كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

الدير في ذاكرة الغرباء

مدخل قرية الدير الغربي، تصوير إبراهيم الباقر 2001.
مدخل قرية الدير الغربي، تصوير إبراهيم الباقر 2001.

بروفايل الدير في جريدة الوقت

قلت لزوجتي المنامية، فضاء عباس فضل، سيكون بروفايلنا المقبل عن ‘’الدير’’، قالت: اكتب عنها من ذاكرة الغرباء، ذاكرة من مرّوا فيها، ذاكرة الذين جاؤوها يحملون معهم تجارب أماكنهم، كيف تبدو الدير في ذاكرتهم؟ وكيف تعايشوا فيها؟
اقترحت عليها أن تكتب لي هي عن ذاكرتها القصيرة في تلقي هذه القرية منذ جاءتها في 1995 حاملة معها تجربة المنامة المدينة المعتقة بالاختلاف والتعدد والتلون، كتبت عنها بحب يفوق حب الغريب لمكان لم تألفه طفولتها، كتبت:
إنها الدير المقدسة كما أحب أن أسميها، وأذكرها أمام من يسألني عن تجربتي معها، حين تسأل عن المقدسات فأنت تعني الشيء الأكثر احتراماً ومحبة وتقرباً إلى نفسك، وهي كذلك بالنسبة لي. أنا الغريبة، هكذا تسميني غالبية النسوة اللاتي أُعرّف إليهن أول مرة ‘’هذه الغريبة زوجة..’’ تُشعرني هذه التسمية بأني قادمة من كوكب آخر، لم أعد أستغرب هذا التعبير، لقد ألفته، ربما لأني أعشق هذه البقعة أكثر ممن ينتسبن إليها.
في البدء لم أعرفها وبالكاد مررنا قربها حين حلمت بالسفر، ووقفت خلف أسوار المطار أتأمل تلك الطائرات وأستمتع بصوتها الذي ألفته الآن أكثر من صوت أبنائي، باسل وأماسيل.
حين تقدم لخطبتي أحد أبنائها العاشق لمدينتي حدَّ عشقي لقريته شعرت بخوف الغريب، كيف سأسافر لهذه البلدة التي لا أذكر اسمها إلا حين أريد التفرقة بينها وبين (الديه) الأقرب لمدينتي، تمنيت أن يكون قد أخطأ التسمية وحرّف حرفاً. لكنها المقدسة لا غير، لا تحريف في حروفها، في البداية تقبلت الأمر على مضض ورحت أتجول في طرقاتها أتعرف عليها وأستخبر عنها، كأني كنت سأتزوج القرية كلها.
حين سألت الأباعد عنها، منهم من قال إنها الأفقر فشوارعها ضيقة وبالكاد يمكنك أن تمر فيها وبيوتها قديمة جداً، ومنهم من عبّر عن إعجابه باتساع شوارعها وجمال بيوتها.
كانت تلك الغنمات السارحات عند مدخلها الغربي في استقبالي الرسمي الأول، مازال أهلي يتذكرونها جيداً، كدنا نصطدم بهن من فرط عجلة الوصول إلى حفل استقبال أعدته النسوة للغريبة القادمة. اليوم أنا افتقد غنماتي كما بدأت أفتقد اسم الغريبة.
من شدة دفاعي عن مقدستي يناديني أهلي بالديرية ويعيبون علي كثرة إطرائي لها وهيامي بها واغترابي عن مدينتي التي أعشقها.
كنت أرى معنى الدير كله في عمتي المتسعة بروحها دوماً، لقد اتسعت الدير في روحي حتى لم أعد ألحظ الفرق بين القرية والمدينة، اتسعت الدير لتكون مدينتي التي حلمت بها.
حين دخلتها قبل عشر سنوات كانت الفتيات صغيرات حولي، الشباب يخجلون الحديث إليَّ والنسوة تتفحصنني لتعرف ماذا أخبّئ لهن.
هذا ما كتبته زوجتي، وكان هذا وحده كافياً لأكتب بروفايل الدير بعيون الغرباء الذين صاروا ديريات وديريين، في هذا البروفايل، سنشقُّ ذاكرتهم لتحكي عن تجربتهم في هذه القرية التي يحجزها مطار يأخذ الناس إلى العالم، ويفتحها بحر لا يأتي بالناس من العالم.

