كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

الحداثة الدّينيــة في البحــرين.. القصـــــّة غــير الكاملــة

ولادة عسيرة.. أم إعاقة نمو؟

الوقت: نادر المتروك

قبل خمس سنوات، أرسل أحدهم ‘’استفتاءً’’ إلى المرجع الدّيني محمد حسين فضل الله، يسأله فيه عن مسألة ‘’الحداثة الدينية’’ في البحرين على وجه التحديد، ويمكن اعتبار هذا ‘’الاستفتاء’’ وثيقة جيّدة لتقديم  وجهة نظر المؤمنين بتلك الحداثة تقديماً حيادياً وعلى النحو الذي يتصوّره أتباعها. يُحدّد المستفتي موضوع الاستفتاء، أي الحداثة الدينية، بوصفها قارّة في وسيط ثقافي محدّد وهو ‘’التيار الدّيني الشيعي’’، وهو لا يتردّد في توصيف أتباع هذه الحداثة بكونهم يمثلون ‘’تياراً’’ يجمع بين الثقافة الدينية والأكاديمية، ويعمل على إنتاج ‘’فهم مغاير للنصّ الديني’’ بالاستفادة من العلوم الإنسانية الحديثة، واضعاً اللا انتماء ورفض التمذهب الأيديولوجي ومراجعة الفكر الدّيني باعتبارها أهم علامات هذا ‘’التيار’’. كان هذا الاستفتاء، وإجابة فضل الله عليه، محوراً لمناقشات وتأويلات عديدة [1]، كما شكّل، من ناحيةٍ أخرى إنعطافة للجدل الذي اندلع بقوّةٍ مع الزّيارة الأولى للمفكر محمد أركون إلى البحرين، في فبراير/ شباط ,2002 والتي حظيت باستقبال حارٍ من جانب المثقفين الشباب الذين فرّعوا تحوّلاتهم الفكريّة من على تخوم مؤلفات أركون وأفكاره، وقد كانت تلك الزّيارة مناسبة لتسخين المواجهة ‘’الثقافية’’ مع هذا المزاج الجديد، ووصلت إلى حدود العنف الرّمزي في خطب الشيخ عيسى قاسم وبعض ‘’الردّاديّات’’ العزائيّة، فيما لوحظ ندرة المناظرات الجادة التي تناقش الأفكار وتحلّل الظواهر الطارئة على محيط الدّينيين.

