شريط مار مخايل بالأسود والأبيض
تُعدّ منطقة مار مخايل بوابة الضاحية الجنوبية في بيروت. تنتقل منها – عبر تفرعاتها الأربعة – إلى وجهات عدة: معوّض، صفير، الحازمية، والشياح. هي منطقة مكتظة حاليًا، ويعاني مدخلها زحمة سير في ساعات الذروة، إلا أنّ الحال لم يكن كذلك منذ عدّة عقود.
واجهة المنطقة مبانٍ شاهقة، باطون مسلّح، محال تجارية، ومقاهٍ حديثة. ما إن تتسلَّل عبر الأزقة الخلفية، حتى تكشف لك المنطقة عن وجهها الحقيقي: أبنية قديمة تحمل جدرانها آثار الحرب الأهلية، بقايا من رصاص وضربات القذائف، ومحال يشغلها سكان “أصليّون”، بقوا هنا لأكثر من خمسين عامًا، وشهدوا تغيّرات عمرانية كبيرة، وراقبوا أشكالًا هندسية غريبة غيّرت معالم أراضيهم.
حكايا الناس: راحت هيديك الأيام
يمتلك نزيه سعد معملًا لصنع الأحذية في أحد شوارع حي ماضي في منطقة مار مخايل. الرجل الذي تجاوز العقد السادس من عمره، شهد الحرب الأهلية هنا، وراقب وابلًا من الرصاص يقطع فوق معمله بالاتجاهين. “المنطقة هون كانت للطائفتين المسيحية والدرزية، مزارعين بهالبساتين”، يشير بنظره إلى أبنية مجاورة لا يفوق عمرها السنوات العشر.
يخبرنا عن البساتين التي ملأت مساحات شاسعة بخضارها وأشجارها: ليمون، بقدونس، نعنع، بصل.. كانت الأرض زراعية موسمية، لكنها اليوم تُعرف بسوق معوّض ومنطقة صفير وحي الأميركان..
اقتصرت المباني على بيوت أرضية “متل بيوت الضيعة”. طبقة أو طبقتان على أبعد تقدير. يسكنها المزارعون مع عيالهم. بهذه البساطة. وما إن اشتعل فتيل الحرب الأهلية اللبنانية، حتى هاجر منها من هاجر، ولجأ إليها من لجأ، وبدأت التغيرات تطرأ على معالم المنطقة شيئًا فشيئًا، حتّى أمست اليوم بغالبيتها جديدة.
يروي لنا حسن خليل (صديقٌ قديم لنزيه سعد) قصصًا من الماضي تسكن طيات ذكرياته عن رفاق ما عادوا في دنيانا، عن جلسات تحت “الجوافة” (شجرة الفاكهة) اعتاد قضاءها مع صديقه أبو أسعد الذي توفي منذ سنوات. يرسم لنا برجفة صوته شجرة مثمرة كبيرة، وجلسة هادئة في فيئها، وضحكات من أيامٍ سعيدة قضت وغادر أصحابها ومعهم هناء العيش البسيط.
“الأيام كانت طيبة”. هكذا يختصر حسن خليل الحكاية كلّها، بكلِّ ما تحمله الجملة من نوستالجيا وحسرة. المنطقة هنا لا تشبه نزيه سعد ولا حسن خليل. هذان الرجلان، بِشَيْبِهما وتجاعيد وجهيهما يحفظان في جلدهما وفي نظراتهما الدامعة ذاكرة المنطقة كما كانت، كما خُلقت في أوّل تكوين، قبل أن تدخل الآلات الضَّخمة لتسقط فوقها أشكالًا ثقيلة ووحوشًا من الإسمنت. وجه مار مخايل الحقيقي هو وجه هذين الرجلين.
في الطابق الأرضي من مبنى من بقايا الحرب الأهليَّة، يقع متجر محمود ضيا للملابس. محمود رجلٌ أربعيني، يعيش في منطقة مار مخايل، وكذلك عائلته.
