مكـتـبـــــــــة أبـــي الأخـبـاريـــــــــة

الرسالة العملية للفقيه الشيخ حسين العصفور،  سداد العباد
الرسالة العملية للفقيه الشيخ حسين العصفور، سداد العباد

هل (الأخبارية والأصولية) موضوع أو محمول أو قضية أو جدلية أو فتنة أو ملف أو صراع أو هو كل ذلك، أياً كان هو، لكن ما إن تفتحه، فإنه ينفتح عليك تاريخ مشحون، مشحون بالأسماء والأعلام والأحداث والمواقف والكتب والاختلافات والخلافات والسير والمدارس والجغرافيا والمعرفة والدين والسياسة والسلطة والقوة والثقافة والآراء والأقوال، إنه تاريخ المعرفة، والمعرفة ليست شأناً مقدساً، إنها أقرب إلى التدنيس منها إلى التنزيه، فهي من صنع الإنسان، والإنسان لا يصنع شيئاً منزّهاً، مهما كان بديعاً وجميلاً، فالإنسان يشحن ما يصنعه، بكل ما فيه من خير وشر وعقل وهوى وروح ومادة.(الأخبارية والأصولية) بما تحمله من تاريخ مشحون، هي المعرفة الدينية الشيعية التي أنتجها علماء الدين طوال هذه القرون، كيف يمكنك أن تقرأ هذا التاريخ الطويل؟
اخترت أن أقرأ تاريخها غير المنزّه، من مكتبة أبي، أبي الذي ألفتُ أن أسمع فمه يردد باستمرار اسم كتاب (السداد) للشيخ حسين العلامة، كان يحكي شيئاً من سيرته، وشيئاً من فتاواه، خصوصاً فتاواه المتعلقة بباب الطهارة والصلاة والحج، وكان موضوع طهارة النواصب يثير إشكالاً معاصراً عندي، فالشيخ حسين وضع سداده في القرن الثامن عشر الميلادي، وفي ظروف تاريخية متوترة، كان نتيجتها مقتله في( 1216هـ – 1801م) وهروب عائلته بتراثه الفقهي الغزير إلى بوشهر.
كتاب السداد
كان كتاب الشيخ حسين الموضوع في مكتبة الوالد مطبوعاً الطبعة الثانية بتحقيق في النجف في مطبعة النعمان، في سنة .1961 كان على غلافه (طبعه الأقل جواد السيد فضل الوداعي الموسوي البحراني أحسن الله خاتمته).
انطبعت صورة غلاف الكتاب بلونه الأخضر الفاتح في ذهني، حتى غدت كأنها أيقونة في مخيلتي، كلما جاء الوالد على اسم الشيخ حسين، جاءت صورة الغلاف، وتأتي معها صورة الشيخ حسين، لكن ليس الشيخ حسين العلامة. إنها صورة الشيخ حسين بن الشيخ عباس الستري، كان يقيم الجماعة في قريتنا يوم الجمعة منذ الستينات، وحتى مطلع الثمانينات، وعادة ما يكون غداؤه وقيلولته في مجلسنا. توضيح جمل السداد الغامضة، يتولاها الشيخ بعد قيلولته، اقترح عليه الوالد في 1983 أن يعلمنا النحو من متن الإجرومية، كنا نقرأ من (التحفة السنية في شرح متن الإجرومية) كانت النسخة صفراء وخطها صغير. جلست إلى درس الشيخ وأنا في الصف السادس، لم أستوعب شيئاً من درسه، لكني كنت حريصا وفخوراً بالجلوس إلى حلقة الدرس. مع هذا الحرص، لم تتحسن مهاراتي في اللغة العربية ولا في النحو، فقد ظلت درجاتي فيها في حدود الجيد أو ربما أقل.

   تجاوز عمر كتاب  (سداد العِباد ورشاد العبّاد) الخمسين عامًا في مكتبة الحاج أحمد، وعلى الرغم من اهترائه، فإنه مازال يحتفظ بجمال عتاقته
تجاوز عمر كتاب (سداد العِباد ورشاد العبّاد) الخمسين عامًا في مكتبة الحاج أحمد، وعلى الرغم من اهترائه، فإنه مازال يحتفظ بجمال عتاقته

منهاج الصالحين
سأغادر مجلس الشيخ المعتق في إخباريته، وأنا أحمل اسم شيخ حسين العلامة وصورة غلاف كتابه، لكن هذه الصورة لن يكتب لها أن تستقر في تديني، ففي السنة نفسها سأنفتح على دروس المأتم الدينية، حيث هناك الثورة على فكرة تقليد الميت ابتداء التي كانت تعني الثورة على مدرسة الشيخ حسين الأخبارية، هناك سيتولى مدرسونا في المأتم طرح المرجعيات الأصولية الجديدة التي لم أسمع أبي يذكرها، ولا الشيخ حسين بن الشيخ عباس يرددها، اخترت السيد الخوئي ليكون مرجعي ومقلدي، واشتريت رسالته العملية (مناهج الصالحين) كان غلافها أكثر غماقة من غلاف كتاب السداد، ولاحقاً سيأخذنا أساتذتنا بالمأتم إلى السيد علوي الغريفي، حيث كان يخصص درساً لشرح المنهاج، شرحاً مبسطاً وسريعاً. وكان باب الطهارة هو الباب الذي تمكنت من متابعته في درس السيد علوي.
حتى هذه اللحظة لم أكن قد سمعت بمصطلح الأصوليين والأخباريين، كنت أستشعر أن هناك حساسية جديدة بدت تتشكل تجاه شيخ حسين العلامة وتجاه مقلديه، بدأنا نرى في تقليد الشيخ حسين نموذجاً تقليديا قديماً، وهو لا يتماشى مع حركة الإسلام الثورية الجديدة. كما بدأنا نستشعر بنفرة تجاه تقليد الأموات، وصرنا نرى التدين الذي يمثله الآباء بالرجوع إلى هؤلاء الأموات تديناً تقليدياً ينبغي مفارقته، حتى كنا نستشكل على ممارساتهم الفقهية، ونتندر على وعيهم الديني.
صدمة مطهري
ستشكل لحظة التعرف على مصطلحي الأخبارية والأصولية صدمة لوعيي الديني، كنت لحظتها في المرحلة الإعدادية، أقرأ كتاب مرتضى مطهري (الاجتهاد في الإسلام)، قرأت فقراته العنيفة تجاه الإخباريين، لم أكن حينها أعرف هذا المصطلح، لكني فهمت من خطابه، إنهم علماء وفقهاء، كنت أتساءل: كيف ينال منهم؟ هل يجوز أن ننال من الفقهاء؟ أليست نجاتنا في تقليدهم؟ ما مصير هؤلاء الناس الذين يقلدونهم؟ هل أعمالهم باطلة؟ أليسوا من الصائنين لدينهم والحافظين لأمر مولاهم من الذين للعوام أن يقلدوهم، ليكون عملهم صحيحا؟
كان مطهري، يقول بنبرة تهويلية ‘’هنا ينبغي أن نشير إلى حدث مهم وخطير برز في عالم التشيع خلال القرون الأربعة الماضية يتعلق بموضوع الاجتهاد. وهذا الحدث هو موضوع ‘’الأخبارية’’. ولولا وقوف عدد من العلماء البارزين الشجعان في وجه تلك الموجة وصدها، لما كنا نعرف وضعنا الحاضر. إن مذهب الإخباريين هذا لا يزيد عمره عن أربعة قرون، ومؤسسه رجل اسمه ‘’الملا أمين الاسترآبادي’’ وكان رجلاً ذكياً، وقد اتبعه جمع من علماء الشيعة. يدّعي الإخباريون أن الشيعة القدامى،حتى أيام الصدوق، كانوا يتبعون المسلك الإخباري. ولكن الحقيقة هي أن الميول الأخبارية، باعتبارها مذهباً له أصول معينة، لم يكن لها وجود قبل أربعة قرون.إنهم ينكرون أن يكون العقل حجة، المذهب الإخباري ضد مذهب الاجتهاد والتقليد، كانت الأخبارية حركة مناوئة للعقل، وهي تتميز بجمود وجفاف عجيبين’’.
كان السؤال الذي يراود براءة تصوري الطفولي، هو كيف لعالم دين أن يهاجم علماء دين آخرين من نفس مذهبه؟ ولماذا هذه الحدة في الهجوم؟ وكان وقع الصدمة يزداد كلما واصلت القراءة ووجدت أن مطهري يمعن في هجومه، خصوصا وأن مطهري كان يمثل بالنسبة لي نموذجا لعالم الدين المتفتح المثقف الذي لديه اطلاع عصري في كل شيء، أي أنني لم أشك أن مطهري ربما يكون مخطئاً، لكن كيف يمكن أن يقع هذا التناحر بين علمائنا، هذا ما كان يؤلمني لحظتها.

