من يوم!

جدتي كانت تبصم لأنها لا تكتب. وفي علاقاتها كانت تبصم بقلبها، وأنا تعلمت منها ذلك. وهبتني كل جميل في قلبها، محبة الناس، الاحتفاء بهم، السعادة بالأشياء الصغيرة. تصغير كبائر الأشياء، الاقتراب من الأشياء لتلطيف قسوتها، الاحتفاء بالحياة، إدخال السعادة على الآخرين، إدخال الفرح أولا وأخيرا. ضحكتها التي تملأ مأتمها فتحيله مكان فرح أكثر منه مكان حزن. أن تحسب بقلبك وكأنك لا تعرف الحساب.

* التسمية التي كان يعرفني بها بعض الأصدقاء.
هوامش:
مأتم بنت الحايي.. مأتم حجي طرار
مايو 21st, 2007 بواسطة د.علي الديري

مأتم بنت الحايي.. مأتم حجي طرار

مأتم جدتي والمخيلة الكربلائية
يناير 17th, 2008 بواسطة د.علي الديري تحرير |

مأتم جدتي والمخيلة الكربلائية

ليلة الرابع من المحرم..مجلـــــس مــآتـــم الحــــاج طـــرار
مايو 21st, 2007 بواسطة د.علي الديري تحرير |
 https://awalcentre.com/Aldairy/?p=59
 

تحية إلى التشكيلي البحريني عباس يوسف

 

p13_20140116_pic3

 

هناك من مرسمه المعتّق بكل شيء، يبعث عباس يوسف تحاياه الفنية إلى كل الأصدقاء القابضين على لونهم الإنساني. أضحى هذا اللون باهتاً، لا نضارة فيه، لفرط ما استهلك. كل شيء يحيط بنا صار يأخذ من لوننا الإنساني، الأنظمة السياسية أخذت منا كرامتنا، والثورات العربية أخذت منا تسامحنا، صرنا كائنات طائفية بامتياز. يعيدنا عباس يوسف إلى اللون الإنساني، لون التحية، فالتحية تتحول إلى حرب كما جرت العادة بين الفنانين والمبدعين المجايلين لبعضهم، لكن التشكيلي والخطاط عباس يوسف، يجعلها علامة سلام وتقدير ووفاء ولون عاطفي.

