كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

لقد فعلوها جعلوا الحكاية كلها هم

لا نعرف حكاية الساعات الأخيرة من حكاية عباس السميع ورفيقيه سامي مشيمع وعلي السنكيس، ف”المحكوم بالإعدام لا حكاية له” كما يخبرنا الأديب الروسي دوستويفسكي (1821- 1881) الذي حُكم عليه بالإعدام بسبب أفكاره السياسية، لكن في اللحظات الأخيرة من تنفيذ الحكم، تم تحويلها إلى عقوبة أخف، فعاد ليحكي لنا حكاية المحكوم بالإعدام في روايته (الأبله) يقول “أما في حالة الإعدام فهم يحرمونك تماما من تلك البقية الباقية من الأمل التي تخفف وقع الموت على نفسك عشرات المرات فاليقين عن أنك لن تفلت من حكم الإعدام هو ذاته العذاب الذي ليس بعده عذاب”.

لم يتوفر الملك الذي صادق على قرار إعدام عباس وسامي وعلي، على مناقبية، لتحيي فيهم شيئا من أمل العفو أو التخفيف أو الإيقاف، كان أدنى من ذلك، وكانوا أعلى فصعدوا بحكايتهم.

(حكاية الإعدام) تلك هي المهمة التي يريدنا عباس ورفيقاه أن ننجزها، أن نحكي القصة، أن نروي ما كان يعتمل في أرواحهم ومخيلتهم، أن نُنُزل إلى الأرض القصة التي صعدوا بها إلى السماء، أن نتخيل كيف أخذوهم؟ وكيف أوقفوهم؟ وكيف وجهوا أسلحة الموت إلى وجوههم؟ وماذا أذاقوهم من ذل الانتقام؟ وكيف تلقت قلوبهم الرهيفة رصاصات الحقد؟ كيف نطقوا آخر كلماتهم؟ كيف وجهوا نظرهم إلى القاضي الذي حضر قتلهم؟ كيف أدار رجل الدين خجله وهو يعظهم؟  وكيف حضرت صور أمهاتهم في مخيلتهم الأخيرة؟ وهل كانوا مطمئنين إلى أننا مؤتمنون على رسالة دمهم؟

لقد تركوا لنا من سيرهم وقصصهم ورسائلهم ما يساعدنا لبناء الحكاية التي لم تصلنا، لنكمل فراغات حكايتهم الأسطورية، هكذا يُلهم البطل حكاية إعدامه، وكأنه يُنزلها من السماء في قلوب من يؤمنون برسالته. وتلك إحدى مفارقات الشهيد، هو قادر أن يُوحي بحكايته حتى لو لم تُتح له فرصة السرد، ذلك لأنه يُوهب حياة ولا يُعدم حياة حتى لو قضى بالإعدام.

لقد منحتهم هذه الشهادة حياة أخرى وحكاية استثنائية، ولكأن (الإعدام) السياسي في سياق الحراك البحريني كرامة تُدخر لحظتها لأصحاب قادرين على أن يجعلوا منها تاريخا وطنيا لا يُنسى، لقد تأخرت هذه اللحظة عشرين عاما، وعلى الرغم من قسوة الأحداث منذ 14 فبراير2011، فإنها لم تأت، وبقيت مدخرة ومضنوناً بها، حتى نزلت وكأنها هبة ربانية على ثلاثة شبان، صنعوا من خلالها أسطورة ينقصها شيء من الواقع لا شيء من الخيال، لكأنها طقس فداء، والمفدى وطن.

لسان حال كل شهيد للقناص الذي كان يطلق باسم الملك:”سأصير يوما فكرة لا سيف يحملها”(محمود درويش). لقد صاروا فكرة وحكاية وأمثولة، بقوة قضيتهم وبخطابات أمهاتهم التي أجادت تمثيل شهادة الأبناء والنطق باسم هذه الشهادة بقوة خارقة.

لقد غدوا حكاية لا يمكن لكل أجهزة إعلام السلطة أن تزوّرها، بكل هذه الحشود الشعبية التي اصطفت في طوابير لا نهاية لها وهي تقدم العزاء لأهالي الشهداء، لقد فهموا الفكرة، وعرفوا أنهم يقفون ليثبّتوا الحكاية في التاريخ، إنهم بوقوفهم يثبتون ما تريد السلطة أن تدمره، ويكسرون ما تريد السلطة أن تفرضه.