جامع السعادات من أشهر الکتب في علم الأخلاق من تأليف المحقق محمد مهدي النراقي  (ت 1794)
جامع السعادات من أشهر الکتب في علم الأخلاق من تأليف المحقق محمد مهدي النراقي (ت 1794)

التاريخ المنزّه
ما هدّأ شيئاً من صدمتي، هو أن مطهري يتحدث عن تاريخ بعيد جدا، وإن كانت حساسيتنا الدينية، تجعلنا نرى العلماء كلهم وكأنهم يعيشون في لحظة زمنية واحدة، فالعالم الذي عاش قبل 400 سنة له القدسية نفسها التي للعلماء المعاصرين، فهو امتداد لتاريخ منزّه، ولا يذكر اسمه إلا بالألقاب التبجيلية، كان مطهري يقول ‘’ولكن من حسن الحظ أن أشخاصا حكماء، مثل وحيد البهبهاني، وكذلك طلابه، ومن ثم المرحوم الحاج شيخ مرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه، بادروا إلى الوقوف بوجه هذه الحركة. كان وحيد البهبهاني في كربلاء، وفي الوقت نفسه كان صاحب ‘’الحدائق’’ الإخباري في كربلاء أيضاً، وكان لكليهما حلقة درس. كان وحيد اجتهادي المسلك، وكان صاحب ‘’الحدائق’’ إخباري المسلك. ولقد كان صراعاً صعباً حقاً ، انتهى بانتصار وحيد البهبهاني على صاحب ‘’الحدائق’’. أمّا الشيخ الأنصاري فقد كافح الأخبارية بوضعه أساساً متقناً لعلم الأصول، بحيث إنّه كان يقول لو أن أميناً الاستر آبادي كان حياً لقبل بما وضعته في علم الأصول. وعلى أثر هذه المكافحات اندحرت الطريقة الأخبارية، وليس لها اليوم أتباع إلاّ في بعض الزوايا النائية’’.
تخريب الحدائق
كنت قد اعتدت أن أسمع اسم الشيخ حسين العلامة، مقترناً باسم الشيخ يوسف البحراني، فهو أستاذه وخاله، وهذا ما شكّل صدمة أكبر بالنسبة لوعيي الديني الذي شكَّله أبي بترداد اسم شيخ حسين. كنت أرى الشيخ حسين العلامة في صورة شيخ حسين الستري ولم أشك أن لحيته البيضاء البهية هي نفسها لحية صاحب السداد.
أحسست كأن مطهري قد عبث بحدائق الشيخ يوسف البحراني، فالحدائق التي لم أرها، كنت أسمع باسمها يتردد بتبجيل عظيم، فهي موسوعة الشيخ يوسف الفقهية الكبيرة التي لم يؤلف مثلها في التاريخ. لقد استقرت في وعيي صورة هذه الحدائق مقرونة بالتبجيل، فكيف يخربها مطهري بدفقة حبر؟!!
ذهبت لأستاذي في المأتم أستفسر منه، وأطلب منه توضيحاً يهدّئ من صدمتي، كان جوابه يشبه جواب من يريد أن يغلق ملف قضية تاريخية قديمة، قال لي، الأصولية والأخبارية فتنة قديمة، ولا نريد إثارتها كي لا تكون فتنة تضعف وحدة الصف الإسلامي، لقد أفهمني ذلك بحس يشبه الحس الأمني.
مكتبة تقليد الأموات ابتداء
لم أكن أعي حينها، أن حركة التدين الثورية الجديدة التي جاءت بها الثورة الإسلامية في إيران، ستجد في نمط التدين التقليدي الذي يمثله النمط الإخباري المعروف في البحرين، والذي لم يكن له منافس، ستجد في هذا النمط ما يتعارض معها، وأنها ستعمل على تغييره. لن يكون هذا التغيير سهلاً، رغم أن الثورة وجدت قبولاً في نفوس الناس، فالآباء لم يجدوا أنهم مضطرون لتغيير أنماط تدينهم وأسماء مراجعهم ومقلديهم، لكن الحس الثوري التغييري، وجد في كل شيء تعارضاً، تعارضاً يحتاج إلى تغيير وإلا أصبح معارضة، والمعارضة تفضي إلى الصدام.
لكن الصدام هذه المرة لم يكن تحت عنوان الإخباريين والأصوليين، لكن من مثلوا التدين الإخباري، كانت حساسيتهم الدينية للعالم مختلفة تماماً عن الحساسية الجديدة للثورة، لذلك كان على الأخبارية أن تتراجع أو أن يتراجع عنوانها وتعيد تمثيل نفسها في شكل آخر. وتلك حكاية أخرى تحتاج إلى فصل جديد.
لقد فتحت، اليوم، مكتبة أبي فوجدتها كما هي، تخبر عن تاريخ ما قبل الثورة، ما قبل تقليد الأحياء، وإشكال صلاة الجمعة، وتقليد الولي الفقيه، وولاية الفقيه، وآية الله، والمجتهد، والمرجع الأعلى. لم تكن تخبر عن تاريخ ما بعد الثورة.
فتحت مكتبته، فوجدت فيها، (سداد العباد ورشاد العباد)، وكتاب (الحج من كتاب سداد العباد) للعلامة الوقور الشيخ حسين آل عصفور البحراني، وكتاب تلميذه (كنز المسائل والمآخذ في شرح المختصر النافع) بأجزائه الخمسة لخاتمة المحدثين العلامة الشيخ عبدالله الستري البحراني (1776- 1853). و(الرسالة الصلاتية) للشيخ يوسف البحراني (1695ـ 1772).

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=85481

استيحاشات نكاح الرضيعة

”والحكم بجواز نكاح الصغيرة لا يختص به فقهاء الشيعة بل إن فقهاء السنة يفتون أيضاً بجواز نكاح الصغيرة بل والرضيعة أيضاً. ومن شاء فليراجع مصادرهم الفقهية ومجاميعهم الروائية فإنه سيجد ذلك جليّاً، فلا معنى لتهريج بعض من لاحظَّ له من العلم على الشيعة بعد أن كان الحكم بالجواز ليس من مختصاتهم”[1] الشيخ محمد صنقور.