تحيته في معرضه «البحر حين يسهو» (2002) إلى المبدع أمين صالح، وتحيته إلى الفنان البحريني الراحل ناصر اليوسف في «كليم اللون» (2009) وتحيته إلى رفيق لونه جبار الغضبان عام 2011.
يفتتح سبت كل أسبوع ببطاقة جميلة، هي لوحة تشكيلية، يوقعها باسم تحية إلى أحدهم. صارت وسيلتي الخاصة التي أتعرف من خلالها إلى الفنانين والكتاب والنشطاء في كل الحقول. أعرف أنه لا يرسل تحيته في الغالب إلا لمن يستحقها، لأنه ضنين بتحيته على أولئك الذين فقدوا ألوان إنسانيتهم من المثقفين والفنانين. تجد في تحاياه شخصيات مختلفة في مواقفها السياسية، لكنها مؤتلفة إلى حد كبير في ألوانها الإنسانية.
في معرضه الذي افتتح أمس في «صالة الفنون التشكيلية» في البحرين، وجّه تحيته إلى الخطاط عبدالإله العرب. الخطاط البحريني البعيد عن الأضواء، هو واحد ممن خطوا دستور البحرين 1973. كتبه بدمه قبل حبره، فهذا الدستور يحمل نضالات شعب البحرين المبكرة في المطالبة بحياة سياسية حرة وكريمة. هي تحية إلى هذا الدستور أيضاً، فاليد التي كتبته تستحق أن يُحتفى بها.
دستور 73 عزيز على قلوب البحرينيين بمختلف ألوانهم. هو أول وثيقة أجمعوا عليها، وكم دفعوا من ثمن بعد تعليقها وحل البرلمان في 1975، حتى ظنوا أنهم استرجعوها في لحظة غادرة في 2001، قبل أن يفاجئهم الأمير بدستور جديد في 14 فبراير2002، يعلن فيه أنه ملك، ملك لكل شيء، لا سلطة خارج قبضته، كتموا غيضهم وراحوا يغلون حتى انفجروا في 14 فبراير 2011.
هي تحية أيضاً إلى إلى هؤلاء الذين يناضلون من أجل إسقاط هذا الدستور المنحة للعودة إلى لحظة ما قبل دستور 1973 حيث المجلس التأسيسي المنتخب لكتابة دستور البحرين.
«جحيم يسمونه بلاداً» اللوحة التي وجدها عباس يوسف أكثرا تعبيراً عن حال بلاده، مررها بطاقة دعوة لأصدقائه عبر الفضاء الإلكتروني. هي جزء من ديوان الشاعر قاسم حداد «قبر قاسم» الصادر في التسعينيات، حيث كان عقد البحرين المرّ، أو ما عرف بانتفاضة التسعينيات التي كان مطلبها العودة إلى دستور 1973. ما يؤلمني اليوم يا صديقي عباس، ليس ألا أصل إلى معرضك، بل ألا أصل إلى اللحظات الأجمل، لحظات ما قبل المعرض، لحظات تشكيلك للوحة، هناك حيث مرسم «رباب»، حيث الطاولة البيضاء وطننا المشترك، نشرب عليها قهوة رباب الفائقة الأناقة، تدفق أنت عليها ألوانك وأبسط عليها كتبي، ونمرر جمل ابن عربي، فتصير لوحات وخطوطاً وألوان وعدسات المحروس تلتقط كل ذلك. كيف غدا بيني وبينها جحيماً لا يُمكّنني من الوصول إليها؟
الجحيم يا صديقي صار لون بلادنا الذي افترس كل شيء، أقرأ في بطاقة معرضك المطبوعة لوحة جلال الدين الرومي «اللون افترس انعدام اللون»، أتذكر كيف طِْرتَ أنت فرحاً بها حين مررتها إليك ذات «واتس آب»، لكني أتذكر أكثر كيف كنتُ أنا أتألم لأني لم أكن على الطاولة البيضاء نفسها لنضرب عليها معاً فرحاً باكتشاف ضوء جديد من أضواء الرومي.
وهناك حيث مرسم «عشتار»، حيث صديقنا الفنان الرائع جبار الغضبان والأصدقاء الذين يعبرون بتحياتهم، فيما أنت وجبار تعبران بألوانكما ومكبس الغرافيك الساحر، تحكيان قصص نضال البحرينيين في السبعينيات في المنافي التي لم نفكر لحظة أنها ستعود. تحية إليك صديقي، وتحية إلى جدران مرسمي «رباب» و«عشتار» التي كتبنا عليها «أخاف إنساناً لا يقرأ الشعر».

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

رابط الموضوع: https://www.al-akhbar.com/node/198712

هل يعتذر تلفزيون البحرين؟

 

bahrain tv

 

ليس جديداً أن يضع النظام البحريني خصومه في موقف الإعتذار الإضطراري. فعلها مرراً، وبروح التشفي القبلي يفعلها كثيراً، وهو يرى في هذا النوع من الإعتذار شكلاً من الإخضاع والتأديب والشعور بالإنتصار.

جاء اضطرار اعتذار المدير العام لقناة «المنار» عبدالله قصير عن تغطية الاحتجاجات في المملكة بعد تهديد البحرين عبر «إتحاد إذاعات الدول العربية» بسحب عضوية «المجموعة اللبنانية للإعلام» (قناة المنار وإذاعة النور) منه، الأمر الذي يقود إلى منع بثها على قمري «عرب سات» و«نايل سات».

