حوار مع حازم صاغية2

الدولة هي الأمة ولا مبرر لوجود «وطن عربي» أو «أمة عربية» 3-2

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:

في مطلع الثمانينات كان حازم صاغية واحداً من بين جمهرة شبان يافعين ممن أطلقوا قبضاتهم في الهواء هاتفين بحياة ثورة إيران الخمينية وحياة قائدها الروحي روح الله الخميني. لكن زخم الهتاف لم يدم طويلاً، إذ لم تكد تنقضي أشهر قليلة حتى كانت القبضات تتراخى تحت وطأة انكسار أفق التوقع وسرعان ما أتى الطلاق. الأمر نفسه كان من نصيب تطواف له سابق على ذلك – وهتافات وقبضات حماسية لقائد شعبي يروح وقائد يجيء! – حَرَثه ما بين الورشتين البعثية فاليسارية. الآن، فإن قبضات حازم لم تعد تهتف بشيء. قال ”انتهت الخرافة.. الشعوب ليست عظيمة، إنها أسوأ من الأنظمة بكثير”. حديثاً جداً عاد ليستقرّ في عاصمة بلده (بيروت) بعد إقامة طويلة دامت نحو العقدين في مدينة الضباب (لندن). يبدو متخففاً كثيراً من ”روشتات” الوعد والخلاص، ”الروشتة” الوحيدة المتبقية لديه والتي تمثل اليوم أقصى مطمح عنده ”تقريب الناس إلى بعضهم، يصبح الشيعي أقلّ شيعية والسني أقلّ سنية، ومثل ذلك المسيحي” لا أكثر أو أقل. ”الوقت” التقت بحازم صاغية على هامش زيارته إلى البحرين أواخر الأسبوع الماضي بدعوة من جمعية المنتدى، وفيما يلي الحلقة الثانية من الحوار معه:

أشرت في سيرتك الفكرية إلى موقف طريف حصل مع أستاذة علم الاجتماع حين ردت ورقة لك وراحت سائلة إياك: ”ماذا تفعلون لو لم تستطيعوا إقناع الفئات المستفيدة من الوضع القائم؟” وكان أن أجبت: ”نصفّيها” [1]. بدا هذا الموقف أن لديك موقفاً أسطورياً من الشعوب آنذاك إضافة إلى أيديولوجيا مستعدة لأن تصفي كل من لا يقف معها. ألا ترى أنك الآن تقوم باسترجاع الدرس نفسه في طريقة دفاعك عن القناعات المستجدة؟

– النقلة الأساسية التي حصلت على الصعيد الشخصي هي مبارحة الوعي الإيديولوجي. فهذا الأخير ينطلق من فكرة ويريد تطويع الواقع وفقها. كانت الفكرة عهد ذاك تقول إن الأنظمة رجعية وعميلة فيما الشعوب على العكس، عظيمة ولها مصلحة في التغيير والتقدم. وكان الوعي تبعاً لهذه الفرضية يعد العنف مبرراً، فلا بأس – فيما لو افترضت الآن أنني أمثل حزباً أيديولوجياً يهتف باسم الأمة وباسم حاجتها إلى التقدم والحداثة – من قتل خمسة آلاف إنسان إذا كان ذلك سيكون في سبيل تقدم الملايين. حالياً أنا لا أقول بذلك، لا أنطلق من فكرة إنما من الواقع ومن معاينة دقيقة لمجتماعتنا. أرى أولا وقبل كل شيء ماذا تفرز هذه المجتمعات؟ هل تريد التقدم فعلاً!؟

في نظري لا، مجتمعاتنا لا تريد التقدم. خذ مثالاً على ذلك، فلدى انتهاء الحقبة الكولونيالية ترك الاستعمار عدداً من البرلمانات وعدداً من الإدارات الأولية والمدارس وسكك الحديد وخطوط المواصلات. فماذا فعلنا بهذه الأشياء؟. دمرناها جميعها. لا أقول إن الاستعمار جيد، أقول كان هناك قمع، صحيح ذلك لكن كانت هناك إنجازات. أقول أيضاً إنه لم يقم بهذه الإنجازات لسواد عيوننا، إنما كان يستهدف مصلحته في الأساس، فالمدارس لتخريج كوادر يدير بها مشاريعه، وخطوط المواصلات لتمرير سلعه إلينا، ولكن حتى في ذلك كانت هناك ثمة فائدة مشتركة. في المقابل، حين زال الاستعمار ما الذي حصلنا عليه؟. لا شيء إطلاقاً. والمشكلة لم تكن مشكلة أنظمة، فالمجتمعات هي التي قامت بانقلابات، أطاحت أنظمة واستبدلتها بأخرى، وكان أول ما فعلته هو تدمير البرلمانات والبنى التحتية الموجودة.

فإذا كانت مجتمعاتنا قد فشلت في المحافظة على الإنجازات التي بحوزتها، هل تريد مني اجتراح المعجزة وأذهب هاتفاً في سبيل الانتقال إلى الفجر الاشتراكي أو الإسلامي أو أو؟ إن ذلك أقصر طريق إلى الفوضى العارمة. وهنا أقول بناء على كل ذلك، إنني ربما كنت أبعد من ليبرالي، محافظاً ربما. محافظ كوني أريد التقدم ببطء شديد، بالشعرة لو أمكن أو بالملليمتر. وكلما حققتُ ملليمتر تقدم لابد أن يكون قد سبق ذلك استعداد اجتماعي. وإلا نصبنا أنفسنا نخبة أو طليعة كما لو كنا نعرف مصلحة الناس غصباً عنهم. في المقابل أقول أيضاً، إن الأنظمة الموجودة ليست عظيمة، لكنها تاركة إلى حدٍّ ما هامشاً معقولاً من الحريات، مع وضع ألف خط تحفظ هنا. ومن أجل أن يزيد هذا الهامش أو يتحسن لابد أن يحصل شيء في المجتمع ينم عن أنه يريد أكثر، يريد أكثر تقدم وليس أكثر فوضى.

ننام ونصحو على فرق ديمغرافي بالملايين

قلت – في الحلقة السابقة – إن ”المجتمع السياسي” لم ينوجد في الاجتماع العربي طوال تاريخ ممارستهم السياسية. السؤال هو إلى أي حد يرتبط وجود هذا المجتمع بفكرة الدولة؟ ثم كيف يمكن الحديث عنه في ظل تعددية الطوائف بحقائقها المطلقة الشتى؟

– هناك ثورتان حصلتا على هذا المستوى ونحن مطالبون إزائهما بموقف ثقافي قبل أن يكون سياسياً أو ينعكس على الحقل السياسي. وهما أولاً فصل الدين عن الدولة، والانتباه إلى أهمية الدولة ثانياً. نحن طوال تاريخنا كنا نتحايل على الدولة. ننام ونحن أمة عربية لنصحو على أمة عربية إسلامية. كيف حصل ذلك؟. لم يسأل أحد عن ذلك رغم أن الفرق بين الصيغتين هو 800 مليون نسمة. نحن المجتمعات الوحيدة في العالم التي الدولة فيها شيء والأمة شيء آخر. نقول الوطن البحريني في الوقت ذاته الذي نقول الوطن العربي.

ماذا يعني الوطن العربي؟. بنظري هو شكل من أشكال التحايل على الدولة القائمة، وإلا فإن الدولة هي الأمة، هي الوطن. نقول أيضاً.. قطري. ماذا يعني قطري؟. هل هناك كلمة في أي من لغات العالم ترادف هذه الكلمة عندنا!. الدولة دولة، ليس ثمة دولة قطرية وأخرى غير قطرية، نقطة على السطر. كل هذه الصيغ عبارة عن نماذج احتيال حتى لا يتم الإقرار بواقعة الدولة التي هي قاطرة الحداثة الأولى والأخيرة. تعال تحدث عن حقوق الإنسان والتقدم وحريات المرأة واصمت عن الدولة، أقول لك إن هذا الطريق لا يمكن أن يفضي إلى شيء. في المقابل، ابدأ بالدولة، بنهائيتها ومرجعيتها أقول لك.. إن هذا هو الطريق الذي يوصل إلى حقوق الإنسان والتقدم وحريات المرأة.