لقد فعلوها، جعلوا الحكاية كلها هم، أولئك المحكومون بالحياة الأبدية.

#عباس_السميع #علي_السنكيس #سامي_مشيمع

رابط الموضوع

وهم الحدود ويقين الموت

يضعنا مراسل الحرب محمد محسن في كتابه (وهم الحدود معركة القصير، دار الآداب 2017) على تخوم الموت الخاطف الذي لا يعرف الوهم بقدر ما يعرف اليقين، يروي لحظاته المتوترة مرة وهو يراوغ  رصاصة من عيار 33 ملم، ومرة وهو يخوض لحظة جنون لم يجد غير رفيقه حمزة الحاج حسن يشاركه فيه، ومرة وهو يحتمي تحت دشمة ويمد رجله بسرعة، ليركل حمزة أيضا، فيسقطه على الأرض، ليؤجل موته الوشيك.

على تخوم الهرمل والقصير ليس هناك حدود، هناك حياة مشتركة ومختلطة، وتكاد تكون الجنسية والأوراق الرسمية لا تعني شيئا، هناك (اقتصاد الظل) غير المحكوم بقوانين الدولة وضرائب التجارة وموازنات الخطط ، وهناك الجغرافيا تخضع لمنطق ظل الله “فالجغرافيا ظل الله على الأرض” والتاريخ يخضع لمنطق ظل حزب الله “فالتاريخ ظل الإنسان على الطبيعة”. الحدود وهم وفق هذين المنطقين إذا ما أردنا أن نأول عنوان الكتاب.

في الحوار والجدل حين نختلف نذهب إلى الحدود(التعريفات)، لنعيد تعريف الكلمات والمفاهيم، وفي الحرب وهي نهاية الاختلاف وبداية الخلاف ونهاية الخصام وبداية العداوة، نذهب أيضا إلى الحدود، حدود جغرافيا الاشتباك، لنفهم منطق الحرب.

حين لا نفهم منطق الجغرافيا والتاريخ، نضل فهم الحدود، ونتوه في الوهم، كثيرون تاهوا في الوهم لأنهم، لم يعرفوا منطق الحدود التي بين سوريا ولبنان.

لقد واجه (ابن الجنوب) يقين الموت، ليكسر وهم الحدود الذي ثبّته إعلام يجهل أو يتجاهل الحقائق التاريخية والجغرافية والديموغرافية، لا ينسى وهو يحدثنا عن الموت الذي كان يُحدِّق به من كل جهة على الحدود، أن يقدم في كل لحظة موت وشيك شهادة عن حمزة الحاج حسن رفيق دربه وحلمه الجامعي والإعلامي “ابتليت بحزني الأكبر عندما استشهد رفيق عمري حمزة”، ولا ينسى وهو يحدثنا عن حزنه النبيل على هذا الفقد، أن يحكي عن لحظاتهم المفعمة بالضحك والسخرية وسط الموت، وتبادلهما زوايا بث الرسائل المباشرة التي هي زوايا موت يوشك دوماً أن يقع.

يكتب عن ذروة الموت، عن الحدود القصوى التي تقترب فيها الحياة من النهاية لحظاته، يكتب وقائع الحرب بصوته وقلمه وقلبه “لا أحب التاريخ الذي يكتبه المنتصر أي منتصر، أكتب هنا ما رأيته وما عرفته..” لا يريد أن يكتب هذا التاريخ أي منتصر، بقدر ما يريد أن يرويه هو، وتلك معركة كبرى في معركة أكبر. المرة التي لم يستطع فيها أن يكون شاهدا على صفحات كتاب هذه الحرب، هي يوم انطلاق تحرير مدينة القصير 19أيار/مايو2013 والسبب في ذلك يعود إلى سفر إخوته وعدم قدرة أمه على تحمل فراغ البيت من ثلاثة أبناء مسافرين، أحدهم ذاهب نحو موت محتمل.