ماضي منطقة مار مخايل بالنسبة إلى محمود هو “خط التماس أيام الحرب الأهلية… ذكريات يصعب نسيانها، لكننا نسعى إلى ذلك”. بين حزب الكتائب وحركة أمل معارك كثيرة شهدتها المنطقة هنا، فضلًا عن دخول الجيش السوري إليها، في محاولة للوصول إلى العماد ميشال عون الذي كان موجودًا في منطقة الحازمية آنذاك، وفتح جبهة قتالية مع قواته المسلّحة.
يعرف محمود أنَّ ماضي المنطقة أبعد من ذكريات الحرب، وهو يعلم جيّدًا أنّ بساتين الخضار سادت هنا بدل العمارات، وأنّ أشجار الليمون أوْلى في شريط الذكريات من مشهد القناص الذي كان يسهر فوق سطوح المدينة، لكنَّ المحطات التي شهدتها الأحياء هنا كانت كثيرة.
يشتاق سكان المنطقة إلى الهدوء، وإلى وجوه مألوفة كالتي اعتادوا رؤيتها قديمًا، عندما كانت مار مخايل كالقرية وكانوا سكانها جيرانًا، وكان الزائر الغريب يمكن تمييزه عن بعد. ما عادت الأحوال كما كانت، ولا الزمن إلى الماضي سيعود. قلّما تجد سكانًا “أصليين” هنا، كما استحدثت الأبنية وتجدّد السكان..
مار مخايل في الأدراج الرسمية
حي مار مخايل أساسًا هو عبارة عن شارع واحد فيه عقارات من الجانبين: الجانب الأيمن فيه كنيسة مار مخايل، والجانب المقابل فيه وحدات سكنية. يبلغ عدد سكان الحي حاليًا حوالى 350 نسمة.
توسّع الحي إلى الأراضي التي تحيطه، التي تعرف اليوم بأحياء مارون ماسك وماضي ومعوض. وبدل المساحات الفارغة والبساتين قامت عمارات:
- حي معوض كان عبارة عن مبنى واحد باسم مبنى معوض، وتحيطه البساتين. ومن اسم العمارة كان اسم
الحي.
- مارون مسك حيٌّ مكتظ حاليًا. كان أيضًا مساحات هادئة وسكانه الأوائل من آل مسك.
- كذلك حي ماضي، تعود تسميته أيضًا إلى عائلة ماضي التي سكنته قبل الحرب الأهلية اللبنانية.
في بدايات الحرب، غادر السكان المزارعون أراضيهم وبيوتهم الصغيرة، لتقوم مكانها عمارات من طوابق عدّة وصلت حي مار مخايل بالأحياء المجاورة، حتى تداخلت وضاعت الحدود بينها. تتبع هذه الأحياء إداريًا إلى منطقة مار مخايل. يبلغ عدد سكانها مجموعين حوالى 30000 نسمة.
في محاولة للحصول على خريطة عن المنطقة، يتعاون معنا الأستاذ غسان ناهض، موظف قديم في بلدية الشياح، يطلعنا على الخريطة مشيرًا إلى مار مخايل التي تظهر الأصغر حجمًا بين المناطق المحيطة، والأقل بينهم من حيث عدد العقارات (بالتالي عدد السكان).
يحكي لنا ناهض، ويؤكّد لنا زملاؤه في المكتب، تفاصيل عن مار مخايل القديمة التي انتشرت حولها المساحات الفارغة، إضافةً إلى الأراضي الزراعية، ويشير لنا عبر شاشة حاسوبه إلى مارون مسك ومعوّض، ويصفها بعبارة “الأحياء الجديدة”. المنطقة هنا بالنسبة إليه حديثة من الجهة الهندسية والمعمارية، ومن جهة التوزع السكاني والديموغرافيا.
يتّفق قدامى سكان المنطقة ومن جاورها أو اعتاد زيارتها على هدوءٍ سادها لأعوام، كما يتفقون على أن التغيرات التي قد طرأت عليها – ولا زالت – غيّرت وجهها وهُويتها، حتى السكان والوجوه، كلّها جديدة. “كنّا نروح مَشي من هون للسان سيمون، الغني بس كان عندو سيارة”، يقول لنا أحد سكان المنطقة القديمة..
عند جوانب الطريق، محال تجارية كبيرة ولامعة، محال استهلاكية، مواقف سيارات، وإشارات سير وزحمة. المنطقة هنا لا تشبه حكايا الناس.