المشكلة أننا شعوب مفصومة الوعي، فالواحد منا لا يعرف ما إذا كان لبنانياً أو عربياً أو مسلما أو مسيحياً أو ابن قبيلة أو أو أو. هذه الأشياء كلها جيدة، إن شئت، ولها الحيز الخاص بها. لكن في الحيز السياسي، أنت بحريني فقط، وإن كنت لبنانياً فلبناني أو إيطالياً فإيطالي، أي لست مسلماً ولا سنياً أو شيعياً أو عربياً. تستطيع في حال كنت مسلما مثلاً أو مسيحياً أن تذهب إلى المسجد أو الكنيسة، كما أنك حر في أن تعمل ما شئت من العلاقات اللاهوتية مع أي مسلم أو كاثوليكي آخر، أو أن تقول إنك تنتمي إلى فضاء ثقافي إسلامي أو مسيحي.

كما تستطيع أيضاً أن تحب عائلتك أو عشيرتك بأي حجم تريد، لكن كل هذه الأشياء لا علاقة لها بالسياسة. في السياسة أنت لست أيّاً من هذه الأشياء، فأنت بحريني فقط.. لبناني فقط.. إيطالي فقط. يجب الفرز بين هذه المستويات جميعاً. هذا الفرز لا يمكن أن يحدث ما لم يتم الإقرار بواقعة الدولة ونهائيتها.

ألا ترى أن فرز المستويات مطلب مثالي يقترب من مثالية المطالب الأيديولوجية السابقة؟

– هذا ممر إجباري للتقدم، أي لا يوجد مهرب. أول شيء عمله الفكر السياسي الأوروبي، هو أنه حسم الأمر مع واقعة الدولة وسلّم بنهائيتها. أنا لا أطالب بالفرز، إنما التخفيف من الضباب والفوضى. على الأقل نبدأ باستعمال المصطلحات استعمالاً سليماً. هل من المعقول أن آتي لعمل خطة اقتصادية من واقع دولة اسمها البحرين، وكذا عبارة .. ”وطن عربي”. أي أن ما أعمله بيدي اليمين أقوم بنسفه من طريق يدي اليسار، كما لو أنني أؤسس لنفسي ما أصنعه في الواقع!. حسناً، إذا كانت القصة تتعلق بوطن عربي، فلم إذن كل هذه الدول الموجودة. لم أخطط لها ولاقتصادياتها، تعليمها ومواصلاتها.

بلْع الدول مصنع العنصرية

هل يُفهم من مطابقتك بين الدولة والأمة شيئاً شبيهاً بأحاديث جورج بوش عن ”الأمة الأميركية”؟

– نعم حتماً. وهذا لايعني العنصرية بأية حال.. إطلاقاً. في نهاية الأمر، أنت لا تستطيع العيش من دون مكان محدد في حين على العكس، التغافل عن مسألة الدولة هو الذي يؤسس لنشوء النزعات العنصرية والشوفينية. فحين يأتي صدام ويبلع الكويت أو حين تبلع سوريا لبنان تحت شعارات من نوع ”الأمة العربية” أو ”الوطن العربي الواحد” أو ”إعادة الفرع إلى الأصل” فإن ذلك هو الذي يستولد العنصرية. هل تعلم أن المواطن المصري كان بمثابة ”المعبود” لدى الشعب اليمني، لعوامل عدة بينها مساهمة المدرسين المصريين على مستوى نشر التعليم في اليمن ما أدى إلى الاحتفاظ له بمودة عظيمة، إلى أن قام جمال عبدالناصر بالتدخل العسكري في اليمن (1967). بعد ذلك أخذت الأمور منحى عكسياً. وكما ترى فإن عدم الإقرار بواقع الدولة، هو مصنع كل عنصرية. إن دوام الخوف لدى الدول الصغيرة من احتمال بلعها مرة بعد مرة من قبل دولة جارة أكبر منها، لايؤسس لوضع صحي إطلاقاً، بل إلى التكاره والعنصرية المتبادلة، كونها لاتحقق إشباعاً وطنياً للدول الأصغر. إذا لم تحقق الدول هذه إشباعاً من هذا النوع تظل المشكلة قائمة.

هل الدولة – الأمة وفق المفهوم الذي تدافع عنه قائمة على أساس صهر مكونات المجتمع في أمة واحدة أم العكس، أمة واحدة ذات مكونات متعددة؟

– لا، إن عملية الصهر القسري انتهت منذ بسمارك (1825 – 1898). ما أدافع عنه يتناسب مع ما يسميه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (1929) المواطنة الدستورية. أن نقر أننا ننتمي إلى بلد واحد، نخضع لقانون واحد، نعامل معاملة واحدة كمواطنين، ونتساوى بطريقة ما في مسألتي التعليم والإنفاق [2]. أي من دون صهر أو محو للخصوصيات. ففي بريطانيا يمكنك أم تكون كاثوليكياً أو بروتستانتياً أو هندوسياً أو مسلماً، ولكن هناك الجامع المشترك، وهو الفضاء العام. ببساطة، فأنا لن أتدخل في حياتك ما دمت ببيتك، ومثل ذلك أنت لن تتدخل في حياتي ما دمت ببيتك، لك ولي أن نعمل في بيتينا ما نشاء، لكن الطريق الواقعة في الخارج هي طريق مشتركة بيننا. وبالتالي فلا بد من إرجاعها إلى مرجعية واحدة، هي مرجعية الدولة. أما إذا كنت سأعمل الطريق مسلمة كوني مسلماً، وجاري سيعملها مسيحية كونه مسيحياً، فلن يعود هناك طريق ساعتئذ. هذا الطريق ينتمي إلى الدولة، محل التآصر بين الجماعات، المحل العام، وبالتالي فلا يمكننا أن نصبغه بصبغة جماعة معينة.

لا أجد الخبز.. فكيف أسأل عن السلمون

هل المواطنة الدستورية شرط الديمقراطية التوافقية؟

– لا، المواطنة الدستورية تأتي قبل الديمقراطية التوافقية. هي شرط البقاء على قيد الحياة حالياً باعتبارنا أناساً حديثين. من دون وطنية دستورية لا توجد حياة.

لو عرّفنا الديمقراطية على أساس أنها ضمان حرية الجدل السياسي. ما الذي يجعل من الجدل السياسي اللبناني الجاري اليوم جدلاً لا يخدم فكرة الديمقراطية ولا فكرة الدولة رغم وجود حيز كبير لحرية النقاش إزاء المسائل المطروحة؟

– هناك مشكلة نواجهها باستمرار في مجتمعاتنا، وهي نقل تناقضات مجتمعات معينة إلى مجتمعات أخرى. فالجدل مثلاً كلمة موجودة لتوصيف علاقة أحزاب وأيديولوجيات بعضها ببعض. في لبنان ومثل ذلك في معظم الدول العربية لاتوجد أحزاب حديثة، هناك أديان وطوائف وإثنيات. الأمر الذي ينتفي معه وصف النقاشات التي تدور على المستوى السياسي ”جدلاً” ديمقراطياً. ألفت بالمناسبة هنا إلى أنني لست عاشقاً للديمقراطية في البلدان العربية. أنا، إن شئت، عاشق للبقاء على قيد الحياة. فقبل الديمقراطية هناك مهام سابقة لا مناص من إنجازها. وفي حال بلد مثل لبنان لا يوجد لدي أي مانع – لو أن المؤسسة العسكرية كانت موحدة – من أن تمسك بالبلد فتعطل الديمقراطية قليلاً، لكن شريطة أن تمنع الحرب الأهلية. للأسف فإن الجدل الدائر في لبنان ليس جدلاً صحياً أو ديمقراطياً بتاتاً، ما يحصل هو جدل حرب أهلية. وما إن يصبح الخيار خيار حرب أهلية، فمن يتكلم عن الديمقراطية ساعتذاك!. الأمر يشبه تماماً لو أنك لم تكن قادراً على تأمين كسرة خبز لإطفاء جوعك فتقوم رافعاً من سقف تطلبك أنك تريد سمك ”سلمون” أو ”قريدس” أو أو أو. نحن مجتمعات مهددة بالفناء لأننا لم نخرج بعد من مرحلة الطوائف والإثنيات إلى مرحلة الدولة. ”على رأسي…” كل النقاشات التي تدور بشأن الديمقراطية الدولة أولى هذه المهمات. وأخشى أن تكون المبالغة والإمعان في هذه النقاشات نوعاً من الالتفاف عليها.