فتوى أركونية

لم يؤثر هذا التلاحم السّجالي على المسار الثقافي الجاري وقتئذٍ والذي فضّل منظّروه توصيفه بمصطلح ‘’الحداثة الدينية’’، مراعاةً لطبيعة المجتمع البحريني وتركيبته المتديّنة، ولكن سرعان ما أخذت المواجهة صوراً أخرى من الحصار والنبذ الاجتماعي[2] وانتشرت الشائعات حول التزام ‘’الحداثيين’’ دينياً ورفضهم جملة من المقدّسات العقائدية والشرعية. ومع اشتداد المضايقات العامة، والاعتقاد بانتفاء دواعي خوْض معركة ‘’فكرية’’ لها تبعاتها القاسية، فضّل ‘’الحداثيون’’ الشباب الانسحاب وإخلاء ساحة المواجهة، ولكن حتى حين.
تلاقي الأيديولوجيا الدّينية مع الحداثة
الملاحظ أنّ محمد أحمد البنكي يمثل، تاريخياً، الجذوة الأولى لنموذج الشباب المنتمي إلى الأيديولوجيا الدينية ولكن القارئ أيضاً للثقافات الجديدة والناشط في تمثيلها إعلامياً وأكاديمياً على السّاحة المحلية، واللافت أيضاً أن كتابات البنكي في مجال تحليل البنية الدّينية التي ينتمي إليها؛ لم تأتِ إلا متأخرة[3]، فيما كانت كتاباته وسجالاته الأولى محصورة على معركة التلقي البحريني للبنيويّة وما بعدها ونظريات النقدية الجديدة والسّرديات [4]. أيضاً ثمة ملاحظة ثالثة في تجربة البنكي، فهي لم تتجه يوماً للمجادلة الاجتماعية، كما أنه لم يعتنِ بنحت المصطلحات التشغيلية وتركيبها لأجل صياغة رؤى جديدة تجمع بين جذره الديني/ الأيديولوجي وانفتاحه الفكري/ الحداثي، ويمكن اعتبار التجربة الفاشلة لتأسيس جمعية ‘’النقد الثقافي”[5] هي المحاولة الميّتة/ الوحيدة لتنشيط تجربة البنكي وتجريبها في اتجاهاتٍ أخرى، إلا أنّ المسارات الأخيرة لهذه التجربة وقوفها عند عتباتٍ غير متوقعة، حداثياً، صدمتِ الكثيرين على نحوٍ يفوق الابتلاء بمحنة المرض الخبيث. في المقابل، فإنّ علي أحمد الديري سيضحى هو التمثيل الرّمزي الآخر لذات نموذج الدّيني المصدوم معرفياً بالعلوم الحديثة، ولكن بتفاصيل وانعطافاتٍ مختلفة.
سردَ الديري تجربته في محضر زيارة أركون الأولى[6]، وكان ذلك بمثابة لا مبالاة تصعيدية حيال الإنكار الاجتماعي المقبل، خصوصاً بعد التهيئة بالإعلان التوصيفي عن خلفيات التجربة في مقال “شريعتي بين قراءتين”. [7] بدا ظاهرياً أن الديري، وقتها، يشحذ الهمّة لتسكين “الحداثة الدينية’’ في البحرين وتعويمها رفقة شبابٍ آخرين وبعض رجال الدين المختلفين، تتبيّن هذه الصّورة في الحرص على تقديم البنى الثقافية لأطروحة الحداثة الدينية، والمتمثلة في علم الكلام الجديد والأفكار الفلسفية الجديدة التي تعجّ بها إيران/ الحوزة والجامعة والشارع الثقافي. ولكي يُبدّد أوهام التقليد الأعمى وتهمة الانبهار أصرّ الديري على أن ‘’أسئلة’’ الحداثة الدينية في نسختها البحرينية مختلفة عن مثيلاتها في إيران وغيرها، مشيراً لمفارقته مع أركون واقترابه من الحداثة الدينية عبر علم الكلام الجديد، مع الاستعانة بالأسئلة البحرينية في تشكيل ملامحها الخاصة. [8] لاحقاً وبمعول ‘’النقد الثقافي’’ سيخرقَ الديري نبوءة ‘’الحداثة الدينية’’ ويغادرها سريعاً، مصيّراً إياها قنطرة مؤقتة، لها قيمتها المرحلية، ربّما، ولكنها ليست الملجأ الخلاصي لأولئك المشبعين بما هو أبعد من ‘’حدود’’ الحداثة الدينية وفرصها ومسموحاتها المسكونة بالكلاميات والإيمان العقيدي. توقفت الحكاية، إذن، لتكون مجرّد ‘’فاصلة منقوطة’’ باتجاه تحوّلات دفينة لا تستقرّ على حال، وكانت العلمانية – بتفسيراتها الخاصة – الأرضيّة الخصبة لتعميق تلك التحوّلات على المستوى الفكري، فيما كان لسوء الحوار الدّيني الدّاخلي تأثيره الآخر في تغييب الخيارات الأخرى، أو حتى توجيه الحداثة الدينية واحتضانها تكتيكياً بواسطة التسامح اللفظي ومن ثمّ الاجتهاد في مضامينها بما ينسجم مع محدّدات الأصالة الدينية التي يصرّ عليها مجموع الدينيين في البلاد. لم يحدث شيء من ذلك، وفضّل الإسلاميون التعريج على مسالك أخرى.
الإسلاميون والحداثة الدّينية
باستثناء الخطب الحماسية وشعر الرثاء، ومع استذكار خطب الوعظ والحماية العقائدية التي تسود منابر الجمعيات الإسلامية بأطيافها المذهبية المختلفة، فإنّ جمعية ‘’التوعية الإسلامية’’، وفي عهد عبدالوهاب حسين، عقدت ندوة حول موضوع الحداثة البحرينية، وقيل يومها أن أحداً من مناصري الحداثة الدينية لم يلب دعوة للمشاركة فيها، لأسبابٍ غير معروفة، فيما أُشيع أن تحفظاً غير معروف المصدر داخل تيار ‘’التوعية’’ أدّى إلى قطع هذه الدعوة.

