د. محمد السلمان*
كتبت عنه إحدى الصحف الإنجليزية الصادرة في 23 شباط/ فبراير 1915م، أي بعد مقتله الشنيع في شبه الجزيرة العربية. “كان واحدًا من أولئك الرجال الإنجليز الَّذين شغفوا بالتّصوير. لا شيء كان يخيفه أو يرعبه عن التقاط الصور. عاش من أجل مشروعه، وفرح في التعامل مع الرجال. كلَّما كانت مهمّته تواجه صعوبة وخطورة أكثر، كان ذلك أفضل له. حمل اسمًا إنجليزيًا [شكسبير] لم يكن من السهل إضافة المجد إليه، وعلى الرغم من ذلك نجح في الإضافة”.
حكاية وثائق هذا العدد تتمحور حول شخصية إنجليزية من زمن سيطرة الإمبراطورية البريطانية فيما وراء البحار على منطقة الخليج العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين للميلاد. هي شخصية تمتَّعت بحبّ المغامرة والإقدام والتهور أحيانًا، وقامت بمهمات وأدوار تشبه ما قام به الجاسوس الإنجليزي الشهير خلال الحرب العالمية الأولى (لورنس العرب) في منطقة المشرق العربي، حين قام بأكبر عملية خداع للزعماء والقوى الوطنية العربية باستمالتهم للوقوف وراء بريطانيا وحلفائها وكسب تأييدهم ضد القوة التركية، ومعها قوى المحور الأوروبي.
اسم صاحب وثائقنا هذه المرة، هو وليم هنري إرفين شكسبير (William Henry Irvine Shakespear)، من مواليد ولاية البنجاب في الهند في 29 تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1878م. تولَّت والدته تربيته أكثر من والده الذي كان منشغلًا بعمله الرسميّ ضمن نطاق الإمبراطورية البريطانية في الهند آنذاك، فتعلَّم اللغة الإنجليزية بحكم أصله، واللغة الهندية البنجابية بحكم موطن ولادته وطفولته، فصار ثنائي اللغة (1)، كما أجاد أيضًا الفارسية والعربية بعد ذلك.
كان موظّفًا حكوميًا ومستكشفًا بريطانيًا جاس خلال المناطق المجهولة في شمال شبه الجزيرة العربية. كان له الفضل في أول اتصال بريطاني رسمي مباشر مع الزعيم العربي عبد العزيز بن سعود. وكعادة المسؤولين الإنجليز في تلك الفترة، حين يتم اختيارهم لمواهبهم المتعددة وقدرتهم على إنجاح مهامهم الموكلة إليهم ضمن إطار خطط السيطرة على المنطقة ورموزها، استطاع شكسبير أن يصل إلى منصب المستشار العسكري لابن سعود في الفترة الممتدة بين العام 1910 والعام 1915.
الوثيقة الأولى تقول: “من مبارك الصباح حاكم الكويت الى حضرة عالي الجاه المحب قبطان شكسبير بولتكل اجنت الدولة البهية القيصرية الانكليزية في الكويت دام بقاه.
غير السؤال عن خاطركم العزيز هو ان يد الوداد اخذت كتابكم المؤرخ في 1 ربيع أول سنة 1330 مطابق 20 فبروري سنة 1912، وبه تذكرون ان حضرة نائب الباليوز صاحب في بوشهر معرف انه واصله تلغراف من كرنل سر برسي كاكس باليوز وقنصل جنرال الدولة البهية القيصرية الانكليزية في بوشهر ذاكرا ان الناس هذه الايام مجتهدين في تسويق السلاح خصوصًا في واجهة الشمال من خليج فارس وانه صار لزوم على مراكب الدولة البهية القيصرية الانكليزية ان يزيد اجتهادهم في قطع ذلك. ويذكر حضرة الباليوز صاحب اننا نساعد في منع هذا الشئ ونشدد على رعايانا يتجنبون عن هذا الشئ نحن على كل حال انشاء الله نساعد حسب الآمر مع انه نحن مواكدين على جميع رعيتنا يتجنبون شيل الاسلحة لا الى طرفنا ولا لغيره وامتثالًا لأمركم ايضًا. بهذه الدفعه كتبنا الى وكيلنا في مسكة السيد يوسف الزواوي جميع سفائن رعيتي اهل الكويت يأكد على النواخذة او صاحب الحلال ان كان انه في سفينته يتجنبون شيل الاسلحة لا لطرفنا ولا لغيرها. والذي يحمل الاسلحة اذا يسلم منه مناور الدولة البهية انه لابد يصير عندي خبر وين ما يوديه احرق السفينة واحبس النوخذا او صاحب الحلال حبس موابد.