الدول عاكسة للانقسامات لا منتجة

هل يمكن أن يُفهم من كلامك نوعاً من القبول بواقع الدولة العربية القائمة حالياً مادامت تحافظ على الحد الأدنى من السلم وتلغي أو تؤجل الحرب الأهلية. ماذا عن مساهمة هذه الدولة نفسها في إعادة إنتاج الانقسامات الموجودة في المجتمع؟

– ليست الدولة التي تعيد إنتاج الانقسامات في هذه المجتمعات. هناك أوليات ذاتية قائمة في العصبيات والهويات الطائفية ومهيئة بشكل مسبق لمثل هذا الانقسام. بوجود دولة من هذا النوع أو من دون دولة، فإن هذه الهويات تمثل خطراً داهماً على كل عملية التمدن. نعم، حين تتوافر دول تمنع الحرب الأهلية فأنا مع هذه الدول. ثم بعد ذلك نفكر في كيفية بلوغ درجة أعلى من الانسجام الوطني وكيفية توسيع هامش الحرية والديمقراطية إلخ إلخ. ولكن الموجود حالياً، أقصد على مستوى المجتمعات، أقلّ من الطموح بكثير.

لكن كيف يكون مبتغاي الحفاظ على هذه الدولة ما دامت تقوم على أساس تشطير المجتمع واللعب على انقساماته؟

– سبق وأن قلت.. ليست الدولة من يعيد إنتاج الانقسامات الموجودة. المجتمع بما فيه من طوائف وإثنيات لديه القابلية المسبقة لذلك. في لبنان أوحت الدولة مرة بإمكانية الذهاب في اتجاه ”الزواج المدني” فأتى الرفض من جهة الطوائف لا من جهة الدولة.

لنأخذ الدولة الخليجة مثالاً، فأنت تعرف أنها قائمة على البنى القرابية بحكم التشكل القبلي للأنظمة الحاكمة. وهي بنى تتشكل على روابط الدم ضاربة بذلك في البدائية أكثر من الطوائف التي هي على الأقل تتشكل بناء على المعتقد، كائناً ما كان الموقف من هذا المعتقد.

– حسناً، لكن هل الدولة الخليجية هي التي اخترعت البنى القرابية أو أنها عكستها فقط!. ثم هل التحلل من البنى القرابية أيسر في نطاق الدولة أو في نطاق المجتمع!. في نظري، إن التوصل إلى تسوية مع الدولة في مسائل التحديث والحداثة أيسر من التوصل إليها مع المجتمعات الهائجة. المجتمعات تقبل بفكرة التسوية ولكنها تريد الحد الأقصى منها، فالسني يريد أن يسنن العالم، ومثل ذلك الشيعي يريد أن يشيع العالم، وكلاهما لديه حقيقته المطلقة. والمجتمعات التي لاتقبل بالتسوية، بل تقبل بفكرة التسوية، تريد حداً أقصى. الدولة مهما كانت سيئة أو مترددة، لكن هي المكان الوحيد لعقد التسويات. قد لاتكون التسويات عادلة اليوم ولكن في مناخ سلمي ومطمئن يمكن تصحيحها بقليل من عمل سياسي وقليل من عمل ثقافي وقليل من عمل إعلامي. الدولة في نظري هي مشروع إن لم يكن إلغاء فتأجيل الحرب الأهلية. بقدر مايكون أداؤها جيداً على هذا الصعيد نقول.. ”إلغاء” وبقدر ما يكون سيئاً نقول.. ”تأجيل”. أما المجتمعات فهي أفران حرب أهلية. حين تقوم الدولة بعمل برنامج تعليمي تضع في اعتبارها وجهات نظر الجماعات. لكن تعال انظر إلى مدارس الطوائف، وقل لي ماذا تعلم؟. تعلم الرواية الدينية للطائفة نفسها. حسناً، كيف لنا العيش مواطنين في مجتمع واحد إذا كنت أقرأ في الكتاب الديني إن عمر بن الخطاب كان على حق والإمام علي على باطل، أو العكس إذا كان الكتاب كتاب طائفة أخرى، الإمام علي على حق وعمر بن الخطاب على باطل. في نظري، لابد من تأليف رواية فيها تسوية، أن الاثنين كانا على حق مثلاً، والاثنين غلطا، وإلا فإن الحال لاتمشي. الدولة هي التي يمكنها عمل هذه التلفيقة المطلوبة والضرورية، لكن الطوائف لاتعمل. فلكل جماعة روايتها، وهذه الرواية محكمة من الألف إلى الياء. الأمر الذي يتعذر معه عمل أية تسوية.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=108241

هوامش:

[1] يروي حازم صاغية في سيرته الفكرية ”هذه ليست سيرة” الصادرة عن دار الساقي 2007 عن موقف طريف حصل له مع أستاذة علم الاجتماع الكندية في سنوات الجامعة ”فقد ردت لي ورقة المسابقة ملأى بالدوائر الحمراء التي خطها قلمها حول تعابير استخدمتها. فحول ”خط التاريخ” وضعت دائرة وكتبت على هامشها: ”هل خط التاريخ في جيبك؟”، وحول ”بروليتاريا” وضعت دائرة أخرى وكتبت: ”كلمة عامة لم تعد صالحة”، وهكذا دواليك”. ثم يقول ”وإذا احتججت واندفعنا في مهاترة هادئة الشكل عاصفة المضمون، سألتني: ”ماذا تفعلون لو وقف ضدكم غالبية الشعب؟”، فقلت: ”نحاول إقناعها بأن نعزل الفئات المستفيدة من الوضع القائم”. وإذا أصرت وكررت سؤالها: ”وماذا لو لم تقتنع؟”، أجبت بشيء من الحسم يغالبه التلعثم: ”نصفيها”. هنا أدارت وجهها عني وتوقف السجال”.

[2] يذهب هابرماس إلى ضرورة تجاوز الصيغ الكلاسيكية لبناء الهوية الوطنية، وذلك من خلال الاعتراف بصيغة ولاء مستحدثة هي الأنسب للمجتمعات التعددية، ويسميها ”الوطنية الدستورية” وهي صيغة من صيغ ”ما بعد القومية” يتركز فيها ”الولاء الوطني” patriotic loyalty، على ”مبادئ الدستور” التي هي مرجعية الولاء بدلاً من المقولات الخلافية التقليدية من قبيل القومية والطائفة والتراث والثقافة والتاريخ المشترك وغيرها. وبحسب هابرماس فإن هذه الوطنية هي الأكثر توافقاً مع متطلبات مجتمع متعدد الثقافات، وهي أساس نافع ومفيد لبناء التوافق الوطني. (المصدر: من ورقة بعنوان ”معضلة الولاء في الدولة الحديثة” للدكتور نادر كاظم).

