كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

بين تقليد الفقيه وصداقة المفكر هل يمكن أن يكون الفقيه صديقاً؟

(أنت خرجت من تقليد الفقيه ووقعت في تقليد أركون) كانت التهمة الأكثر حضوراً في الحراك الثقافي العام الذي أعقب زيارة محمد أركون للبحرين في 2001م. أقول كانت تهمة لأنها لم تطرح نفسها أبداً في صيغة سؤال،  ولم تكن حتى في مضمونها تحتمل السؤال، والتهمة غالباً ما تقتضي الدفاع أكثر من البيان، لذلك من المهم أن نحول التهمة سؤالاً كي نتحول من مقام الدفاع وما يقتضيه من منافحة وجدال ورغبة في الغلبة، إلى مقام البيان وما يقتضيه من توضيح وكشف وفتح وفهم واستشراف. وأقترح أن يكون السؤال: ما الفرق بين علاقتك بالفقيه وعلاقتك بأركون؟ أو بصيغة أكثر تعميماً وأكثر تحيزاً، ما الفرق بين تقليد الفقيه وصداقة المفكر؟

العلاقة مع الفقيه محكومة بقانون الماهية، والعلاقة مع المفكر محكومة بقانون التصيير. قانون الماهية يفرض عليك أن تكون هو، وهذا يتطلب أن تكون حقيقتك ثابتة وأبدية وأن تكون نسخة من الفقيه، نسخة من فعل (أمره). أن تكون ماهيتك محددة بصرامة أوامره، فالفقيه يختزل النص الديني في فعل الأمر الذي يتحدد من خلاله الحلال والحرام والمستحب والمكروه. وأنت أو ماهيتك أو حقيقتك محددة بمحددات فعل الأمر هذا. الماهية تتطلب التقليد والمحاكاة حد المطابقة كي لا تصير شيئاً آخر أو شأناً خاصاً غير معروف، فمن تتغير ماهيته يصبح كائناً غير معروف، وما يضمن لك المعرفة والتعريف، هو أن تقوم بفعل معروف مسبقاً، هو فعل الأمر، فعل أمر الفقيه، كينونتك من طينة هذا الفعل، أي تغير أو تحول أو تصير في هذه الطينة يجعلك مسخاً.

قانون التصيير يطلب منك أن تكون أنت وما تفعله، وهذا يتطلب أن تكون حقيقتك متغيرة ومتحولة وأن تكون شأناً خاصاً، وكي تصير كذلك، فعليك أن تتحرر مما يسبقك وتتطلع إلى ما يلحقك، عليك أن تتحرر من فعل الأمر ومقتضياته. التصيير يتطلب الانفكاك والخروج وتحمّل مسؤولية أن تكون على خلاف ما كنته. التصيير فعلك أنت لا فعل ما سبقك، لذلك هو فعل متحرر مما سبق.

بقدر ما يكون المفكر مشكال رؤية، تتأكد أهميته، ويتأكد حضوره وتتصيَّر علاقتك به بدل أن تتماهى. نحن مع الفقهاء نتماهى، ومع المفكرين نتصاير. في التماهي نصير هم فقط، وهم فقط بما هم نص ثابت، وفي التصاير نصير نحن وغيرنا وشيئاً آخر.

علاقتك مع الفقيه تقوم على التقليد، تقلد (فعل أمره) وتمتثل لأحكامه، وترهن كلك به، وعلاقتك مع المفكر تقوم على الصداقة، تصادق مفاهيمه، وتتمثل عوالمه، وتفتح كلك به، وتتصرف في العالم من خلالها. أحكام الفقيه أقفال ومفاهيم المفكر مفاتيح، تلك تغلق العالم وتماهيه حد التطابق وهذه تفتح العالم وتصيره حدَّ الاختلاف.امتثالك للأحكام يغلقك وتَمثُّلك للمفاهيم يفتحك، مع الفقيه أنت تقع في حكم نهائي، ومع المفكر أنت لا تقع في بل أنت تقع على، تقع على ما يفك محكماتك ويخرجك من كينونتك الأحادية.

