كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

لماذا يجب أن نفهم السعودية؟

“الدرعية أصبحت أعظم عاصمة للحداثة الإسلامية من دون أن تتعرض لأي من تأثيرات الحداثة” المرشد الفكري للمنظمة الإسلامية لطلبة شمال أمريكا وكندا، إسماعيل الفاروقي، مقدمة ترجمة كتاب التوحيد إلى اللغة الإنجليزية

بمباشرة شديدة التبسيط يمكن أن نقول، لأنها آخر دولة سمحت للمرأة بسياقة السيارة، والدولة الوحيدة التي لا تسمح لمواطنيها ولا لصحافتها أن تتحدث عن دور الحراك المدني طوال ثلاثة عقود في كسر تابو الحظر. استند الحظر إلى فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز المعروفة باسم بيان 1411هـ/1990م وتقضي “بعدم جواز قيادة النساء للسيارات، ووجوب معاقبة من يقوم منهن بذلك”.

لدي أربعة أسباب، تجيب على سؤال هذه المقالة.

السبب الأول، لأنها الدولة الدينية الوحيدة في العالم التي مازالت تستند إلى وثيقة شفاهية سياسية في تأسيسها.

من المعروف تاريخيا إنه في 1744م التقى محمد بن عبدالوهاب مع محمد بن سعود في الدرعية، وتعاهدا مشافهة على ميثاق عرف بميثاق الدرعية، وهو ينص على أن يُعطي رجل الملة رجل الدولة شرعية دينية، ويُعطي رجل الدولة رجل الملة قوة دنيوية. بالشرعية تقوم الدولة وبالقوة تسود الدعوة.

الدولة السعودية الأولى قامت على أساس تشريع محمد بن عبد الوهاب، هو الذي يعطي لمحمد بن سعود، شرعية الغزو والحرب والتوسع والسبي والضم والإخضاع وأخذ الغنيمة، كان رجل الدعوة هو من يجهز الجيوش ويعد المجاهدين في معسكر الدرعية ويشحنهم قبل ذلك بالدروس الدينية، ويُثبّت فيهم أصول التوحيد، ويُكوِّن عقيدتهم القتالية: الخصومة في التوحيد. أي أن خلافنا وخصومتنا مع الآخرين مبنية على مفهوم التوحيد، من يعارض مفهومنا للتوحيد يُهدر دمه وتسبى حُرمه. مثلت عائلة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بامتدادها إلى هذا اليوم المكون الشرعي في الدولة السعودية، لم ينقطع نسل هذه العائلة كما لم ينقطع نسل آل سعود، وحرص الآباء والأجداد والأبناء على أن يلتزموا بوثيقة الدرعية التزاماً تاماً، وفق قاعدة “الدم بالدم والهدم بالهدم” وهذا ما شرحته بالتفصيل في كتابي (إله التوحش.. التكفير والسياسة الوهابية)

السبب الثاني، لأنها الدولة الدينية الوحيدة في العالم التي تُكفِّر مواطنيها.

عشرات مواقع الكراهية والتكفير ومنابره الرسمية وشبه الرسمية في المملكة، تستمد أصولها من كتاب (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد). إنه أخطر مفهوم أنتجه محمد بن عبدالوهاب، وصار كتاباً مقدساً في الدولة، وهو الوثيقة العقائدية التي يجب التصديق عليها والإيمان بها، لتكون مواطناً سعودياً حقيقياً، وهي البديل عن الدستور، وهذا ما يفسر عدم وجود دستور للمملكة العربية السعودية.

صار كتابه (التوحيد) دستور الدولة، ويخضع جهاز الدولة السياسي لهذا الكتاب، وقد تم تعميمه في التعليم المدرسي، وأصبح معياراً في صنع (المواطنة) السعودية، بمعنى أنك لا تصبح مواطناً سعوديا من دون أن تدرس هذا الكتاب وتقرّ به، إنه العلامة على التزام الدولة باتفاق الدرعية، والدليل على سريان مفعول هذه الاتفاقية، بل إن المواطنة (التوحيدية) تمّ تعزيزها بتسجيل حي الطريف في الدرعية التاريخية في قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو، هكذا يُثبّت في ذهن المواطن إن الدرعية قبلة التوحيد، كما قررته الدولة السعودية الأولى وأن القطيف وما يشبهها قبلة الشرك والكفر، كما يخبرنا ابن بشر في كتابه (المجد في تاريخ نجد) يقول”وأزال المسلمون [جيش آل سعود] جميع ما في القطيف من الأوثان والمتعبدات والكنائس وأحرقوا كتبهم القبيحة بعدما جمعوا منها أحمالًا” ص187.

