كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

ملاك الشعر ونــــزوة اللــــون

ما الذي يجعل الحرف جزءاً أصيلاً من جمال لوحة لبنى أمين؟ أو دعني أعيد صوغ السؤال، لماذا تجربة لبنى أمين الفنية مفتونة بتشكيل الكتابة في لوحاتها؟ أو دعني أقول الأمر بشكل آخر، لماذا تفتنني الكتابة حين أراها في لوحات لبنى أمين؟

هناك فروقات بين هذه الأسئلة، لكن هناك مشتركاً واحداً هو الكتابة، وأنا أسأل عن الكتابة، الكتابة التي تبدع لبنى في جعلها لوحة أخّاذة بجمالها. وهو سؤال على علاقة بذائقتي الجمالية أكثر من علاقته بتجربة لبنى التي هي أوسع من سؤالي بالتأكيد، فكل متلق يقيم علاقته باللوحة التشكيلية من زاوية إدراكه الخاصة، وزاويتي تدرك اللوحة من خلال الكتابة.لبنى

علاقتي بلبنى تأتي من أفق الكتابة، هي ليست كاتبة وأنا لست فناناً تشكيلياً، لكن الكتابة فن والتشكيل فن، وكلاهما يخرجان الذات من فرديتها الخاصة ويتيحان لها أن تتصل بما يتجاوزها، تعرفت على لبنى من خلال هذا الاتصال الذي وصلني قبلاً بالصديق عباس يوسف وجبار الغضبان، كان محترفهما التشكيلي، ورشة عمل تضج بالكتابة والرسم والتشكيل والمعدن واللون والمرح، أخذتني هذه الورشة إلى تجربة في الاتصال، الاتصال عبر الجماليات، عبر تجلي الجميل، صرنا نقرأ في هذا المحترف ابن عربي وتجلياته التي ترى في كل لون من الخلق مظهراً لجمال من جماليات الألوهة. صرت أحب أن أتعرف على الألوهة، من خلال خلق اللوحة وألوانها المشكلة بحساسية فائقة الإنسانية.

صار الفن طريقي إلى المطلق، صرت أتصل بهذا المطلق عبر الفن، قلت للبنى مرة في رسالة مسجية إن هيغل يقول «إذا بلغ الفن غايته القصوى، فإنه لا يلبث أن يسهم مع الدين والحياة في تفسير المطلق وإلقاء الضوء على جوانبه، وكذلك في إيضاح كل ما يتعلق بحقائق الروح والأفكار الإنسانية الأشد عمقاً»[1].

قالت لي إن صديقك ابن عربي يقول:

وما الوجه إلا واحد غير أنه

إذا أنت عددت المرايا تعددا

هنا تلتقي مثالية هيغل تلتقي مع صوفية ابن عربي، كما تلتقي الكتابة والرسم في قدرتهما على أن يكونا مرايا تفسير للجمال وللمطلق وللغامض وللمجهول وللمستحيل الذي نسعى لبلوغه. يمكنا أن نرى العالم بالفن حين يبلغ غايته القصوى في لوحة يؤلف ألوانها فنان استثنائي، وبالفكر حين يبلغ غايته القصوى في كتابة يؤلف حروفها مفكر استثنائي، كما هو الأمر مع هيغل وابن عربي.

كان ابن عربي يرى «العالم كله مظاهر هذه الأسماء الإلهية»[2] الأسماء التي هي مطلق الكمال والجمال، أو لنقل بعبارة هيغل الفن في غايته القصوى أو لنقل الفن في مراياه المتعددة التي تشكل بإبداعها وجه العالم.

في محترف عشتار كما في محترف لبنى، تجد الكتب في مجاورة جمالية مع اللوحات، تلك تؤلف الكلمات لنرى في مرآتها العالم في أقصى حالاته تجلياً، وهذه تؤلف الألوان لنرى في مرآتها العالم في أقصى أبعاده. في سهرتنا الأخيرة في مرسمها، كانت لبنى تقلب كتبها القديمة وتستعيد تاريخ سيرتها معها، وهي تهيئها للانتقال إلى مرسمها الجديد، قلت لها تخلصي من بعضها كما فعلت أنا مع مكتبتي، قالت لي: لا أستطيع أن أتخلى عن ورقة واحدة فيها، كتبي لوحاتي المكتوبة، أحب أن أرى سيرتي من خلال تآلف هذه الكتب مع هذه اللوحات. الكتب جزء من لوحاتي، وكل جزء مرآة للجزء الآخر. الكتابة مرآة لألواني وألواني مرآة للكتابة.

مهمة الفن والكتابة إعادة «هندسة المعنى»، عبر تداخل الفنون والحقول أو عبر نقل المعنى من حقل إلى حقل، كي يعيد تجديد حياته. في هذه الهندسة وخرائطها الأقل تعيد لبنى وقاسم هندسة معنى الملاك والنزوة، يخرجانهما من الهندسة الدينية وفضاء المقدس والمدنس، أو قل يحرران الملاك من أجنحته الدينية ويمنحانه أجنحة من ألوان وكلمات وتأويل ومعان جديدة. يجعلانه مرآة لحالة تمازج الكتابة واللون.