http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID=186
صنقور منذ تعرفت في عام 2002 على معجم الشيخ محمد صنقور (المعجم الأصولي) الذي يتناول بالشرح معظم المصطلحات الأصولية وتحرير مسائل الأصول بحسب الترتيب الهجائي، ويقع في حدود الألف صفحة، وأنا أسعى للالتقاء به شخصياً، من أجل التعبير له عن إعجابي بالجهد العلمي الذي قام به في هذا الكتاب، لكن يبدو أن مجريات الشأن السياسي والثقافي والديني وما يترتب عليهم من احترابات ومواقف، كانت تضعف من فرص هذا اللقاء المرتجى، خصوصاً وأن الشيخ قد أصبح الناطق الإعلامي الرسمي باسم المجلس العلمائي، والمدافع عن مواقفه، وقد بدا الشيخ رغم قصوره الفادح في إدارة خطاب إعلامي وسياسي يتناغم وتعددية الساحة الإعلامية والثقافية في البحرين، بدا قادراً على إنتاج خطاب مطابق لمواصفات الحساسية الدينية الحوزوية التقليدية التي يمثلها الرموز الدينيون الذين أودعوا ثقتهم الكاملة في نباهة الشيخ العلمية.
مناسبة هذه المقدمة، هي أن الأوساط النسوية المدافعة عن حقوق المرأة وحماية الأطفال، تتداول هذه الأيام مقالة (وليست فتوى) للشيخ كتبها في ,2005 وعنوانها ( جواز نكاح الصغيرة ومنشأ الاستيحاش) وهي منشورة في قسم (مقالات تعنى بشؤون المرأة) في الموقع الإلكتروني لحوزة الهدى التي يديرها سماحة الشيخ محمد صنقور.
بعد أن يقرر الشيخ في مقالته ثبات جواز نكاح الصغيرة عند السنة والشيعة، يوظف قدراته الحجاجية في إزالة ما يسميه بالاستيحاش من جواز هذا النكاح. يورد الشيخ خمسة مناشئ للاستيحاش، ويحيلها بتقنياته الحجاجية إلى مستأنسات، أي أنه يحيل الاستيحاش استئناساً.
لست معنياً بمضمون خطاب الشيخ صنقور، فتلك مسألة تشغل المختصين بالقضايا النسوية والجندر والدفاع عن حقوق المرأة وحماية الأطفال، لكني معني بـ”درس تقنيات الخطاب التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات، أو أن تزيد في درجة التسليم”. معني بالتقنية الخطابية التي يزيل بها الشيخ صنقور مناشئ الاستيحاش. هذا الدرس بمثابة أصول تحليل الخطاب، أي كما أن علم أصول الفقه بمثابة علم تحليل خطاب القرآن والسنة، فإن علم أصول تحليل الخطاب هو أيضا علم تحليل لكنه ليس مختصاً بخطاب واحد، كما هو الأمر مع علم الأصول، فنحن هنا مثلا نحلل خطاب الشيخ صنقور، من منظور هذا العلم.
(الاحتجاج بما ورد في كتب الخصوم)، تلك هي الآلية الأكثر حضوراً في المحاججات المبنية على خلافات دينية عقائدية وفقهية، وهي آلية تظهر المحاجِج في صورة المطلع والعالم بمدونات الخصم والعارف بتفاصيلها ودقائقها، كما أن هذه الآلية تخفف من شذوذ المدعى عليه، فهو ليس شاذاً في ما يذهب إليه، بدليل أن المحتج عليه يقول بذلك. وهي إحدى آليات خطاب الشيخ صنقور في إزالة الاستيحاش، وقد أثبت الشيخ عبر الرجوع إلى كتب الفقه السنية المعتمدة، أنها تجوّز نكاح الصغيرة بل والرضيعة كما هو الأمر في كتاب روضة الطالبين لمحيي الدين النووي ج4 ص.”379 يجوز وقف ما يراد لعينٍ تستفاد منه كالأشجار للثمار.. كما يجوز نكاح الرضيعة”.
هو بهذه الطريقة يزيل تشنيع الخصوم، خصوصاً وأن المواقع الإلكترونية المشغولة بالمحاججات العقائدية، كثيراً ما تُشنِّع بفتوى الإمام الخميني في تجويز نكاح الرضيعة. ربما تكون لآلية الحجاج هذه، جدواها عند المحتربين على مستوى المعارك العقائدية، لكنها لا تزحزح موضوعات الخلاف إلى مناطق جديدة، فالخصوم يظلون في المواقع الاحترابية نفسها، ويكتفون بتسجيل الأهداف على بعضهم، وهم من غير أن يقصدوا، يبرهنون على أنهم في الورطة نفسها، وفي المأزق ذاته.
كما أن هذه الآلية، تجعلهم يثبتون صحة أخطائهم ببرهان وجودها عند الخصم، بدل أن يكتشفوا أخطاءهم بالحجاج مع الخصم، هم يثبتونها باكتشاف وجودها عنده، فمادام الخصم يقول أيضاً ما نقول فلسنا بحاجة إلى تصحيح ما عندنا. ولعل جملة الشيخ صنقور ناطقة بكل هذه الوظائف التي تؤديها هذه الآلية، جملته التي يقول فيها ”فلا معنى لتهريج بعض من لاحظَّ له من العلم على الشيعة بعد أن كان الحكم بالجواز ليس من مختصاتهم”.
حظك من العلم بما لدى الخصوم، يزيل عنك تهمة التهريج ويمنحك اطمئنان المنتصر على المهرج الذي يحاول أن يوهمك أنك لا تعرف خدعه. تبدو جملة الشيخ مشحونة بالانتصار والعلم والقدرة على الحسم والإسكات، فلا يدعي أحد أو يهرج علينا بأن الشيعة وحدهم من اختص بتجويز نكاح الصغيرة بل والرضيعة، فالسنة أيضاً من القائلين بالتجويز.
الآن بثقة المنتصر، سيتولى خطاب الشيخ، إزاحة الاستيحاشات ومناشئها، وهنا ستظهر الورطة الأكبر التي كان يظن أنه سيُخلص خطابه الفقهي منها بمجرد أن يثبت وجود التجويز عند خصمه. ليس خصم الشيخ هنا عقائدي ولا مذهبي، فالخصم المذهبي يكفي أن تقول له إن مذهبك يقول بما أقول، فلا تستنكر علي، هو الآن أمام خصم جديد، فهو أمام عصر حديث، له حساسياته الحديثة تجاه الطفولة والمرأة والإنسان والحقوق والزواج، هو لا يتحدث مع هذا الخصم مباشرة، هو يتحدث مع المتماهين معه والمؤمنين بخطابه المذهبي، ويعيشون ورطة هذا العصر وحساسيته، يريد أن يطمئنهم كي لا يستوحشوا من فقههم الذي يجيز ما تستوحشه حساسية الخصم الجديد الذي يحرم هذا الجواز تحت أي ذريعة أو تبرير أو ضمان، وليس لهذا الخصم مدونات حقوقية أو فقهية تجيز هذا الفعل (نكاح الرضيعة) كي يشغل الشيخ آليته الأثيرة في التعامل مع كتب الخصوم.
إنه يريد أن تتجسَّد في ذوات المتلقين المؤمنين بخطابه قناعات ومواقف، كي يحقق وظيفة التواصل الموقفي وهو”حمل المتلقي على الاشتراك مع المخاطب في موقف معين والسيطرة على وعيه وعلى عالمه الذهني كي يتكيف سلوكه مع مقتضيات ذلك الموقف ونتائجه العملية”[2]
يريد أن يعيد تشكيل الموقف النفسي الاستيحاشي، ليجعله في موقف القبول والاستئناس، أو على الأقل عدم الاستنكار.
سيحتاج الشيخ إلى أن يزيل هذا الاستيحاش بآلية أخرى، هي آليه الافتراض والتبرير والتوهين والتخفيف وتجاهل الوقائع. سيُشغّل هنا الشيخ صنقور آليات معجمه الأصولي الضخم (1000صفحة) سيكون مرجعيته التي تسند خطابه، كي يستقيم في وجه هذا الخصم المختلف الحساسية. فهل سيفلح في إزالة الاستيحاش أم سيضاعف من الاستيحاش؟ هذا ما سأتناوله في الحلقة المقبلة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5223

الهوامش
[1]http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID= 186
[2] الحداد (محمد)، حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، ط,1 بيروت: دار الطليعة، .2002ص.117