hdath

تحدّث نادر المتروك في ندوة التوعية حول الانبهار بالحداثة، جامعاً بين مشكلة التهجين الثقافي وضعف التأصيل الدّيني ليقرأ من ذلك وضعية الحداثة الدينية في البحرين ونشأتها المتوترة بين مصدرها الإيراني (علم الكلام الجديد) والغربي (مدارس الحداثة)، بينما ذهب الشيخ سعيد النوري، الرئيس السّابق لجمعية التوعية، إلى مشكلة الانتماء وفقدان الهويّة لأصحاب الحداثة. تضاءل الجدال الاجتماعي حول الكائن الثقافي الجديد، وتأكّد أن الإمكان الاجتماعي، بتعبير الديري، لم يتوافر لقبول الكائن ‘’الدخيل’’، وإنْ تمظهر بعنوان ديني واستلهم أسماءً ‘’إيرانية’’، وفضّل الفضاءُ العام للإسلاميين المضي في الخطاب المعتاد، أي الحذر من أية فكرة ودعوة ونظرية قادمة من مصادر غير متسالم بها داخل الأطر الدينية، والتعويل على فقه ‘’كتب الضلال’’ و’’التغريب الثقافي’’ في مقارعتها. وبمعية ذلك؛ ولأن الحداثة الدينية في البحرين لم تكن تياراً، وليست سوى أفراد متفرّقين، فقد هيمن العسفُ الاجتماعي وقلة الحكمة في مقاربتها، وكان من الطبيعي أن تنتهي الأمور إلى سيل جارف من الأدلجة المتبادلة. وفي الوقت الذي كان من المؤمّل أن يسلك سيدكامل الهاشمي طريقاً تقريبياً للحداثيين الدّينيين، ظهرَ من خارج الإطار بوجهٍ نقديّ لهذه التمثلات، وهو ما جعله مناكفاً أكثر منه محاوراً، وكان ذلك بمثابة خسارة كبيرة أجهزت على آمال النهوض بالحداثة الدينية في البحرين وإعدادها فكرياً وتأصيلها أكثر، وتوفير موضوعاتها المناسبة. ومن المحتمل أن ترتفع مشاعر الندم، عندما يجد الجميع أنّ الحداثة الدينية هي أكثر رحمة مما سينتهي إليه الدينيون المتحوّلون.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=66777

الهوامش:
[1] انظر جانباً من ذلك في موقع ‘’ملتقى البحرين’’ على الوصلة التالية: http://bahrainonlin.org/showthread.php?t=61641 . وقارن: صحيفة الأيام البحرينية، ملحق رؤى، الأحد 18 مايو 2002م.
[2] أُوقفت مشاركة علي الديري في موضوع ‘’الحداثة الدينية من منظور علم الكلام الجديد’’ في مأتم بن خميس (السنابس) في نوفمبر 2002م. وقد نشر الديري ورقته على حلقات في ملحق رؤى بصحيفة الأيام ابتداءً من الأول من ديسمبر 2002م.
[3] نشر محمد البنكي مقالات تحليلية حول تنظيم الإخوان المسلمين في البحرين، ممثلة في جمعية الإصلاح، في صحيفة الميثاق البحرينية بتاريخ 18-20 مايو 2004م، وفي صحيفة الأيام، بتاريخ 12-13 أكتوبر 2004م.
[4] من نماذج المناقشة الحادة لكتابات البنكي حينها، انظر: يوسف مكي، النقد الذي لا ينصرف.. فضح الآخر أم تعرية الذات الواهمة، صحيفة الأيام، ع ,1753 الأربعاء 22 ديسمبر 1993م.
[5] انظر تحقيقا شاملاً حول ملابسات محاولة تأسيس جمعية النقد الثقافي في: ملحق ‘’اليوم الثامن’’، صحيفة الوقت البحرينية، ع,502 السبت 7 يوليو 2007م.
[6] علي الديري، أركون وحكاية الذات، ص,35 ضمن كتاب ‘’الخروج على الحس المشترك’’، الصّادر عن مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة (2002) احتفاءً بزيارة أركون إلى البحرين.
[7] علي أحمد الديري، علي شريعتي بين قراءتين، مجلة البحرين الثقافية، ع ,22 أكتوبر 1999م.
[8] دافعَ الديري عن وجهة نظره في ندوة خاصة تناولت الحداثة الدينية في البحرين جمعته مع سيدكامل الهاشمي وأدارها نادر المتروك، ومنشورة في: صحيفة الوسط البحرينية، ع,62الخميس نوفمبر 2002م.

طاقة الفقر

كان صوت الرادود المبدع الشيخ حسين الأكرف، يردد مع المعزين ‘’لنا طاقة على الفقر ولا طاقة لنا على الكفر’’. لصوت الأكرف طاقة العذوبة، حد أنه لا طاقة لي أن أقاوم أن يكون صوته الرخيم رنة لهاتفي العلماني (فاختراع الهاتف هو أحد ثمار العلمنة). يأتي صوت الأكرف العذب هذه المرة، ليس في سياق الدعاء لعودة الطائر المهاجر للوطن، إنه يأتي في سياق الدعاء لسقوط العلمانية (الكفر) في الوطن.