الموت حاضر أيضا في إهداء الكتاب، حاضر بشكل مكثف في جملة واحدة “إلى حمزة حاج حسن” هي علي المستوى النحوي جملة واحد فعلا، لكنها على المستوى البلاغي، حكاية مشحونة بالمعنى، فحمزة واحد من الذين أرادوا أن يكتبوا التاريخ من الميدان لا من الديوان. الكتاب بهذا الإهداء شهادة وفاء وتقدير لما أراد حمزة أن يبقيه من رسالة، ويكتبه من تاريخ، ويشهد به من حقيقة، ويحطمه من أوهام إعلام يفجر في الخصومة، ويفحش في العداوة.

في يوم ما كنت على تخوم هذه الحدود، تجولت في ريف القصير، وأكلت من مشمش بساتينها، وتبضّعت في سوق المسيحيين بربلة، وصليت في مسجد المسلمين (المجتبى) واستمعت إلى رواية عائلة لبنانية تسكن هناك، وسقطت سيارتي في ترعة من فروع نهر العاصي بحوش سيد علي. لقد منحتني هذه التجربة فهما حياً ومباشراً لفكرة الحدود، وكنت أصرخ “من لا تسقط سيارته هنا ويمشي على قدميه بين هذه الحدود لن يفهم نطاق الحرب ومنطق الحزب هنا”.

بعد أن قرأت هذا الكتاب، ازداد يقيني وتوسع فهمي، وصرت أدرك أن الحد ليس نهاية دولة بل بداية دولة، إن سقطت الأخيرة انتهت الأولى.

رواية (سماهوي) التاريخ الذي أبحث عنه

أستعيد هنا حديثا جرى بيني وبين (باسل الديري) في إحدى ليالي المهجر الكندي، في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، من هذا العام الذي يوشك أن ينتهي، كان لتوه انتهى من قراءة رواية (سماهوي) وأنا كنت حينها في الصفحة 35 منها، لم أضف شيئا على ما قاله سوى كتابة المقطع الأخير المقتبس من نص الرواية:

تمهلت في قراءتها يومين، لأكملها في يوم ميلادي الثامن عشر، أردتها أن تشكل تاريخا لا ينسىى، فهي قد شكلت حدثا هزّ كياني، طوال سنوات دراستي بالبحرين من صف الأول ابتدائي للصف الثاني ثانوي، قرأت قصائد وسمعت أغاني وخطب عن البحرين، لكنها لم تترك في شيئا يستحق التذكر، سماهوي على العكس من ذلك، زلزلت كل شيء فيّ. شعرت أنها (أنا) تتحدث عني، عن تاريخي، عن معاناتي، عن هجرتي التي صرت فيها، لأول مرة أجد نفسي مدفوعاً للقراءة عن تاريخ هذه الجزيرة الصغيرة، أريد أن أقرأ الآن كتاب (القبيلة والدولة). لم يرد اسم البحرين في هذه الرواية ولا مرة واحدة، لكنه حاضر فيها بشكل تشمه في كلماتها وشخصياتها وأحداثها وذاكرتها وجغرافيا البحر والزرع.

لقد نطق بلسان حال بطل الرواية عيسى بن غانم نطقا اقشعر معه شعر بدني، حين قال“هذا هو وجه المنفى: أنت وحدك، وما يحدث لك خاص جداً ولا تعرف ماذا تريد؟” أذهلني، كأنه يتحدث عني بالضبط، لا أعرف في هذه اللحظة من منفاي، ماذا أريد؟ أشعر بوحدته التي جعلته على أطراف مدينة (لنجة) حيث البحر، ولا يريد أن يدخل عمق المدينة، وكلما تحرك قليلا إلى الداخل، شَخَصَ ببصره إلى الميناء كي لا يغيب عنه.

كلانا أنا وعيسى بن غانم، لا نعرف ماذا نريد، ونعيش نوعاً من العزلة القلقة، ونحمل مخاوف الموت في الغربة “المنفيون يمقتون الموت في المنفى”ص146، ولا نعرف أين سندفن، يقلقني أن أدفن في المنفى، ويقلقني أكثر رجوع عيسى بن غانم إلى قريته، حيث نسي طرقها التي تغيرت، ولم يتعرف عليه أحد، هل رجوعي سيقهرني، أكثر مما تقهرني الغربة الآن؟

(سماهوي) تمثل حالة المئات من البحارنة المشتتين في المنافي والمهاجر، وتمثل حالة آبائهم وأجدادهم الذين يخرجون من أراضيهم على خوف مع (سلوم الشمس) وهي تروي تاريخهم مع الأرض التي ارتبطوا بها ارتباطا أسطوريا، كما ظهر في علاقة عيسى بن غانم ببستانه، وهو يقول:

“نحن فلاحون وبحارون ندخل البساتين قبل شروق الشمس ونغادرها بعد الغروب، أوّل ما نراه النخيل وآخر ما نراه أيضاً، وما بينهما للبحر، لا وقت لدينا لشيء غير الأرض، لا نرى بيوتنا إلاّ في الظلام، نعرف مواعيد زراعة الخضروات بأنوفنا لا بمجيء الشهور وتقلّب الأيام، لكلّ موعد زرع رائحة نعرفها، ولدنا في هذه الأرض على رائحة طلع النخيل، نحن لا نذهب إليهم، هم الذين يأتون.هم الذين جاؤوا إلينا…”

سعادة السفير و(حاجي واشنطن) الظريف

في كتاب السيرة الذاتية لمحمد جواد ظريف (سعادة السفير) الذي صدرت ترجمته هذا الأسبوع، عن مركز أوال للدراسات والتوثيق،  تتكرر كلمة (العلاقات الدولية) أكثر من سبعين مرة، وفي كل هذه التكرارات، دوما تأتي في سياق الإشكالات والسؤال والنقد والبحث عن بديل. تُحدثنا هذه السيرة عن مراجعة تاريخية طويلة لممارسة العلاقات الدولية في السياسة الإيرانية منذ زمن (حاجي واشنطن) حتى زمن الثورة، وصولاً إلى مرحلة مخاضات الاتفاق النووي.

(حاجي واشنطن) تعبير مجازي ساخر وظريف يحيل إليه (ظريف) في سيرته كثيراً. يروي فيلم “حاجي واشنطن” الممنوع لسنوات طويلة في إيران، قصة سفر أول مندوب سياسيّ [1888-1889 م] لإيران في العصر القاجاري إلى الولايات المتحدة الأميركية. وصل السفير حاجي واشنطن إلى منصبه في ظلّ عدم وجود أي إيراني في واشنطن مع مترجم لأنّه لا يتقن اللغة الإنجليزيّة. يلتقي حاجي واشنطن برئيس أميركا المعزول في حفل كبير. ونظرًا إلى جهله بالأحداث، يدعوه ظنًا منه أنّه لا يزال الرئيس، ويقوم بترتيب ضيافة من الأطعمة الإيرانية له، بعد أن فصل كل خدم السفارة لعدم وجود مراجعين، وللاقتصاد في التكاليف. يصل الرئيس السابق في ملابس غير رسمية، بنيّة أخذ حفنة من الفستق.

تحكي نهاية القصّة وحدة حاجي واشنطن ومحادثته لنفسه بالهموم والشجون، بما فيه من عتاب لتخلّف النظام القاجاري، وينتهي الفيلم برجوعه المهين من هذه المهمة الشاقة بشكل مأساوي، وهو يحمل خسارته السياسية.

بحس نقدي عال يعلق (ظريف) على نموذج سفير العلاقات الدولية هذا بقوله: سيرة حاجي واشنطن شبيهة بسيرة الكثير من دبلوماسيينا، ويبقى الفارق أنّ الدبلوماسيين بعد الثورة كانوا يمتلكون غرورًا خاصًا لم يكن حاجي واشنطن يمتلكه.

أراد (ظريف) أن يشكل نموذجاً ثورياً في العلاقات الدولية، ليس بالمزايدة على رجالات الثورة، بل بالثورة ضد نموذج (حاجي واشنطن) لذلك ظل تعريف العلاقات الدولية يثير قلقه، كلما حاول أن يضع له مفهوما أو يمارس من خلاله دورًا. لقد بدأ حياته بدراسة هذا التخصص أكاديميا، وحمل مسؤوليته كمهمة عامة، لا كمهنة خاصة “هذا التخصص حَمَّلَني مسؤولية ثقيلة. وأفكر كثيرًا أنّ الأخطاء التي ارتكبتها أو ارتكبها أمثالي في مجال السياسة الخارجية، يحمل ثقلها سبعون مليون إيراني، حتّى إنّني أقلق”.