الملاك ليس فقط روحاً سماوية نورانية لطيفة، كما يخبرنا النص الديني، فالمعجم الذي هو أوسع من النص الديني يخبرنا «المَلاَكُ: المَلَكُ وهو جسم لَطيف نُورَانِيٌ يتشكّل بِأشكالٍ مختلفة/ مَلاَكُ الأمْرِ هو قِوَامُهُ وخلاصَتُهُ أو عنصُرُه الجوهريّ؛ القلبُ مَلاَكُ الجِسْم. مَلاَكُ الْحُبِّ: سُلْطَتُهُ وَقُوَّتُهُ. المِلاَكُ الطريقِ: وسطه/ هذه الناقة مِلاَكُ الإِبل، أي تَتْبَعُهَا الإبلُ» هو روح أيضاً، أرضية تتجسد في شكل سلطة حب أو قوة كتابة أو دفقة لون أو طريق جديد يفتح لك تأويل، تعلمك بما في الأرض وما في الإنسان من أسرار.

هكذا يمكننا أن نتحدث عن ملاك الكتابة وعن ملاك الفن وعن ملاك اللوحة وعن ملاك اللون، فكل هذه الملائكة تتوفر على روح لها أمرها وقوتها وسلطتها وطرقها الجديدة في تأويل العالم.

هكذا الملاك يأخذك إلى ما يفتح عليك وبك، وهو يفعل ذلك بما يتوفر عليه من نزوة، والنزوة ليست الخطيئة، بل الخطأ الذي يجعلك في توثّب دائم وعدم استقرار، إنها هوى التجريب والاكتشاف الذي يجعلك عابراً دوماً بين حقول معرفية وفنية مختلفة وحالات متناقضة.

وفي المعجم «النَّزْوَةُ: الوثبْة، هوى مفاجئ شديد لشيء ما وسُرعان ما يزول؛ هو ذو نَزَواتٍ، أي لا يستقرّ على حال».

وكأن النفري كان بعبارته «العلم المستقر كالجهل المستقر» يريد أن يخلصنا من أوهام Lubna%20AlAminالثبات والاستقرار التي تجعل من النزوة شيئاً شيطانياً عابراً ولا يستحق الاحتفاء والاتصاف. الفن نزوة ملاك، كما الكتابة نزوة ملاك. وهو ليس بالضرورة نزوة شيطان، فشياطين الشعراء يمكن أن تكون ملائكة والنزوة يمكن أن تضاف إلى الملاك أيضاً.

والفن متى فقد نزوته وملاكه صار كالجهل المستقر والكتابة من غير نزوة ملاك يحررها ويفتح لها الطريق جهل آخر مستقر.

يفتتح قاسم ديوانه الأخير «دع الملاك» بقصيدة ملاك:

«دع الملاك يتولاك

يرويك ويروي عنك

دعه، يفتح لك الطريق

ويصقل لك يقظة التأويل

دعه، ينالك مثل برق العشق،

ملاك الكتابة»

«نزوة الملاك» هو الفن في سفره وترحله، وقدرته على أن يكون وسيط اتصال بين العناصر عناصر الكتابة والألوان. الفن بتقلباته وسرعة تحول ألوانه وتلاشيها وانثيالها، من هنا يأتي اسم المعرض المشترك بين ملاك قاسم وملاك لبنى «نزة ملاك».

«الفن هو أيضاً وسائط للسفر والإقامة

حيث العناصر

تتحِول وتتلاشى وتنثال

في خفق المعدن وشهوة الحجر

لوحات مثقلة بالكائنات الشاهقة».

أعود لسؤالي: لماذا تفتنني الكتابة حين أراها في لوحات لبنى أمين؟ يفتنني نزوة ألوانها التي تضج بالملائكة الحافين بها.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=160265

هوامش

[1] هيغل. رياض عوض، ص .258

[2] ابن عربي، الفتوحات المكية، السفر ,11 ص .455

البهائية.. ظَل أم ضلال؟

هل يمكن أن نصف ديناً ما بالضلال؟

هذا السؤال أطرحه في سياق الحملة التي تتعرض لها الديانة البهائية في مصر، ومع الأسف دخول كتاب وصحافيين في سياق تأجيجها، فعلى سبيل المثال الكاتب الصحافي محمود عيسى أورد على «حادث إحراق مواطنين بإحدى قرى محافظة سوهاج بصعيد مصر، لمنازل أربعة من جيرانهم بسبب اعتناقهم البهائية» مجموعة ملحوظات تأجيجية وهي: خطأ توصيف البهائية بأنها ديانة، وجود دعاة ومبشرين لهذا الفكر الضال، وأن هناك إغراءات غالباً ما تكون مادية لجذب هؤلاء البسطاء، لأنه ليست ثمة مغريات روحانية في فكر البهائية. المؤسسة الدينية كان يفترض أن تكون أكثر يقظة، ولديها خطط لمواجهة هذا الانحراف الخطير، لأنها ستصنع من أصحاب هذه الضلالة أبطالاً وشهداء[1].

من الناحية الدينية يمكن أن نصف دين ما بالضلال، بل كل الأديان تصف الأديان الأخرى التي تليها بالضلال. لكن لا يمكن ذلك من الناحية المعرفية ولا من الناحية السوسولوجية ولا من الناحية القانونية خصوصاً المتعلقة بحقوق الإنسان. والناحية القانونية ليست هي الناحية الشرعية الدينية. القانون مفهوم حديث يشير إلى ما يبتكره العقل البشري من ضوابط لتنظيم الحياة تنظيما حراً يكفل للإنسان الأمان والعيش بحرية وعدالة، والقانون اجتهاد بشري قابل للتعديل، وتعديله ليس ضلالاً ولا هرطقة، لكن الشرع لا يمكن تعديله، وما يليه من شرع آخر يعتبر ضلالاً وهرطقة.