يشكل هذا التوحيد السياسية السعودية الخارجية والداخلية، كيف؟ الخارجية لأنه يحدد سياسة علاقاتها الدولية، والداخلية لأنه يحدد مفهوم المواطنة، فالذين يؤمنون بهذا التوحيد (الشيعة) هم مواطنون مشكوك في ولائهم ولا يستحقون الثقة ويجب تمييزهم عن الذين يقرون بالتوحيد إقراراً باللسان والقلب، هكذا يقاس المواطنون على ميثاق (التوحيد).

يدرس (المواطن) كتاباً يكفره، يقول له إنك كافر وعقيدتك فيها شرك، وشعائرك تخرجك من الإسلام، ويجب عليك أن تتعلم التوحيد الصحيح الذي تؤمن به الدولة ورجال ملتها.

لم يخضع هذا التوحيد الوهابي لأي مراجعة نقدية، ولا يمكن أن يخضع لأي مراجعة لأن التشكيك فيه يُعد تشكيك في شرعية الدولة، والمراجعة النقدية تتطلب التشكيك والإشكال والخلخلة، بل ما يتم مزيد من التثبيت والدفاع والنشر كما في مقدمة الترجمة الإنجليزية لكتاب التوحيد التي تقول “الدرعية أصبحت أعظم عاصمة للحداثة الإسلامية من دون أن تتعرض لأي من تأثيرات الحداثة”.

السبب الثالث لأنها الدولة الدينية الوحيدة التي تعتمد البيعة ولم تختبر شرعيتها بأي نظام انتخابي أو تعاقد اجتماعي.

ليس هناك أي وثيقة تشير إلى تمثيل شعبي، ولا يقبل النظام السياسي أي إشارة لأي تمثيل شعبي، أو حراك مطلبي، ومنذ التسعينيات تم تهديد المشاركات في حملة مسيرة السيارات في نوفمبر 1990 بعد إطلاق سراحهن بعدم الإدلاء بأي تصريح لوسائل الإعلام، وتمّ التشديد على ذلك بعد إزالة قرار الحظر، وأذكر أني في 2009 حاولت إقناع بعضهن بالتحديث في برنامج تلفزيوني عن التجربة إلا أنهن امتنع بشدة.

الخلاصة، إنك كمواطن لا تمثل أحداً ولا تمثل حتى نفسك،  ما بين الحاكم والمحكوم بيعة، وواجب على الجميع أن يبايع ولاة الأمر على السمع والطاعة في المنشط والمكره، أي وقت الرخاء والغنائم وتوزيع العطايا وارتفاع أسعار البترول، ووقت الصعاب والحرب والقتال والعُسر والحصار. الخروج على مقتضى البيعة الشرعية، يُعد بمثابة الكفر، ويستوجب “الأخذ على يده، صيانة لوحدة الصف والكلمة” كما أعلنت هيئة العلماء بعد حصار قطر.

لا يمكن لنظام (التوحيد) وهو هوية النظام السياسي أن يقبل بوجود مجتمع مدني أو نشاط حقوقي أو حراك معارض، فكل ذلك يعارض مقتضى نظام البيعة الذي يستوجب السمع والطاعة.

السبب الرابع، لأنها الدولة الدينية الوحيدة في العالم التي نجحت في تصدير التكفير ليكون على أجندة العلاقات الدولية.

أصبح التكفير شأناً من شؤون سياسة العلاقات الدولية، فالدول تحدد سياستها وفق خارطة التكفير ونشاطه وتهديداته وتضع خططها الأمنية لمواجته. ما هو نمط التكفير الذي تحاربه الدول اليوم، ويشغل تفكيرها، ويثير قلقها؟ إنه التكفير الذي صاغه محمد عبدالوهاب، وتجمع عليه عقائدياً جميع التنظيمات الإرهابية، فهي تتخذ من عنوان التوحيد اسمًا لها وتُعرّف عقيدتها ومهمتها الرسالية بالعبارات نفسها التي يستخدمها محمد بن عبد الوهاب في كتابه (التوحيد).

كانت مهمة الدولة في الدرعية نشر التوحيد، تصدير التوحيد الوهابي، وفتح باب الهجرة للموحدين الجدد، كان جامع محمد بن عبدالوهاب مدرستهم، يُعدهم فيها إعداداً عقائديا وجهادياً ليلتحقوا بعدها بالجيش الفاتح والغازي.

صار جامع محمد عبدالوهاب جامعة بل جامعات اليوم، على سبيل المثال الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، تأسست لجلب الموحدين من العالم الإسلامي في العام 1961، وتهيئتهم للدعوة باسم التوحيد الوهابي، على سبيل المثال، هذه عينة بأسماء دعاة من خريجي توحيد محمد بن عبدالوهاب في هذه الجامعة:الداعية بلال فيلبس، أبو أسامة الذهبي، إحسان إلهي ظهير، عبد الهادي بن الحاج أوانج، ياسر قاضي، عبد الرزاق اسكندر. ارتبطت أسماء هؤلاء الدعاة بنشر التطرف والكراهية والتكفير، بعضهم في الغرب وبعضهم في الشرق، وتغدي خطاباتهم كثير من الصراعات الدينية.