جعفر السويدي أرشيف الدير

سفرة الحاج علي النير (1917-1985) في قرية الدير، تصوير جعفر السويدي

 

“من يملك الصورة يملك الدليل” بهذه الجملة كان جعفر السويدي يفتتح سيرته التي هي سيرة أرشيفه الذي حفظ فيه وجوه قرية الدير طوال الخمس والثلاثين سنة الماضية.

أرشيفه هو الشاهد الأكثر دلالة على ما كانت عليه القرية وما كان في القرية. يحتفظ به ويتحفظ عليه حد الحرص المبالغ فيه، يبدو كمن يملك وحده دليلاً على حياة أو موت، ويخشى عليه من الضياع، كي لا يضيع الشاهد الذي سيروي لمن سيأتي بعده هذه الحياة أو الموت. كان يحدّق في جوه القرية وهي على وشك أن تغادر حياتها القديمة إلى حياة جديدة، أراد لهذه الحياة الجديدة أن تكون بذاكرة ضوؤها متوهج الصور.

كيف كوّن جعفر السويدي دليله؟ وما الوجوه التي يدل عليها؟ وما قيمة هذا الدليل للقرية اليوم؟

يروي من دون أن تسعفه ذاكرته على تذكر أرقام السنوات “كنا خمسة أصدقاء تجمعنا القرية والمدرسة، أنا وسلمان هلال وشريف السيد حسن وعلي داوود وعباس جعفر أحمد، قررنا أن يدفع كل منا يومياً 25فلساً من مصروفه الشخصي من أجل شراء كاميرا تصوير ضوئي. حين بلغ رأس المال 800فلس ذهبنا إلى استوديو المحرق للأفلام الملونة، ومن هناك امتلكنا لأول مرة كاميرا تصوير ب800فلس.ظللنا نجمع 25فلساً من أجل شراء أفلام الأسود والأبيض وتحميضها.صورنا طفولتنا الشقية وظلت الكاميرا تنتقل بيننا والصور كذلك، وفيما كان زمن الهواية ينتهي في نفوس أعضاء شركة كاميرا 800فلس، تفردت أنا بينهم باستمرار هوى الصورة في روحي، فرحت أمعن في هواها.

حين بدأت الألوان تفصل تقاسيم الصورة، لم أجد شركة أكون من خلالها رأس مال يمكنني من شراء كاميرا ملونة، ولأني كنت أذهب بعيدا في شغفي بالصورة وهي تؤرشف الوجوه وحياتها في القرية، فقد استعنت بكاميرات الأصدقاء، كاميرا حسن عيسى، وإبراهيم عباس سلمان. كانا كريمين معي، وأنا مدين لهما بهذا الكرم. لقد بدأت صوري الملونة من عدستيهما، بدأت أأرشيف ألوان القرية. صارت صوري ملونة على الرغم من أن القرية كانت ذات لون واحد، لكنك حين تلوّن الواحد تبدو أكثر استجابة لضوء الشمس.

بعد شركة 800فلس وبعد عصر الاستعارات، صارت لي كاميرا خاصة، إنها كاميرا (ألمبس) ذات الفيلم المزدوج، إنها تمكنك من أن تجعل فيلم 36صورة فيلم 72 صورة. اشتريتها في نهاية السبعينيات وبدأت رحلتي المستقلة في أرشفة تاريخ الناس في قرية الدير.

لم تكن الكاميرا هي المشكلة الوحيدة في إنجاز هذا الأرشيف، فالكاميرا لا تشتغل في ضوء الشمس وحده، لكنها تشتغل في ضوء الثقافة أيضاً، وهو ضوء لا يمكنك أن تتجاهل تأثيره في صورتك، بل هو الذي يتحكم في وجودها وعدمها. كان ضوء ثقافة القرية في ذلك الوقت، يجد في ضوء الكاميرا انتهاكاً لمحرم، كما كان يجد في صوت الميكرفون انتهاكاً لمحرم، إنها الثقافة الإخبارية التي أرسى الشيخ إبراهيم المبارك تقاليدها في القرية.