الدين البهائي من الناحية الاجتماعية هو جماعات بشرية من أعراق مختلفة تمارس حياتها وفق تعاليم تعتقد أنها من الله، ولها طقوسها ونصوصها وأنظمة اتصالها ورؤيتها للعالم. لا يمكن أن نصف هذه الجماعات بالضلال، فالقانون العام الذي يحكم أية دولة عصرية، يحتم حماية الجماعات المختلفة في مفهومها للضلال. لا أن يتبنى وجهة نظر جماعة دينية في مفهومها للضلال ضد جماعة أخرى، لذلك فالدولة الحديثة محايدة تجاه الأديان.

في الفيلم القصير الذي أعده المدون أحمد عزت، كانت الفتاة البهائية تقول «موش حاسة أنا في مجتمع طبيعي» وكان الشاب البهائي يقول «البهائيون يسمح لهم أن يعيشوا لكنهم غير موجودين في نظر الدولة»[2].

إذا كانت الدولة ترى جماعة دينية أنها ضالة، فإنها لا تستطيع أن تنظر إليها، والنظرة اعتراف بالجماعة، والجماعة متى فقدت اعتراف الدولة بها، لا تستطيع أن توجد وجوداً طبيعياً في المجتمع. الدولة بنت القانون الحديث، لا بنت الشرع.

الشرع يعترف بالإنسان وفق مفهومه للضلال، والدولة تعترف بالإنسان وفق مفهومها للشخص، الشخص هو ذات لا يوصف بالضلال والهداية بل يوصف بالوجود والعدم. متى كان موجوداً تعترف به الدولة في سجلاتها، ومتى مات سقط من سجلها ودخل في أرشيفها.

الدين في مفهوم الدولة ليس مجموعة اعتقادات نصفها بالحق والهداية أو بالباطل والضلال، الدين مجموع حيوات البشر بأشكالها المختلفة، ولهذه الأشكال حق الوجود والاعتراف في الدولة.

شخصياً لي تجربتي القريبة جداً من البهائيين، وقد قابلت الكثير منهم وحضرت حفلات زواجهم ومناسباتهم الدينية وجلساتهم الاجتماعية. وهي معرفة تتيح لي أن أكوّن معرفة عملية بطبيعة المناخ الديني الذي يحكم رؤيتهم ويضبط نظامهم الأخلاقي. وهو نظام شديد الصرامة من حيث العفة والروحانية ويعوّل دوما على الصوت الداخلي للفرد. وعلم الاجتماع يعلمنا أن الأقليات دوماً تعوّل على النظام الأخلاقي الداخلي أكثر من النظام الخارجي كما هو الأمر مع جماعات الأكثرية.

والبهائية ليست استثناء في ذلك، فهي لو تحوّلت في أي مكان إلى أكثرية سينطبق عليها القانون الاجتماعي في التحول إلى نظام له سلطته الخارجية أكثر من سلطته الداخلية. وهي ليست استثناء أيضاً من الأديان فيما يتعلق برغبتها في الانتشار واعتقادها بالأفضلية والعقلانية والشمولية والحقانية والمحاججة اللاهوتية واعتبار دينها خلاصاً للبشرية، واعتماد الأمثلة والقصص والمجازات والأحلام في عملية الإقناع والتربية.

في إحدى حفلات عقد القران البهائي بالبحرين، كنت والصديق علي الجلاوي الذي أصدر كتابه عن البهائية في البحرين، لفت انتباهي في هذا الحفل الحضور الطاغي للغة العربية، حتى في صيغة عقد القران والأدعية التي تقرأ معه، رغم أن جميع معتنقي البهائية بالبحرين من أصول إيرانية. كان الدعاء الذي قرأ في جلسة العقد: «إلهي إلهي هذان القمران قد اقترنا بحبك واتحدا في عبودية عتبة تقديسك واتفقا على خدمة أمرك. فاجعل هذا الاقتران تجليا من فيوضاتك» علق الدعاء في قلبي مباشرة، كما يعلق قمر في قلب عاشق، وذلك لفرط الحب والروحانية التي تفيض بها كلمة «القمران».

الديانة البهائية كما عايشتها عن قرب، تفيض بهذه الروح القمرية، بل إنها تُقمر في الإنسان، وتجعل روحه قمرية، في إحدى زياراتي أهداني الصديق البهائي «ورقاء» كتاب مثنوي، قال لي الدين البهائي يعلمنا المحبة والعشق، محبة النور والبهاء والإنسان، ستجد جلال الدين الرومي، يعبر عن جوهر ذلك في ديوانه هذا. فتحت الكتاب فقرأت جلال الدين يقول «عن ماذا تبحث فأنت ذاك». كل الأديان تبحث عبر الإنسان عن الله ذلك المطلق، فكل طرق البحث تستحيل فيك ديناً وطريقا يصلك بالله.

كان المتصوف الكبير ابن عربي يقول «قل في الكون ما شئت»[3] لن تضل طريق الله، فالله في كل الكون، وكل قول تقوله سيصلك بالله من أي جنبة كانت.

يقول بهاء الله «إن الكلمة هي المعلم الأول في جامعة الوجود وهي النقطة الأولى التي ظهرت من الله. كل الأسماء نابعة من اسمه والبدايات والنهايات لكل الأمور في قبضة يده[4]».

والمتصوف المسلم ابن عربي كان يرى في الأسماء الإلهية مظاهر وجود الله، وكان في كتابه فصوص الحكم يقدم قراءة للعالم والوجود من خلال أسماء الله، باعتبارها مجازات وطرق لرؤية العالم وفهمه والعيش فيه.