هذا ما لزم ودمتم محروسين. 3 ربيع أول سنة 1330″ (2).
يتَّضح من هذه الوثيقة المرسلة من الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت في تلك الفترة إلى المعتمد البريطاني في الكويت وليام شكسبير، أنها حول عملية مكافحة عملية تهريب الأسلحة إلى الكويت أو خارجها عبر مواطنين كويتيين، وإنزال أشد العقوبات بمن يقوم بذلك من دون علم الحكومة، وذلك بأن يتمّ إحراق سفنه وسجن صاحب السّفن أو المهرّب بحكم مؤبّد.
ترك شكسبير مجموعة من الصور عُدَّت من أشهر الصور المعروفة اليوم للمنطقة العربية وبعض حكامها من القبائل العربية التي كانت ترفض التصوير أساسًا، بل وتحرمه.
وليس القصد من إيراد هذه الوثيقة هو الحديث عن تهريب السلاح في منطقة الخليج خلال تلك المرحلة من تاريخه، بل لإيضاح أهمية دور شخصية شكسبير، حتى يخاطبه أمير الكويت الشيخ مبارك الصباح بهذه الكيفية، وهو الذي كان يكره تدخّل الإنجليز في كلِّ صغيرة وكبيرة في بلاده، كما كان لا يُحبّذ اعتبار شكسبير بمنزلة مستشار له. أضف إلى ذلك، أنَّ هذا الرجل الإنجليزي كان يُعتبر أصغر نائب في إمبراطورية الهند البريطانية في العام 1904م، وسرعان ما تم نقله للعمل في إمارة الكويت كمعتمد سياسي منذ العام 1909م، وعمره آنذاك لا يتجاوز 30 عامًا، كما ضُمّت إليه البحرين في بداية تلك الحقبة أيضًا، فشارك في تلك الجولات المكوكية بين الكويت والبحرين التي تمت في العام 1911م، من أجل إرجاع أكبر تجار اللؤلؤ في الكويت والخليج (هلال بن فجحان المطيري) إلى الكويت بأمر من الشيخ مبارك الصباح بعد أن هاجر من بلده في حالة غضب عندما توجَّس من عدم تقدير طواويش اللؤلؤ ودورهم في الحركة الاقتصادية في الكويت. كما أنّ شكسبير ترك لنا مجموعة من الصور عن الكويت وشبه الجزيرة العربية عُدَّت من أشهر الصور المعروفة اليوم للمنطقة العربية وبعض حكامها من القبائل العربية التي كانت ترفض التصوير أساسًا، بل وتحرمه.
وضمن عملهم الاستخباراتي التجسّسي المغلّف في ظاهره برحلات استكشافية جغرافية، وهي عادة المسؤولين الأجانب في تلك المرحلة من تاريخ المنطقة، وبحجة الاستكشاف، بهدف إبعاد الأنظار عنهم، كان يتم إنجاز المهمات الرسمية التي يكلفون بها. ولهذا، قام شكسبير بسبع رحلات من هذا النوع في أراضي شبه الجزيرة العربية وصل في إحداها في شهر مارس من العام 1914م إلى منطقة العقبة الأردنية على البحر الأحمر قاطعًا حوالى 2900كم، ثم أصبح الصديق المقرب من ابن سعود أمير نجد حينها، وهو أول من قام بتصويره قبل أن تدخل آلة التصوير بين قبائل تلك المناطق البدوية من وسط الجزيرة العربيَّة (3).
خلال فترة الحرب العالمية الأولى وأجوائها في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، وفي يوم 24 كانون الثاني/ يناير من العام 1915م، كان شكسبير ما زال يعمل كمستشار حربي لابن سعود في حروبه العامة، وتوجّه إليه وسط الحروب القائمة، من أجل مفاوضات جديدة معه لصالح الإنجليز ضد العثمانيين. هنا حدثت له مأساة مروعة، فخلال حرب الأمير عبد العزيز ضد أمير حائل ابن الرشيد، كان شكسبير يواصل هوايته في تصوير تفاصيل معركة “جراب” بين الجانبين وكتابة تقرير مفصّل عنها أيضًا وهو في مقدمة المقاتلين.