عليك أن تخفي ضوء كاميرتك وإلا أحرقه ضوء الثقافة، إنه أقوى من أي ضوء، يتحكم في ما تصوره وما لا تصوره، وفي ما يستحق التصوير وما لا يستحق التصوير وفي الحدود التي يمكنك أن تصلها بضوء كاميرتك، ويتحكم في ما يمكنك أن تعرضه من صور اختلستها كاميرتك على حين غفلة.

كنت أجد في وجوه كبار السن صورة القرية الأكثر تهديداً بالنسيان، وجوههم دليل القرية، الدليل الذي يمكنه أن يخبرنا عن الذين مرُّوا من هنا. كانت هذه الوجوه هي الأكثر ممانعة، فهي الوجوه التي يشع منها ضوء ثقافة القرية كأقوى ما يمكن. لذلك لم يكن ضوء كاميراتي يلقط طبقات ضوء وجوههم إلا على وجل وخوف. كنت أكمن لهم خلف الجدران وخلف النخيل وخلف وجوه الشباب، كنت أرقب رجلي أكثر مما أرقب عدستي، لأن الصورة تحتاج إلى رجلي أكثر، فما ينتظرني هو الفرار بأقصى سرعة ممكنة من موقع التصوير كي لا يكتشف وجه مضاء بثقافة المنع ضوءك فينالك النَصَب.

لن تجد في أي صورة من صور وجوه أرشيفي، وجهاً ينظر في عدستي، ولا جسداً يتهيأ لجسد كاميراتي، جميعهم لا ينظرون بل يتهجسون طريقهم. هذا ما يجعل التصوير مغامرة محفوفة ليس بوجوه الناس، بل بوجوه المخاطرة، الوجه لا يسلمك ضوءه الخاص في ثقافة تتحفظ على بصيص ضوء يأتي من غير جهة الشمس.

في المغامرة يكون الوقت مفتوحاً على التوقع، لا تدري متى ستحين اللحظة المناسبة التي تمكن ضوءك من التقاط حركة ضوء الوجه. في مغامرتي لتصوير الحاج حسن علي كاظم، بقيت ساعتين أترقب خروجه من المسجد ظهراً حيث يكون الممر الذي يسلكه خالياً من المارة والوشاة، كنت أتحين لحظة توحده في الممر ظهراً، ظللت أرقب المكان طوال هاتين الساعتين وأنا بين تهيئة الكاميرا وبين إخفائها وبين الخوف والقلق. وبين التعويل على ضعف بصره والحذر من قوة بصيرته. مازالت الصورة تأرشف ليس فقط وجهه الأبيض المشوب بحمرة جميلة، بل ما زالت تحتفظ بأرشيف حالتي لحظة تصويره. لذلك فأرشيف الصورة يحتفظ بضوء الوجوه وضوء ثقافتها.إنها دليل على الضوء وثقافته.

المغامرة الأكثر إثارة كانت تصوير خالي الذي كان بمثابة الوالد حجي علي النير وزوجته وقطته فوق سفرة الغداء. لا شارع هنا أتخفى فيه، إذا كانت  الكاميرا تأثم مرة بانتهاكها ضوء الوجه فإنها تأثم مرتين حين تنتهك ضوء وجه امرأة أو شيئاً من جسدها مهما كان هذا الشيء قد بالغ في تستره.كانت الألفة التي تجعل من القطة تأكل على السفرة نفسها التي يأكل عليها خالي وزوجته مثيرة لضوء كاميراتي، وجدت فيها بحسي الأرشيفي أنها ستكون دليلاً على ألفة هذه الحياة التي توشك أن تتحول إلى ألفة أخرى ربما لا يجتمع فيها اثنان على مائدة واحدة، فضلاً عن أن تجتمع معهم قطة وديعة.

وجدت أن الاختباء أسفل سرير غرفتهما قبل الغداء بمدة سيمكنني من التقاط الصورة من مسافة أكثر ألفة لسفرتهم. كان الجو صيفاً وحين ضرب ضوء الفلاش عيونهم علق خالي: يا سبحان الله ما هذا البرق في الصيف. أغراني تعليقه بأن آخذ أكثر من صورة لمائدتهم التي لم تكن تعرف البرق بقدر ما كانت تعرف السكينة.