الفقيه يظلك بعباءته ويتيح لك أن ترى بقدر ما تسمح به خيوط عباءته المحكمة، والمفكر يضلك بعرائه وهوامله ويتيح لك أن تكتشف العالم بقدر ما تسمح به خيوط الشمس، ويضع لك في كل مسار من مسارتها معالم غير محكمة، معالم هي بمثابة إشارات تحتاج إلى تأويلك كي تنفتح وتدل، وإذا وجدت في خيوط الشمس ومساراتها ما يضلك، فلك أن تبتكر لك شمسك الخاصة أو قنديلك الخاص كما فعل ديوجين الذي كان يبحث بمصباحه في رابعة النهار عن إنسان.

يبطل عمل المفكر حين تكون له عباءة تغلف أصدقاءه، ويتعزز عمل الفقيه حين تكون له عباءة تنص عليه، وتنص على مقليده وأتباعه. مع الفقيه العقل في مسار النص، ومع المفكر العقل في مسار الشمس.

في مسار النص الذي هو مسار عباءة الفقيه وعمامته، نحن في مستوى ما يمكن التفكير فيه، أي في مستوى ما يسمح به هذا المسار بما هو مجموعة من التصوُّرات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها الفقيه ويتضامن معها.

وفي مسار الشمس نحن نحاول أن نفتح كوة في مستوى ما لا يمكن التفكير فيه، بسبب مانع يعود إلى محدوديّة العقل ذاته أوانغلاقه في طور معيَّن من أطوار المعرفة. أو بسبب ما تمنعه السلطة السياسيّة أو الرأي العام، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدَّسها وجعلها أساسًا مُؤسِّسًا لكينونته ومصيره وأصالته.

أي أننا مع الفقيه، في مسار الماهية والكينونة الثابتة، وما يسمح به الفكر محدود بحدود هذه الكينونة وثباتها، ومع المفكر نحن في مسار الصيرورة التي تخترق مستوى ما لا يمكن التفكير فيه، وهو المستوى الذي يهدد ثوابت الأشياء ونهايتها المغلقة.

مع الفقيه أنت مع الله، فهو وارث ولاية الله عن الإمام عن النبي أو عن النبي والسلف الصالح، هو ولي الله وباسم هذه الولاية يرث القرب وما يقتضيه من محبة وانقياد وتسليم وأمر وسلطة وقيادة، تماماً كما الأب يكتسب حق ولايته ومقتضياتها عليك بقرابة البنوة، كذلك يكتسب الفقيه بهذه القرابة من الله حق الولاية. تقوم علاقة الفقيه مع الناس على أنهم مجموعة من الموالين، يوالون الله خالقهم ويوالون نبيه بأمره ويوالون أوصياءه بوصيته، ينصاع الموالي لأمر مولاه كي يحقق انقياده التام إلى خالقه وبذلك يضمن جنته. الفقيه لن يمنحك الجنة من غير الولاء المطلق.

الفقيه يؤسس لمجتمع الموالين المؤمنين الذين تجمعهم رابطة الولاء العقائدية والولاء النسبي (أهل البيت). مجتمع الفقيه هم جماعته، لذلك فأمر الفقيه لا يمكن أن يتجاوز جماعته المؤمنة بولايته، ولا يمكنه أن يتعامل مع الجماعات المتعددة والمتنوعة في المجتمع الواحد على قدر المساوة، فالولاية جامع الجماعة لا المجتمع, أي جامع الجماعة الواحدة المتجانسة المتماهية لا جامع جماعات المجتمع الواحد المتعدد العقيدة.