هل يمكن أن نصف دين ما بالضلال؟ إذا كان ثمة ضلال، فهو أن لا ترى ظلال الله في كل الطرق وفي كل الأغصان التي تحدث عنها بهاء الله في ندائه للعالم «يا أهل العالم إنكم ثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد ورود بستان واحد وقطرات محيط واحد فلتتخلقوا بالمحبة الكاملة والاتحاد والصداقة والفهم»[5].

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10257

 

هوامش

[1] محمود عيسى، الفتنة البهائية، جريدة الوطن القطرية، 10-4-,2009

http://www.al-watan.com/data/20090410/innercontent.asp?val=writer/mahmodesa1_1

[2] انظر:

http://www.youtube.com/watch?v=drAe_hSCaxI&feature=PlayList&p=841A4BCE9E873E26&index=0&playnext=1

[3] ابن عربي، فصوص الحكم.

[4]، [5] انظر:

http://rands1957.spaces.live.com/blog/cns!7CE1906B800AE160!128.entry?_c=BlogPart

وهم الخديعة الكبرى

هناك صناعة مبدعة للأوهام، وهناك عقول جبارة تنتجها وتروجها وتدير عبرها الواقع. وحياتنا بدون هذه الأوهام تكاد تكون مستحيلة، فنحن لا يمكن أن نتخيل حياتنا من دون أوهام شركات الدعاية والإعلام، وبدون أوهام الدعاة التي تضمن لنا الجنات الخالدة وتمحنا الامتيازات المتفردة، ولا حتى بدون أوهام رجال السياسة التي تجعلنا مسؤولين عن العالم وعن تغييره وحتى لو كانت النتيجة تدميرنا. لكني لا أتكلم عن صناعة الأوهام وترويجها، بل أتكلم عن الأوهام التي تنتج عن بعض الأمراض النفسية التي يصاب بها بعض الناس، والأوهام التي يحملها صاحبها نتيجة الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير "ثمة أوهام تنتج عن بعض الأمراض النفسية يصاب بها بعض الناس، وثمة أوهام يحملها صاحبها نتيجة الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير"[1]

(الخديعة الكبرى) نتاج هذا النوع من الأوهام، أوهام الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير، والوهم الأكبر أنها تعتقد أن القضية منطقيا الآن يجب أن يكون موضوعها التحقيق في دعاوي كتابها عبر لجنة يمثلها الملك والشيخ أحمد عطية الله حافظ أسرار الملك ومستودع أمانته.

هي تدعوك لتحقق في أوهامها، لا أن تحقق في مرضها، وأنا هنا لا أقصد المرض النفسي بمعناه الطبي لأني لست طبيبا، لكني أقصد المرض النفسي بمعناه الفكري، هي تدعونا للتحقيق في أوهامها باعتبارها أطروحات فكرية معقولة ومتماسكة، وإذا لم نستجب لذلك، فوهمها يصفنا بأننا نتعمد حرف الموضوع والابتعاد عن القضية الرئيسة والمهمة. هي تريد أن تقرر أين تضع الجميع وفق خارطة وهم خديعتها الكبرى.

مصدر الوهم يمكن التحقق منه ودراسته فهو يشكل موضوعا للطب النفسي ولعلم الاجتماع وكذلك لعلم تحليل الخطاب. فالوهم مادامت تنتجه ذات وتصدقه فهو مرض يختص به الطبيب النفسي، ومادام هذا الوهم يتعلق بمعتقدات جماعية ويصدر عن تصورات جماعية فلعلم الاجتماع أن يهتم فيه بوصفه ظاهرة اجتماعية، ومادام هذا الوهم مصاغ في خطاب مكتوب فلعلم تحليل الخطاب أن يدرسه ويحلل تركيبته الخطابية.

الوهم بالنسبة لهذه العلوم موضوعا للدراسة من أجل فهم الإنسان والمجتمع والجماعات الخلاصية وأمراضها. من هنا فخطاب الخديعة الكبرى يصلح أن يكون موضوعا لهذه العلوم، ولا يصح أن تتعامل هذه العلوم معه كأطروحة فكرية متماسكة وجديرة بالنقاش والرد، من هنا فدعوة الكاتبة لا تصح علميا.

كيف يمكن أن نحقق في دعاوي لا يحتملها منطق مجريات الأحداث السياسية اليومية، من مثل "حركة حق الأكثر تورطا في التعاون المباشر مع المخابرات الامريكية عبر وسطاء منهم (البندر وآخرين) وحسن مشيمع وعبد الجليل  السنكيس معروفان بتنسيقهما مع الهيئات الامريكية وسفرهم المتواصل للغرب… الحركة الشيرازييه بقيادة الشيخ محفوظ والسيد جعفر العلوي لها دور في هذا المخطط الإنقلابي وهو يتناسق مع أهداف المخابرات الامريكية التي تستهداف الجمهورية الاسلامية مع ولاية الفقيه"[2]

وفي مقابل هذا التواطئ، يبرز الشيخ أحمد عطية الله ضحية عليها أن تدلي بشهادتها لتأكيد حقيقة تواطئ هذه الشخصيات مع المخطط الأمريكي "الشيخ أحمد بن عطية الله آل خليفة هو المؤهل لتمثيل الملك في لجنة التحقيق لكشف المخطط، لقد جاء تقرير البندر لدق اسفين بين الشعب وهذه الشخصية" (انظر الكتاب، ص493)