في تعليق طريف للصديق الحقوقي عبدالرضا حسن، يقول: هذا الشع1108799878ار الجديد حدد أمرين: الصبر على إفقار الحكومة للناس وهي أدنى من الخصم – العدو – وهو يأتي في الأمر الأول والأمر الثاني هو تحديد العدو وهو واضح وضوح الشمس – وعد – ومن لف لفهم وهذا هو الأمر الأول والخطر الأكبر الذي يجب أن تعبأ له كل الطاقات وتحشد له الحشود وكأننا أمام ثنائية جديدة الفقر/ الكفر.

الفقر يخلق شعاراته التي يقاوم بها جوعه، الفقر يثريك بالشعار، ومهما كان ادعاؤه بقدرته على التحمل، فهو لا يستطيع ذلك من غير أن يغني نفسه برأس مال رمزي أو وهمي، يأتي في صيغة شعار مقاوم، وهو بهذه الطريقة يغطي حقيقة واقعه المؤلمة.

إنه يغطي حتى كفره، يغطي حد الجحود والإنكار أنه كافر بمعنى السلام الذي يحمله مدلول لفظ الإسلام، إنه يغطي قيمة هذا المعنى، والكفر في أصل معناه هو التغطية.

الإيمان بقيمة السلام، لا يطرد مع الفقر، الفقر يشعل طاقة الكفر، الكفر بالله بالمعنى العام، والكفر بالسلام بالمعنى الخاص لله، فالسلام هو من أسماء الله الحسنى. وابن عربي في نظريته وحدة الوجود، يذهب إلى أن البشر تتجلى فيهم معاني أسماء الله بحسب طاقاتهم واستعداداتهم وحالاتهم، وحالة الفقر حين تتلبس بالسياسة لا تسمح فيما يبدو بتجلي اسم السلام. فالبشر في حالة فقرهم لا طاقة لهم على تحمل تجلي معنى اسم السلام فيهم، فهم أكثر استعدادا لتجلي أسماء الغضب والجبروت والقوة.

أخوان الصفاء، يُعرفون الفلسفة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة، تبذل ما فيك من طاقة لتتشبه بصفات الله، في عدله ورحمته وسلامه وكماله. والذين يحاربون الفلسفة، إنما يحاربون طاقة الإنسان في التشبه بالإله. من له طاقة على الفقر، له طاقة على الكفر، فهو مهيّأ بكله للكفر بالمختلفين معه في الأرض والوطن، يكفر بحقهم في أن يختلفوا مع شعاره ومع ما يتشابه معه من وجوه الإله، ومن له طاقة على الفقر لا طاقة له على التفلسف. التفلسف يعطيك متسع لترى الأشياء باختلافها تتشبه بالإله بوجه من وجوه خلقها، ورحم الله ابن عربي إذ يقول ‘’فكن في نفسك هيولى (المادة الخام القابلة للتشكل) لصور المعتقدات كلها. فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد من دون ‘’عقد’’.

فلتسقــط الدولة إذن…

سألتني منى عباس، على خلفية شعار سقوط العلمانية في إحدى خطب الشيخ عيسى قاسم، هل الشيخ عيسى قاسم أصولي أم أخباري؟ قلت لها بأستاذية، وماذا تعرفين عن الفرق بينهما، قالت لي: اسمع أنا أقرأ في كتاب فؤاد إبراهيم (الفقيه والدولة) ورأسي وجعني، وأشعر أني دخلت منطقة جديدة على قراءتي، وأواجه صعوبات في فهمها.

ليست منى وحدها من يواجه صعوبات في فهم تركيبة الخطاب الشيعي، بل سأزعم أن التيارات الوطنية ذات الخلفيات اليسارية والقومية وغيرها، تواجه هذه الصعوب041ة، ولا أريد أن استخدم هنا عبارات التجهيل، لكن لنقل إن الخطاب الشيعي بحاجة إلى فهم من قبل الأطراف المتحالفة معه في أجنداتها السياسية، لا أقول ذلك، من أجل أن أقدم مخرجاً أو تبريراً لشعار (فلتسقط العلمانية). بل كي أوجه نقداً لثلاثة أطراف، الطرف الأول ويمثله التيار المناوئ للإسلاميين الذي لا يجد غير عبارات الظلامية والرجعية في تعاطيه مع الخطاب الديني بمختلف أطيافه.

والطرف الثاني، ويمثله التيار المتحالف (جمعية وعد خصوصا) مع الإسلاميين المعارضين للسلطة، فهذا التيار اكتفى بجامع المعارضة والنضال ليكوّن مساحة مشتركة لكنها رخوة، وهو يعاني من قصور كبير في فهم تركيبة الخطاب المتحالف معه. والطرف الثالث هو التيار الشيعي وممثلوه الذين يصوغون نمط تدينه.