هل مازال يستحق الحلاج القتل؟

‘ ‘الحلاج يستحق القتل، نعم يستحق القتل، لأنه خالف حقيقة دينية” لم تكن تلك وجهة نظر فقهاء الخليفة المقتدر بالله الذي أمر بضرب الحلاج بألف سوط ثم قطع يديه ورجليه ثم صلبه على جسر بغداد سنة 309هـ. بل هي وجهة نظر أيضاً الأستاذة إيمان، المعلمة الأولى للتربية الإسلامية.
لقد باغتني جوابها، في ورشة تدريبية كنت أقدمها عن مفهوم الحقيقة والبحث من وجهة نظر البحث السردي. لقد طرحت 1207393450807115200ثلاثة أسئلة تنشيطية على المشاركين من المعلمين والمعلمات الأوائل. الأسئلة هي: ما الحقيقة؟ وما البحث؟ وما السرد؟
فهمنا للحقيقة والبحث والسرد، يحدد موقفنا من استحقاق القتل، ما الحقيقة التي تبرر القتل؟ وما البحث الذي يقودك إلى القتل؟ وما السرد الذي يؤرخ للقتل؟
الحقيقة التي تبرر القتل هي حقيقة العميان، والبحث الذي يقود إلى القتل هو البحث الذي لا يعتمد طريق العميان، والسرد الذي يؤرخ للقتل هو السرد الذي يرويه العميان عن الحقيقة.
وحكاية العميان الشهيرة التي ينقلها أبوحيان التوحيدي في (المقابسة الرابعة والستون: في أن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطاؤه في كل وجوهه)
”ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل وأخذ كل واحد منهم جارحة منه فجسها بيده ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه ونشره. فكل واحد منهم قد أدّى بعض ما أدرك، وكل ما يكذب صاحبه ويدعي عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل”
وهناك رواية حديثة تقول إن الأول أمسك أرجل الفيل فقال الفيل هو أربعة عمدان على الأرض!.والثاني أمسك الخرطوم وقال: الفيل يشبه الثعبان تماما!. والثالث أمسك الذيل وقال: الفيل يشبه المكنسة! وحين وجدوا أنهم مختلفون بدؤوا في الشجار وتمسك كل منهم برأيه وراحوا يتجادلون ويتهم كل منهم الآخر أنه كاذب ومدعٍ.
هل كانت الحقيقة التي شاجر فيها فقهاء الخليفة المقتدر الحلاج، تختلف عن الحقيقة التي تشاجر فيها العميان؟ إنهم يلتقون في طريقة تصورهم للحقيقة، على الرغم من الفرق بين كثافة الفيل الحسية ولطافة السماء الغيبية.
الحقيقة في تصورهم وتصور الأستاذة إيمان، هي اليقين والإيمان وما لا يمكن الشك فيه، وهي ضد الظن، وهي الحضور المطلق للأشياء، هي الشيء الذي لا يتطرق إليه الوهم والخيال، وهي ما لا يتعدد ويختلف.الحقيقة هي الواقع والصدق، هي ما يوجد خارجنا، هي ما يوضع خارج الذات وحدوده، لذلك يتصورون الحقيقة موضوعية وليست ذاتية. الحقيقة في تصورهم هي ما لا يمكن أن يقال بعده شيء.لذلك حين قال الحلاج شيئاً غير حقيقتهم، استحق القتل.
الحقيقة مضافة دوماً إلى وسيلتها وأداتها، هي منسوبة إلى الأداة التي نستخدمها، لذلك الحقيقة ليست ما نراه وننظر إليه بقدر ما هي ما به نرى أو ما منه ننظر.. الحقيقة هي ليست الأعمدة ولا المكنسة ولا الثعبان، الحقيقة كانت في أيديهم التي بها يلمسون، كانت أداتهم التي بها يرون. وهذه اليد تعادل عند الفقهاء أجهزة فهمهم وعلوم الفتوى لديهم وقواعد الأصول التي بها يستنبطون حقيقة النصوص. الحقيقة في الأداة، ما تكشفه لك الأداة وتريك إياه وكأنك تلمسه وتشمه وتتذوقه وتسمعه هو حقيقة أداتك لا الحقيقة. لذلك تبقى الحقيقة ليست مطلقة، مطلقة من أداة تنسب إليها.
البحث هو طريق أداتك، أي الطريق الذي تشقه وتفتحه أداتك، لذلك لكل بحث منهج مكون من أدوات معينة.كان طريق العميان للوصول إلى الحقيقة هو ما فتحته أيديهم ومواقع تلمسهم، وصلوا إلى جوانب الحقيقة التي شقتها أدواتهم.طرق البحث مخفورة بالضلال والمراوغة والظهور والخفاء والوعورة والسهولة.وتتفاوت الطرق بتفاوت الأنفاس التي تعمل على توسعة الوصول.كانت للفقهاء طرقهم وكان للحلاج طرقه، وكان لكل منهم ومنه موضعه من الحقيقة. تماماً كما كان للعميان مواضعهم من الفيل.وعلى الرغم من الاختلاف والتجهيل الشجار الذي مارسه العميان ضد بعضهم، لكن لم يكن لأي منهم الحق في قتل أعمى لم تريه يده وموضعها ما رأته يد الأعمى الآخر وموضعها.
الحقيقة متشظية ومختلفة ومفصلة وبقدر ما تستطيع أداتك من فتح طرق متشعبة للوصول إليها، تستطيع أن تسردها بقدر أكبر من الاتساع، فالسرد يقوم على حكي التفاصيل لا على تجريدها، لذلك هو الأكثر قدرة على حمل الحقيقة وتمثيلها في تفاصيله الكثيرة.من هنا فإنه بقدر ما يقول بحثك من تفاصيل، يتمكن من سرد الحقيقة بطرق متعددة.كان الحلاج يسرد الحقيقة عبر مشاهداته الكثيرة، كان يرها في كل الكائنات متحدة معها وحالة فيها، وكان الفقهاء يرونها في نصوصهم الظاهرة فقط.والظاهر لا يظهر أكثر من سطح طريق.
الحقيقة لا يملكها طريق، فتفاصيلها لا يستوعبها طريق واحد، لذلك تظل الحقيقة نسب وعلائق يكثر منها الإنسان ليتعلق بالحقيقة لا ليصلها، وهذا ما أدركه الحلاج، فراح يقول ”الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلق بالخليقة، الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق”.
الحلاج سارد لا جارد، فالسارد يفصل ويُكثّر، والجارد يجرد الحقيقة من العلائق التي يجعلها تحل وتتحد مع العالم وكائناته وخلائقه.
من هنا فالسارد يمتلئ بصور الألوهية المتعددة في العالم، فيَثمل بجمالها وجلالها، على النحو الذي تخبرنا به كؤوس السهروردي ”اللهم إنا في الثمالة كؤوس تمتلئ بك”.

http://alwaqt.com/blogprint.php?baid=6553

حوار مع حازم صاغية

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=107164

حازم صاغية لـ «الوقت»: انتهت الخرافة..الشعوب ليست عظيمة (1-3)
لم نعرف شيئاً اسمه المجتمع السياسي طوال تاريخنا.. إما عرباً أو موالي

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:

 
في
مطلع الثمانينات كان حازم صاغية واحداً من بين جمهرة شبان يافعين ممن أطلقوا قبضاتهم في الهواء هاتفين بحياة ثورة إيران الخمينية وحياة قائدها الروحي روح الله الخميني. لكن زخم الهتاف لم يدم طويلاً، إذ لم تكد تنقضي أشهر قليلة حتى كانت القبضات تتراخى تحت وطأة انكسار أفق التوقع وسرعان ما أتى الطلاق. الأمر نفسه كان من نصيب تطواف له سابق على ذلك – وهتافات وقبضات حماسية لقائد شعبي يروح وقائد يجيء! – حَرَثه ما بين الورشتين البعثية فاليسارية. الآن، فإن قبضات حازم لم تعد تهتف بشيء. قال ”انتهت الخرافة.. الشعوب ليست عظيمة، إنها أسوأ من الأنظمة بكثير”. حديثاً جداً عاد ليستقرّ في عاصمة بلده (بيروت) بعد إقامة طويلة دامت نحو العقدين في مدينة الضباب (لندن). يبدو متخففاً كثيراً من ”روشتات” الوعد والخلاص، ”الروشتة” الوحيدة المتبقية لديه والتي تمثل اليوم أقصى مطمح عنده ”تقريب الناس إلى بعضهم، يصبح الشيعي أقلّ شيعية والسني أقلّ سنية، ومثل ذلك المسيحي” لا أكثر أو أقل. ”الوقت” التقت بحازم صاغية على هامش زيارته إلى البحرين أواخر الأسبوع الماضي بدعوة من جمعية المنتدى، وفيما يلي مقتطفات من الحوار معه:
* هاجمت ومثقفون عرب آخرون الليبراليين العرب الجدد واعتبرتم في بيان صدر في العام 2005 أنهم يقومون بتبسيط العناوين الأهم في حياتنا. فكان البيان بهذا المعنى ”صرخة ضد التبسيط” وفق ما عملتم على تقديم أنفسكم وقتئذ مستحضرين في الرد بياناً آخر كان قد سبقكم لهذه الجماعة في العام .2004 كيف تجد الآن في 2008 مآلات الليبراليين الجدد بعد ثلاثة أعوام من إصداركم البيان؟
الفكرة الأساسية لم تكن رداً على بيان الليبراليين الجدد بقدر ما كانت رداً على حالة غدت تتكاثر في المنطقة العربية. في الحقيقية، كان البيان يستهدف مسائل عدة بينها خلق تمايز بين موقّعي البيان وبين من يسمون أنفسهم ليبراليين جدداً. أردنا القول إننا لسنا مثل هؤلاء. لم نؤسس الليبرالية بعد، لذلك ليس بذي معنى أن تصبح ليبرالياً جديداً. تتميز الليبرالية عن باقي التيارات المعتقدية الأخرى في كونها قليلة الإيديولوجية. فأنت لاتنطلق من أنني مع أو ضد (مع أميركا أو ضد أميركا) إنما من ماذا يناسب مجتمعي. قد تلتقي مع الأميركان صحيح، لكن قد لا تلتقي أيضاً، المسألة تتعلق بالمصالح. يترتب على ذلك افتراق أساسي مع الليبراليين الجدد. فنحن مع أن نصبح مثل الغرب لكننا لسنا مع الغرب. بمعنى آخر، فأنا أريد حريات الغرب، تقدمه وديمقراطيته، وضع المرأة، الوعي الفردي وشعور الفرد بذاته، حب الحياة، الدفاع عنها وعن المتعة. فإذا ما ترادف ذلك مع سياسات غربية توافق مصلحتي، بحرينياً كنت أو لبنانياً أو مصرياً أو أو أو، جيداً ذلك. وإذا لم يترادف، سأعارض هذه السياسات لكنني لن أحمل على عاتقي مهمة مقاتلة الغرب. بنظري، لا أحد يعرّف نفسه بطريقة سلبية، فالوطنية لاتتأتى من كونك تكره أميركا إنما من كونك تحب البحرين. أنا لست ضد الغرب سلفاً وفي المطلق، لكنني أيضاً لست معه سلفاً وفي المطلق، الغرب السياسي تحديداً، أنا مع مصلحتي. إذا اتفقنا اليوم أن حب الأميركان مفيد لي، على رأسي، وإذا اتفقنا على العكس غداً سأكره أميركا. هذه سياسات دول وليست أدياناً لكي نتعامل معها من منطلق أن أميركا هي ”الشيطان الرجيم” أو ”الرب العظيم”.
* لكن لأي درجة يمكن للمصلحة أن تكون مرجعية المثقف التي هي مرجعية السياسي حصراً. في الوقت الذي يُعتقد أن بيانكم هو بيان ثقافي في الأساس؟
صحيح ذلك لكنه ليس بياناً ثقافياً بالمعنى الذي يمكن أن تنطبق فيه كلمة ثقافي على الفن التشكيلي مثلاً أو المسرح أو أو. لنقل إنه بيان فكري سياسي انطلاقاً من أنه أراد أن يسجل موقفاً فكرياً حيال المسائل السياسية المطروحة آنئذ. لكن حتى هنا أقول إن المصلحة يمكن أن تكون جامعة بين أناس كثيرين. فنحن لن نختلف – سياسيين أو مثقفين – على كوننا نتطلع إلى تحسين وضع الإنسان في بلداننا، لكن ما عدا ذلك فهو قابل للتجريب، الأخذ والعطاء.
لستُ ليبرالياً جديداً