مادام الأمر يتعلق بالاعتذار، والمهنية والموضوعية والتلفزيون، فمن المفيد أن نسرد شيئاً من أرشيف الاعتذار وتلفزيون البحرين.

في 2011، في سعير قانون الطوارئ، أُجبرت الشاعرة آيات القرمزي، وهي في السجن، على الاعتذار أمام كاميرا تلفزيون البحرين،، بعدما «تفننت» المخابرات البحرينية (جهاز الأمن الوطني) في إذلالها وتعذيبها، وراحت القناة الرسمية تمعن في الاستخدام المهين وغير المهني وغير الأخلاقي لهذا الاعتذار. مع ذلك، لمتنكسر آيات، ومازال الناس يرددون قصيدتها، ويرفعون صورها، ويحتفلون بها في محافل الثورة وميادينها. صارت رمزاً رغم إذلال الاعتذار. وبقدرته الباهرة، حوّل جمهور الثورة آيات إلى رمز واعتبروا اعتذارها عاراً على الملك حمد بن عيسى آل خليفة وتلفزيونه.

في سياق قانون الطوارئ البحريني 2011، حاكم تلفزيون البحرين عبر برنامجه الرياضي «حدث خاص»، الرياضيين الذين شاركوا في مسيرات احتجاجية، وحقق معهم علناً ومباشرةً بشكل مذل ومهين، ووضع صوراً تُظهر مشاركاتهم، وأحاط وجوههم بدوائر حمراء مع كتابة أسمائهم، مطلقاً عليهم تهمة «الخيانة»، وواصفاً إيّاهم بأشبع النعوت. وطلب من الرياضيين تقديم الاعتذار الذي لن يقبل منهم، كما اعتقلوا بعد أقل من 48 ساعة من انتهاء البرنامج، ونكل بهم بشتى الوسائل.

ما زال تلفزيون البحرين أداة إذلال بيد السلطة. قبل عام، خيّرت الإستخبارات البحرينية موقوفي «سجن الحوض الجاف» (أحد سجون البحرين الشهيرة) بين تقديم اعتذار أمام الكاميرا للملك يناشدونه فيه بالإفراج عنهم أو سيتم ضربهم. وفي شهادتها قالت زينب الخواجه (مازالت سجينة رأي) إن السجناء الذين رفضوا تسجيل الاعتذار تم ضربهم بشدة وتم نقلهم للمستشفى وبعض الموقوفين الذين وافقوا تحت الضغط على الاعتذار، تم إخبارهم بأنه سيتم الإفراج عنهم إذا قالوا أمام الكاميرات إنهم يطالبون مسامحة الملك.

التلفزيون نفسه في العام 1999م، أجبر الراحل الشيخ عبد الأمير الجمري، وبشكل مفاجئ، على الاعتذار أمام الملك الذي كان يجلس على كرسي العرش باحثاً عن لحظة تشفي. أراد أن يجعل من الاعتذار أداة انكسار، غير أن الناس لم يمنحوا الملك ما أراد، بل تلقفوا الجمري وأجبروا كسيرته ليعبروا بها إلى حيث 14 شبط (فبراير)2011. وهو ما جعل السلطة نفسها تهدم قبره في 2011 إلى جانب ما يفوق 38 مسجداً شيعياً من دون أن تعتذر أمام أحد.

التلفزيون نفسه، حوّل إدانة تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية (تقرير بسيوني) إلى مناسبة احتفالية تسجل ضمن إنجازات الملك. وبدل الاعتذار عن الإنتهاكات التي سجلها التقرير الدولي، راحت الشاشة الرسمية تضاعفها وتعري الضحايا من كرامتهم.

في البحرين، الإعتذار عن الموقف والرأي والإحتجاج السياسي، لا يهدف إلى فتح صفحة جديدة، بل إلى إخضاع المحتج لبيت الطاعة والولاء. وهو لا يتم على قاعدة «عفا الله عما سلف»، بل على قاعدة التشفي والانتقاموالقصاص غير العادل.