خوف من سرد القصص
في أحد شوارع حي ماضي العتيق امرأة ينادونها “أم خالد”. خمسينية، من السكان القدامى، تسكن في الطبقة الثالثة من عمارة قديمة، ألوان جدرانها باهتة وطلاؤها مهترئ. لا مصعد فيها، كأنها تصارع البقاء بين جيل من العقارات الجديدة. رَوى لنا جيران أم خالد أنها تمتلك الكثير من الذكريات، وأنّها كنز حكايا، وأنّ من يرد فتح باب ماضي المنطقة ومحيطها، عليه زيارتها ومحاورتها. لكنَّ أم خالد، كآخرين كُثر من السكان هنا، توخَّت الحذر في الكلام عن ماضي المنطقة أو الإدلاء بأية معلومة، واكتفت بالقول إنها لا تمتلك الوقت لذلك. للمنطقة هنا قيمة أمنية وجغرافية، وقد تكون مصدر اهتمام لجهات متعددة لا تبغي الخير ولا الأمان.. سكان المنطقة أخذوا العِبر من خلال مراحل عديدة وقاسية، ومنهم من قرّر الانعزال عن كل ما يثير الشبهات، حتى لو كانت فرصة الكلام ستؤدي إلى رسم لوحة جميلة عابرة للزمن.. ضريبة الحذر باهظة.
تحوم حولك علامات استفهام وتعجّب لدى سؤالك السكان عن الماضي الذي مرّ هنا، وتثير ريبتهم عندما تصّرح لهم عن المُهمّة التي تنوي تنفيذها. المنطقة هنا غريبة عن هكذا تحقيقات، ولا تحظى عادةً بحشرية أو اهتمام بعيد عن الصبغة السياسية والأمنية التي تلتصق بها.
في وداع منطقة لم تعد موجودة
يمرّ التغيير كالعاصفة في بلادنا. يقلع كلّ ما هو قديم ويمضي. قلّما يتم الاهتمام بهوية المناطق وذكرياتها، قلّما يتم الترميم بصورة جميلة. الهدم وإعادة الإعمار خطوتان سريعتان لا تحظيان بالتفكير العميق ولا بالوعي الكافي، ولا
دراسة لتأثيرهما في تطوّر المجتمع.
يقتصر التطور هنا على المظاهر السطحية من الحداثة، بينما نجد في الدول المتقدمة الحرص على معاينة الأبنية القديمة، والاعتناء بالعمارات العتيقة، والاحتراس عند التعامل مع الحجر، لأنه يحمل ذكريات في تشقّقاته، ويبرز العمر الحقيقي للمدن وكلّ ما قطعته من أشواط.
مغادرة أزقّة مار مخايل القديمة باتجاه مدخلها المكتظّ بالأسواق والسيارات ونداء أصحاب الفانات، يشبه حالة الفصام. بين كل ما رواه السكان القدامى من حكايا، وكل ما شاهدناه في عيونهم من بريق وسعادة عند تذكّر قصص ورفاق الماضي، وواقع المنطقة اليوم، تشعر للحظة بأنَّك تدوس فوق هذه الذكريات، على زفت مجبول بضحكاتهم وبأيامهم السعيدة، التي لا دليل عليها سوى ما يقولون..
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: شريط مار مخايل بالأسود والأبيض
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- نهايات النّبع الكبير
- عن صورة تُكَوِّن نفسها في زوايا الذاكرة: “معتقل أنصار”
- حي الأميركان.. ذاكرة شفهيّة حيّة
- قصصٌ من “ذاك المكان”
- مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد
- من يملك ذاكرة الأرض؟
- بيروت القديمة استقلَّت الترامواي ورحلت إلى اللاعودة
- حي النعيم.. حسراتٌ في نفوس كرام
- التأريخ بالصّور: الشّوير وبيروت مثالًا
- سند.. قصّة أرض بحرينية طيّبة
- المنامة مشي وسِيَر وصور ودكاكين
- سيهات …نورس يطلّ علينا من قلب القطيف
- “الدير” في صورة
- بيت جدي