* هل أفرز بيان ”صرخة ضد التبسيط” فريقاً آخر ضمن الورشة الليبرالية، أو على الأقل ما أردتم من خلاله نعني الممايزة بين الليبراليين العرب التقليديين ومن يسمون أنفسهم ليبراليين جدداً؟
– لا، لم يفرز بسبب أنه لم يكن هناك اتجاه لاستكمال الفكرة في شكل مشروع أو إقامة أطر وتنظيمات تحقق هذا التمايز. ولكن أيضاً بمعنى ليبرالي، كان البيان محاولة في القول إن هناك أصواتاً فردية ليبرالية لاتريد أن تحسب بضمن هذا الاتجاه. هو نوع من الاحتجاج لأفراد اتفقوا – رغم وجود عشرات الأشياء التي لايتفقون عليها – على أنهم ليسوا هكذا. لم نقل شيئاً، لم نقل نحن ماذا، لأن هذه مسألة أخرى، قلنا.. إننا لسنا ليبراليين جدداً.
* لكن كيف تقرأ الآن مآلات هذه الجماعة التي أعلنت ورفاقك أنكم لستم منها على اعتبار أن الموقف الليبرالي الذي تنطلقون منه اتصال بقيم تنويرية وتحديثية في الأساس وليس بالشخص الجالس في البيت الأبيض؟
إن شئت فقد بدأ الافتراق الفعلي بيننا – أنا وعدد من موقعي هذا البيان – وبين من يسمون بالليبراليين الجدد من اللحظة التي شُنّت فيها الحرب على العراق (العام 2003). وقفنا ضد الحرب، ليس حباً في صدام طبعاً ولا إعجاباً بالنظام العراقي، ولكن لشعورنا أن العراق غير مهيأ لأن يحرر. وإلا فلو كان مهيئاً لما استدعى الأمر تدخلاً خارجياً. ما إن تضطر لعمل تدخل خارجي فمعنى ذلك أن المجتمع غير قادر على تغيير نفسه بنفسه. وهنا يوجد اختلاف أساسي ثانٍ في التفكير، أن من يسمون أنفسهم ”ليبراليين جدداً” ينظرون نظرة خارجية وبرانية للمسائل، مع أميركا أو ضدها، مع صدام أو ضده، مع التحرير أو ضده، وليس بنظرة فاحصة على المجتمعات من الداخل. لم ينتبه الليبراليون الجدد إطلاقاً إلى أن العراق يتكون من أكراد وعرب وسنة وشيعة وقبائل وعشائر، وبالتالي كيف بحسب هذه التشكيلة سيمكن مواجهة السؤال التالي: صون الوحدة الوطنية إذا ما انهار نظام الاستبداد!. برأيي إن الأميركي حرر العراق صحيح، ولكن أيضاً حرر تناقضاته. إن عملي الأساس يجب أن يكون في هذه المنطقة تحديداً، في هذه الجماعات المتشكلة سوسيولوجياً، وليس أن أكون مع أميركا أو ضدها. علينا أن نحذر من الوقوع مرة أخرى في أشكال مختلفة من الوعي القومي العربي أو الوعي الإسلامي القائم على الخير والشر، الصح والغلط. علينا أن نفكر في المجتمع، في الطوائف والأعراق بدلاً من الركض وراء الترسيمات الأيديولوجية هذه.
المجتمعات أكثر سوءاً من أنظمتها
لم يعد مقنعاً مجاراة الهتاف الشعبوي السائد.. نحن شعب عظيم ولاينقصنا سوى رحيل هذا الحاكم المستبد. أنا لا أصدق ذلك، وبنظري إن نقد النقد لايبدأ بنقد السلطات والأنظمة، كائنة ما كانت درجة سوئها، إنما بنقد المجتمعات. أنا أفترض اليوم أن تجربة إيران الإسلامية التي تحمست لها كثيراً في بدايتها تجربة سيئة، لكن بنظري إن المجتمع الإيراني أسوأ بكثير لأنه غير قادر على القطع مع هذه التجربة. لايمكن أن نأتي إلى السياسة في بلداننا انطلاقاً من الأنظمة إنما من المجتمعات. لو سألتني عن طموحي الآن حيال بلدان كثيرة، طبعاً منها لبنان والعراق والسودان، لقلت لك إن الأمر لايتعدى مسألة تقريب الناس إلى بعضهم، بحيث يصبح السني أقلّ سنية والشيعي أقل شيعية وهكذا الحال بالنسبة إلى المسيحي أن يصبح أقل مسيحية من أجل أن يتعايش الجميع بسلام في دولة واحدة. الشعارات الكبيرة لاتعمل شيئاً سوى تفجير التناقضات بين هذه الجماعات. إذا كنا نحن الآن، الثلاثة الجالسون على هذه الطاولة بيننا كل هذه الخلافات، فهل أزيد عليها قضايا أخرى تفجرها!. الشيء بالشيء يذكر، لدينا في لبنان 17 طائفة، فهل نأتي لهم زيادة على كل هذه التركيبة المعقدة نأتي بـ… مقاومة!. لا، هذا غير صحيح مثلما غير صحيح أيضاً لو أن طائفة معينة أرادت بين ليلة وضحاها عمل صلح مع إسرائيل غصباً عن أنف بقية الطوائف. هذه المجتمعات المركبة إنما تعيش بتقليل الأيديولوجيا لا بزيادتها. بتقليل الصح، كل واحد يستطيع أن ينام على الصح الخاص به في بيته، يهتف لأجله أمام امرأته وأولاده، لكن في الحياة العامة عليه أن يصل إلى تسويات مع الأطراف الأخرى في المجتمع. إلا إذا كان يريد تفجير مجتمعه ويضعه على حافة حرب أهلية. أعود إلى الفكرة الرئيسة، لايتعلق الأمر بكون أميركا سيئة أو غير سيئة، مع المقاومة أو ضدها، إنما يتعلق بقضية العيش المشترك بين عدد من الجماعات والطوائف. كيف ذلك؟. تلك هي القصة.
الدولة.. أزمة الحداثة الكبرى
* إذن أنت تتفق مع قسم من الليبراليين الجدد في مهمتهم الأساس التي تكاد تقتصر على مناهضة الأيديولوجيات الدينية وتحرير الاقتصاديات فيما يسكتون تماماً عن المسائل المتعلقة بتحديث الدول وضخّ المشروعية عليها.
– لا، أنا لم أقل لا توجد مشكلة مع الأنظمة. ولكن في حالة مجتمعات ممزقة تصبح المشكلة مع المجتمعات أكبر مما هي مشكلة مع الأنظمة. نعم لابد من الضغط على الأنظمة، ولكن من الذي يضغط!. إذا كان النظام مشكلاً من ظل طائفة إثنية معينة وأتى الضغط من طريق طائفة أخرى مقابلة، فإن الضغط ينقلب مباشرة إلى أزمة طائفية. فالذين من طائفة النظام، حتى إذا كانوا متضررين منه، سرعان ما يتحولون إلى الدفاع عنه معتبرين سقوطه خطراً عليهم. بالمناسبة هنا، أنا لست مع تحرير الاقتصاد مطلقاً. طبعاً لست مع التأميم لكنني أعتقد أن الدولة ماتزال مطالبة بأدوار اجتماعية كبيرة في مجتمعاتنا على مستوى التعليم ومكافحة الفقر. مرّة أخرى، هنا أيضاً الأمر لايتعلق بترسيمة أيديولوجية، أكون مع تحرير الاقتصاد أو… أكون ضده. فلو كانت هناك دولة حديثة تراقب ماذا يحدث بالضبط في القطاعات الاقتصادية المربحة، وتراقب كيف يرتد العائد الربحي من قطاع ما لمصلحة المجتمع ككل، جيد ذلك.. أنا مع تحرير الاقتصاد. لكن أن يأتي التحرير لصالح بعض ”النصّابين” فقط، لا أنا ضد ذلك طبعاً. هنا أيضاً، أكرر لابد أن ننظر إلى الأمر من دون يافطة أيديولجية عامة. لكن الأساس في كل هذا، هو بناء الرابطة الوطنية وإقامة الدولة. الدولة لاتعني أنها أداة قمع فقط، ففيها خدمات أيضاً وهي الذي تؤمن السلم الاجتماعي. برأيي أزمة الحداثة الكبرى في العالم العربي، هي أزمة الدولة. لم نتصالح بعد مع مسألة الدولة.
عظمة الشعب.. خرافة الخرافات
* ربما نهجس هنا بأسئلة مردها إلى واقع محلي أساساً. فتقاعس الليبراليين أو من يصنفون أنفسهم على هذا التيار عن تأمين خطاب لهم يحقق تمايزاً بينهم وبين الأرضية التي تقف عليها السلطة خلق موقفاً اجتماعياً مناهضاً ضدهم من قبيل أنهم يحابون السلطات القائمة ويسكتون عن التفكير في مشروعيتها.
نعم، لكن حين تكون المجتمعات بهذا المستوى من التردي السياسي والاجتماعي فإن الضغط والمطالبة بالإصلاح يخفّان تلقائياً على الأنظمة. الإصلاح مسألة تخرج من المجتمعات وتطالب بها الأنظمة. ولكن المجتمعات حالياً، الصوت الأعلى فيها ليس صوت المطالبة بالإصلاح. قد يرتفع صوت من هنا أو هناك من طريق بعض النخب الصغيرة، ولكن الصوت الأعلى في مجتمعاتنا هو صوت محطة ”الجزيرة”. في هذه الحالة، أنا أتمسك بالأنظمة وأصير خشبة خلاصها. ليس معنى ذلك أنني معجب بها، ولكن ماذا أفعل إذا كانت الأكثريات الشعبية العربية مؤيدة لصدام حسين أو أسامة بن لادن أو لقنبلة نووية في إيران؟ في هذه الحالة، أنا مع الأنظمة قياساً بهذه الخيارات. أنت تريد أن تختار أيضاً بناء على المعطى الموجود في الواقع. دعني أقول لك شيئاً، أنا آت من تجربة اسمها الحرب اللبنانية. حين اندلعت الحرب كنتُ يسارياً وكنتُ ممن يظنون حسب الخرافة الشعبوية أن الشعوب عظيمة والأنظمة تقمع عظمة الشعب. لكن حين انهار النظام وخرج المجتمع رأينا تحديداً ماذا عمل، الذبح على الهوية والقصف العشوائي وكلّ النذالات. من هذا المنطلق، أعتقد أن الأنظمة قيد على غرائزية المجتمعات، ذلك أن مجتمعاتنا لم تتعد بعد المرحلة الغريزية. نعم في بريطانيا أنا أقف مع المجتمع البريطاني ضد النظام، لأنني أعرف أن الشعب إذا رفع الغطاء عن نظام ما فإنه يأتي بنظام أحسن منه. لكن في مجتمعاتنا الأمور لا تسير هكذا. لنكن صريحين في مواجهة حقائق مجتمعاتنا، نحن لم نعرف شيئاً اسمه المجتمع السياسي، كنا طيلة تاريخنا إما عرباً أو موالي، شعوبيين أو غير شعوبيين، سنة أو شيعة، ولا مرة واحدة تم تقديمنا بوصفنا أفرادا مواطنين. سنغرق في الدم إلى الرقاب إذا أسقطنا أنظمة سيئة، وأفسحنا المجال لغرائزية المجتمع.نتأنت
* من هذا المنطلق ما تعليقك على من ينتقدك شخصياً ويقول إنك على صراحتك في نقد الظواهر السياسية المحدقة إلا أنك تغض الطرف تماماً عن الأيديولوجيا الخليجية، فيما تحظى الأيديولوجيا الإيرانية بقصف شبه يومي في كتاباتك. ألا يهجس ذلك بنوع من الازدواجية؟
بطبيعة الحال، أنا لست معجباً بالأيديولوجيا الخليجية ولا أتصور أن في ما أكتبه من قيم وأفكار فيه امتداح للإيديولوجيا الخليجية من قريب أو بعيد. كتبت كثيراً عن مساواة المرأة بالرجل وعن رفض حكم الإعدام والعنصرية والعبودية، إضافة إلى كتابات ضافية في نبذ التعصب، وهذه كلها على ما أعتقد قيم حديثة وتفترق في المطلق مع ما تسميه الأيديولوجيا الخليجية. إنما هناك فارق أساسي بين التركيبة الخليجية من جهة، التي هي عنصر استقرار إقليمي حالياً، وبين التركيبة الإيرانية التي هي عنصر تفجير إقليمي. هذا شيء أساسي، هناك مئة مأخذ لديّ على الأيديولوجية الخليجية، ولكنني أعدها أقلّ خطراً، أو على الأقل لاتمثل تهديداً داهماً. الخطر الداهم تمثله يقظة إيديولوجية إيرانية ثورية تهدد تركيبة الخريطة السكانية والاجتماعية والدول في المنطقة. بهذا المعنى، فالخطر هنا إنما لا أقول إن غير إيران عسل وسكر، ولكن أقول إن الخطر الأساسي حالياً هو هنا.