فتح التاريخ

«ما الذي يريد أن يستنهضه بعض المثقفين من فتح ذاكرة الفعل فتح؟» هذا ملخص اعتراض ساقه قارئ حقيقي، بشأن مقالي «إعراب ذاكرة الفعل فتح» الذي قدمته فيه ملخصاً لمداخلتي في ندوة المغرب عن «الإسلاميون واليساريون والديمقراطية»، والحقيقة أن هذا السؤال يهمس به عشرات من القراء الضمنيين أو الافتراضيين. السؤال في سياقه، كان يحمل عتباً واستنكاراً وتحذيراً، عتباً من فتح ذاكرة التاريخ ونحن نعيش عصراً جديداً، واستنكاراً لإثارة ما يمكن أن يؤدي إلى استنهاض ثارات، ونقداً لتورط شخصيتي الثقافية في إثارة نعرات تاريخية.
قلت للقارئ الذي وصف نفسه بأنه عاشق للفلسفة: حين نفتح كهف 39217 أفلاطون المظلم على النور، سنرى الحقيقة من خلال الشمس لا من خلال الظلال، وحين نفتح ذاكرتنا المُغلَّقة بالقوة الفاتحة، ستفقد هذه الذاكرة سحرها الأسطوري الماضي الذي يشتغل اليوم في جماعات كثيرة أكثر مما يشتغل الحاضر. الظلال تتضخم في الذاكرة المقموعة، كما تتضخم ظلال الكهف في حصار الظلمة، وتصير ضلالاً.
قلت له: دع الجماعات تعيد قراءة ذاكراتها كي لا تتوهم فتستطيل ذاكرتها. دعها تعرب ذاكرتها، كي تتوضح لها العبرة من التاريخ، الإعراب بيان وتوضيح، والإعجام تنكير وغموض والتباس. الذاكرة المعجمة لا تحسن استخلاص درس التاريخ. وذاكرتنا اليوم معجمة، فيها أصوات وجلبات لا تتوضّح معانيها. الفعل «فتح» قد أغلق ذاكرات كثيرة، فراحت تسرد تاريخ ذاكرتها من مطالعها المغلقة، فلم تر وطناً مشتركاً لدولة مشتركة.
الذهاب إلى التاريخ محفوف دوماً بمخاطر الوقوع في اللاتاريخ، لذلك كنت أتحصن بابن خلدون، وهذه المرة، لم تكن معي المقدمة، لكن كان معي، رواية المقدمة، إنها رواية «العلامة» التي كتبها المفكر والمبدع المغربي سالم حِمّيش، لقد حازت هذه الرواية على جائزة نجيب محفوظ للرواية سنة 2002 وتمت ترجمتها إلى لغات عدة منها الفرنسية والإنجليزية على يد البروفيسور روجر ألان. وذلك لما تتوافر عليه من خصوبة بالغة في معالجة شخصية ابن خلدون وتمثل عميقاً مفهومه للتاريخ.
وقد ابتكرت الرواية شخصية «حمو الحيحي» وهو لا وجود له في الواقع، ووظفتها بصفته كاتباً لإملاءات عبدالرحمن ابن خلدون.
لن يكون «حمو الحيحي» كاتب إملاء فقط، بل سيكون مُولّد أسئلة، ومثير إشكالات، وصديق معرفة وصاحب ذائقة قرائية ناقدة، في إحدى ليالي الإملاء، يثير «حمو» سؤالا إشكالياً «إذا كان التاريخ ديواناً لا تحتل العبرة فيه حصتها الوضاءة، ولا دورها الدافع المفيد، فأي معنى يكون للمتغيرات أو للتقلب بين الأطوار والفترات»[1].
يثير هذا السؤال، أعماق تفكير ابن خلدون في التاريخ، وأعماق إحساسه العميق بثقل التاريخ، فيجيبه «سجلها يا حمو قبل انصرافك سجل علة العلل الحيثية قبل أن تفلت مني ناصيتها، أو يعميني نور نصاعتها وتميزها. أم العلل في تعطل العبرة وتراكم الأزمنة اللامجدي، أراها الآن في فساد بذرة التاريخ ودفعة أطواره، أراها في عُوار هذا الأصل المتنطع المتناسخ، العائد دوماً بنفس المعاطب والخروقات»[2].
ما هذه البذرة التي تفسد التاريخ، ولا تجعله ينمو ويعتبر ويتعظ، ليستأنف حياة جديدة، ما الذي يجعل هذه البذرة فاسدة؟ ما الذي يفسد درس التاريخ؟ ويجعله غير مجدٍ، ما سرّ المعاطب والخروقات؟
«أراها يا حمو في بلوى العصبية بالذات والصفات»[,3] «العصبية أم البلايا كالفينق المنبعث من رماده»[4]. «عصبية الولاء والاصطناع التي بتعظيمها وتسعيرها تتنافس العصابات في الاستغلاظ بعضها على بعض»[5].
هذه البلوى العصبية تجعل الدولة بذاكرات كثيرة متشظية ومحتربة ومتكهّفة (من كهف). ما يهدد الدولة ليس فتح تاريخ العصبيات ونقده، بل فتح العصبيات نفسها، فتح باب الدولة لها واصطناعها إياها وتعظيمها لها وتسعيرها (من السعار والسعر) حد الاستغلاظ.
الدولة تكون حين تتعظ بالتاريخ، حين تتعلم درسه العميق، حين تعي بذرة فسادها وتستبدلها ببذرة أخرى، حين تكف عن اصطناع الولاءات الطفيلية العصبية، وإلا سيكون الموت أو الشلل يتربص بها، نحن نفتح الذاكرة كي نعي درس التاريخ، ونكشف هذه البذرة الفاسدة التي تنخر في عمر الدولة، وتجعل من دولنا أشباه دول. نفتح فعل الفتح كي نُعرِبه، كي نخلصه من بلوى العصبية التي هي كالفينق، تنبعث مع كل طور من أطوار الدولة، طور 1924 وطور 1971 وطور 1975 وطور ,2002 مع كل انبعاثة يأتي هذا الطائر في شكل حياة جديدة، لذلك لابد أن نواجهه ونفتح أفعال انبعاثه.
فساد بذرة التاريخ بالعصبية، إنها البذرة التي تجعل عمر الإصلاح في الدولة دوماً قصيراً، كما يقول ابن خلدون. لأنها هذه البذرة تثقل الدولة بعيوب تعجل بها أو تشلها أو تهدد استقرارها، ويعدد لنا ابن خلدون هذه العيوب بنبرة تقريعية عالية الوقع «وازع القرابة والدم في الظفر بالملك عيب. اصطناع المرتزقة والموالي في إدارة دفة الحكم عيب، الاستبداد موفقاً كان أو بائساً عيب، التعويل على مشورة الهَرِمين ومن طبختهم الدولة عيب، تفضيل المتزلفين على المضطلعين الأكفاء في الدواوين عيب[6].
العصبية تصنع العيب، والدولة المبتلاة بعيب العصبية لا يمكنها إلا أن تكون دولة خلدونية، أي دولة تنخر فيها بذرة الفساد ولا تتعظ بعبرة التاريخ. لذلك مادام ابن خلدون قادراً على أن يفسرنا، فلسنا في التاريخ بعد. أن يكون ابن خلدون مازال يفضح عيوبنا فذلك هو العيب الأكبر.
مرة أخرى نحن لا نفتح التاريخ، نحن نفتح هذه البذرة التي تحول بيننا وبين أن يكون لدينا تاريخ، تاريخ أرضه مشتركة، تاريخ من دون عيب، ودولة من دون عيب، الدولة حيث التاريخ أولا تكون دولة، والدولة حيث اللاتاريخ شبه دولة أو دولة ينقص التاريخ من أطرافها.
يسوق ابن خلدون شاهدة في نهاية عمر تاريخه الطويل يسميها «معضلة العبرة من التاريخ»، يسوقها بروح كافرة من أن يكون لنا دولة تعي درس التاريخ وتملك الجرأة على مكاشفته «تريدني الآن في معضلة العبرة من التاريخ. بيد أني قطعت حول التفكير فيها طورين على الأقل: طور هو الأطول لازم عهد فتوتي وحتى كهولتي الأولى، وآمنت فيه أن التاريخ ذو فوائد شتى، وأنه مخزون الدلالات الكبرى وكتاب العبر المثلى، وطور هو الحاصل اليوم، بت أشك خلاله في قدرة أولي الأمر وأرباب الدول على مكاشفة التاريخ والنظر إليه كما وصفته، أو تريبني قابليتهم في ذلك»[7].

الهوامش:
[1] العلامة، سالم حميش، ص .64
[2] المرجع نفسه، ص .64
[3] المرجع نفسه، ص .64
[4] المرجع نفسه، ص .61
[5] المرجع نفسه، ص .135
[6] المرجع نفسه، ص .66
[7] المرجع نفسه، ص .47

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5153

إعراب ذاكرة الفعل «فتح»