لقد تعقدت الدولة السعودية وتعقدت أجهزتها، وتضخم الجهاز السياسي والإداري للدولة وتضخم الجهاز الشرعي معها، وصار جزءا منها،  بعد أن هيمنت عليه، وجعلت منه مؤسسة لا فرداً (هيئة كبار العلماء) لكنها لم تخرج على مفهوم التوحيد الذي ينص عليه اتفاق الدرعية، ولم تخرج (هيئة كبار العلماء) عليه، ولا خففت من تطرفه، وهذه هي النقطة المركزية في تفسير الخصومة الملازمة للمساحات السياسية التي تسيطر عليها السعودية في أي بلد في العالم.


طنين التوحيد مرض المملكة

رواية طنين للأمير السعودي سيف الإسلام بن سعود بن عبدالعزيز

على خلفية موجة الاعتقالات الأخيرة في السعودية، قال وزير الخارجية عادل الجبير “لقد فصلنا آلافا من الأئمة من المساجد بسبب التطرف، وقمنا بتحديث نظامنا التعليمي من أجل استبعاد إمكانية سوء تفسير النصوص”.

قالت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش: “يبدو أن لهذه الاعتقالات دوافع سياسية… ستضيع الجهود التي يبذلها السعوديون لمعالجة التطرف هباءً إن بقيت الحكومة تسجن كل شخص بسبب وجهة نظره السياسية”.

لا يمكن أن تحارب التطرف بانتهاك حقوق الإنسان، فذلك تطرف آخر ودعوة لممارسة تطرف مقابل، أنا من المشككين في إمكانية ولادة مشروع إصلاح سياسي في السعودية، والحجة التي أستند إليها تتعلق بفهمي لميثاق تأسيس السعودية وحضوره اليوم في الدولة. يقول محمد بن عبدالوهاب لمحمد بن سعود في هذا الميثاق الشفاهي “من عمل بكلمة التوحيد ونصرها، ملك البلاد والعباد”، ويبشره بالملك فيه وفي ذريته “فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتكم من بعدكم”.

إنه، ميثاق المُلك السعودي، كلمة التوحيد هي كلمة السر، لا يمكن أن ينسى الإمام كلمة السر، فيخسر كنزه الدنيوي (الُملك). لقد نجح محمد علي باشا في تدمير (الدرعية) لكنه فشل في تفكيك هذه الكلمة، لقد أخذ معه 250 من العائلة السعودية أسرى إلى القاهرة، وأخذ معه 150 من عائلة محمد بن عبد الوهاب (آل الشيخ)، أخذهم من رمال نجد إلى ماء النيل وحضارته، لكنه لم يتمكن من نزع مفاعيل التوحيد الوهابي.

أبناء رجل الدعوة درسوا في الأزهر وخالطوا مدارس فقهية وعقائدية متنوعة، لكنهم ظلوا يحملون صلافة توحيد الدرعية، واحد من أهمهم هو الحفيد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، لازم دروس جده قبل المراهقة فقرأ عليه التوحيد إلا قليلاً، وكان ضمن الأسرى الذين أخذهم إبراهيم باشا للقاهرة، هرب بعد عشر سنوات من الأزهر إلى الدرعية، وهناك أكمل دور جده في  فوضع شرحاً لكتاب جده (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد).

في رواية (طنين) الصادرة في العام 2006 يسرد علينا الأخ الشقيق لآخر أمراء الدولة السعودية الأولى (خالد بن سعود) وقائع تدمير (الدرعية) التي عايشها وهو ابن 14 عاماً. إنه يسرد هذا التاريخ بوعي مفارق لزمن الحادثة، فقد شب هذا الأمير في القاهرة، وشرب من ماء النيل، وتعرف على مشروع النهضة الذي حمله محمد علي باشا، وانفتحت له كتب العالم، وحفظ أقوال التنويريين في مصر وتركيا والبلدان الأوروبية عن ظهر قلب “لعلها تنفع وأنا أخاطب أهالي نجد” كما يقول.

بعد أن كان محصوراً في نجد في الكتب المحدودة الأفق التي يقررها محمد بن عبدالوهاب لأبناء العائلة الحاكمة. صار هذا الأمير الشاب بعد 18عاماً،، معداً كما خطط له باشا مصر، ليتولى حكم الدولة السعودية الثانية، بكلمة سر أخرى، هي الحضارة الحديثة والنهضة. يعود هذا الشاب متوجاً بجنود الجيش المصري إلى الرياض، ليعيد بناء دولة الدرعية بكلمة مصرية بدل الكلمة الوهابية، فيفشل بعد ثلاث سنوات، ويخرج خائباً طريداً ليموت منفياً في مكة تحت حكم العثمانيين.