ورغم طلب ابن سعود منه بأن يتراجع إلى مكان آمن خلف المقاتلين ليتجنَّب الإصابة المباشرة، فإنّه رفض ذلك قائلًا بكلِّ غرور، وبلسان من يصرّ على إنجاز المهمة الاستعمارية المخطّط لها مسبقًا: “إذا ما تراجعت الآن، فلن أتخلّى عنك فقط، بل وعن وطني أيضًا. لا أستطيع فعل ذلك”، لكنه على هامش تلك المعركة الفاصلة بانتصار ابن الرشيد على ابن سعود، أصيب برصاصة في رجله وتم أسره، ثم توفي مباشرة. وحدث ما لم يكن متوقّعًا، فقد تم قطع رأسه، وسُلِّم مع خوذته إلى السلطات العثمانية المتعاونة مع ابن الرشيد ضد ابن سعود، باعتبار أنَّ هذا الإنجليزي (شكسبير) كان يعاون ابن سعود المتحالف مع الإنجليز ضد العثمانيين في شبه الجزيرة العربية. وإمعانًا في إهانة بريطانيا ورجالاتها العسكريين، فقد عُلِّقت خوذة شكسبير على أحد أبواب المدينة المنورة، وكأنَّ السلطات العثمانية تريد أن تؤكد للمسلمين قضية تعاون ابن سعود مع الإنجليز (4).
هكذا انتهت حياة “لورنس الكويت وشرق الجزيرة” بشكل مبكر، فهو لم يتجاوز 36 عامًا من عمره حين قُتل شرّ قتلة ومُثّل بجسده، حتى إنّ جثّته التي بقيت بلا رأس، تم رميها في الصحراء حيث دفنها البعض هناك. أما شاهد القبر المرفق بهذه المقالة، والموجود على جدار المقبرة المسيحية في منطقة شرق التجارية في دولة الكويت اليوم، فهو ليس إلا صرحًا تذكاريًا، وليس القبر وصاحبه نفسه.
ونختم على غير العادة بالوثيقة الثانية في هذه المقالة، والتي لها علاقة بنهاية شكسبير. ورغم قصرها وقلّة كلماتها، فإنَّ فيها نوعًا من الحدس بقرب النهايات، وقد كتبها للمصادفة بتاريخ 11 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1914م، أي قبل حوالى شهر ونصف الشهر من مقتله، إلى خليفته في منصب المعتمدية في الكويت وليام جورج جراي، قال فيها: “إن حدث ولقيت حتفي في الصحراء، أرجو أن تتلطَّف بإرسال الرسالتين المرفقتين عندما تسمع بموتي. إحدى الرسالتين إلى والدتي، والأخرى إلى أخي الذي هو مُكلّف بتنفيذ وصيتي. كما أعتقد أنني تركت كل شيء منظمًا لكي لا أتسبّب في الكثير من المتاعب، أو على الأقل حاولت فعل ذلك” (5).
فهل كانت عدم مبالاة شكسبير هذه المرة في مثل ذلك الوضع ضمن حروب الصحراء المكشوفة، هي محاولة انتحار ناجحة لأنه علم باستبدال معتمد آخر به، وكان ذلك ضد رغبته وشعوره الداخلي؟ لا نملك الإجابة على مثل هذه الفرضية التي جاءت على شكل سؤال يحتمل إعادة البحث من جديد في مقتل شكسبير – لورنس الكويت.
المراجع:
1 – انظر:
Winstone, H.V.F., Captain Shakespear (London,1976), pp. 29-30.
2 – دشتي، عيسى يحيى عبد الرسول، الكابتن وليام شكسبير المعتمد البريطاني في الكويت 1909-1915م، الكويت، 2016، ص 128.
3 – المرجع نفسه، ص 11.
3 – انظر:
Winstone, H.V.F., Captain Shakespear, pp. 207-209.
4 – انظر:
Winstone, H.V.F., Captain Shakespear, p. 198.
لتحميل المقال بصيغة PDF: حكاية شكسبير لورنس الكويت
* د. محمّد السّلمان: باحث بحريني متخصّص في التاريخ، أعدّ أطروحة دكتوراه في جامعة “هال” البريطانية حول المظاهر السياسية والاقتصادية للحكم البرتغالي في الخليج. صدرت له مجموعة من الكتب التاريخية والترجمات.
للتواصل عبر الإيميل: adoommoon@gmail.com
اقرأ أيضًا:
- اللورد الإنجليزي جورج ناثانيل كُرزون والسّؤال الفارسيّ
- حكاية صراع بين السيد سعيد وبني بوعلي في عُمان
- سيف وأربعة “أنفار” من الصّومال
- جدّة.. قطب الرّحى
- حكاية أحمد بن عبّاس بين البحرين والقطيف
- السّلاح بين التّجارة والسّياسة زمن الإنجليز في الخليج
- من والي البصرة إلى “قائمقامية” الدوحة العلاقات العربية – التركية
- “عشّ النمل”: ملفّ العبيد في الخليج والبحرين
- التعليم وميزانيات البحرين في عهد بلجريف
- علاقة القبائل العربية في البصرة بالبرتغاليين
- جزر البحرين بين حكم “الهرامزة” وإطماع القبائل العربية