مع المفكر أنت مع الإنسان، في تعدده واختلافه وتنوعه، ليس هناك علاقة ولاء ولا قرابة تربطك أو تشرع لك أو تمنحك شرعية القول. مع المفكر نحن في مجتمع الأصدقاء لا الأخوة، أي مع الأصدقاء المتعددين في كل شيء لا مع الأخوة المتماهين في كل شيء.

الاختلاف في مجتمع الفقهاء يفتح باب القتل وفي مجتمع المفكرين يفتح باب الحياة، لذلك ما قتل مفكر إلا بفتوى فقيه، وما قتل فقيه إلا بفتوى فقيه آخر. وما أحرق كتاب إلا بفتوى فقيه أيضا، لكن لم يقتل فقيه برأي مفكر ولا أحرق كتاب برأي مفكر. السهروردي والحلاج وابن رشد وكتبهم شهداء على الفقهاء. الفقيه باب على الموت وما بعد الموت، والمفكر باب على الحياة. بعد كل ذلك هل يمكن أن يكون الفقيه صديقاً؟!!

نعود إلى سؤالنا: ما الفرق بين علاقتك بالفقيه وعلاقتك بأركون؟

الجواب علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.

بهاء البهائية

رخامة قبر بهائي
رخامة قبر بهائي

لقراءة بروفايل جريدة الوقت حول ( البهاىة).

في رمضان 2005 يتصل بي الصديق علي الجلاوي: ما رأيك أن آخذك إلى عائلة بهائية؟ قلت له أنت تعرف كم أحب أن أتعرف على أنفاس الطرق التي يتصل بها الخلائق بالله، فالطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.
كانت زيارتي لعائلة (روحاني) بداية انفتاحي على نفس البهائية. في كل ديانة نفس خاص، روح خاصة تصلنا بالله، من لا يرى روح هذا النفس لا يرى الضوء الخاص بكل دين، ومن ثم لا يقبل بتعددها وتنوعها.
«بروفايل» هذا الأسبوع احتفاء بالجهد الذي بذله الصديق علي الجلاوي في كتابه (بهائيو البحرين 1942-2005). وهو جهد يستحق الاحتفاء لسبب أساسي لا يكمن في الطريقة التي كتب بها الجلاوي كتابه، بل في الطريقة التي عايش فيها موضوعه.
إنها طريقة المعايشة، وليس أجمل طريقة للكتابة عن دين ما من معايشة معتنقيه، فالدين يتيح لنا أن نبتكر طريقة جديدة في التعايش. كنت مأخوذاً في التعرف على هذه الطريقة وأنا أرافق الجلاوي في زياراته للعائلات البهائية ومشارق أنوارها ومقابر موتاها واحتفالاتها الدينية وجلساتها الروحية. كانت تجربة غنية في الإنصات إلى الطريقة التي تؤوَّل بها البهائية الوجود وعلاقاته.
ربما ما كان يعكر بهاء هذا الإنصات هو الحذر الشديد الذي صار جزءاً من التكوين النفسي والسوسيولوجي للجماعة البهائية، فعلى رغم الأريحية التي يقابلك بها البهائيون أفراداً وعائلات غير أن التكتم الشديد والتحفظ من إبداء أي معلومة من دون الرجوع إلى سلطة أعلى تحدد ما يمكن أن يقال وما لا يمكن أن يقال. إنه سلوك يشبه تماماً سلوك الجماعات التي مازال يحكمها غلاف يحول بينها وبين أن تتعايش في فضاء مشترك.
بقدر ما يمكن أن نلتمس العذر للبهائيين في ذلك بحجة عدم وجود اعتراف رسمي بعد، يحمي وجودهم الأمر الذي يفرض عليهم أن يظلوا محافظين على غلافهم العازل، غير أننا لا يمكن أن نعذر مبالغتهم، ففضاء التعدد البحريني يمكن أن يستوعبهم بأريحية بالغة.
الأمر الآخر الذي يعكر صفو هذا الإنصات، يكمن في أن البهائية شأنها شأن أي دين، لا تفهم إنصاتك على جهة الرغبة في التعرف على جوهره البهي، بل تفهمه على أنه بداية إيمان، وهذا ما يدفع أتباعه إلى أن يجدوا فيك مشروع مؤمن جديد، فيقيمون علاقتهم بك على أمل أن يتقربوا إلى الله بإضافتك.
«بروفايل» كعادته في الإنصات إلى شقوق المجتمع الجانبية وصوره المواربة، ينصت في هذا العدد إلى بهائيي البحرين. فماذا تقول تجربتهم في هذا المجتمع الصغير طوال الستين سنة الماضية، منذ مجيء فاتح الجزيرة العربية الروحي أبي القاسم فيضي البحرين في 1942؟