حين أصبح ظريف في العام 1992م معاونًا لوزير الخارجية الطبيب علي أكبر ولايتي، كان هو الشخص الوحيد الذي درس العلاقات الدولية في مجلس المعاونين، فقد كان جميعهم مهندسين، هكذا ظلت علاقته بتخصصه إشكالية دوما مع نفسه ومع وسطه، وكأنه يتكلم لغة خاصة ويجد صعوبة في التفاهم من خلالها مع الآخرين.

ظل يطور مفهوم العلاقات الدولية وممارسة عمله الدبلوماسي الخارجي من خلال العمل على نموذج مضاد لـ(حاجي واشنطن): كيف يمكننا أن نطور دبلوماسيتنا الخارجية، لتكون قادرة على المستوى الدولي: أن تفهم لغة العالم، وتفوز وسط الصراعات الحرجة، وتحتفظ بكبريائها وسط ممارسات الإذلال العالمي؟

يكرر ظريف في سيرته الدرس الذي تعلمه من عمله مع الرئيس (خاتمي) وهو وجوب تغيير نموذج العلاقات الدولية، لتكون نموذجًا للحوار عوضًا عن الإلغاء. فلا يمكنك أن تفرض عدم الأمن على الآخرين لتصل إلى الأمن، أو أن تفرض التخلف على الآخرين لتحصل على رفاه شعبك وتطوره، إن كلّ نجاح على حساب الآخر هو نجاح غير مستقرّ.

تفضل الدول المتغطرسة في العلاقات الدولية، نموذج (حاجي واشنطن) وما يشبهه، وهو رجل السياسة الذي لا يملك ندية التفاوض، ولا مؤهلات الحوار، ولا قاعدة المعرفة ولا قوة القدرة أو ما يسميه ظريف نموذج (عمود القدرة) في العلاقات الدولية. يمثل (حاجي واشنطن) نموذج الإذلال في العلاقات الدولية الذي يحدثنا عنه (برتران بديع) في كتابه الحديث (زمن المذلولين.. باثولوجيا العلاقات الدولية).

إنها علاقة مرضية، تعاني من حالة باثولوجية، تفهم الانتصار من  خلال الإخضاع والإذلال الذي هو “فعل قوة تختار الدفع بالآخر إلى موقع أدنى من ذاك الذي كان يتوقعه” كما يقول خبير زمن المذلولين في العلاقات الدولية.

في مقابل خيبة (حاجي واشنطن) الذي عاد من أمريكا يجر أذيال إذلال هيبة الدبلوماسية الفارسية، أطل (ظريف) بابتسامة، من علو على العالم، خلال الساعات القليلة قبيل الاتفاق في 14يوليو/تموز 2015. أطل من شرفة فندق كوبورغ في العاصمة النمساوية (فيينا) ليخبر الصحفيين المُشرئِبة أعناقهم إليه: لقد توصلنا إلى اتفاق نووي شامل مع مجموعة 5+1.

إنها، حكاية سعادة السفير، تَستحق أن تُروى، من شرفة السيرة الذاتية، ففيها خلفيات الابتسامة التاريخية التي استقبلها العالم بارتياح وإعجاب كبيرين.

رابط المصدر في جريدة السفير

الهروب من الوحش

باسمة القصاب*
أعترف أني شعرت بنوع من التثاقل، قبل البدء بقراءة كتاب الصديق علي الديري، الصادر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق «إله التوحش.. التكفير والسياسة الوهابية» رغم إدراكي أهمية هذا الكتاب والعمق الذي يحويه. أقول تثاقلت، لأن التوحش الذي نغرق فيه، يجعلني -مثل غيري- نبحث عن كتاب نهرب به عن هذا الواقع الكريه، إلى نصّ أنيس، لعلّه يعيد لنا شيئاً من إنسانيتنا المفقودة، أو ينعش فينا حرارة الحب التي غابت عن قلوبنا وجوارحنا. وربما لأني أعتقد أن الخروج على الوجه القبيح للعالم يبدأ من إشاعة الحب، لا من إعادة نبش هذه النصوص القبيحة، كان داخلي يقول: قراءة نصوص هؤلاء المتوحشين، توحش آخر.