كان خالي الصديق المقرب جداً من شيخ حسين ومن ثقافته الإخبارية المحافظة. وهذا ما ضاعف من مغامرة تصويره.

كانت وجوه كبار السن هي الوجوه هي الأكثر استعصاء على التصوير، أما وجوه النساء فقد كانت خارج الضوء.حين بدأت المدارس تفتح ضوءها للجيل الجديد، صارت الصورة تأتيني، صرت معروفاً في القرية أنني أحتفظ بالصور الشخصية والتي كانت في حينها غير الملونة، كان ضوء المدارس يلتقط ضوء الوجوه الشابة من غير حاجة إلى مغامرة. لم أكن أذهب أنا لهذه الوجوه، كنت أضعها في أرشيفي في ألبوم خاص، كما كنت أضع صور وجوه كبار السن في ألبوم خاص. كل ألبوم يحكي ضوء جيل مختلف.

لقد لاحقت بكاميرتي ألمبس آخر ما تبقى من وجوه القرية: الأعراس القديمة حين كانت فرق الغناء الشعبي والليوه جزءا أصيلاً من الحفل، وبساتين القرية قبل أن ينالها التصحر والغزو العمراني، وسواحل القرية قبل أن يصادرها الدفان، وبعضا من عيون القرية، وجزيرة خصيفة قبل أن تتحول إلى قاعدة عسكرية، والألعاب الشعبية، ومساجد القرية ومآتمها ومقبرتها وعمرانها، وبدايات صحوتها الدينية.

لقد كانت وجوه الناس كلها في أرشيفي، وهذا كان مصدر قلق وخوف بالنسبة لي دوماً خصوصا  حين تشتد الأحداث السياسية وما يرافقها من إجراءات أمنية، حتى إني اضطررت في إحدى السنوات إلى دفن جزء من أرشيفي تحت الأرض خوفاً عليه وعلى وجوه الناس التي فيه، من أن ينالها ظلام لا ضوء بعده.

في بداية الثمانينيات حين بدأت الكاميرا ترصد الحركة، استعنتُ بكاميرا فيديو وسجلت ثلاثة أفلام وثائقية، الأول عن الألعاب الشعبية في القرية، والثاني مقابلات مع من تبقى من رجالات الغوص، والثالث عن رحلة مع بحارة قرية الدير، صورت فيها عملية جمع الطحالب (الحشيش) وتجهيزه وإيصاله إلى السفينة، ثم عملية الإبحار التي تستغرق 14ساعة، وما يبذل فيها من عمل وجهد بأيدي بحرينية خالصة.

   * من ملحق بروفايل جريدة الوقت

"امْضَيْعَة الأنصاف"

نخلة البيت العود

نخلة البيت العود… نخلة آمنة بنت خلف

أن تتفرد بحيث يكون فيك من كل وصف نصف، يضيع وصفك فيغيب اسمك، يضيع نصفك فلا يعثر على نصفك الباقي، يُبحث عنك في المكتمل من الأوصاف والناجز من الأسماء، فلا يُعثر فيها على شيء يشبهك، تبقى فرادتك سرُّ عظمتك وغرابتك واتجاهك، حتى سيرتك تتقاسمها الأنصاف، في سيرة كل شخص نصف من سيرتك.

هل ضيعت ما أتحدث عنه؟ ربما، لكن ذلك لا يهم، ما يهم هو أن "مضيعة الأنصاف" بعد بضعة أيام ستكون مضيعة الكل، سيضيع كلها، سيفقد البيت العود نخلته التي كبر معها وصار عُوداً (كبيراً)، سيفقد بيت الحاج أحمد بن جاسم مديفع المجاور لمأتم مديفع بالمنامة نخلته "مضيعة الأنصاف" وسيضيع معها تاريخ طويل من الذكريات ذكريات الصبية الذين تآلفت أقدامهم على جذعها، والصبايا اللاتي تآلفت شقوتهم مع جذعها، وذكريات الأصدقاء الذين لا يعرفون البيت إلا بها.