سيرة ذاتية

DSC01111

  • مواليد البحرين 1971م.
  • باحث مهتم بالقضايا النقدية الثقافية والدينية وتمثلات الآخر الرمزية.
  • بكالوريوس لغة عربية، جامعة البحرين العام 1993م.
  • ماجستير (قوانين تفسير الخطاب) جامعة القديس يوسف العام 2007.
  • اختصاصي تدريب بإدارة التدريب والتطوير المهني بوزارة التربية والتعليم 2004. 
  • كاتب مقالة أسبوعية في جريدة “الوقت” البحرينية ومحرر في ملحق بروفايل الأسبوعي.

صدر له:

  • كتاب  ” التربية والمؤسسات الرمزية.. كيف تنتج المؤسسات ذواتنا؟” عن إدارة الثقافة والفنون بالبحرين في أغسطس2002م.
  • كتاب “مجازات بها نرى: كيف نفكر بالمجاز؟” عن إدارة الثقافة والفنون بالبحرين في يوليو2006م.
  • كتاب “طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم” عن مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث في سبتمبر 2007م.
  •  

    عنوان المدون

    علي أحمد الديري

    ص.ب 1924 المنامة- البحرين

    00973-36785538

    ali@aldairy.net

    www.aldairy.net

الإنصات إلى الملاية

في تحقيق حول ( مأتم النساء) طرحت مجلة الأنصار [1] السؤال التالي (لماذا هذا الهجوم الشرس حول آلية العمل في مأتم النساء؟ وهل هو قادر في صورته الحالية على إخراج جيل واع فاهم؟ كانت الإجابات: واقعاً أنا لا أذهب إلى المآتم النسائية، عندما أذهب إليها لا أحصل على فائدة تذكر… إن المأتم النسائي متخلف عن الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي).
في نهاية الثمانينات كنت مدفوعاً بحس ثوري لتغيير العالم، كان العالم هو أنا وأسرتي وقريتي ومأتم جدتي، كنت أرى أن المأتم النسائي لم يستجب لصوت الصحوة الإسلامية، والسبب الذي كنت أعتقده يكمن في أن الملايات متخلفات وغير واعيات ولا يسمحن بالتغيير. كنت أرى ملايات مأتم جدتي هكذا، وهنَّ الحاجية مريم بنت الحاج أحمد صمايل (توفيت ديسمبر/ كانون الاول 1997) والمعروفة بالحاجية مريوم، والحاجية شريفة بنت سيد عبدالله (توفيت العام 2000) والمعروفة بالحاجية شروف. والحاجية صفية بنت الحاجي عبدالله محسن (توفيت في فبراير/ شباط 2004)، المعروفة بالحاجية صفوي.
خضت معهن محاولات تغييرية لكنها باءت بالفشل، كنت أرى فيهن حجر عثرة أتمنى أن يزول بسرعة، من أجل أن يأتي صوت الوعي الجديد والطرح الجاد. اليوم أحن لأصواتهن بناستالوجيا بالغة الدفء، اليوم أعيد اكتشافهن من جديد، أرى أني بحاجة إلى أن أنصت إليهن من أجل أن أفهم عالمهن الخاص وثقافتهن الخاصة، بعيداً عن تشنجات وعي الصحوة الدينية.