لن أحتاج إلى صياغة حجج منطقية للتدليل على أن صاحبة (الخديعة الكبرى) تصدر عن وهم، وهم مصاغ في خطاب ميلودرامي، المركز فيه هو ذات الواهمة أو المتوهمة المتورمة بالشطط، يأتي هذا الشطط في تشكيلة خطابية مكونة من الأحكام والتنبؤات والاتهامات والقذوفات والتخوينات والفضائحيات التي لم تستثن جهة ولا شخصية سوى المجلس العلمائي وجلالة الملك والشيخ أحمد عطية الله، كل ذلك من أجل أن تنسج مؤامرة كبرى تزعم أنها تستهدفها وتستهدف من خلال اختراقها البحرين. بل إن الأحداث العالمية لا يمكن تفسيرها إلا من خلال تحركاتها التي لا مكان فيها للصدفة "هل من عجائب الصدف التي لا تعترف بها المخابرات الامريكية أن الكاتبة (نرجس طريف) كانت قبل يوم واحد فقط من حادثة تدمير البرجين في الولايات المتحدة الامريكية في رحلة قصيرة لإعادة إبنتها إلى البحرين"[3]

        جميع الشخصيات الواردة في الكتاب تقوم بأفعال غالباً مركزها ذات الكاتبة، وهي لن تتردد في استخدام أي شخصية استخداماً غير أخلاقي من أجل أن تحبكها ضمن سياق المؤامرة التي تستهدف اختراق جدار الكاتبة المحصن بالذكاء والوعي واليقظة والقدرة على الكشف وقلب قواعد اللعبة، لقد قادها هذا الذكاء لاكتشاف موظفين مندسين يعملون في مؤسستها "اكتشفت الكاتبة أكثر من خمسة عملاء تولوا مراقبة ورصد تحركاتها على مدى ثمانية سنوات منذ خروجها من السفارة"[4]

إن خطاب الوهم، لا يعرف حداً عقلانياً يوقف به جموحه المخترق للمكن وللمستحيل، هكذا يضرب يمينا وشمالا فـ"منصور الجمري وجريدة الوسط ضالعة في إنجاح المخطط الامريكي الانقلابي وهو يدعم السفارة إعلاميا من أجل انجاح هذا المخطط … جمعية الحور النسائية التي تديرها زوجة أحد القضاة (الشيخ حميد المبارك) احدى الواجهات السفارية غير المعلنة … زهراء مرادي احد اتباع السفارة السريين المنتسين في الوفاق"[5]

في مقالة سابقة تساءلت: هل لدى سياسينا خيال؟ وكنت أدافع عن أهمية الخيال وقدرته على أن يمكننا من فهم الواقع وكيف أنه يسمح لنا بأن نحلم بتغيير الواقع لا تغييبه. ما يغييب الواقع هو الوهم لا الحلم، فـ "الوهم حلم كاذب ، حب تكشَّف عن خيانة ،ومن يحمل الوهم لا يعرف أنه وهم ، بل يعتبره حلماً وطموحاً وسعياً مشروعاً، وبعد ذلك يأتي الانكشاف والتثبت. بين الحلم والوهم خيط رفيع ، ثمة أرجوحة تنقل الحلم الى مكان الوهم، والوهم الى مكان الحلم"[6]

الأكيد أن الخديعة الكبرى، أخذته الأرجوحة إلى مكان الوهم، هناك يسقط العقل وحين يسقط العقل، لا يعود ثمة واقع، لقد أسقط الوهم الكاتبة في خديعته الكبرى، فراحت تطلق عقلها وتطلق معه أوهامها، ووفق هذه الأوهام راحت تتخيل الحكومة الجديدة " وزيرة الاعلام في الحكومة الجديدة التي ستتولى حكم البحرين بعد تنفيذ المخطط الإنقلابي المدعوم امريكيا وصهيونيا هي باسمة القصاب التي تمثل الخلاص الامريكي  فهي لديها مؤهلات شخصية وتدريبها المهني لهذا الدور اخذ يتصاعد تدريجيا في الفترة الآخيرة من خلال بروزها الإعلامي والصحافي الذي دشنته الرواية الامريكية التي سوقتها باسمة، و الدكتورة صفية البحارنة وزيرة للتربية، ود. بتول أسيري وزيرة للمالية والاقتصاد" [6].

كل الحوادث توضع على مقياس سرير هذا الوهم، كما هو الأمر مع سرير بروكست قاطع الطريق في الأسطورة الرومانية، الحادثة التي تقصر عن طول هذ السرير تُمط بقوة الوهم، حتى تأخذ مقاس السرير، والحادثة التي تطول على السرير، تقطع بقوة الوهم لتكون بمقياس السرير بالضبط. تباً لهذا السرير الذي يفصل الوطن على مخدعه ليوهمه بالخديعة.

هكذا يفسر هذا السرير النرجسي نشر صور الملك "نشر صور عملاقة للملك في كل شوارع البحرين على غرار صور الطاغية صدام حسن، يقف وراءها رجل الدولة الأقوى رئيس الوزراء بقصد أن يحفر له خاتمة كخاتمة صدام" [7].

والآن، من كان منكم عاقلا، فليحقق في هذا الوهم.

هوامش

[1]،[6] جورج طرابشي، صناعة الأوهام.