كنت في 27 أكتوبر/ تشرين الأول ,2007 بالرباط، في ندوة عن «الإسلاميون والعلمانيون والديمقراطية»، كان الدكتور المعطي منجب، هو المشرف على الندوة، بدعم من مجلس السلام الهولندي (IKV)، ومنتدى المواطنين (Citizens’ Assembly)، والشبكة من أجل التنمية.
كان المطلوب مني أن أتحدث عن تجربة الدولة في البحرين، وجدت أن تاريخ 1783 يشكل مفصلاً من مفاصل تشكيل الدولة، وأن حدث بداية تأسيس الدولة البيروalbinaliقراطية في ,1923 ظل مرتهناً بحدث .1783 ولا يمكن الحديث عن دولة في البحرين من دون الحديث عن هذا التاريخ وظلاله. قلت لهم في مداخلتي الشفوية المرتجلة، أنا قادم من بلد مساحته 700 كلم مربع ولا يتعدى عدد مواطنيه نصف المليون، لكنه ببحرين، أحدهما حلو والآخر مالح، أنا قادم من بحرين يتعايشان بهدوء صاخب. البحر في دولتنا بطبيعته تعددي، والأرض بثقافتها تعددية.
لقد ألغينا تعددية البحر، حين دفنا سواحله الحلوة، ولم نعد نستطيع أن نجلب للأرض الماء الحلو من وسط البحر المالح، طبيعة تعددية البحر، كانت تقوم على حقيقة «بينهما برزخ لا يبغيان» لقد دمرنا برزخ الأمان هذا، وصار المالح يبغي على الحلو، وقد جاء هذا التدمير من اليابسة، من الأرض، الأرض التعددية كان بإمكانها أن تكون صمام أمان للبحر بتعدديته، لكن حين بغت قوة متنفذة (الصحافة تستخدم كلمة المتنفذين) على الأرض، بغت معها قوة البحر المالح، فغيض البحر الحلو.
قلت لهم: في 1923 عرفت السلطة الإقطاعية القبلية أول تجربة حكم مركزي، في شكل سلطة بيروقراطية، كان عاماً مفصلياً، إذ للمرة الأولى تعرف السلطة وحلفاؤها والجماعات المحكومة، فكرة الدولة، وكان الموقف من هذه الفكرة متبايناً، فالسلطة وجدت فيها انتقاصاً من ملكيتها المطلقة، خصوصاً بعد خلع الشيخ عيسى بن علي بقوة بريطانيا وتنصيب ابنه الشيخ حمد، ليكون ممثلا لنظام الحكم الإداري الجديد.
لقد قرأت السلطة الإقطاعية في هذا الفعل تدخلاً في شؤون ملكيتها الشرعية الحقة الخاصة، بحكم مقتضى فعل الفتح، وحلفاؤها وجدوا فيه انتقاصاً من امتيازاتهم الإقطاعية، وإلغاءً لسلطة مجالسهم القبلية التي يديرون من خلالها قضاءهم ويتخذون فيها قراراتهم، والجماعات الشيعية المحكومة وجدوا فيه حماية لوجودهم وحفظاً لحقوقهم المنتهكة.
لقد أصبح كل طرف يطور فكرته عن الدولة بالطريقة التي تخدم مصالحه وتتفق مع تصوراته. كان مجلس القبيلة هو مصدر قوة السلطة، والإصلاحات البريطانية كانت قد هددت قوة هذا المجلس الذي يحكم السلطة و«الدولة». مازال هذا المجلس يستنسخ نفسه بأشكال مختلفة في الدولة، وهو ما يهدد فكرة الدولة.
قلت لهم، مازلنا حتى الآن لا نستطيع الحديث بتعددية عن تاريخ ,1783 ولا عن تاريخ ,1924 ولا عما بينهما وما قبلهما، لذلك لا نستطيع الحديث عن الجماعات وذاكراتها، وهي نفسها الجماعات المتعددة الحالية التي تشكل ما نسميه اليوم «البحرين»، ليس لدينا ميدان حر مشترك يتيح لهذه الذاكرات أن تقول سردياتها ضمن بحرين ديمقراطيين لا يبغي أحدهما على الآخر.
والدليل على ذلك أن كتاب صديقنا الدكتور نادر كاظم «استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ» المعد للطباعة، مازال في حكم الممنوع منذ أكثر من أربعة أشهر. وهناك حملة تضامنية من المجتمع المدني بمختلف مراكزه، لكن يبدو أن هناك شيئاً خفياً أقوى، يقف خلف المنع، وهذا الخفي الأقوى هو ما يهدد تجربتنا الديمقراطية دوماً، فالديمقراطية شفافة ولا تعرف الخفاء، وحين تكون القوة للخفي والضعف للشفاف، فإن ذلك مؤشر إلى ضعف الديمقراطية أو اختفاء الدولة، أو يجعلنا نقول إن فكرة الدولة غير متحققة، لأنها مخفية ولا نراها. كيف يمكن للجماعات المتعددة أن تشكل تجربة ديمقراطية والدولة أو القوة الخفية التي تديرها لا تحتكر وسائل العنف فقط، بل تحتكر الميدان الحر المشترك الذي يتيح لهذه الجماعات أن تبني أفقاً مشتركاً متخففاً من ثقل التاريخ المؤسطر. قلت لهم، هذا يدعونا إلى أن نطرح من جديد، فكرة الدولة، أن نسائل أنفسنا ما الدولة؟ ليست الدولة مجموعة من الوقائع تتخذ شكل مجموعة من المؤسسات، أو مجموعة من السلطات شبه المفصولة، أو مجموعة من آليات انتخابية شبه نزيهة، الدولة فكرة، وإذا أفرغت وقائعها من الفكرة، فليست هناك دولة، جديرة بأن تكون صاحبة تجربة تعددية ديمقراطية. ما هي هذه الفكرة؟
الفكرة هي ألا نفهم الدولة بالشكل الخارجي بعناصره الثلاثة: الإقليم (المرتبط بمفهوم السيادة) والشعب (المرتبط بولائه لهذه الدولة) والسلطة (القائمة على أجهزة تنظم أوجه الحياة كافة وتؤمن بعض الخدمات للمواطنين).
بل أنْ نفهم الدولة فهماً عقلانياً يجعلنا نحاكم الدولة بغايتها القصوى وهي الحرية، كما يقول سبينوزا «إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الإنسان من الخوف، فالحرية هي، إذاً، الغاية الحقيقية من قيام الدولة[1]».
السيادة على الأرض، لا تصنع وحدها دولة، فالدولة اجتماع إنساني وعقلاني، والإنسان إذا فقد السيادة على عقله بأن يجعله مرجعيته في إدارة شؤونه، لا يمكنه أن يقيم اجتماعاً في مستوى الدولة.
لذلك، فالعلمانية – كما أفهمها – هي فصل الخوف من الدين، لا يمكن أن تكون هناك دولة تدير العنف بعقلانيتها، وفي الوقت نفسه هناك من يدير معنى الدين على مقاس العنف. مادامت الدولة فكرة يدور جوهرها حول الحرية، فالحرية تتطلب أن نفتح تاريخ الفعل «فتح» لإعرابات مختلفة، من دون خوف، ومن دون مصادرة، ومن دون منع.
قلت لهم، تجربتنا الديمقراطية مازال فضاؤها الحر المشترك يجد في تاريخها الحديث منطقة محاطة بألغام الخوف والتحذير. فمازلنا لا نعرف. والمشكلة أنه فعل مازال حدثه فاعلاً في طبيعة ديمقراطيتنا، وبحرها الذي صار غير متعدد، وأرضها التي صارت تضيق بالتعدد.
المجتمع ليس مبتلى بتعددية ذاكراته، لكنه مبتلى بأحادية القوة التي تصادر ذاكراته، مبتلى بالقوة التي لا تجعل من الدولة فكرة لإقامة مجتمع مفتوح للذاكرات.
[1] معجم المصطلحات والشواهد، جلال الدين سعيد ص .194

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5090

مراجعة كتاب "مجازات بها نرى"

مجلة البحرين الثقافية:باسمة القصاب

المشكالKaleidoscope أداة بصرية، تحتوي على قطع متحركة من الزجاج الملون، ما إن تتغير أوضاعها، حتى تعكس مجموعة لا نهاية لها من الأشكال الهندسية المتناسقة، المختلفة الألوان.

يبدع المشكال ما لا نهاية له من اللوحات الممتلئة بالضوء واللون والحركة. لا تكف هذه اللوحات عن التشكل كلما تغيرت حركة قطع الزجاج في داخله، وكلما تداخلت ألوانها وامتزجت.

ما يميز اللوحات المشكالية ليس متعتها البصرية والزخرفية فحسب، ولا تصميمها الفني المبدع فحسب، ولا شكلها الذي تنشئه المصادفة الناتجة عن حركة الزجاج والضوء واللون، بل هو أكثر من ذلك بكثير. ما يميز اللوحات المشكالية، بشكل خاص، هو أنها حالة مستمرة من التشكيل، حالة لا نهائية من استحداث العلاقات الجديدة بين قطع الزجاج المختلفة في أشكالها وألوانها وقابلية تمريرها وعكسها للضوء. كل لوحة جديدة هي تشكيل لرؤية جديدة، تشكيل لتركيبة جديدة، تشكيل لتداخل جديد، تشكيل لامتزاج جديد، تشكيل لتصور جديد، تشكيل لفهم جديد، تشكيل لمعنى جديد.

اللوحات غير المنتهية التي ينتجها المشكال، ترينا الإمكانات غير المنتهية لقطع الزجاج في إبداع تتشكيلاتها الخاصة؛ يرينا حدود حركة كل منها وانتشارها وتناسقها وقدرتها وقابليتها وطاقتها وتناسقها وانتظامها وعشوائيتها ووتيرتها، يرينا نماذجها وتصماميمها وعلاقاتها وفنونها ومهاراتها وأساليبها وتصويباتها وتخطيطاتها وزواياها ومقاييسها وصيروراتها وعيناتها وعناوينها وأمثلتها. أي أنه يرينا كل ما يحيط بهذه القطع من إمكانات تهبها قوة التشكيل.

ما لم يتمكن المشكال من أن يكون مجهراً يرينا تفاصيل هذه الأشياء أو لا أقل من أن يوقفنا عند أكثرها، يصير المشكال مجرد متعة بصرية سرعان ما يفقد عجائبيته الساحرة.