لست ضد المحاضرات الجدد اللاتي بدأن يزاحمن الملايات أو يتزاوجن معهن، لكني ضد هذا الوهم بأنهم يمتلكن الوعي والطرح القادر على أن يأخذ النساء إلى الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي. بل أنا ضد هذه الكلمات المشحونة بتخمة من الأوهام. لم يجد خطاب الصحوة بحسه الأيديولوجي في خطاب الملاية ما يعزز من سلطته واستحواذه وتفسيره لواقعة كربلاء، التي راح يؤولها لصالح حسه الثوري، ولأنه خطاب لا يحسن الإنصات إلى ما يختلف معه، فإنه لم يجد في الملاية غير علامة على نقص الوعي والتخلف والتقليدية وعدم القدرة على طرح الإسلام وكربلاء طرحاً جديداً، لكنه لم يكن ومازال عاجزاً عن أن يرى مأزقه في تضييق الإسلام وأدلجة كربلاء. سير هذه الملايات وتجاربهن جزء من ثقافتنا التي يجب الإنصات إليها، وفهمها وتوثيقها، بعيداً عن حس الإدانة الديني أو الأيديولوجي. أنا مدين في جانب من فهمي لعمل الخيال الخلاق في التاريخ إلى صوت هؤلاء الملايات، وهن يعدن سرد التاريخ بخيال لا مثيل له، لذلك فأنا مدين باعتذار متأخر إلى ملايات مأتم جدتي لأني أسأت الاستماع إليهن، وأسأت تقدير صوتهن الأصيل الذي لم تشبه هُجنة أيديولوجية تضيق بالآخر.
بروفايل هذا الأسبوع يحتفي بطريقته الخاصة بملايات الكرب الكربلائي، يحتفي بتفردهن الخاص، احتفاء ينصت كي يفهم، لا كي يدين.
[1] مجلة الأنصار: مجلة إسلامية تصدر عن حسينية بن زبر، العدد 2007 ,9

مجازات بها نرى

image

أحلام سليمان

علي أحمد الديري باحث وكاتب من البحرين يهتم بالبحث في قضايا اللغة والفكر. صدر له مؤخرا كتاب مجازات بها نرى: كيف نفكر باللغة، ينطلق فيه من فرضية أساسية تقول ان تفكيرنا في المجردات ليس مجردا بل هو تفكير مجسد، مما يعني أن تفكيرنا المجرد هو تفكير مجازي.

وأننا لا يمكن أن نفكر إلا على نحو مجازي لأن المجازات تشكل الأطر التي من خلالها نتلقى الأشياء ونفهمها، ونحن عبر التفكير المجسد أو التفكير المجازي نتخيل ونتوقع ونستنتج ونقرر ونفهم ونقنع ونقتنع ونحاجج.

ويذهب الباحث إلى أن التفكير بالمجازات يضم عائلة كبيرة هي عائلة القياس أو المجازات، وهي تشمل التشبيه والاستعارة والتمثيل والرمز والحكاية والأسطورة وبالتالي فإن تفكير الإنسان لا يمكن أن يخرج عن هذه العائلة أي أنه يفكر بواسطة المجازات وهذا يجعل تفكيرنا يتسم بالنسبية لأن المجاز هو رؤية شيء من خلال شيء آخر، ما يعني أننا لا يمكن أن نرى الشيء إلا بنسبيته.

ومنذ العنوان الذي يتصدر كل محور من محاور الكتاب التي تزيد على عشرة محاور يُدخل المؤلف قارئ الكتاب في عالم لغته المجازية للكتاب بحيث لا تنفصل بنية العنوان عن بنية اللغة وآلية التفكر في موضوع اللغة، ولذلك يسمي المحور الأول بمجازات العبور.