اعتبره التاريخ خائناً وعميلاً، فجاءت هذه رواية (طنين) لتعيد له الاعتبار، عبر تقنية الرسائل التي ابتكرها مؤلف الرواية الأمير سيف الإسلام بن سعود بن عبدالعزيز، نقرأ في رسائله التي كتبها لصديق طفولته في الرياض، شهادته على تاريخ تشكل الدولة، من منظور مغاير للرواية الرسمية للدولة كما كتبه ابن غنام وابن بشر، ووجه المغايرة يكمن بالذات في نظرته النقدية لمفهوم التوحيد الذي جعل جعل الدعوة الوهابية تقود الدولة إلى التصرف بتطرف على قاعدة إن أبناء الدرعية هم “مصلحو الكون، خلفاء الله على الأرض وأمناؤه”.

يطرح الأمير في رسائله مجموعة من الأسئلة العميقة: لكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ماذا سيحدث إن توسع المُلك الديني إلى حد اصطدامه بالمُلك الدنيوي للأقوياء الآخرين؟ ماذا لو أن أحد الأطراف أخلّ ضمناً أو علانية ببنود الميثاق والعهد؟ وماذا لو تبين لأحد أطراف العهد أو كليهما أن آخرين يَدّعون أنهم يعملون بكلمة التوحيد، وإنهم يقومون بنصرتها، وأن الشيخ والأمير أو من يأتي من أعقابهما ليسوا مخولين بالانفراد بمهام فرز من هو مسلم حقاً ومن هو كافر؟ ماذا لو أعلنت طائفة مستجدة الحرب على أطراف الميثاق، بحجة خروجهم من مقتضى الإسلام الأعم أو الإيمان الأخص؟

إنها أسئلة راهنة، ويطرحها كاتب الرواية بحذر موارب على الدولة السعودية الحالية. تزداد هذه الأسئلة إلحاحاً مع تقدم الزمن، يجيب عليها الزمان بتأكيد أهميتها وثقلها وبيان حجم حرجها، لقد توسّع المجال الديني الذي يحمل رسالة التوحيد الوهابي الغليظة، احتل مناطق من العالم الإسلامي على تنوعه، وصار يزاحم عقائد الآخرين ويُكفّرها، ووصل إلى الغرب وصار يصنع خلايا متفجرة، باختصار أصبح عبئاً على العالم، ولا قدرة لأحد على مواجهة هذه الأسئلة بصراحة نقدية.

مع غياب الجرأة على مواجهة هذه الأسئلة، ظهرت داعش والنصرة، وقبلها جماعة التوحيد والجهاد (العراق)، جماعة التوحيد (ألمانيا)، جماعة التوحيد والجهاد (مصر)، التوحيد والهجرة (مصر)، التوحيد والهجرة (العراق)، حركة التوحيد والجهاد (غرب أفريقيا)، جماعة التوحيد والجهاد (بيت المقدس)، جماعة التوحيد والجهاد (المغرب الأقصى). صارت تتنازع هذه الجماعات تمثيل التوحيد الوهابي وامتلاكه. صاروا يزايدون على بعضهم في تطبيق شروطه من تكفير للآخرين وضيق بالمختلفين واعتبارهم مشركين ودعوة إلى التبري منهم بالتخلص والقتل.

مازال (طنين) التوحيد يُحرك البنية العميقة للمملكة، إنه مرضها المزمن، كما كان طنين الأذن مرض الأمير خالد بن سعود المزمن. كان رجال مخابرات الامبراطورية العثمانية يسجلون عليه يومياته الأخيرة، ويرسلون تقاريرهم اليومية، وبالتأكيد هناك رجال ورثوا مسؤولية القيام بهذه المهمة بعد أن صار مرض دولة لا مرض رجل في الدولة.


*مقال معد لصحيفة الاتحاد اللبنانية قبل إغلاقها

رباب النجار في رواية "الحرون": بيوت المنامة أمهاتكم

“كنت أتمرد كثيراً وأعترض لأنتقم من العالم”

تقنياً، رواية “الحرون” للكاتبة البحرينيَّة رباب النجار، بسيطة ومباشرة. تظلّ تحدّث نفسك وأنت تقرأها، يمكنني أن أكتب مثلها بسهولة، لكنَّك لن تفعلها، ستظلّ معلقاً فيها منذ أول سطر حتى آخر صفحة، ستشعر بأنك تقرأ فيها شيئاً منك، شيئاً افتقدته وتريد أن تتَّصل به.

هي حكاية جليلة الحرون؛ الفتاة التي عاشت في النصف الثاني من القرن العشرين، طفلة في الخمسينيات، وصبية في الستينيات، وشابة في السبعينيات، وامرأة حرون بعد الزواج في الثمانينيات من القرن الماضي.