مشكال المجاز

لم يكن المجاز، حسب إرثي المدرسي، يتجاوز المساحة البلاغية للنص الأدبي. وقدرة المجاز على أن يمثل لنا الشيء على صورة شيء آخر، وفق هذا الإرث، هي صناعة زخرفية بالدرجة الأولى؛ تجمِّل القول وتجوِّده وتحسِّنه وتُبدع نَظْمه. وهي من جهة أخرى صناعة تبيينية؛ تفصل القول وتبسِّطه وتوضِّحه وتسهِّل فهمه. المجاز خيال جميل، وايقاع بلاغي يولِّده وضع القريب على البعيد.

كتاب الديري ليس ينفي الإرث المدرسي ولا يرفضه، وليس يقدم المجاز هنا باعتباره مجازاً مختلفاً عن ذلك المجاز المدرسي. لكنه لا يقف بنا عند المتعة اللغوية وزخرفها ونظمها وتنسيقها وتبيانها، فهو لا ينشغل بالمجاز ولا يشتغل عليه وفق حدود الرؤية المدرسية له، بل يتجاوزها إلى رؤية تتسع به المجاز ليس قضية بلاغية تهم النقاد فقط، وليس قضية دلالية لعلماء الأصول والمنطق، إنه كل ذلك وأكثر، فهو تصور للحقيقة، ورؤية للعالم، وعلاقة بالوجود، وفهم للغة، وكشف للإنسان، ومعرفة بالإله”([1] ).

يشتغل الديري إذن على تلفُّتٍ مشكالي للمجاز، فالمجاز ليس مجرد نسج أدبي وخيال مبدع جميل، ليس مجرد إيقاع متمكن من اللغة، إنه كل ذلك وأكثر، المجاز أداة تشكل رؤيتنا للأشياء، هو تشكيل مستمر لعلاقتنا بالواقع والعالم والانسان والحقيقة والله والدين. هو تلك الحالة اللانهائية من انتاج العلاقات بين الأشياء بهدف فهمها ومعرفتها ورؤيتها. هو تلك اللوحات التي ترينا مع كل علاقة جديدة، ضوءاً جديداً وفهماً جديداً ورؤية جديدة ولوناً جديداً واشكالاً جديدة. المجاز إذن هو مشكال الرؤية لا زخرفها. “إننا نفكر بواسطة المجازات، فالانسان يتوقع ويفهم ويفسر ويقرر ويتخيل ويستبصر ويستنتج ويتأمل عبر المجازات. المجازات تمنحه القدرة على التصرف والتوسع والتخيل، ليشيد صور مركبة لا مبسطة لما يحدث في واقعه. المجاز لا يبسط الواقع، بل يكثفه ويركبه ويعقده”([2] ).

هذا التشابك المعقَّد لـ (قطع زجاجنا) مع الواقع، يرينا حدود حركة أذهاننا وأطرها ونماذجها ونظمها ومكوناتها ومساحاتها وتخطيطاتها وزواياها، يرينا آليات ثقفنا وبرمجياتها ومشهوراتها وأمثلتها وأساليبها وطرقها ومقاييسها وعناوينها الكبرى وووو.. يرينا كل ما يحيط بنا من إمكانات تهبنا قوة التشكل والتشكيل.

المجاز ما لم يرينا قوة التشكل والتشكيل، مالم يكن مشكالاً للرؤية، ما لم يوقفنا على إشكالات فكرية وفلسفية وثقافية ومعرفية مع كل لوحة جديدة يقدمها، فهو لا يتجاوز كونه زخرفاً أدبياً في القول، أو قياساً خاوياً في المنطق.

الجواز والعبور

يقارب الديري المجاز بوصفه آلية ذهنية وأداة تفكير، وتقوم فرضية الكتاب على أن تفكير الانسان المجرد هو تفكير مجازي، وأن الإنسان لا يمكنه أن يفكر إلا على نحو مجازي، وهو (أي الانسان) يستعين بالتشبيه والاستعارة والتمثيل والرمز والحكاية والأسطورة في صياغة مفاهيمه المطلقة والمجردة. المجازات تشكل أطراً عامة للتفكير تلتقي من خلالها الأشياء التي تتيح له فهم الأشياء الأخرى.

الإنسان يستبين من خلال العالم المألوف العالم غير المألوف، ويدرك حقائق الأشياء عبر أشياء أخرى لا عبر مطلقات. والأشياء لا يمكنها أن ترى بعضها إلا من خلال بعضها. ليس في عالم الإنسان شيء مطلق يرى من غير شيء. نحن نعبر إلى غير المألوف من خلال المألوف، ونجوز إلى المجرد من خلال المحسوس، لذا صار المجاز عبوراً مبدعاً من الانسان.

ولأنه يرى أن المجاز هو جواز من التجربة الحسية إلى التجربة المفهومية، فقد عمل الديري على أن يجعلنا نفهم المجاز، من خلال تجربة الجواز الحسية، بما هي عبور بين مكانين أو ضفتين، وبما هي مرور بين هذين المكانين ووصل وربط بينهما. وقد شيد هذا المفهوم مستنداً إلى الدلالات اللغوية والاستعمالية للكلمة، مستنيراً بآراء الفلاسفة والمفكرين الذين اهتموا بالمجاز. “أخذت الفلسفة وهي تعيد اعتبارها إلى أهمية اللغة في تشكيل الفكر تولي مقولة المجاز أهمية كبيرة، وقدمت إسهاماتها الحديثة في تفسير كيفية إدراك الإنسان للعالم من خلال مجازات اللغة والذهن”([3] ).

سحر مجازات اللغة

الانسان يدرك حقائق الأشياء بتشبيهها ووصلها بغيرها، فهو مبتل بالتشبيه. فعل التشبيه له تأثير يصل إلى درجة السحر، الأمر الذي يجعل (خوزيه جاسيت) يؤكد أن التعابير المجازية هي أكثر ما ابتدعه الانسان قوة.

ولأن الانسان يعبر باللغة، وبها يفهم المجردات، فإنه مسحور مفتون بالمجازات التي يخلقها عن طريق لغته. مفتون بأشكالها التي تريه الشيء على هيئة شيء آخر، مفتون بمشكالها، لذلك لا يمكننا أن نفكر في المجردات من دون أن نقع في سحر اللغة “عندما نبدأ التفكير في معنى الحياة والزمان والمكان والجسم والمعنى والإراة الحرة والخير وغيرها من الموضوعات الفلسفية الكبيرة، فإننا نصبح مسحورين عن طريق اللغة” فنجشتاين.

يقف الديري عند اللغة ومجازاتها ليرينا أنها ضرب من ضروب السحر. السحر بما هو خداع واستمالة وتلبس وصرف من وجه إلى وجه، “تفكيرنا ما هو إلا صرف عن وجه لوجه. كلما ظننا أننا أمسكنا بوجه من وجوه المفاهيم الكبرى صرفتنا اللغة إلى وجه آخر. ومع كل عملية صرف نعبر وجهة أخرى”([4] ). اللغة بمجازاتها تسحرنا، بما لها من قوة التأثير على العقل والحواس والتفكير والادراك وبما تتصرف في تفكيرنا.

ولكي نتخلص من أسر سحرها وافتتانها لا بد أن نغير علاقتنا بها، فنعيد فهمها وقراءتها باعتبارها رؤية للأشياء ولعباً بها وتعدداً في منظورها وبناء لتصوراتها، أي باعتبارها وجه من وجوه الشيء لا الشيء نفسه. “المجاز يجعل من الطريق الواحد البسيط طرقاً عدة متنوعة ومتفرعة، فيصير الطريق حمال أوجه”([5] ). هذا الفهم يتيح لعقولنا المفتونة بسحر اللغة، أن تلعب وتستمتع بتعدد الوجوه المجازية للأشياء، يتيح لها أن تقيم علاقة مشكالية باللغة، فتنتج ما لا نهاية له من العلاقات المجازية مع الأشياء، دون أن تأسرها هذه الوجوه.

بناءات المجاز

تتعدد مجازاتنا بتعدد تجاربنا الثقافية الجماعية والفردية. الانسان يبني تصوراته لهويات الأشياء وفق هذه التجارب، ويمكنه أن يوسع هذا البنيان أو يغيره أو يحوله أو يجدده كلما استجدت تجربته. الإنسان لا يكف عن بنينة هويات الأشياء وبناءها، وكلما غير الإنسان بناءاته المجازية للأشياء تغير فهمه لها. لذا لا يمكن فهم البناءات المعقدة للمجاز عبر المقاربة البلاغية المدرسية لها “هذه البناءات ليست زخارف لغوية، بل هي عمليات ذهنية وإمكاناتها العقلية مؤسسة على تجربة الانسان الحسية والثقافية” ([6] ). ولكي نقارب هذه البناءات ونعمل على فهمهما وتفكيكها، لابد أن نفهم تجارب الانسان ونفكك ثقافته التي شيدت مفاهيمه.