ومن أجل توضيح فكرته يلجأ عادة إلى استخدام السرد والحكاية كوسيلة دالة على آلية الرؤية بالمجازات. كما يحاول تعريف المفاهيم التي يستخدمها معجميا للوقوف على معانيها اللغوية مثل مفاهيم العبور والمجاز والإبداع للوصول إلى الكشف عن العلاقة القائمة بين هذه المفاهيم الثلاثة على مستوى المعنى الدلالي وذلك من خلال كون المجاز هو الجواز أو (العبور) من التجربة الحسية إلى التجربة المفهومية.

بحيث يفتح أمامنا إمكانية العبور المبدع الأمر الذي يجعل التعبير هو ما نعبر به إلى الآخرين، ولكي يكون التعبير متوافرا على الطلاقة والمرونة والأصالة وهي شروط الإبداع، فلا بد من استخدام لغة المجاز ومن هنا يأتي الوقوع في سحر اللغة.

ويقوم منطق البحث في هذه الدراسة على الربط والوصل بين المفاهيم والمعاني والانتقال المتدرج من معنى إلى الكشف عن شبكة العلاقات اللغوية والدلالية فيما بينها وصولا لتأكيد مقولة التفكير بالمجاز. فإذا كان التشبيه جزءا من لغة المجاز، والمجاز يمثل سحر اللغة، فإن السحر الذي يحيل على معاني الصرف والخداع وسلب اللب يمتلك القدرة على أن يرينا الأشياء على غير ما هي عليه خاصة، خاصة أن اللغة لديها هذه الخاصية بحكم طبيعتها في تمثيل الأشياء.

ولعل المفاهيم المجردة التي نفكر فيها هي من تجعلنا نقع في سحر اللغة بمجازاتها كثيرة الوجوه والمرتبطة بتجاربنا الثقافية الفردية والجماعية بحيث تؤدي هذه الآلية الذهنية إلى أن يبني الإنسان تصوراته لهويات الأشياء تلك التصورات التي تتغير أو تتجدد أو تتحول وفق ما يستجد من تجارب بصورة تصبح فيها هوية الأشياء هويات مختلفة لأن الإنسان لا يبنيها مرة واحدة فقط.

وتتبدى أغراض المجاز في ضوء وظائف العبور والفهم والتعبير والتنوير والتبسيط وأنسنة الأشياء…. في ممارسته لسطوته على تصورات الأفراد والجماعات والعالم كله لأنه إضافة إلى كونه أداة من أدوات الفهم والعبور، يمكنِّنا من توظيفه لأغراض الإقناع والتحويل وجذب الانتباه وإثارة العواطف وكسر أنماط التفكير بصورة تجعلنا نرى به.

إن أهمية هذه المجازات تتمثل في قدرتها على تمثيل المقومات الرمزية لأية ثقافة وتعتبر التخصصات الإدارية في عالم اليوم هي الأكثر عناية باستثمار المجازات في تطبيقاتها العملية ويقدم الباحث نماذج تطبيقية على ذلك منها أسطورة سرير بروكست التي تحمل في بنيتها المجازية معضلة تتجسد في المقياس الذي يتخذه كل إنسان في تحديد مصير الأشياء، لاسيما وأنه يدل على غياب حرية الفكر والحياة.

ورغبة في تعميق فهم المتلقي لمفهوم المجاز والمواقف المختلفة منه قديما وحديثا يقدم قراءة في تحولات التفكير النقدي والمعرفي الذي دار حوله وعلاقته بالإنسان كما بدت في التراث العربي والفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة وانتهاء بنظرية الناقد عبدالله محمد الغذامي في النقد الثقافي.