منطق الدولة

هل يمكن تعريف الدولة؟ هل للدولة منطق تعرف به؟

المعنى عرضة دوماً لإرادة المصلحة والمعرفة، حتى معنى الدولة، كل ما له معنى، فمعناه خاضع لهذه الإرادة، والدولة هي قبل كل شيء فكرة، أي معنى. هناك 145 معنى للدولة في الأدبيات الماركسية فقط، وهناك ربما أكثر F5776672-B38A-FC9A-EEE1A73E7ED39F57_1في الأدبيات الرأسمالية.

نعرف الدولة بالعرض لا بالجوهر، ليس لنا حيلة في تعريف الأشياء إلا بالعرض، وأقرب عرض لوعينا هو التجربة، ما نجربه هو الأقرب إلى فهمنا، السلطة تقع في نطاق تجربتنا، فنحن نسمع باسمها ونعرف أعوانها ونتعامل مع أجهزتها ونحفظ أسماء أعضائها ونعرف تواريخ أحداثها. لكن الدولة ليست هي السلطة، فالسلطة تزول وتتغير وتسقط والدولة باقية “كل الأنظمة زائلة لكن الدولة باقية” (تطور الدولة بالمغرب، محمد شقير،ص118)

الدولة فكرة مجردة، لكنها لا يمكن أن تتحقق وتوجد إلا في تجربة مجسدة في مصالح، الفكرة تتيح للتجربة أن تنمو وتتجاوز مآزقها وأخطاءها، والتجربة تتيح للفكرة أن تكون وتتحقق وتتجاوز أوهامها التنظيرية.

كان ابن خلدون يدرس تجارب الدولة المجسدة في سلطات العوائل والعصبيات والقبائل، كان يسميها دولاً، لكنها تسمية أقرب إلى المجاز، فالسلطة هي الأكثر تجسيداً للقوة والهيمنة والقدرة والإدارة، لذلك فهي الأكثر تجسيداً لفكرة الدولة، لكنها ليست الدولة بالمطلق، فهي جزء من الدولة أو جانب من جوانبها أو مكون من مكوناتها أو تجل من تجلياتها.

ما يتجسد ليس هو الدولة، فالدولة تبقى فكرة مجردة، تخضع إلى تجسدات مختلفة، وكل تجسد يمثل جانبا منها وتجربة فيها، لذلك نحتاج إلى استخدام التجريد.

إن ظهور الدولة في أي مجتمع سياسي لا يرتبط فقط بوجود العنصر المادي أو الحدود السياسية، بل يشترط أيضا وجود عنصر معنوي يتمثل على الخصوص في تبلور منطق للدولة. وبحسب هنري لوفيبر “الدولة تحكم وتسير، تحمي وتدافع، وتعاقب وتقال باسم منطق الدولة”. ويتمثل هذا المنطق في المصلحة العليا للدولة، وهي فوق كل مصلحة، وهي المصلحة الأسمى والأعلى.(شقير،ص131)

هناك فرق بين منطق الدولة ومنطق السلطة. بل قد يتعارض منطق السلطة ومنطق الدولة، فالسلطة تبقى في النهاية مجسدة في أشخاص أو عوائل أو عصبيات أو أحزاب أو جماعات. وهذه التجسيدات لها منطق مصلحة خاص بها، وكثيراً ما يتعارض مع فكرة الدولة، أو مع منطق مصلحتها.

وحين تلبس جماعات السلطة منطق مصلحتها بمنطق مصلحة الدولة، فإنها في هذه الحالة تختطف الدولة، وتتحدث باسمها بوصفها الممثلة الرسمية لشرعيتها. بل إنها تحتكر هذه الشرعية، لها وحدها. وكأن الدولة هي السلطة فقط، الدولة هي السلطة بأقسامها الثلاثة المستقلة، والمؤسسات الإدارية والمواطنين والجغرافيا والقوانين والدستور والعلاقات التي تحكم كل ذلك. الدولة هي جزء من سلطة الأفراد، لكنها فوق سلطتهم وفوق منطق مصلحتهم، هي منهم وأكثر.

منطق الأَثَرة والطفيليين

يقول جون لوك في كتابه الحكم المدني “فسلطة الدولة إذن لا تختلف في جوهرها عن السلطات (أو الصلاحيات) التي كانت للفرد في ظل المجتمع الطبيعي، وكل ما في الأمر أن الدولة (أو المجتمع المدني) تصلح المساوئ التي قد يتعرض لها المرء، بحكم أنانيته وأثرته”.

منطق مصلحة الدولة لا يستقيم ومنطق أنانية الفرد وأَثَرَته. ويصبح منطق الدولة مهدداً حين يتغلب منطق الأنانية الخاص على منطق الدولة العام. ويمكن أن نسميه بمنطق الطفيليين، وهو المنطق الذي تحكم من خلاله القوى الطفيلية، وهي بحسب تعريف عبدالإله بلقزيز: قوى لم تنشأ في بيئة الإنتاج والعمل الاقتصادي كفئات أو طبقات وراءها تاريخ من الاستثمار الخاص أو ذات سلطة اقتصادية حقيقية في المجتمع على نحو ما كان عليه دائماً أمر البرجوازيات في المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة، وإنما هي قوى وفئات حديثة عهد بالتملك والاستثمار لأنها نشأت في أحشاء الدولة وفي أحضان القطاع العام، ونمت مصالحها الفئوية داخل بيئة الفساد السياسي والإداري والمالي، مستفيدة من انعدام وجود مؤسسات الرقابة النيابية والإعلامية والشعبية أو من تعطيل سلطة الرقابة القضائية أو من غيابهما معاً.

تطابق هذه القوى الطفيلية منطق الدولة بمنطقها الطفيلي الخاص حيث مصلحتها الاقتصادية الخاصة، فتفقد الدولة جزءا من قوتها الاقتصادية التي من المفترض أن تصلح المساوئ التي قد يتعرض لها المرء، بحكم أنانيته وأثرته. إنها قوى تعمل ضد منطق الدولة.

منطق الولاء

هناك أيضاً قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي، فتنمي أشكالاً من الولاءات القبلية والشخصية والعائلية وتتمصلح من خلالها وتتقوى بها، وهي تحيل بهذه الممارسة الولاء من أن يكون ولاء عاماً مجرداً ليكون ولاء خاصا مشخصاً. وبهذا المنطق الطفيلي تفقد الدولة أيضاً جزءا من قوتها الولائية، التي يفترض أن تصلح بها انتماءات الفرد الأولية للدم والعائلة والقبيلة والدين، هكذا يتحول الولاء من قوة للدولة إلى قوة ضد الدولة.

هناك أيضا قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي والتمييز الطائفي، فتنمي جماعتها الطائفية وتقدم مصلحتهم الخاصة، على جماعة المواطنين العامة. وبهذا تفقد الدولة قوة الحياد التي تجعلها ملجأ آمناً لمختلف الجماعات المتنافسة أو المتصارعة.