لم تستطع الأطراف المتحالفة ولا المناوئة أن تقرأ شعار (لتسقط العلمانية) قراءة تفتح تكوينات الخطاب الشيعي البحريني، كانت الجدالات تحوم حول ما يهدده هذا الإسقاط من سقوط للتحالف، أو إضرار به، وما يحمله من إنكار للتضحيات المشتركة، وما يمثله من ضيق عن استيعاب الآخر والتسامح معه.

كانت الجدالات تدور حول التهويل والتهوين، لكنها لم تفتح أسئلة تأخذنا إلى منطقة الفقيه والدولة وعلم الكلام الشيعي الجديد والقديم والتحولات الفكرية والثقافية التي يمر بها الآن الخطاب الشيعي، ولا تجد لها أصداء في الخطاب الشيعي البحريني.

قلت لمنى المسألة تتجاوز مولاة السلطة ومعارضتها، من يوالونها لديهم خطاب فقهي وأصولي بعيد في التاريخ، ومن يعارضونها لديهم أيضاً خطاب فقهي وأصولي بعيد في التاريخ، ولو تعودين إلى كتاب النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) الذي كتبه في 1909في سياق الاحتدامات بين الفقهاء المعارضين ليس للدولة بل لفكرة الدولة ودستورها، وبين الفقهاء المؤيدين لفكرة الدستور والدولة والذين كان يمثلهم النائيني، ستفهمين الخطاب الأصولي والفقهي الذي قامت عليه الثورة الإيرانية، وستفهمين موقف الشيخ سليمان المدني من فكرة الديمقراطية، وستفهمين موقف الشيخ علي سلمان من ربيع الثقافة وفهمه الذرائعي لفكرة الديمقراطية، وستفهمين موقف الشيخ عيسى قاسم من العلمانية، وستفهمين فكرة ولاية الفقيه بما يتجاوز بك مستوى التراشقات الإعلامية والسياسية، وستفهمين أحد (فقط أحد) الأسباب التي تحول بيننا وبين مهمة إنجاز الدولة.

خطاب المعارضة مشغول بملفاته السياسية التي لا يحسد على ورطته فيها، ولن يلتفت إلى أن أحد أسباب ورطته هو أنه لا يرى مآزقه البنيوية البعيدة، التي تعيد إنتاج مآزقه الحالية في صورة حديثة.