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=32024

[2] نرجس طريف، الخديعة الكبرى، دار الإبداع (وهي دار وهمية)،ص 449 

[3] المصدر نفسه، ص436

[4] المصدر نفسه، ص373

[5] انظر المصدر نفسه، الصفحات: 448،377،251

[6] المصدر نفسه،ص448

[7] المصدر نفسه، ص241

 

 

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10185

هذا هو اسمك.. الخديعة الكبرى

 

تدعو نرجس طريف في كتابها الصادر حديثاً (الخديعة الكبرى)، إلى تشكيل لجان تحقيق في دعوى كتابهاuntitled.
ما هي دعواها؟
هناك خديعة كبرى تقودها الولايات المتحدة الأميركية لخلق نظام سياسي جديد في البحرين يتفق مع خططها المعلنة عن الشرق الأوسط الجديد. والخديعة مرتبطة بمؤامرة خفيّة متصلة بتنظيم ديني (جماعة السفارة أو الأمر) كانت تعمل قبل تخلصها من الصبغة الدينية وفق عقيدتها السريّة على تمهيد أرض مملكة البحرين (فدك الصغرى) لتكون بمثابة قاعدة مناصرة لدول الإمام المهدي (الإمام الغائب حسب عقيدة الشيعة الإثني عشرية) على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية (فدك الكبرى). ويكشف الكتاب خيوط الخديعة عبر استعراض وتحليل لأهم التقارير التي تتناول الأوضاع السياسية والأمنية لمملكة البحرين مثل تقرير البندر وتقرير مركز أوال، وهذا التقرير أعدته صاحبة الكتاب وكانت قبل نشر الكتاب تنفي بإصرار مسؤوليتها عنه وتهدد بمقاضاة كل من يتهمها علنيا بذلك[1].
هي تدعو في نهاية الكتاب إلى لجنة تحقيق في كل ما ورد في الكتاب، تتشكل من أعلى رأس في الدولة، وبعض الأطراف الدينية والسياسية الفاعلة كشخصية الشيخ علي سلمان. وتمهيدا لهذه اللجنة الأهلية، هي تدعوني وتدعو مجموعة من الكتاب ممن وردت أسماؤهم في الكتاب إلى تكوين لجنة تحقيق تخضع الكتاب إلى التمحيص.
لماذا لا يمكنني قبول دعوتها؟
أنا لا يمكنني قبول دعوتها لأنها قائمة على وهم، وعلى استخدام غير أخلاقي لاسمي في سياق تعزيز تأويلات أوهامها الكبرى.
لا أكتب عن كتاب الخديعة الكبرى تفنيداً للوهم الذي يقوم عليه، ولا استجابة إلى التحقيق الذي دعت صاحبته أطراف عدة إلى فتحه، ليس الأمر كذلك، ولو لم يرد اسمي ورودا لافتاً ومزعجاً فيه، لما كتبت عنه. فالنقد وهي مهمتي التي عرفتني بها الكاتبة في كتابها ذي الصفحات الـ ,500 لا يرد على الوهم أو الشخص الواهم، بقدر ما يتخذه موضوعا لدراسة كيف يشتغل الوهم في إنتاج خطاب الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير. وخطاب الخديعة الكبرى نموذج للوهم الذي ينتجه الشطط في اصطناع المخاطر والتحذير من الكوارث.
سأشير في هذه المقالة إلى الاستخدام غير الأخلاقي لإسمي، وفي مقالة أخرى سأشير إلى وهمها الكبير. ليس لأن اسمي ماركة مسجلة، وليس لأنه يحمل قيمة رمزية، بل لأنه اسمي الذي يحمل شخصيتي الاعتبارية أمام الناس وقد ورد توظيفه توظيفا غير أخلاقي في الكتاب عشرات المرات، ويحمل كذلك موقفي الفكري من تنظيم جماعة الأمر ومن تجربة خروجها من الجماعة، وهي تفتتح الكتاب في فصله الأول بالحوار الذي أجريته معها في 1999 وهو يحمل هذه المرة اسمي الذي كان غفلا سابقا، ويحمل جزءا من خطابي تجاه تجربة الجماعات وتشكلاتها.