نحن نعتذر عن واجب لم نقم به، أو خطأ وقعنا فيه، أو إساءة اقترفناها بحق أحدهم. لكن في البحرين المطلوب أن تعتذر عن رؤيتك السياسية التي لا تتفق مع تلفزيون البحرين وملكه. وهذا ما كان مطلوباً من «المجموعة اللبنانية للإعلام». فهل يجبر لها الشعب البحريني اعتذارها، كما جبر ضحايا تلفزيون البحرين؟

 

رابط الموضوع: https://www.al-akhbar.com/node/196654

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

مخطوطات مكتبة السيد المرعشي.. آغا (واسطي) المخطوطة الناطقة

أخيراً، وصلت مكتبة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي(1990-1897)العالمية، منذ 1988 وأنا أنتظرها، كنت قد حلمت بزيارته منذ قرأت عنها في كتاب فهمي هويدي (إيران من الداخل) في المرحلة الثانوية، وتخيلت عدد الكتب التي تضمها، ظللت أتحدث عنها بإعجاب دون أن أراها. محملاً بأفق الانتظار العجيب دخلتها، ولم تكسر أفقي، لكن كان هناك شيء آخر كسر هذا الأفق بشكل إيجابي ضاعف من جمالها في داخلي، إنه مسؤول قسم المخطوطات في المكتبة، الأستاذ واسطي.

يتحدث وكأنه مخطوطة من هذه المخطوطات، وذلك لفرط الحميمية التي يتحدت بها عن هذه المخطوطات وللحماسة التي كان يبديها في تعريفنا بالطريقة التي جمع بها السيد المرعشي هذه المخطوطات، كل ما فيه كان ينطق: عينه وصوته وحركات يده ونبرات حروفه وسكتاته وتنقلاته بين رفوف المكتبة. بدت المترجمة الشابة الأهوازية سحر، مأخوذة أيضا به، وهذا ما أعطى لترجمتها حرارة كانت تستمدها من حرارة روحه التي بها ينَطق ويُنطق كل شيء. بعد أن عرض لنا المخطوطات القرآنية التي تمتد من القرون الأولى الهجرية مروراً بفترة الحكم الصفوي بإيران وحتى العصر الحديث، وقف في نهاية الصف ينظر من آخر مخطوطة إلى أول مخطوطة، وهو يقول: هل رأيتم حرفاً تغير من مكانه؟ عجباً كيف يتهمنا بعضهم بتحريف القرآن، ونحن حافظنا على جمال حروفه وجلال معناه بكل هذا الحب؟ ثم يصمت، ليدهشك بمخطوطات مقدسة أخرى، مخطوطات لكتاب الزبور وكتب الأديان الشرقية، يتحدث عنها باحترام شديد، ثم يقف برهة، وكأنه يخطب فينا: هل تعرفون الشبه بين الإنسان والكتاب؟

يسأل بحماسة من يهيئك لجواب عجيب، راح يسرد وكأنه أحد تلامذة أفلوطين الذين يرون العالم إنسانا كبيرا. ليست المخطوطات أشياء عند (واسطي) بل هي كائنات، هي إنسان له ظاهر وباطن وعنوان وأسرار وشكل وعمر وأمراض وغموض ووضوح وتاريخ وأصل وفصل.

هناك 37 ألف مخطوطة في المكتبة، تحمل خطوط العلماء الذين كتبوها وعرقهم وآمالهم وتشوفاتهم وعصارة قلوبهم قبل عقولهم.يتوقف (واسطي) لحظات قبل أن يقول لنا، أرجوكم اسمعوا مني ما سأقوله، وستتمنون لو تكونوا مخطوطات مثل هذه المخطوطات التي ترون الآن ظاهرها.هل تعرفون كيف جمع السيد مرعشي هذه المخطوطات؟ قلت في نفسي أكيد من أموال الخمس التي توفرت لديه. خجلت من نفسي لهذا الجواب المتسرع.قال (واسطي): انظروا إلى البطاقات المكتوبة جنب المخطوطات.