وقد حاول الباحث من خلال هذه القراءة الطويلة القيام بربط تحولات هذا التفكير بتغير مفاهيم الإنسان حول الحقيقة والوجود والذات والآخر والتجربة واللغة والعقل والتمثل، نظرا لأن أهمية ذلك لا تكمن في أنها تشكل كشفا لحقيقة المجاز بقدر ما هي تتجلى في تغيير علاقتنا به.

فالمجاز هو أداة وخطاب ونظرية يلعب دورا مهما في نظرية النقد الثقافي بوصفه أداة تشتغل ضمن أفق نظري لقراءة الخطاب الشعري الذي يؤدي فيه المجاز دورا مركزيا في صياغته ثم يدرس العلاقة بين المجاز والإنسان في مشروع الغذامي الذي يعنى بقراءة الإنسان بوصفه لغة.

وفي العلوم الإنسانية الحديثة كانت الاستعارة وفق قول محمد مفتاح الشغل الشاغل لدارسي اللغات الإنسانية أما على صعيد نظريات النقد الأدبي والفلسفة فاحتل المجاز صدارة الاهتمام سواء من حيث دوره في النقد الثقافي أو في تفسير كيفية إدراك الإنسان للعالم من خلال مجازات اللغة والذهن.

وقد رأت العلوم الإنسانية أن قيم الإنسان ولغته ونظرته وعلاقاته وثقافته تتجسد في لغته وخطاباته وطرق قوله ومجازاته حتى رأى الفيلسوف نيتشه أن الاستعارة هي أصل المفهوم بدلا من الحقيقة اللغوية، لأنها الأكثر دلالة على تغير نظرتنا للأشياء.

وبهذا يكون موضوع الاستعارة قد خرج عن حدود البلاغة ليصبح موضوعا أثيرا للدراسات الفلسفية والاجتماعية والسياسية واللسانية، الأمر الذي يجعل الاستعارة تتحول إلى وسائل مفهومة للإدراك أو لخلق الواقع.

ويبحث في علاقة في المجاز بالأدبية وبالشيء الذي لا ينتمي إلى الأدبية في نظرية النقد الثقافي عند عبدالله محمد الغذامي انطلاقا من اعتبار المجاز لغة ثانية أو انزياحا عن المألوف. وإذا كانت الأدبية هي مساءلة للمجاز والسؤال عما لا ينتمي للأدبي فإن المجاز لا يستغرق الأدبية في حين أن الأدبية تستغرقه إلى حد كبير خصوصا في الشعر والنقد الثقافي كان معنيا بما يتحقق لهذه الأدبية عن طريق المجاز.

ولما كان الشعر هو أكثر الأجناس الأدبية مجازا فإن الأدبية قد منحته ما لم تمنحه لجنس آخر على مستوى استخدام المجاز. ومن هنا اكتسب المجاز بوصفه أداة للقراءة النظرية أهميته الخاصة في النقد الثقافي. ولعل المجاز الذي يمثل آلية مشتركة بين جميع الخطابات على اختلاف طرق توظيفها إياه جعل من اختلاف طرق تمثلها للمجاز

واختلاف درجات هذا التمثل مفارقة مجازية تلعب من خلالها تلك الخطابات لعبة التمويه والتنكير والإنسان الذي صاغ هذه الخطابات تحول بفعل المجاز إلى نص مجازي كثيف يصعب تفكيكه وفي النقد الثقافي تحول المجاز من القيمة البلاغية التي تدور حول الاستعمال المفرد للفظة أو الجملة الواحدة إلى القيمة الثقافية التي تدور حول الخطاب فأصبح المجاز بهذا التحول مزدوج الدلالة يدرك على مستوى كلي

أي بمعنى أن الخطاب يحمل بعدين اثنين أوليين أحدهما حاضر وماثل في الفعل الثقافي اللغوي المكشوف وثانيهما مضمر في وهو الفاعل والمحرك الذي يتحكم في كافة علاقاتنا مع أفعال التعبير وحالات التفاعل وبهذا يكتسب الفعل تسمية المجاز الكلي.