خــرائط كـــتب المســـيري

elmessiri01

تعرفت على خارطة المسيري الفكرية، مع مطلع العام ,2001 كنت حينها قد انقطعت مدة تزيد على السنوات الخمس عن قراءة الكتب والمجلات التي تصدر عن نفس إسلامي أيديولوجي، لأسباب لي س أقلها أنها ما عادت تستطيع أن تقول شيئاً جديداً، وليس أكثرها أني كنت أبحث عن أفق جديد، في فهم ذاتي وعالمي، لكن في العام 2001 زرت (قم المقدسة) وهناك تعرفت على مشروع عبدالجبار الرفاعي، عبر مجلته «قضايا إسلامية معاصرة»، بدأت أكتشف أن هناك نفساً جديداً، يمثله علم الكلام الجديد.
مشروع الرفاعي كان معنياً بتقديم علم الكلام الجديد الإيراني خصوصا ضمن عنايته بتقديم خطاب ديني معرفي جديد، فيه المعرفة تروض الأيديولوجي، تعرفت في هذا السياق على عبدالكريم سرو ش، محمد مجتهد شبستري، ملكيان، وغيرهم، كان أفقهم مغايراً تماماً ومنصهراً تماما مع الأفق الذي أقرأ فيه، تحضر في هذا الأفق النظريات الحديثة والمفاهيم الجديدة والأعلام الذين صاروا يمثلون المشهد الفلسفي الحديث. كأني اكتشفت قراءة جدية وجديدة للتراث الديني.
في هذا السياق حضر عبدالوهاب المسيري كواحد من كتاب مجلة قضايا إسلامية معاصرة، لكني لم أكن قد قرأت له في هذه المجلة بعد، لكن المجلة قادتني إلى أن أتعرف على مجلة (إسلامية المعرفة) التي تصدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في أميركا، هناك قرأت للمسيري، دراسة لا تنتمي أبداً إلى نفس الكتابات الإسلامية الأيديولوجية التي لا أخطئ شمّ رائحتها ولو على بعد سبعة فراسخ.
قرأتُ للمسيري، فشدني حديثه عن النماذج المعرفية، وكيفية بنائها، وأهميتها في قراءة الوقائع. هنا استحضرت خارطة قراءتي النقدية مفاهيم قريبة من هذا الحقل، كالنماذج الإرشادية والأنظمة المعرفية والابستمية والعقل المكوِّن والعقل المكوَّن، وجدت في خطاب المسيري اكتشافاً جديداً يستحق الاحتفاء، فرحت أقرأه بفرحة المكتشف. هكذا كانت خارطة الطريق إلى المسيري.
النموذج أداة تحليل
كان مفتاح دخولي إلى خارطة المسيري، هو اعتماده النماذج التفسيرية بوصفها أدوات تحليل، وليس المنافحات الأيديولوجية، ولا التراكمات المعلوماتية، وكم فرحت حين قرأت في سيرته غير الذاتية غير الموضوعية (رحلتي الفكرية.. البذور والجذور والثمار)، عن تذمره الشديد من التلقي المعلوماتي له، فهو يقول بألم ‘’للأسف الشديد قام كثير من النقاد ولعهد طويل بحصري داخل إطار المعلومات الضيق والمستوى التحليلي السياسي.. هناك البعض ممن ينظرون إلى دراساتي من هذا المنظور فلا يجدون فيها معلومات صلبة كافية، ولا الجداول التي يتوقون لها، ولا الإحصاءات التي تشفي غليلهم المعلوماتي ومن ثم فهم يرون أعمالي لا قيمة لها’’.[1]
لقد أٌهمل البعد الفلسفي المعرفي الذي يقف خلف الكم المعلوماتي الذي يديره المسيري ببراعة، لكنها براعة ليست منبعها الكم بل الكيف الذي يكمن سره في قدرته على بناء نماذج تفسير، وهي نماذج غير مغلقة، بل مفتوحة، والدليل على انفتاحها أن المسيري لا يمل من أن يذكرنا أن النموذج يحمل قدرة تفسيرية لكنه لا يحمل كل القدرة، أي أن النماذج تتفاوت في قدرتها على تفسير الوقائع والمعلومات، فهي توصف بأنها أكثر تفسيرية وأقل تفسيرية، ولا توصف بالصحة والخطأ، وهي قابلة دوماً للتعديل والتطوير، لذلك لم يكن يجد حرجاً في أن يروي لنا كيف تطورت نماذجه التفسيرية منذ السبعينات وحتى التسعينات، عبر المراجعة والاختبار.
معارك النماذج
كانت معاركه طيلة سيرته معارك سببها إيمانه بفكرة النماذج والتفسيرية والخرائط الإدراكية ودفاعه عنها، معاركه مع النقاد الذي لا يعطون قيمة لغير المعلومة، ومع زملائه الأكاديميين في الجامعات الذين يراكمون معارف تاريخية عن الشعراء وظروفهم وعصرهم وأسماء قصائدهم، ويبنون أحكاماً سطحية لا تستطيع أن تنفذ إلى عمق ما يراكمون.
ولعل من المفارقات التي تحسب للمسيري هنا، هي المفارقة بين إيمانه بالنماذج التفسيرية، والكم الكبير من التفاصيل التي مسيرييرويها في كتبه وسيرته، حتى تظن أن لديه مركز معلومات وطاقم سكرتيرات يدرن سجلاته الشخصية والأرشيفية، تجده يتحدث عن تفاصيل سيرة أطروحته للدكتوراه وكتابتها ومحتويات فصولها وحكاية الأساتذة الذين تولوا قراءتها وصدامته المعرفية والشخصية معهم وما حدث يوم مناقشتها، وتجد حكايته مع مرضه وتفاصيل زيارته للأطباء وأسمائهم وخلفياتهم وطريقة إدارتهم للمرض ورؤيته للموت وتطورها، وحكاية قسم الدراسات العليا بالجامعات السعودية وصراعه مع أساتذة كم المعلومات. وحديث عن مدينته دمنهور وتاريخها وحكايات ناسها.
ما الذي يجمع هذه الحكايات؟
يجمعها النموذج التفسيري والخريطة الإدراكية، تأتي هذه التفاصيل والحكايات في سياق نموذج يفسر من خلاله المسيري ببراعة ما يحدث ويقع. لن تجد حكاية من غير سند يشدها، ولا تفصيلة من غير سياق يُكمل معناها. وسند الحكايات وسياق المعنى تجده في النماذج التفسيرية، والخرائط الإدراكية التي هي ‘’المقولات والصور الإدراكية التي يدرك من خلالها الإنسان نفسه وواقعه ومن حوله من بشر ومجتمعات وأشياء. وهذه المقولات والصور تشكل خريطة يحملها الإنسان في عقله ويتصور أن عناصرها وعلاقات هذه العناصر بعضها ببعض تشكل عناصر الواقع وعناصره’’.