هي لم تسئ لشخصي طوال الكتاب، بل إنها نزهتني وبجلتني ومع ذلك هي استخدمت اسمي استخداما غير أخلاقي. من الصفات التي أسندتها لي في إطار التبجيل والتنزيه وظللت ترددها طوال الكتاب في متنه وهوامشه الحافلة بالإحالات الشخصية والسيرية (وهي من تعرف جيدا مبادءه وأخلاقه. كانت أخلاق التزام، الحداثي المحايد، الوسيط الذي يصعب اختراقه. شخصية يصعب تطويقها بالنفاق السفاري حتى لو صعب عليه اكتشافه، الناقد الحداثي) [2] هي صفات في الحقيقة تمجد بها خطابها عبر تمجيدي، هي لعبة خطابية، وكأنها تسند لخطابها هذه الصفات، باعتباري الناقد الحداثي الأخلاقي المحايد الذي حاور تجربتها وكتب ضد خصومها. والحوار يتضمن اعترافا بجدارة من تحاوره وأهميته، فإذا كان من يحاور نقادا ومحايدا وحداثيا، فهو يحاور من موقع قيمة تجربتها وخطابها وحمولاته الفكرية.
لقد استخدمت اسمي في كتابها استخداما غير أخلاقي، لأنها وظفته في سياق حربها الشخصية مع جماعة الأمر (السفارة)، وهي من جانب آخر لم تستأذني في نشرها حوار (تعاقبات العمى والبصيرة) باسمي الشخصي الذي كان غفلا حين نشرناه في الانترنت في ,1999 ولم تستأذني في استخدام مراسلاتي معها، ولا في استخدامها للنقاشات والحوارات والمسجات التي جرت بيننا، ولم تراجعني حتى في التدقيق في صحة بعض الحوادث والمعلومات التي ورد فيها اسمي وأسماء أخرى، وفي كثير مما نقلته أخطاء فادحة، وفي كلها تأويلات مريضة، وحبكات شططها يفوق الوهم ويقترب من حد الهلوسة.
هناك إساءات شخصية وأحكام بالنفاق والغرور والاندساس والعمالة والسفارة وجهتها لزملاء وأصدقاء قريبين مني، وقد استخدمت اسمي استخداما غير أخلاقي لتثبيت دعاواها عليهم، فالصديق حسين مرهون، منافق وسفاري مندس[3] ويتخذ من الحداثة غطاء لمحاولة اختراقي واختراق الوسط الثقافي من أجل الوصول إليها لمعرفة تحركاتها ومحاولة ضربها، من أجل توصيل القيم الأميركية الجديدة المضادة لقيم القيادة المركزية التي تحملها مدرسة الإمام علي والإمام المهدي ومدرسة الإمامة.
ولا تستبعد في تأويلاتها المستمرأة بالأوهام أن يكون مرهون المنافق المندس الذي تمكن من أن يكون أحد مشرفي بحرين أونلاين هو المسؤول عن تدمير بحرين أونلاين وضياع جزء من أرشيفها في فترة من فترات نشاط الكاتبة المحموم ضد السفارة. وقد خصصت لمرهون عشرات الصفحات والهوامش، كي تثبت نفاقه واندساسه وعمالته، مستخدمة في كل ذلك اسمي استخداما غير أخلاقي، ولم تتحرج أخلاقيا في الاستشهاد بأحاديثي العابرة ما تضمنته من معلومات عفوية لتصوغه في حبكة تأويلاتها الشاطة حد الشطة.
هكذا يكون مرهون أحد الشركاء الفاعلين في الخديعة الكبرى، بخطابه الحداثي وعلاقته المباشرة بي ومحاولاته لاختراق الوسيط الناقد الحداثي المحايد، يبدو أني كنت وسيطا في استخدامها غير الأخلاقي لاسمي، وهي كي تغطي على هذا الاستخدام غير الأخلاقي من قبلها، حاولت أن توهمنا بأني كنت استخدم كوسيط من قبل المندسين السفاريين. من المرجح أن اسمي قد ضاع وسط هذه الاستخدامات الوسيطة.
هكذا يحضر اسمي لتعزيز شهادتها على الخديعة الكبرى، وما دامت الخديعة الكبرى غير أخلاقية، فلتكن وسائل كشفها غير أخلاقية أيضا، وكان اسمي إحدى هذه الوسائل.
ولا عزاء لمن ضاعت أسماؤهم وسط أوهام الآخرين، سوى أن يرددوا فوق جدارية درويش:
هذا هو اسمك
قالت امرأة وغابت في ممر بياضها
هذا هو اسمك، فاحفظ اسمك جيدا
لا تختلف معه على حرف
ولا تعبأ برايات القبائل،
كن صديقا لاسمك الأفقي
جربه مع الأحياء والموتى
ودربه على النطق الصحيح برفقة الغرباء
واكتبه على إحدى صخور الكهف،
يا اسمي: سوف تكبر حين أكبر
سوف تحملني وأحملك…