يتسع بنا مجاز الديري ، فيتجاوز رؤية الانسان المجازية، ويعبر بنا إلى ثقافته، فالثقافات تختلف مجازاتها باختلاف تجربتها مع الأشياء، “كل ثقافة ترى العالم عبر صورها المحسوسة”([7] )، واختلاف تجاربها المحسوسة يترتب عليه اختلاف تصوراتها وعلاقاتها التي تقيمها مع الأشياء، ومن ثم اختلاف رؤيتها للعالم وعلاقتها به. بهذا الاتساع يمكنني أن أفهم أن الثقافة هي رؤية مجازية للأشياء، وبهذه الرؤية تشيد الثقافة عالمها الخاص.

الذات الانسانية ترتب علاقاتها بالعالم وفق رؤيتها المجازية، وفق رؤية ثقافتها المجازية، لا وفق وجود العالم. إذ العالم صامت وأقرب إلى الحياد كما يشير الديري. لعل العالم هنا أقرب إلى المشكال الذي يرينا تنوعات تشكلات الذات ومن ثم تشكيلها لعالمها وابداع لوحاته.

حقيقة الثقافة

تمتزج مجازات كل ثقافة مع وعي أفرادها، ويشتبك المجاز مع هذا الوعي بشكل يغيب معه أصله المجازي. غياب الوعي بأصل المجاز يجعل منه حقيقة. لذلك كل ثقافة تقدم مجازاتها على هيئة حقائق كبرى. “تغدو الحقائق الكبرى التي تعبر من خلالها كل ثقافة عن رؤيتها للوجود، مجازاً منسياً يولد مجازات تكشف حقائقها بالارتداد بها نحوه. أي نحو هذا المجاز المنسي الذي يقدم نفسه في صورة حقيقة كبرى”([8] ).

لكل ثقافة حقائقها التي تختلف عن حقائق غيرها من الثقافات. يرى الديري أن كل حقيقة تلتقي مع الحقائق الأخرى في ادعائها الإنساني، أي زعمها أنها الأقدرعلى تمثيل حقيقة الإنسان، ومن ثم تقدم نفسها بوصفها أكثر سموا به وعلوا بحقيقته واستجابة لمتطلباته وتعبيراً عن تطلعاته.

ولكل ثقافة مقدساتها التي تجلل حقائقها، فالقداسة حسب الديري مجاز كبير، تحيل كل شيء تحل فيه إلى حقيقة جوهرية عليا.

تهيمن الثقافات على أفرادها عبر مجازاتها التي تقدمها لهم باعتبارها حقائق ثقافية كبرى ومقدسات عليا. تحليل هذه المجازات وارجاعها إلى أصلها المنسي، يمكن أن يفكك من سلطة هذه التصورات ويخفف هيمنتها.

السمك الرعاش

لا يختص المجاز بلغة دون أخرى، ولا يختص بخطاب دون آخر، فهو آلية ذهن تحكم تصور ورؤية المتكلمين والفاعلين بمختلف لغاتهم وثقافاتهم وانشغالاتهم. يرى الديري أن الخطابات الفكرية والفلسفية والسياسية والإعلامية والتربوية والدينية والصوفية والثقافية تصيغ أفكارها عبر تمثلات مجازية. لذلك يقوم الديري باخضاع نماذج متنوعة ومختلفة من هذه الخطابات للفحص والتحليل والنقد والتفكيك، ليؤكد لنا فرضيته، وليعبر بنا نحو مجازية الفكر الانساني بشكل عام.

مجاز السمك الرعاش، الذي اتخذه الديري عنواناً لسلسة من أعمدته الفلسفية والفكرية التي ضمنها كتابه، عمل على تشيد مفهومه للشك والتوسع فيه وجعله حقلاً مليئاً بالحياة. السمك الرعاش هو تسمية مجازية أطلقها من باب التهكم مينون، في محاورته مع فيلسوف الشك سقراط “انك تشبه أعظم الشبه من حيث الشكل ومن حيث الجوانب الأخرى سمك البحر الكبير، ذلك الرعاش، حيث أنه دائماً، ما أن يقترب المرء منه ويمسه حتى يجعله يرتعش”.

يتمثل الديري مجاز السمك الرعاش في تشييد مفهومه عن الشك وبنينته، فيحوله إلى حالة فكرية ونفسية وعقلية ومدنية وحضارية. السمك الرعاش “ليست ذاتاً لشيء، بقدر ما هي صفة لحالة الإنسان الناطق”([9] ). السمك الرعاش هو حقل مقتضيات حالات الإنسان المدني، الإنسان الذي يسأل ويفعل ويطلب، الإنسان الذي يرفض الإذعان إلى السيادات الجماعية، الإنسان الذي يحصن مواطنيته من الارتهان لما هو خارجها، الإنسان الذي مواطنته هي الوجه الآخر لسيادة الأمة.

السمكة الرعاشة تفتح أفق حوارنا حول إمكانية وجود معرفة مدنية يقينية جازمة، وتوقعنا في مسائلة حقائقها عن يقينياتها، إنها سمكة تكوثر الحوار المولد للأفكار كما كان سقراط يفعل. “لا ارتعاشه من غير شك يفضي إلى سؤال. عملية الشك تعبر عن قرار الذات بأن تسحب ثقتها المطلقة من الأحكام ومن الأشياء”([10] ). الشك هو رعشة الاحتراق بالسؤال الذي هو حياة. “المجتمع الذي لا سمك رعاش فيه لا حياة فيه”.

سمكة الديري الرعاشة، تأتي لتحاورنا حول شؤون الاجتماع والفكر والسياسة والمدينة، لتنطق استشكالاتنا المدنية، تجعلنا نتذوق مدنية بطعم الاختلاف والتناقض، تضع سيادة الآلة (سيادة القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو العرق أو العائلة أو الدين) بين قوسين نيتشويين كبيرين، تفكك معتمدات الثقافة وجوامعها، ترينا جهل الاستقرار في اليقين المطلق، تحذرنا من المكوث في استبداد اليقين وضيقه، تجعلنا نعي نواقصنا، نعي حاجتنا إلى المعرفة، فالحاجة وعي النقص. “الشك هو الرغبة في الحياة على نحو استشكالي ضد الاستقرار المطلق. الشك معرفة لا تعرف الاستقرار، معرفة تحذر الجهل المستقر، لأنها تحذر العلم المستقر”[11] ).

النسبة والشك

يقارب الديري بين المجاز والنسبة والشك، ذلك أن الانسان نسبي. ومعنى أن الانسان نسبي وفهمه نسبي، أن الانسان مقيد بغيره مرتبط به غير مطلق، وكذلك فهمه. القيد هو الصلة، والانسان بحاجة إلى صلات مفهومة مألوفة معروفة تمده بالعون ليفهم الغامض والملتبس والغريب والمجهول. بقدر ما يكاثر صلاته بالأشياء يتحرر من قيد الارتهان للصلة الواحدة. الانسان ينسب الأشياء إلى نفسه ويصنع قرابات بين الأشياء ليفهمها، “بالمجازات نصنع أنساباً وقرابات بين معاني الأشياء والموضوعات والكائنات”([12] )

الوقوف عند فلسفة إخوان الصفا وتقسيمهم النسبي للكون، يكشف لنا مأزق الزعم الفلسفي المتعالي على الاعتراف بمجازية تصوره للحقائق وفهمه المجردات. “كان أخوان الصفا يستخدمون تقسيم (فيلولاوس) الفيثاغورثي للكون، ما فوق القمر وما تحت القمر، فينسبون ما تحت القمر إلى ما فوق القمر، ليفهموا الكون كلاً واحداً منسجماً ومؤتلفاً، بل إنهم كانوا يقيمون تصوراتهم لحكومة ما فوق القمر وفق تصوراتهم لنظام ما فوق القمر“([13] ). وهو بهذا يبدد زعم الخطاب الفلسفي بأن حقيقته مجردة من الوهم والخيال، موقعاً إياه في مأزق نسبي.

مجازات الخطاب السياسي

يقوم الكتاب بمعالجة الحضور الوظيفي للمجاز في الخطاب السياسي. حيث الخطاب يتخذ من المجاز أداة يقرأ بها ويفسر من خلالها ويتصرف. “المجاز يشتغل في الخطاب، لكنه لا يشتغل عليه، الخطاب لا يقيم علاقته بالمجاز بوصفه أداة يقرأ بها ويفسر، بل بوصفه أداة يبنى بها الخطاب( لغة)، لذلك فهو يحضر بوصفه جزء من اللغة التي يتحدث بها ويكتب ويتواصل” ([14] ).