"مضيعة الأنصاف" كانت صفتها لكنها هذه المرة لن تكون صفتها التي تكتسبها من خصوصيتها بل صفتها التي تكتسبها من فعلها في غيرها. ستضيع ذكريات وعواطف وسير من تعلقوا بها وركبوها وأكلوا منها ورعوها وطافوا حولها.

"مضيعة الأنصاف" هو لقبها الذي خصتها بها الحاجة آمنة بنت خلف، كانت فيما يروي ابنها سعيد قد أطلقت هذه اللقب على هذه النخلة لأنها لا تشبه أي نخلة في صفاتها، ليس لهذه النخلة اسم، لأنها لا تشبه أي نخلة، فيها من كل نخلة نصف شبه،  والنصف الآخر ضائع، لم يُعثر على نصفها الضائع في أي نخلة، لذلك عجز النخالون كلهم عن تسميتها. بقيت لغزا متفرداً.

مضيعة الأنصاف

تقول خيرية مديفع، وعيت على هذه النخلة وسط بيتنا، لا يحضرني شيء من طفولتي قدر ما تحضرني صورة هذه النخلة التي كبرت معها منذ كان طولها متران وطولي اقل من 10سنوات. كانت نخلة عز وبيتنا كان بيت عز لأنه بيت هذه النخلة التي كانت تتوسط غرفنا التي نستضيف فيها الأصدقاء ونسكن فيها العرسان، جميع الأعراس مرت من هنا،  أعراس أهل الحي لا تكتمل بهجتها إلا حين يدخل العرسان إحدى هذه الغرف المطلة جميعها على هذه النخلة.

كان رطبها وتمرها يطوف كل بيت في الحي، كانت خيراً يعم وبركة تفيض على جيرانها، وفوق ذلك هي الذكرى الحية الباقية من حياة والدي وحياة أخي جاسم الذي غادرنا مبكراً وهو لم يكمل بعد عقد الثلاثين، أنا أرى تاريخهما مكتوب وسط جذع نخلتنا. لست أدري ما الذي سيبقى لنا من هذا التاريخ حين تقلع من تربتنا بعد أيام!!

يقول سعيد مديفع بدأت سيرتي تتشكل مع سيرة النخلة منذ بلغت سن السادسة، كنت حينها أتعارك مع الصبية كي لا يركب النخلة أحد، كانت مغرية بجذعها الأهيف النخيل، مغرية لجرأة الأطفال كي يجعلوا منها لعبة مسلية، وأنا بحس التملك كنت أشعر أنها تنتمي إليَّ، وكأنها شيء يخصني أو كأني منذور لحمايتها، وهذا ما يضاعف اليوم من محنتي معها، فأنا الآن المسئول عن جلب من سيقتلعها، لا أعرف كيف يمكن أن أتصالح مع ذاكرتي، يبدو أني سأظل أحمل ثقل تأنيب القلع الذي ستؤول إليه بعد أيام، وسأظل أحمل الحنين إلى طفولتي التي وهبتها دفاعاً عنها.

وسيعاظم من فداحة القلع في نفسي أني مازلت أحفظ وصية أمي الحاجة آمنة بنت خلف التي توفيت في 28مارس1980، كانت تقول "اقتلوني ولا تقتلوا النخلة" كانت ترى في النخلة حياتها كلها، ولم تقبل أن يمسها أحدٌ حتى بيديه. كانت بالغة الحنو عليها، تجد فيها ونساً وألفة ومحبة، كأنها كانت ترى سيرتها في هذه النخلة الوحيدة الشامخة، آمنة لم يكن لها أخوة ولا أخوات ظلت – كما تروي حفيدتها الكاتبة منى عباس فضل – متفردة حتى في شخصيتها المتسمة بالهدوء والحنان والصبر، نشأت يتيمة لكنها وهبت أبناءها وبناتها وجيرانها ونخلتها أمومة فيَّاضة، كانت رهيفة الأحاسيس والمشاعر، يتملكها هدوء غريب وصبر لا يصدعه الزمن المرّ، تفرض حضورها بتلك الألفة والوداعة والحنان، ابتسامتها القمرية علامتها التي لازمتها، ورثت عزاً ومالاً رغم يتمها، بيد إن الزمن أنهكها فقد فقدت ابنها الشاب جاسم وتغرّب الآخر في المعتقلات إثر انتفاضة 1965م.