بهذه الممارسات الطفيلية لا يعود للدولة منطق تقنع به الناس ليكونوا مواطنيها، الأمر الذي يفقدها حتى قدرتها على النطق والكلام، فلا تعود تملك حتى قوة خطاب يفصل في المواقف التي تتطلب فصل الخطاب. هكذا تعود الدولة نفسها قوة طفيلية تتغذى من هذه الطفيليات وتعيش عليها. فلا تعود الدولة قادرة على أن تحكم وتسير وتحمي وتدافع وتعاقب، لأنها فقدت منطقها، وفقدت منطق مصلحتها الأعلى، لمصلحة المصلحات الطفيلية الأدنى.

مادام معنى الدولة خاضعا لهذه القوى الطفيلية، فلا يمكن للدولة أن تعرف بمنطقها الخاص.

http://www.awan.com.kw/node/51388

الأول بين متساوين


يحلل فؤاد اسحاق الخوري، في كتابه “الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام” الحس اللاشعوري العربي الذي يثير الإنسان للتحرك والعمل بشكل عفوي (= الذهنية)، وهو حس يعمل من خلال أربع قواعد(1):
1. التصور اللاهرمي للكون والمجتمع.
2. الضعف يكمن في الانفراد أو الاستفراد.
3. القوة تكمن في الجماعة والتجمع، أو في الإجماع والاجتماع.
4. الأولية في التعامل والتفاعل بين البشر تعطي للتكتيك والقدرة على التحرك والمناورة.

تعمل هذه القواعد عبر استراتيجية يسميها الخوري (الأول بين متساوين) عبر هذا الاستراتيجية يهيمن الواحد. ما هي هذه الاستراتيجية؟ وكيف تعمل؟

تقوم هذه الاستراتيجية عل التفاعل مع العالم وكأنه مجموعة من الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناء العم. كلهم متساوون كحبات المسبحة وأسنان المشط وأحجار طاولة الزهر. تستعمل ألفاظ النسب والحسب لإقامة المساواة بين الناس. العالم عائلة واحدة، عالم الدولة، عالم الطائفة، عالم الملة، عالم الجماعة، عالم الإدارة، عالم الجمعية، عالم القرية، عالم المدينة، عالم الدائرة الانتخابية. وعالم العائلة الواحدة أو البيت الواحد هو عالم المساواة.
كيف يسعى المرء أن يكون الأول بين متساوين؟كيف يصبح إماماً أو أميراً أو باباً أو حاكماً في هذه العوالم؟

عليه أن يجعل من هذه العوالم عوالم جماعات، أفرادها أخوة متساوون، وهذه المساواة هي عينها التي يفترضها السعي لاحتلال المركز الأول بين متساوين. عليك أن تساوي الأفراد وتنزع خصوصيتهم وتمايزهم وتجعلهم صفاً واحدا، وعليك أن توهمهم بأنك تساويهم.

من يحاول أن يهيمن ليحتل المركز الأول بين قومه، يسعى أن يكون قريبا منهم متساويا معهم ويدافع عنهم ويحميهم، هو في آن معهم وضدهم وهذا مصدر القلق.

هذا المسعى المتناقض -كما يصفه خوري- أي أن يكون الأول بين متساوين، يفرض على المرء أن يكون لين العريكة يتأرجح بين هذا الموقع المهمين وذاك الموقع الأليف، وأن يساوي بين الناس ثم يسعى أن يكون أولهم.هو يساوي بين الناس بالتقرب منهم ومعاملتهم وكأنهم عائلة واحدة من الأنساب. التقرب من الناس طلباً للمساواة خطوة أولى للسعي وراء المركز الأول. والقوة والسلطة لا تستمد إلا عن طريق السيطرة على المتساوين.

المهم أن نحتل المركز الأول بين متساوين، نطلب المساواة سعياً وراء السيطرة والسلطة. عالم المساواة هو عالم القربى العائلة الواحدة الأمة الواحدة، كلما أردنا أن نسيطر ونهيمن ونتحكم في عالم أو في حقل من الحقول الاجتماعية، طابقناه بعالم العائلة. فهو العالم الذي تبدو فيه السلطة مبررة بـ”مقتضى الفطرة والهداية لا الفكرة والسياسة”( ) كما يقول ابن خلدون. هكذا تكون أعراف الحقول الاجتماعية والسياسية مبررة بمقتضيات الفطرة لا الفكرة والهداية الربانية لا السياسة الإنسانية.

عالم السياسة هو أكثر العوالم استخداماً لعالم العائلة، وذلك لأنه يقوم على الهيمنة، هيمنة الواحد الأول بين متساوين.كلما كثرت الإحالة في الخطاب السياسي والإعلامي إلى عالم العائلة توسعت أشكال حضور الهيمنة وتعددت مراوغاتها.

يقول خطاب العائلة ” أعتقد أن الغالبية تثق ثقة مطلقة في حكوماتها، وتثق في أنها ترفض أية ممارسات تضر بأوطانها من خلال التجاوزات أو استغلال المال العام، بالتالي فإننا نتمنى أن تكون الحكومات كرب الأسرة الذي يحاسب أعضاء أسرته إن أخطأوا ويعاقبهم عقابا شديدا لو كان الخطأ أحدث ضررا جسيما بحق الأسرة الواحدة”( )

عالم العائلة، عالم الثقة والمحافظة على مصالح الأخوة المتساويين في عقوبة الإضرار بأسرتهم أو استغلال مالها أو تجاوز مصالحها، وهو العالم الذي يحتاج إلى رب يعاقب المتساويين عقاباً شديدا كي يحمي عالم الأسرة من الخطأ، والرب محل الثقة فهو يعاقِب ويحاسب، ولا يُعاقَب ولا يتجاوز ولا يستغل مال الأسرة العام. هكذا تكون الأسرة عالم المساواة وعالم الربوبية وعالم الخطيئة وعالم العقاب، فمن أراد أن يكون رباً ويساوي الناس ويعاقبهم على خطيئتهم عقاباً شديداً فعليه أن يجعلهم عائلة واحدة.

ليس بين الرب والمتساويين في عالم الأسرة مناصب وتدرجات يتم على أساسها توزيع السلطة، فالرب في أسرته ومملكته لا يحتاج إلى سلطات تنازعه تفرده بالسلطة أو تحاسبه وتراقبه. إنه لا يحتاج إلى مناصب تقترب من تفرده بـ(الأول). لابدّ أن يتفرد هو وحده بالأول، أن يكون الأول بين متساوين.الذي يصلك مرتبة الأول هو العائلة، والذي يجعل من الآخرين متساوين في دنوهم من مرتبتك العالية هو العائلة، والذي يجعل من هيمنتك بَدهية لا تحتاج إلى مساءلة هو العائلة. العائلة هي أصل العالم، ولا جماعة تخرج على هذا الأصل، لذلك كلنا من عائلة آدم المبتلاة.العائلة هي الابتلاء، الابتلاء بالسلطة بالإرادة بالتحكم بالطاعة بالعصيان بالمساواة بالاختلاف.

كلما أردنا أن نقول الشيء وضده أحلنا الشيء وضده (الأول والمتساوين) إلى العائلة الأولى آدم وحواء.
يقول خطاب القبيلة الموالي للأول بين متساوين “وعبَّرت القبيلة عن استنكارها لكل ما يسيء بالمصلحة الوطنية أو يفرق بين مجتمع الأسرة الواحدة”( ).

ما يفضح حقيقة ما بين الأول والمتساوين، هو ما يهدد المصلحة الوطنية في منطق القبيلة، ومنطق القبيلة المدافع عن الأسرة الواحدة ، هو نفسه الذهنية العربية، وهو نفسه الحس اللاشعوري العربي، وهو نفسه ما يثير الإنسان العربي للتحرك والعمل، وهو نفسه منطق القواعد الأربع التي هي عينها: الأول بين متساوين.

وهو نفسه منطق الأخوة الذي يهدد الديموقراطية كما يحذرنا جاك دريدا في كتابه «مارقون»voyoucratie «لا خطر على الديموقراطية القادمة إلا من حيث يوجد الأخ، ليست بالضبط الأخوة كما نعرفها، ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، وتسود ديكتاتورية سياسية باسم الأخوة»( )

المصدر: جريدة الوقت

 (1) فؤاد اسحاق الخوري،الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام، ص8.

مدونة الباحث د.علي الديري