ومع هذا التحول لم يعد المؤلف في شكله الضمني هو المؤلف المعهود بل أصبحت الثقافة التي تمثل نوعا من المؤلف النسقي باعتبار النسق دلالات مضمرة منكتبة ومنغرسة في الخطاب وليست من المؤلف. ما يجعل الدلالة تتجاوز الدلالة الصريحة المرتبطة بالبنية النحوية من خلال وظيفتها النفعية التواصلية، كما تتجاوز الدلالة الضمنية المرتبطة بالوظيفة الجمالية للغة.

ويحاول الباحث الكشف عن رؤية المجاز الكلي بوصفه أداة للقراءة إلى المجاز الشعري الذي يتولى صياغة الخطاب الشعري وذلك من خلال استعراض للثنائيات الأكثر جدلا وتعبيرا عن رؤية الاتجاهات النقدية والعلوم الإنسانية للمجاز، ثم ينتقل لدراسة مجازات الشك باعتباره وعيا بالنقص وشكا في مفاهيم السيادة المختلفة،

وحقل حياة بما يستدعيه من سؤال ونقد وحيرة. كذلك يبحث في مجازات النسبة ومجازات الخطاب السياسي انطلاقا من أن المجاز آلية ذهنية يستعين بها السياسيون في صياغة إستراتيجياتهم وسياساتهم وإدارتهم للحقيقة كما يلجأ إليها المحللون والمراقبون لصياغة نماذج تعينهم في فهم تلك السياسات في حين يشيد المفكرون نماذج تفسيرية لمعرفة النسق الكامن في كل ظاهرة إنسانية.

ويبين الباحث أشكال حضور المجاز من حيث هو لغة أو أداة يبنى بها الخطاب، ويختلف شكل حضوره البنائي في الخطابات، وبوصفه أداة للقراءة. كما يتناول مجازات الصورة كما تجلت في خطاب ابن عربي ودلت على الكثرة لكونها محلا لغيرها، ومكانا لتجلي الاختلاف والتنوع والتعدد والكثرة،

وهي علامة لأنها تحيل إلى غيرها ولذلك يحاول أن يتبين بعض هذه الكثرة كما في رؤية الشيء في أمر آخر يكون بمثابة المرآة له ولكي يكون صورة لابد أن تكون له رؤية ثانية كما لابد أن يكون لها محل يمنحها الوجود من خلال إظهارها. ولما كانت الصورة بغير ذات تحل فيها فلا بد من أن تكون لها ذات تظهر بظلها وصفاتها ونقصها لأن من كمال الوجود وجود النقص فيه كما يقول ابن عربي في «الفتوحات المكية».

ولما كانت الصورة هي عين فهي أيضا رؤية الشيء في مكان آخر، كذلك فإن الإنسان لا يدرك من الصورة إلا ظلها، ويشكل إدراك الصورة تمثلا لغايتها التي هي المعرفة. ومن تجليات الصورة أنها برزخ أي عالم وسيط من الخيالي الذي يرينا الشيء في صورة أخرى.

ويمثل العالم وممكناته وأناسه وكثرته عند ابن عربي صورة لتجلي النفس الإلهية. ويخصص الفصل الأخير للحديث عن مجازات المعرفة المحبة باعتبار المحبة هي الجمع بين الضدين وأن المعرفة التي لا تعترف بأضدادها هي معرفة لا محبة فيها.

وأول ما يناقشه في هذا السياق هو المعرفة بالشك بوصفها محبة لأنها تجمع بين الأضداد وتشكل جماع معرفة وشك وغموض واكتمال وكثرة ووحدة، ثم هناك ثراء الأضداد القائم على جمع المحبة والمعرفة بحيث نجعل للمحبة مكانا في القلب كما يحاول المتصوفة ذلك فالمعرفة مثل المحبة هي عماء وبصيرة، ووهم وحقيقة.