هوامش
[1] أحمد رضي، عرض كتاب الخديعة الكبرى، جريدة الوقت، العدد 20 ,1124 مارس 2009
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=156349&hi=
[2]، [3] انظر: نرجس طريف، الخديعة الكبرى، دار الإبداع (وهي دار وهمية مثل مركز أوال الوهمي)، الصفحات 339- .360

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10111

هل لدى سياسيينا خيال؟

 

«الخيال ليس إلا العقل في أكثر حالاته قوة وإثارة».[1]
«في الأحلام تبدأ المسؤولية. لا يمكن أن تنشأ المسؤولية بلا قدرة على التخيل»[2].
لماذا يحتاج السياسي إلى الخيال؟ لأنه الأكثر مسؤولية عن الواقع، والواقع لا يقبض عليه، بل يُقترب منه بخطط تصنعها الأحلام، ويوسّعها الخيال. «يرتبط الحلم ارتباطاً وثيقا بالخيال، ويمكن تعريف الحلم بأنه خيال يسعى إلى هدف، أمنية يتلبسها طموح، رغبة ما لتجاوز ما هو قائم إلى شيء آخر»[3] السياسي الذي لا يتوفر على هذه القدرة. يفلت منه الواقع وينعدم عنده الحس بالمسؤولية العاقلة بالخيال. فلا يمكن لك أن تعقل الواقع من غير صور الخيال، التي تتيح لك اللعب فيه وإدارته، بل وصناعته. العقل ينشط ويمارس فاعليته المسؤولة بالخيال، وينشط كذلك ويمارس فاعليته بالمتخيل، لكنها فاعلية غير مسؤولة، ذلك لأن المتخيل نشاط جمعي يقوم على تصورات وجدانية غير حقيقية وغير واقعية، والمتخيل يجد تصوراته الأثيرة في التاريخ، التاريخ يمده بوقائع لم تحدث وشخصيات لم توجد، وأحداث مختلقة وسير مركبة، وبطولات وهمية. الخطاب السياسي العربي في مجمله موجه في الغالب إلى جماهير تعيش في التاريخ المتخيل، لذلك ينشط هذا الخطاب بالمتخيل الجمعي لا بالخيال الفردي. الخيال نشاط العقل الفردي حين يحاول أن يدرك المستقبل أو يفسر الماضي، أما المتخيل فهو نشاط البنية اللاشعورية الجماعية حين تحفزها صور رغبوية في التاريخ، أي التاريخ كما نرغب أن يكون أو أنه قد كان.
كما هو حلم الجماعات الدينية في استعادة دولة الخلافة الراشدة وعصور الإسلام الذهبية ودولة الإمام علي ودولة الرسول. الأمثلة على الخطاب السياسي الذي يشتغل بالمتخيل لا بالخيال كثيرة، مثلا الخطاب السياسي الطائفي بين الخصوم السياسيين، يقوم على إذكاء المتخيل التاريخي لصراع الطوائف السياسي والديني وفقه هذا الصراع، ولعل في تحديد عالم الاجتماع العراقي فالح عبدالجبار لمقوم الطائفية ما يؤيد ذلك، فهو يقول «رغم أن الطائفية تقوم على إذكاء الخلاف الديني فقها ومؤسسات، فإنها في واقعها صراع مرير على الموارد والسلطة».[4] السياسي في صراعه المرير على الموارد والسلطة يُشغل معجم المتخيل من قبيل (الفرقة الناجية، أهل البدع، النواصب، نصرة الطائفة، أهل الجماعة، الدفاع عن السنة، سب الصحابة، كسر ظلع فاطمة، الكفر، الروافض، الخطر الشيعي، ولاية أهل البيت، التبرؤ والتولي، طاعة ولي الأمر، الصفويون، أبناء المتعة). مفاهيم هذا المعجم ومفرادته، تشتغل في الخطاب السياسي بشكل مباشر أو غير مباشر، لا تتوفر هذه المفاهيم على خيال ينتج صوراً ترسم للفاعل السياسي وشارعه الملتهب مستقبلاً محكوما بالمسؤولية والحيوية والإثارة، إنها تستعيد حروبه التي لا تنتهي، وصراعاته السياسية الأزلية. السياسي حين يفتقد الخيال يستعين بهذا المتخيل كي يعود بواقعه للوراء. الملك الحسن الثاني، في خلافه مع الإمام الخميني، استند في خطابه السياسي إلى تمثيل نفسه بمتخيل الخلافة الديني، أمير المؤمنين المدافع عن أهل السنة وعن المذهب المالكي ضد انتشار التشيع الذي ازدادت حدته بعد انتصار ثورة الإمام الخميني. وانحدارهما من سلالة السادة لم يزد خطابهما السياسي إلا تنافسا ونفرة. والأزمة السياسية الحالية بين المغرب وإيران، تعود في جانب منها إلى صراعات هذا المتخيل في الخطاب السياسي. الخيال يُوسّع الواقع ليستوعب الجماعات المختلفة والمتخيل يضيّق التاريخ والواقع. إحدى أزمات خطابنا السياسي أن خطب الجمعة هي إحدى مكوناته بل هي مرجعيته، وعلاقة المسجد بالتاريخ تقوم على التقديس المتخيل، وعلاقته بالواقع تقوم على الحلال والحرام والظالم والمظلوم، والحق والباطل، لا وسائط بين هذه الثنائيات. المتخيل، يمكن أن يكون مُكوّنا فاعلا في خطاب الثورات والانتفاضات والمقاومات، لكنه لا يمكن أن يكون كذلك في خطاب الدولة والاستقرار والمجتمع المدني إلا حين يوظف بمسؤولية عاقلة، حينها يكون خيالا يفتحنا على المستقبل.
المتخيل في خطاب السياسي يحرض جمهور شارعه على القيام برد فعل نافر (صدامات، تسميمات، تهويشات، تخريب إعلانات، ترويج إشاعات، طرد من مجالس، تسقيطات..الخ) لكل من يصنفهم مخياله الجمعي بأنهم أعداء.[5]
خطاب النائب البرلماني الشيخ جاسم السعيدي، نموذج للخطاب السياسي الذي يشتغل بالمتخيل في إنتاج أفعال نافرة في الحياة السياسية بين الجماعات المختلفة دينيا وعرقيا وثقافيا، وبيانه الأخير عن احتفالات عيد النيروز يضج بهذه الأفعال النافرة «جميع الاحتمالات ستكون مفتوحة في حال تم السماح بالاحتفال بهذا العيد أو الترخيص لأية جهة للاحتفال به، على أية جهة رسمية قد رخصت لهذا الاحتفال أن تسحب ترخيصها فورا وإلا فإنها ستعرض نفسها للمساءلة النيابية.. لا يعقل أن يتم الاحتفال بمثل هذه الأعياد في دولة إسلامية والشريعة الإسلامية مصدر تشريعها وتقام فيها مثل هذه الاحتفالات المحرمة شرعا».[6] المتخيل الديني والتاريخي للدولة الإسلامية والشريعة في هذا الخطاب السياسي غير المسؤول، يضيّق الواقع والدولة والمجتمع والأعياد، على العكس من ذلك فالخيال في خطاب السياسي يحرّض جمهور شارعه على القيام بأفعال يرون من خلالها واقعهم بشكل مختلف، ويرون مآزقه الحقيقة في الحاضر لا في الماضي، ويسعون إلى توسيع هذا الواقع عبر القبول بالجماعات المختلفة معهم، ويعددون من إمكانات الحلول لأزماتهم السياسية.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10058

هوامش
[1] وردزورث، من كتاب الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضي، شاكر عبدالحميد.
[2] هاروكي موراكامي، رواية كافكا على الشاطئ، ص.192
[3] جورج طرابيشي، صناعة الأوهام.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=32024
[4] فالح عبدالجبار، من يعيد تأسيس الوطنية العراقية؟،
http://www.iraqiwriters.com/inp/view.asp?ID=1586
[5] باسمة القصاب، مخيال الشارع الانتخابي، صحيفة الوقت، العدد 25 ,278 نوفمبر 2006
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=28095&hi
[6] جاسم السعيدي، من بيان أصدره مكتبه، وأرسل إلى الصحف المحلية.