يقرأ الديري مجموعة كبيرة من الخطابات السياسية والإعلامية المحلية والعالمية، ليكشف الآلية الذهنية التي يستعين بها السياسيون في صياغة استراتيجياتهم وخططهم وسياساتهم وإدارتهم للحقيقة، ويوظفها المحللون والمراقبون لصياغة نماذج تعينهم في فهم هذه السياسات والاستراتيجيات، ويشيد بها المفكرون نماذج تفسيرسة لمعرفة النسق الكامن وراء كل قول أو ظاهرة إنسانية، ويتصرف من خلالها الفلاسفة بمفاهيمهم المجردة فيمنحونها سعة وخصوبة وكثافة وسهولة، “لذلك لا عجب أن أصبحت المجازات موضع اهتمام مختلف العلوم الإنسانية والفلسفة والمجالات الإدارية والتسويقية” ([15] ).

تفكيك الخطابات

يقف الديري عند نماذج لخطابات دينية أصولية، متتبعاً شبكة أنظمتها الدلالية والثقافية، من خلال مجازاتها واستعاراتها، ليكشف أن الذات تفهم العالم وكائناته وعلاقاته وفق شروط هذه الشبكة وإمكاناتها. ولكي تخرج الذات على هيمنة هذه الشبكات، لا بد أن تخضعها للقراءة والنقد. أي أن تجعلها موضوعاً قابلاً للسرد والفحص. ما يجعل الديري ينطلق إلى قراءة ونقد الصياغة الآيدلوجية التي شكلت تمثلاته للمرأة، وكيف عملت التركيبة المجازية لشبكته الثقافية على تشكيل إطار فهمه للحجاب وداخلت حججه وقناعاته.

“دريدا ومسار الشمس”، هو عنوان مقاربة مجازية أخرى، لنموذج خطاب فلسفي، يتتبع فيه الكاتب تفكيك دريدا لاستعارة الشمس. الشمس تحيل في النصوص الفلسفية على الحقيقة الواضحة الجلية المطلقة. وهو ما يجعل من هذه الخطابات تنسى أصلها الاستعاري المجازية وتتصرف وكأنها الشمس. التقويض لهذه النصوص تقويض لزعمها بالتطابق التام مع الحقيقة. وهو يحتاج إلى فهم مغاير للمجاز واللغة، يجعل من المجاز لعباً حراً يكوثر المعنى ويفيض، “حينها يكون المجاز علامة حرة، ضوءاً يلعب في الأشياء، شمساً تحيي الأشياء وتحركها”([16] )

ظلال الكلمات

يتحول الديري إلى الخطاب الصوفي الذي يصفه أدونيس بأنه لغة شعرية وأن “كل شيء فيها هو ذاته وشيء آخر، الحبيبة مثلاً هي نفسها وهي الوردة أو الخمرة أو الماء أو الله”. يقف الديري عند مفردة “الكلمة”، ليشيّد علاقة مجازية مفهومية بين الظل والوحي والكلمة، وليرينا أنها هي نفسها الظل وهي الوحي وهي الجرح. نقرأ الكلمة في ظلال هذه المجازات، فتتكوثر وجوهها وتتعدد إمكاناتها وتتنوع استعمالاتها، فتتسع معانيها بناء على هذه الإمكانات وهذه الاستعمالات.

وبهذ ه الظلال يقارب الديري مفهوم الصورة في خطاب ابن عربي، بوصفها علامة كثرة ومغايرة، وهي بهذا الوصف معرفة كثيرة بالإنسان والوجود والله. حيث الكثرة في خطاب ابن عربي هي ظلال كثيرة وتلوين يتنوع فيه أشكال ظهور الواحد. وقد استخدم ابن عربي ( الشخصية الأكثر مشكالية) مجازات المحل والمنظور والقابل والظل والنور والرؤية والعين والبرزخ، ليعبر عن أشكال ظهور الواحد بالعين، الكثير بالصور.

المعرفة المحبة

هي ما يختم به الديري كتابه، مفهوماً مجازياً للمعرفة، يقرأ فيه المعرفة على نحو يجمعها على الحب ويعرفها به. “فالمعرفة تجمع ضدين “الإدراك هو جمع بين شيئين، أحدهما غامض، والآخر واضح”، والمحبة تجمع ضدين “المحبة هي الجمع بين الضدين”. المعرفة التي لا تعترف بأضدادها معرفة لا محبة فيها، والمحبة التي لا تقرُّ بضديدها محبة لا معرفة فيها. بقدر ما نجمع الأضداد نعرف ونحب، وبقدر ما نحب ونعرف تتكوثر أضدادنا”([17] ). المعرفة الأصولية التي تجعل من علاقتها بأصولها نهاية اليقين والحقيقة والوضوح والصدق والصحة، هي معرفة طارِدة للضد، لأن الضد يهدِّد يقينها. أما المعرفة المحبة، فهي المعرفة المتكوثرة بالشك، هي المعرفة التي تلجأ إلى ضدها لتثري ذاتها بالازدواج به.

هذا الجمع هو ما جعل من التصوُّف رحباً حد الاتساع لجميع تناقضات البشر وتباينات مذاهبهم، وهذا ما جعل من نيتشه يبتكر مفهومه للمعرفة المرحة المفتوحة على الأضداد والمجازات والخيالات والسخرية والمرح واللعب. ([18] )

يقارب الديري المعرفة المحبة بمجازات التضاد والتحول والكشف والحجب والثراء والوجدان والتشجر والكأس والماء والصوفة واللون والنَفَس، بهذه المجازات يتسع من مفهوم المعرفة وتصير لعباً ومرحاً وحباً وتضاداً .

حقل المجاز

استطاع الديري في كتابه ” مجازات بها نرى” أن يجعل من مفهوم المجاز حقلاً واسعاً. فالحقل يكون حياة باستشكالاته، أي بالأسئلة التي ينتجها، يكون الحقل حياة بمتناقضاته ومتضاداته، بالمفاهيم المتقابلة فيه. لم يقدم لنا الديري وجهاً واحداً للمجاز، بل ترك وجوهه مساحات مفتوحة قابلة للتأويل والتعدد والتكاثر واللعب والاستمتاع.

فالمجاز هو ليس الحقيقة التي تقابل الخيال، هو ليس الحس الذي يقابل العقل، هو ليس العاطفة التي تقابل الفكر، هو ليس الزينة التي تقابل المضمون، هو ليس الخفاء الذي يقابل الظهور، هو ليس الصناعة الني تقابل الفطرة، هو ليس الفرع الذي يقابل الأصل، هو ليس الجمال الذي يقابل القبح هو ليس الخيال الذي يقابل العقل، هو ليس التجسيد الذي يقابل التجريد، هو ليس التزييف الذي يقابل الحقيقة. المجاز هو كل هذه الثنائيات متداخلة مع بعضها البعض، “المجاز هو أعظم أداة اتصال وعبور وجمع بين المتضادات، فهو يجمع أعناق المتنافرات”([19] ).

بهذا الاتصال والعبور والجمع بين المتنافرات، يبدع الانسان ما لا نهاية له من اللوحات الممتلئة بالضوء واللون والحركة. لا تكف هذه اللوحات عن التشكل والتشكيل كلما تحرك الإنسان بتضاداته وتناقضاته وتلويناته وأصنافه وأشكاله.

كلما حركنا قطع زجاجنا أصبح المجاز هو نفسه المعرفة المحبة، وهو نفسه السمك الرعاش، وهو نفسه الاتصال العظيم، وهو نفسه الظلال الكثيرة، وهو نفسه الصور الثرية، وهو نفسه علامة الكثرة والمغايرة، وهو نفسه المدينة المشتعلة بطعم الاختلاف وهو وهو.. أصبح المجاز إمكانات غير منتهية من الرؤى والأفهام والتفاسير والتأويلات والتشكلات، أصبح المجاز مجهراً يرينا تفاصيل حركة الأشياء ودقائقها وأصلها وتمثلاتها.. أصبح مجاز الديري مشكالاً به نرى..


[1] علي أحمد الديري، مجازات بها نرى، ص 40

[2] م.ن، ص99

[3] م.ن، ص38

[4] م.ن، ص20

[5] م.ن، ص18

[6] م.ن، ص22

[7] م.ن، ص47

[8] م.ن، ص49

[9] م.ن، ص73

[10] م.ن، ص73

[11] م.ن، ص80

[12] م.ن، ص96

[13] م.ن، ص91

[14] م.ن، ص106

[15] م.ن، ص105

[16] م.ن، ص176

[17] م.ن، ص200

[18] م.ن، ص201

[19] م.ن، ص205

مدونة الباحث د.علي الديري