لحظة لقاء خاطفة في حيّ المخارقة بين الأم والبنت جليلة، تُعرض الأم كميلة عن ابنتها، تُطيّر نظراتها في السماء، لا تريد أن تنظر في وجه ابنتها. البنت تخز فيها، تريد أن تعرف سرّ هذا الإعراض والغياب عنها. نظلّ نلاحق هذا السر، ولا يتكشف لنا إلا جزء منه في نهاية الرواية، ولا تغيّر هذه المعرفة شيئاً في رأس الحرون.

ليس السرّ هنا بمعنى اللغز الذي يجعل منها رواية بوليسية، بل هو سرّ يتعلق بحكاية متعدّدة الأطراف، حكاية زواج ينتهي يوم صبحية العروس، ويخلّف حملاً يفرض فيه الجد على الأم عدم الزواج أو تسليم البنت. تسلّم الأم البنت لحظة ولادتها من دون أن تنظر في وجهها خشية أن تتعلّق بها. لا نعرف طوال الرواية سبب وقوع كلّ ذلك على وجه التفصيل. هناك إشارات خاطفة إلى وجود الأب في مكان ما في حالة غير طبيعية، لكن لا تكشف الرواية ولا تعرف جليلة ماذا حلّ بالأب وجعلها تقع ضحيةً لهذا الفقد الشديد الوقع على نفسها ومصيرها.

تظلّ جليلة طوال الرواية شديدة الحساسيّة والملاحظة، لكلّ حركة فيها أثر أم. في المدرسة تنظر إلى تسريحات شعر كل بنت وتقارنه بتسريحة شعرها التي لا أم لها، تحدثها زميلاتها كيف كنَّ يلجأن إلى أمهاتهن حين تُربكهن العادة الشهرية أول مرة في حياتهن، فيشتدّ عليها أثر الفقد، وتجد نفسها من غير أمومة تفضي لها باكتمال أنوثتها.

لا تجد جليلة غير غرفتها ومرآتها في الطابق الثاني من البيت العود. تنعزل هناك هروباً من العالم ونظراته القاتلة، حتى زوار جدتها من النساء الفضوليات تتجنّب الاختلاط بهن، تشعر بأن أسئلتهنّ تعمّق من مأساة انفصالها عن والديها، وتعليقاتهنّ تترك جرحاً على جرحها. تتذكَّر هذه التعليقات بألم كبير، تسمع إحداهن تقول إنها نحس على والديها، وأخرى تنصح جدتها بأن تبحث عن شامة شؤم في جسدها لتقوم بكيِّها، فتسبّب لها رعباً يدعوها لتتفحص جسدها في مرآتها خوفاً من وجود هذه الشامة التي ربما تتسبّب في حرقها، أخرى تأمر جدتها بمراقبتها أثناء النوم، لتتأكّد أنها لا تحرص بفكها وأسنانها وتصدر صوتاً أثناء النوم، فإن ذلك يجلب النحس.

هناك في غرفتها تتحدَّث مع مرآتها وشخصيات الروايات العالمية التي كانت تشتريها من مكتبات المنامة (مكتبة عبيد، مكتبة قصر المعرفة). تُركب واقعها من خلال هذه الشخصيات وما تمر به من أحداث. صارت تملأ الفراغ الوجودي الذي تركته أمها وخلّفه أبوها بالخيال الذي تستمده من هذه الشخصيات: كوازيمودر في رواية أحدب نوتردام، وكوزيت في رواية البؤساء وغيرها.

صارت جليلة تألف أوراق الكتب وتستوحش الناس، تعرف كتبها من روائح الورق، فلكلّ كتاب رائحة تميّزه. صار عالمها مكوناً من أربعة جدران، وأربع شخصيات؛ جدتها وأخيها سامي وصديقة طفولتها أمينة وجارتهم الضريرة فاطمة. ضمن هذا العالم الرباعي، يمكنها أن تجد شيئاً من ذاتها الضائعة منها. هذا لا يعني أنها كانت في عزلة عن العالم الخارجي، فقد كانت تخرج في (فريق المخارقة) وشارع المتنبي وشارع الشيخ عبدالله وباب البحرين، لكنها ما كانت تختلط بالناس، تظلّ تراقبهم وتحدّث نفسها لتعود إلى عالمها الرباعي.

تستفيض جليلة في وصف معالم فريق المخارقة وثقافته، وكأنَّها تريد أن تترك لنا إرثاً كي لا نُصاب بما أصيبت به من فقد للأمومة، تريد أن تقول لنا إنَّ في هذه الذاكرة أمومتكم الوجودية، لا تفقدوها، كي لا تتشوه أرواحكم كما تشوهت روحي. لا تُطيّروا نظراتكم في الهواء مداراة عنها، ستزهق أرواحكم إذا فقدتم هذه الأمومة، كما فقدتها أنا فزهقت روحي.