تأملت في بطاقة مخطوط مكتوب عليها، كتاب (الطرائف) رضي الدين علي بن طاووس، مقابل ختم القرآن.

كان السيد المرعشي في بداية مشروع جمع المخطوطات لا يملك المال الذي يمكنه من شراء المخطوطات، فيقوم بأعمال عبادية بالنيابة عن آخرين(ختم قرآن، صلاة نيابة، صوم نيابة)مقابل مبلغ مالي يجمعه لشراء مخطوط ما. كان يسجل فوق كل مخطوط الطريقة التي دبر بها قيمته. تشكل هذه البطاقات تاريخ العلاقة الشخصية الحميمة بين السيد المرعشي ومخطوطاته. لقد تسرب هذا العشق الذي ترك آثاره السيد على المخطوطات، إلى أمين المخطوطات السيد واسطي، فأكسبه طاقة الحب الذي يتكلم من خلالها عن هذه المخطوطات.

عرفت من خلال أمين المخطوطات، أن السيد تنبه إلى أهمية المخطوطات، وأنها كنز ثمين، من خلال المستعمر البريطاني الذي كان يشتري هذه المخطوطات ويرسلها إلى مكتبة لندن، وهناك ترقد آلاف المخطوطات.

إحدى أكثر القصص المشهورة حول علاقة السيد مرعشي مع مخطوطاته، هي حكايته مع مخطوط كتاب (رياض العلماء وحياض الفضلاء). كنت قد قرأت عن هذه المخطوطة في كتاب كولون تيرنر (التشيع والتحول في العصر الصفوي) والكتاب عنوانه في الأصل (إسلام بدون الله. فقد رجع (تيرنر) إلى هذا الكتاب في الفصل الرابع المخصص للحديث عن (العلامة المجلسي: البراني الأمثل) لكني لم أعرف حكاية هذا المخطوط إلا في هذه الزيارة للمكتبة التي بفضلها تمكن السيد أحمد الحسيني المحقق الفذ من إخراجه في7 مجلدات.

يقول السيد مرعشي: في 1921 خرجت يوماً من مدرسة (قوام) التي كنت أسكن فيها، فالتقيت امرأة تريد أن تبيع كتاب (رياض العلماء) للعلامة الميرزا عبدالله أفندي بخمس روبيات فعرضت عليها مائة روبية. وإذ برجل يشتري الكتب القديمة للحاكم الانكليزي يزايدني عليه، لكن المرأة لم ترضَ أن تبيعه. عادت معي إلى المدرسة، فبعت بعض الأغراض واقترضت من زملائي وسددت المبلغ. وبعد ساعة جاء الرجل مع الشرطة يتهمني بسرقة الكتاب، فسجنت ليلة وفي اليوم التالي أجرى عالمان مباحثات مع الحاكم وانتهت إلى إخراجي من السجن بشرط تسليم الكتاب إلى الحاكم بعد شهر. عدت إلى المدرسة وطلبت من زملائي نسخ الكتاب وأنهوه قبل المدة. فذهبت إلى شيخ الشريعة وأخبرته عن أهمية الكتاب، وبقي عنده حتى تنتهي المدة. لكن الحاكم قتل بهجوم شعبي قبل انتهائها. وبعدها انتقل الكتاب إلى ورثته، أما النسخة التي عندي فقد استنسخ منها 12 نسخة.

تكملة قصة هذا الكتاب الموسوعة، سنجدها عند السيد أحمد الحسيني الذي حققها وفهرس مكتبة السيد مرعشي، وكان محل ثقته.

مدونة الباحث د.علي الديري