إن التفاصيل الخاصة الصغيرة التي يجيد المسيري عبرها كشف خرائطنا الإدراكية، هي ما يعطي لكتاباته ألفة وسلاسة وبياناً بالغ البلاغة من غير تكلف ولا زخرفة. والدرس الذي يعيطك إياه المسيري في سيرته منذ الصفحات الأولى هو: انطلق من الخاص إلى العام. من تجربتك، من حكايتك، من سيرتك، من قريتك ومدينتك وحضارتك وثقافتك.
الموقف والرؤية
الفرق بين الكاتب والمفكر، يكمن في الفرق بين الرؤية والموقف، يصير الكاتب مفكراً متى كانت مهمته إنتاج رؤى، ويظل كاتباً فقط متى انحصرت وظيفته في بناء مواقف. وهذا الفرق الذي قد يبدو بسيطاً أجده عسيراً وشاقا، وكثيراً ما تجد أنك تصنف بمجرد أن تبدي أنك مهتم بكتب مؤلف ما. حتى إني صرت أتحاشى أن أبدي اهتماماتي القرائية لهذا السبب، فعلى سبيل المثال، إعجابي بكتب الفيلسوف المغاربي طه عبدالرحمن، لم يكن إعجاباً بمواقفه تجاه الغرب وتجاه الحداثة وتجاه ما بعد الحداثة، ولا تطابقاً معها، بقدر ما هو إعجاب بمفاهيمه المبتكرة في قراءة التراث الفلسفي، كمفهوم فقه الفلسفة ومفهوم التأثيل، أي إعجاب بهذه المفاهيم بما هي مفاتيح للرؤية والفهم والتحليل.
كذلك إعجابي بالمسيري، ليس نابعاً بمواقفه تجاه ما بعد الحداثة والغرب والصهيونية ونظام الحكم المصري. وإنما إعجاب بمفاهيمه التي ابتكرها في قراءة خطاب الحضارة الغربية، كمفهوم التحيز، الخرائط الإدراكية، النماذج التفسيرية، العلمانية الشاملة، الجزئية، والكمونية والحلولية.
من الصعب أن توضح هذه الفروقات التي تكشف من خلالها سر إعجابك وقراءتك للمسيري أو طه عبدالرحمن، ليس صعباً أن توضحها لقارئ عادي فقط بل هي أشد صعوبة مع مثقف يكتب ولديه مواقف مختلفة معهما. مع ذلك أجد في هذا التفريق ما يجعلني على مسافة من الانحياز لهما انحيازاً يغلقني عليهما، كما يجعلني أدرك أيضاً أن مفاهيمهما ونماذجهم التحليلية ليست منفكة تماماً من مواقفهما.
الناقد الثقافي
لعل ما عزز من حضور المسيري في خارطتي الإدراكية، أو ما جعلني أجد في خطابه ما يمكن أن يعزز من قدرة خارطتي على القراءة والتفسير والإدراك والرؤية، هو تكوينه النقدي الأدبي، الذي هو تكوين تخصصي الأساسي، فهو قد طوّع هذا التكوين واستثمره في بناء نماذجه التفسيرية.
يقول المسيري في سيرته ‘’كيف يمكن لمتخصص مثلي في الشعر والنقد الرومانتيكي أن يتحول إلى متخصص في الصهيونية، ويترك تخصصه الأصلي تقريباً؟ وفي محاولتي الإجابة عن هذه التساؤلات أزعم أن الدراسات الأدبية عمقت من فهمي للصهيونية، وأنني استفدت من مناهج التحليل الأدبي في محاولتي تفكيك وإعادة تركيب الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية. كما أزعم أن ثمة وحدة فكرية تجمع بين جانبي حياتي الفكرية. فالدراسة الأدبية هي في نهاية الأمر تدريب على قراءة النصوص قراءة نقدية لتحديد ما هو هامشي عرضي في نص ما، وما هو مركزي جوهري. وهذه مهارة أساسية مطلوبة للتعامل مع كل من النصوص والظواهر الأدبية وغير الأدبية. وكثير من النصوص الصهيونية قد يكون بسيطاً، ولكنها نصوص ماكرة مراوغة تحاول أن تخبئ أطروحتها الأساسية’’.[2]
لم يستخدم المسيري، أبدا مصطلح النقد الثقافي، ولم يُنظّر له، لكنه في جوهر تحليله للنصوص الأدبية الغربية والأساطير والأغاني والروايات والشعر الصهيوني، كان يبحث عما هو مراوغ فيها خلف ما هو جمالي. وهذا العمل على النصوص الأدبية بهذا المنظور، عزّز في خارطتي القرائية ما فتحه النقد الثقافي. وربما يكون شغل المسيري على المجاز بمنظور مختلف تماماً عن منظور البلاغة التقليدية، هو الأكثر لفتاً بالنسبة لي، حينها عرفت أن المجاز ليس تبسيطا للواقع بل تركيباً له وتعقيداً.
وتحليل الصور المجازية هو أحد الخبرات الأدبية المهمة التي تمرس فيها المسيري من خلال تخصصه النقدي، وقد استخدمها بكثرة في دراسته للصهيونية، كما يقول ‘’فالصورة المجازية ليست مجرد زخرفة تضاف، وإنما هي مقولة إدراكية متخفية في شكل صورة. وقد درست وظيفية الدولة الصهيونية من خلال مجموعة من الصور المجازية التي استخدمها الصهاينة وأعدائهم في وصف الدولة الصهيونية. فكثير من الصهاينة ينظرون إلى إسرائيل وهم يَعدونها ‘’رقعة’’ أو ‘’مساحة’’ أو ‘’مكاناً تابعاً’’ أو ‘’بلداً’’ تحت الوصاية هكذا صار المسيري، بالنسبة لي، جزءاً من خارطتي التي أقرأ بها وأفسر بها، وأحياناً ربما أقف بها حين تهتز الجغرافيا الثقافية، وكانت في حرب يوليو/ تموز 2006 ملجئي في الرؤية والموقف.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=64428
الهوامش
[1]، [2]، [3] المسيري، رحلتي الفكرية.. البذور والجذور والثمار، ص .560 ,556 ,579