تقدم جليلة مادة اثنوغرافية حية ومفعمة بالحيوية، من خلال سرد سيرتها الذاتية في المنامة في فريق المخارقة حيث البيت العود، تحت شجرة البنسيانة. تقدم هذه المادة لتملأ الفراغ الوجودي في ذاكرتنا وأرواحنا التي تعاين بحسرة اختفاء مظاهر حية وحميمة من ثقافتنا وعاداتنا.

مليئة الرواية بأرشيف اثنوغرافي ثري وحي، قدمت من خلاله الرواية وصفاً لثقافة المنامة، مطبخ بيوتها بأوانيه وبهاراته وديكوره وأطباقه الشعبية: الكِشْري، والعصيدة، والمجبوس، وفتيتة التمر، شارع المتنبي وشخصيات الحي، ودكاكين الحي، ومشاكل العوائل الخاصة التي كانت تخرج إلى الحي.

يبدأ إعداد الشاي الظهيرة بعد أن تنفض السفرة قرب البنسيانة كي تلتقط العصافير بقايا الطعام، وما هو أكبر من البقايا يذهب إلى بقر الجار مسعود. في هذه الأثناء، يكون جمر الشاي قد نضج بعد أن تم إشعاله قبل الغداء، تضع الجدّة الإبريق المعدني على النار، تمسح خرطومه من الداخل بالزبدة وعينها على الماء، تغسل أوراق الشاي، وقبل أن يبدأ الغليان تسكبه على ورق الشاي مباشرة، وتتركه على الجمر، بعد دقائق تتشممه بنفس عميق وهي مغمضة العينين، وبخبرة الذوق تقرر إن كان (اتسكر) أو ما زال يحتاج إلى مزيد من الطبخ.

بهذا النَفَس الَّذي تُعدّ به جدتها الشاي، تصف رباب النجار عبر جليلة مظاهر الحياة وثقافتها في ذلك البيت والحي في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد تركت جليلة لنا مادة ثرية نعالج بها أرواحنا وذاكرتها من آلام الفقد وشدائده؛ ذاك الذي عانته وكانت شاهدة على آخر فصوله التي انتهت ببيع البيت العود.

الميادين

غربة "آريا مهر نامة"

”إن الوطن هو مكان الولادة، لكنها الآن تقبلت أن يكون مكان الوفاة هو الوطن الجديد“.

منذ أيار مايو الماضي وأنا أترقب اللحظة المناسبة للدخول في أجواء رواية الدكتور عقيل الموسوي (آريا مهر نامه). وصلتني وأنا أضع اللمسات الأخيرة على كتابي الجديد (من هو البحريني؟). وضع لي عقيل فخاً في إهدائه: إلى الأخ العزيز علي الديري، لنا في هذه الرواية كلام عن الغربة.. عساه يكون سلوى لك في حياتك الجديدة“.

وضعني الإهداء في حالة ترقب، ما الذي يمكن أن تقوله رواية معنية بتاريخ إيران السياسي والثقافي والحضاري، عن الغربة؟ رحت أربط الإهداء بسؤال كتابي الذي هو في معنى من معانيه: لماذا يغدو المواطن غريباً؟ إنه سؤال في السياسة والفلسفة والأدب.

أزحت الرواية جانباً، فلدي زيارة صيفية لمدينة مشهد، وهناك سيكون للرواية طعم خاص، في هذه المدينة لدي فائض غربات ثلاث، ولعل ما في الرواية من كلام عن الغربة، يفتح لي ثغرة أعالج منها كثافة الغربات.

تفتتح الرواية فصلها الأول بعنوان (تأبين في الغربة). يا للهول! شعرت وكأن الرواية تعبث بي، فأنا في جوار قبر والدي الذي أقمنا تأبينه الأول في الغربة، وأنا أترقب وصول كتابي (بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل)، وفي مقدمته أتحدث عن قبري ودفني في الغربة، والأكثر من ذلك إني أحمل في شنطتي قنينة تراب طلبت إحضارها من أرض  قريتي (الدير) كي يخلط بتراب قبري، كي تخف غربة تراب القبر. فوق كل ذلك، فكاتب الرواية شخصية بحرينية شهد أحداث “الربيع العربي”، واختار أن يعيش في المهجر لفترة من الزمان، ومن هناك هو يكتب الرواية.

دفعتني هذه التطابقات لمتابعة الرواية متابعة جدية، رحت أضع علامات بقلم الفلاش، على كل جملة ترد فيها كلمة (غربة). صارت القائمة طويلة، ووجدت فيها معالجة لحالتي.

ينشغل الكاتب في الفصل الأول، بملاحقة خبر انتحار علي محمد رضا ابن (الشاه) محمد رضا بهلوي. لقد انتحر في غربته الوجودية والجغرافية. تواجه والدته الشاهبانو فرح بهلوي غربة مضاعفة، فأحفاد العائلة البهلوية يعيشون غربة ثقافية، ولا يعرفون طقوس حفل التأبين على الطريقة الإيرانية. لقد سدّت هذه الفجوة الثقافية، بمشهد رمزي يُعطي دلالة على أصالتها: صفت أعضاء العائلة البهلوية، شيوخاً وشباباً وأطفالاً، في حداد ملابس سوداء أنيقة، ونثروا بوقار، واحداً تلو الآخر، تراباً جُلب من إيران على جثمان الراحل.