لكن ما إن دخلت، حتى وجدتني انزلق في قراءة سلسلة، ما يشبه رواية تاريخية مشوّقة ومتعمّقة، وإن كانت موجعة، رواية تعرض سيرة رجل وسيرة دولة، تمر عبر اتفاق تاريخي مفصلي، وقع شفاهة بين رجلين: رجل ملّة ورجل دولة. كان الأول بحاجة إلى قوة السلاح لينشر دعوته، والثاني بحاجة إلى العزّ والتمكين. هكذا أطلق رجل الدولة القوّة في يد رجل الملّة، مقابل ما وعده به الأخير “وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين”. كان ذلك اتفاق الدرعية في العام 1744م، بين الشيخ محمد عبد الوهاب، والأمير عبد العزيز بن سعود.

هذا التناول، صيغ بحسّ نقدي عميق، حسّ لا كراهية فيه، تناولٌ يتمنى تقديم مراجعة نقدية تؤسس لاستئصال هذه النصوص، التي لا ترينا غير صورة إله متوحش غريب، ودين روحه الكراهية والتقتيل.

لا يحمل هذا النقد مناكفة من ابن طائفة لطائفة أخرى، فعلي الديري الذي عُرف بمناكفته الثقافية اللاذعة لطائفته الاجتماعية ونقدها، لا يتناول في كتابه هذا طائفة تكفّر طائفة أخرى، بل (عقيدة) تكفّر المختلف وتستبيح دمه وماله وحلاله، مهما كان هذا الآخر مشتركاً معها في الطائفة نفسها، أو مختلفاً عنها في المذهب أو الدين. إنها عقيدة متطرفة عنيفة مبنية على البراءة والكفر، فمن لا يؤمن بـ(لا إله إلا الله) على طريقتها في التوحيد يُكفّر.

يأتي هذا الكتاب متقاطعاً ومتكاملاً مع كتابه «نصوص متوحشة» الذي صدر في 2015، فالديري مشغول بمحاولة فهم جذور التوحش الذي نعيشه اليوم، أو الوحش الذي سرق وجوهنا. وهو ينطلق من فرضية تقول أن خلف كل صراع عقائدي تقتيلي وتكفيري، أصل سياسي: “فتش في كل خلاف حول التوحيد وما يتصل به من صفات الألوهية عن السياق السياسي، لتفهم هذا الخلاف، وكذلك إذا أردت أن تفهم صراعات الفرق العقائدية والكلامية، فتش عن السياق السياسي”. ليس هناك أقوى من أن تضرب خصمك السياسي في عقيدته لتخرجه من الإسلام، فتشرعن قتله وتبيح التخلص منه.

يتتبع الديري في كتابه الأخير، كيف تحول كتاب دعوة هو «كتاب التوحيد»، إلى وثيقة حركة سياسية ودينية، ودستور دولة لاحقاً. وكيف صارت تلك (الدعوة) عقيدة حرب واختصام توسّع باب الشرك، وتفتح باب الكفر. كيف جُرّد مفهوم التوحيد من كل معاني الوحدة والإيمان ولم يعد يمثّل غير الخصومة والتبرؤ والتكفير والمحاربة فقط. وكيف جُرّد مفهوم الإسلام من كل معاني السلام، حتى أصبحت رسالته محصورة في الجهاد فقط. وكيف جرّد جميع المسلمين ممن هم خارج هذه (العقيدة) من الإسلام، حتى صار الاستثناء من الإسلام هو الأصل.

إنه ليس نبشاً للتاريخ، فالنبش يقتضي أن يكون المنبوش ميتاً أو منتهياً، لكننا هنا أمام حاضر له امتداد تاريخي. أمام نصوص معاشة وحيّة تعمل على تشكيل أتباعها وصياغة عقيدتهم وتوجيه تكوينهم وعلاقتهم بالآخر. نصوص لم يتم تجاوزها كتاريخ، بل ما زالت تدرس في المدارس وتنشر وتترجم وتعاد طباعتها وتوزيعها والتبشير بها والدعوة إليها في الداخل والخارج.

إنه الوجه الحقيقي الذي يلاحقني في حياتي ولا أستطيع الهروب منه مهما ذهبت إلى نصوص السلام والحب ونمت محتضنة إياها لعلها تراودني في أحلامي على هيئة حمامات سلام بيضاء.  ومهما هربت، عندما أستيقظ صباحاً، لن أرى غير جرائم الوحش وهي تزلزل أسى العالم!

*كاتبة من البحرين
رابط الموضوع