وجهك كتاب

يحكي الراوي في رواية اورهان باموك ‘’الحياة الجديدة’’ حكاية حياته الجديدة، بجملة شديدة الكثافة، جملة تقول ‘’ذات يوم قرأت كتاباً غيّر حياتي’’. في رواية بالداسار لأمين معلوف، قصة البطل ترتبط أيضاً بكتاب غير مجرى حياته، بل صارت حياته رحلة ليس لها غاية غير العثور على هذا الكتاب الذي يملك سر نهاية العالم، الكتاب هو (الاسم المئة).

ليست الحوادث وحدها ما يغير وجه الحياة، فالكتب لا تقل فاعلية في تغيير الحياة وتاريخها عن الحوادث السياسية، بل إن الحوادث السياسية تجد أحياناً في الكتب ذريعة لتغيير وجه التاريخ، فالمأمون حين أراد أن يغير وجه الثقافة العربية والإسلامية التي كانت متطابقة مع وجه رواة الأحاديث، وأرادها أن تتطابق مع عقول الفلاسفة، لم يجد غير وجه كتاب جديد يدخله على هذه الثقافة، فابتكر حيلة الحلم بكتاب أرسطو، لغير وجه الواقع، والحكاية كما يرويها ابن النديم في كتابه (فرست) المخصص لفهرست الكتب، تقول ‘’ولما رأى المأمون المنام الذي أخبر به أنه رأى في منامه شيخاً بهي الشكل جالساً على منبر وهو يخطب ويقول: أنا أرسطوطاليس، أتيته في منامه، وسأل عن أرسطو فقيل له رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حنين بن اسحق (توفي 260هـ) إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية’’.

إن للكتب حكاياتها، وهي بقدر ما تحمل في بطونها وجهاً للحياة، فإنها تحمل على ظهرها أيضاً حكاية عن الحياة، فكتاب أرسطوطاليس لا يحمل في بطنه المنطق فقط الذي ظل العلماء، علماء الدين والدنيا يرون من خلاله العالم، يحمل أيضاً على ظهره تاريخ الحضارات واللغات التي ترجم إليها، وحكاية حلم المأمون هي واحدة من هذه الحكايات التي من دونها لا يمكن أن نفهم وجه تاريخنا الحضاري والسياسي والديني. لا يمكن أن يكون هناك كتب، ولا تكون معه حكاية تُروى، فالحكاية إن لم تكن هي معناه، فهي معنى من معانيه التي يمكن ان تُروى.

بروفايل الوقت الصيفي، سيكون مخصصاً للكتب وحكاياتها، سنروي عبره حكاية بطونها التي تضمنتها وظهورها التي عبرتها. من كان منكم لديه حكاية مع كتاب غيّره أو خبّأه أو أحرّقه أو عشقه، أو كرهه، أو حذّره أحد منه أو حرّمه عليه أو دعاه لإحراقه أو منعه منه، فليخبرنا بحكايته، بروفايل الصيف بروفايل حكايات مجتمعنا وثقافتنا مع الكتب.