إنه، مشهد آسر، الغريب الذي لا تستقر روحه إلا حين تمتزج طينته بطينة تراب بلاده. شخصياً، تحسست برودة هذا التراب، ورحت أتخيل بالتذاذ تراب قبري يغدو تربةً بتراب الدير“ المقدسة. شعرت بأني بالغت في ما ذهبت إليه، لكن الكاتب الغريب الذي يعيش في منفى ما بعد أحداث الربيع العربي“، كان مصراً أن يُبقيني في المشهد، وكأنه كان يخاطبني: “إنه لمن الطبيعي أن تتعلق أرواحنا الرقيقة ببقعة من العالم محببة لنا، نولد فيها، ونتشكل منها، ونسمّيها أرض الآباء، أو الوطن… والغربة بسبب النفي أشد على النفس، لأنها تشقّ الأرواح عن الوطن وتبتر الذوات عن أرض الآباء”.

بدت لي هذه المخاطبة إشارة اطمئنان، وعلاجاً يخفف من آلام هذا البتر، إلا أنَّ ختامها كان أشبه شيء بالكي، فآخر الدواء الكي: “ولا يبدو أنَّ لغربة المنفى أي علاج، ربما، إلا الانشغال بحلم الرجوع إلى الوطن”.

هل مقدر على كل منفي أن يشغل حياته بحلم هذا الرجوع؟ إنه أشبه بمرض منه بعلاج، والدليل على ذلك، كما تقدمه الرواية، هو انتحار ليلى بهلوي قبل أخيها بعشر سنوات، وهي أصغر أبناء الشاه الأربعة من فرح بهلوي.

بين أن تموت منتحراً أو تعيش مريضاً بحلم الرجوع، هكذا يبدو حال الغريب المنفي، في رواية (آريا مهر نامه). إنه ليس أي رجوع بل حلم رجوع المنتصرين، بيقين الطبيب من تشخيص مريضه، يقرر الكاتب إنه “في المنفى تسيطر على كل منفي مثلي قصة متخيّلة لرجوعه إلى الوطن رجوع المنتصرين”.

تطلّ الرواية على التاريخ الإيراني من خلال شرفة عائلة بهلوي، من زمنهم الحالي حيث الغربة والمنفى وحلم رجوع المنتصرين. يتوغل كاتب الرواية، الذي يعيش مثلهم في منفاه السياسي، في تفاصيل تاريخ الدولة الأخمينية والدولة الساسانية والفتح الإسلامي والدويلات الحاكمة، وصولاً إلى الدولة الصفوية، فالقاجارية، فالبهلولية، إنه تاريخ طويل ومعقد.

في عام 1941 تولى السلطة محمد رضا بهلوي عن أبيه الذي نفاه الإنجليز إلى جنوب أفريقيا ليموت هناك غريباً، فيدفن في مصر قبل أن ينقل جثمانه إلى إيران.

ورث الشاه من أبيه وصية في شكل درع بهلوي مصمم في عام 1932 على الشكل التالي: أسدان يقفان على الشريط الملكي الأزرق الملكي مكتوبة عليه عبارة من ملحمة الشاهنامه للفردوسي بالعدل يأمرني وبه سيحاسبني“، يحمل الأسدان سيفين مشهرين يحميان التاج البهلوي، ويحوي الدرع صورة جبل دماوند في طهران ومن خلفه الشمس المشعة، كذلك يحوي الفراوهر الشعار الزرادشتي ووردة النيلوفر والسيمروغ وسيف (ذو الفقار) مع زهرة لاله.

يعتبر الشاه هذه الوصية خطة عمل لحكم العائلة البهلوية، ووصية عامة للشعب الإيراني. وجد الشاه نفسه بحاجة إلى تفكيك إشارات الدرع ورموزه، لفهمها والعمل بها، فاستعان بالبروفسور فرشاد عليخاني، مدير متحف إيران الوطني، ورئيس قسم الدراسات التاريخية في جامعة طهران سابقاً، ليتولى شرح إشارات الدرع بالتفصيل الذي يكشف أسرار الهوية التاريخية لإيران المودعة في هذا الدرع.

يتولى البروفيسور ترتيب رحلات ميدانية إلى مواقع أثرية، ليشرح للشاه بتفصيل تاريخي أسرار الدرع. يستغرق ذلك التفصيل التاريخي أكثر من نصف الرواية، يأخذنا فيها البرفيسور في رحلة ممتعة وسلسة في التاريخ الإيراني.

يتحول تاريخ الإخمينيين والساسانيين ونور الآريين ونار الزرادشتيين من الغربة إلى الألفة. ينجح البروفيسور في إزالة ركام الظلام عن هذه الحضارات وديانتها، ليجعلها ضمن خطة عمل الشاه لبناء الهوية القومية الإيرانية التي جبّت بإسلامها ما قبلها.

نحتاج إلى وقفة نقدية لتقييم خطاب الرواية في تحويل هذا التاريخ من الغربة إلى الألفة، ونكتفي هنا بإثارة هذه الأسئلة: هل حوّلت المادة التاريخية الرواية إلى خطاب تاريخي؟ هل أثقلت معلومات الراوي البروفيسور الذي سيطر على أكثر من نصف السرد، الرواية لتغدو رواية تعليمية؟ هل كنا أمام بروفيسور يلقننا عِبَر التاريخ ووقائعه أم كنا مع بروفيسور يروي لنا ما يفتحنا على جدل التاريخ ومكره وصراعاته؟ أو لنقل هل بقي (فرشاد عليخاني) أستاذ تاريخ أم غدا شخصية روائية مركبة الأبعاد؟

هذه الأسئلة تحتاج إلى تحليل معمق لخطاب الرواية، ربما أترك ذلك لمقالة أخرى.

الميادين

رسالة إلى أبي…

 

(توفي والدي في 2009 في مدينة مشهد، ودفن في حرم الإمام الرضا (ع) في مقبرة بهشت ثامن الأئمة)

هذه المرة كان الطريق إليك طويلًا وشاقًّا من أقصى الأرض، إنها أطول مسافة غياب زمانًا ومكانًا بين آخر زيارة في أبريل 2014 وهذه الزيارة في أغسطس 2017.

أعود إليك هذه المرة وكأني أؤول إليك، فقد فقدت جنسيتي التي منحتني إياها في العام الذي استقل فيه وطننا، وكنت واحدًا من الذين أسهموا في ورشة بنائه العمرانية.

لقد أسقطوا جنسيتي وكأنهم أسقطوا أصلي الذي يؤول إليك. طوال السنوات الثلاث ونصف وأنا أحن إليك حنين الشيء إلى أصله.

أقف على قبرك بلا هوية رسمية، أحمل معي كتابي “بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل” أضعه على قبرك وأعرف أنه لا يكفي لأشرح لك كيف آلت بي الأمور لأغدو خارج الوطن، خارج ذلك المكان الذي أعطاني هويته بك، ملعونًا من نظامه السياسي.

أعرف أن أسئلتك أكثر من أسئلة حفيدتك أماسيل، ما زالتْ تتباهى بأغنيتك لها “أماسيل تسقي الورد”. إنها تفاخر بماء اسمها مني، وماء هويتها منك.

أقف على قبرك بكتابها، وأستمد من بحرانيتك العلامة التي لا تزول، أضعها مجاورة لهوية كتابي، لتقول بهذه المجاورة ما لا تستطيع حروفي متجاورة أن تقوله.

أدرك هذه اللحظة وأنا على أعتاب قبرك، القدر الإلهي الذي اختار لك هذه البقعة المقدسة، كنت أظنها مجرد كرامة لحبك لهذا المكان وهذا الإمام، حسبتها شاهدًا على سيرتك الروحية المشهدية فقط، هي بيقين الحب الذي فيك كذلك، لكنها بما صرت أنا إليه، أَجِد فيها سرًّا آخر يتعلق هذه المرة بي وبغربتي، وكأنك ادخرت لي بقعة وطن آوي إليها من تعب الهجرة. هنا تتقاطع ثلاث غربات، غربة الإمام المقدس وغربتك وغربتي، كل غربة تحن على الأخرى لتأتلف معها، فتشكل الغربات معًا وطنًا أرجع إليه.

أقف هذه المرة على قبرك لائذًا لا زائرًا، لاجئًا لا عابرًا. هكذا كعادتك تسلب منا المبادرات، وتمنحنا البركات. منحتنا كل شيء، ما زلت ضنينًا أن نمنحك شيئًا، حتى زيارتي لك، صارت لجوءًا يمنحني الأمن والأمان (وطن) بعد أن كنت أظنها برًّا ووفاءً مني إليك، هكذا تظل أبوتك فاعلة دومًا فوق التراب وتحت التراب، تُعطي وتمنح وتفيض.

تحت بركات تربتك ألتقي اليوم بالعائلة، لقاء يشبه العودة للوطن، معنا ستة عشر طفلًا من أحفادك، جمعهم تراب قبرك وهجرة ابنك، قرأنا لك فاتحة الكتاب، أردت أن تتفتح  ذاكرتهم هنا على ما صرنا إليه، قلت لهم تذكروا أن هذا المكان منذ هذه اللحظة سيغدو وطنًا يجمعني بكم.

إلى أبي 1

إلى أبي 2