نخلة آمنة

ربما كانت النخلة مطمئنة إلى شخصية آمنة في حمايتها ورعايتها، فراحت تتعلم منها أن تحمل للآخرين العطاء والحب، وجدتْ فيها سنداً فوهبتها أجود ما تملك، فعلاً الجميع يشهد لثمرها بجودته العالية، كانت مشهورة ببسرها ورطبها وتمرها، يمكنك أن تستطعم طيب ثمرها في حالات تخلّقه في مراحله المختلفة، وهي حريصة على أن تجود بهذا الطيب الأصيل حين تُعطي من عصارة روح تمرها دبساُ يشبه مذاق العسل.

آمنة بنت خلف، هي من أطلق على هذه النخلة "امْضَيْعَة الأنصاف" وذلك بعد أن عجز خبراء النخل عن معرفة صنفها أو تسميتها، فلم تجد آمنة غير هذا اللقب البليغ في وصفها، وكأنها كانت تقرأ تفرّد شخصيتها في تفرّد نخلتها. ولهذه الفرادة قدسيتها أيضاً، فلم تكن آمنة تسمح لأحد غير بحريني أن يتعهدها بالرعاية والتنبيت والتلقيح، وكأنها كانت ترى في النخلة فرادة بحرينية، ولا يليق بهذا الفرادة غير أيد بحرينية نبتت من التربة نفسها وتشربت من ملوحتها وذاقت طعم شمسها وتندّت برطوبة ليلها. لا يليق بهذه النخلة غير عكّار أصيل يشبه أصالتها.كان عكّارها حجي حبيل ولما توفي خلفه ابنه يعقوب.

والآن منذ ثلاث سنوات ما عادت النخلة هي النخلة، دخلت عامها السبعين ربما وربما أكثر، لم تسر فقط اسمها ونوعها بل إنها أسرت حتى عمرها، فليس لها تاريخ معروف، وما ضاعف من أسرارها أنها لم يؤت بها "نقيلة" فهي قد نبتت من الأرض فسيلة وأخذت تنمو على سيرتنا فيها.

اليوم هي في أعوامها السبعين ربما، منذ ثلاث سنوات ما عادت قادرة على أن تقف، تعبت فتوجهت بجبهتها الخضراء نحو نور الشمس وأخذت تميل شيئاً فشيئاً، لم تجد غير جسر اسمنتي تضع طبيعتها عليه، لكنه لم يكن بقلب آمنة القوي فلم يحتمل ثقل تاريخها المليء بحكايات العطاء والناس، فأخذ يتصدع، وكأنه يعلن تذمره من حمل رأسها الأخضر. آه ما أحوجك اليوم أيتها النخلة لآمنة، ليس غير آمنة قادرة على أن تكون لك سنداً يحمل رأسك في حضنه.

ستلحقين بآمنة، وهناك حيث الجنة سترينها تنتظرك بشوق بالغ الإخضرار.

جذع النخلةالعكّار الذي سيأتي بعد ثلاثة أيام لن يأتي بأيديه البحرينية المغسولة بتراب النخل، لن يأتِ بيديه كي يمنحها رعايته الخاصة، لن يأت كي يُهيئ طلعها، لن يأتي كي يمنح خصوبتها غبار الطلع. سيأتي ليأخذها برفق إلى جنة آمنة. ليس غير العكَّار البحريني الأصيل يعرف طقوس جنازة النخلة إلى الجنة، جاءنا قبل أيام وأخبرنا أن للنخلة روحاً يجب أن تحترم، وفي فقه العكّارين لا يجوز أن يقطع رأس النخلة دون الجسد، لا بدّ من أن نوالي بين أخذ الرأس وأخذ الجسد، تماماً كما نوالي بين غسل الوجه وغسل المرفقين في الوضوء، فلا يجف ماء الوجه قبل أن نغسل المرفقين ولا يجف المرفقان قبل أن نمسح ناصية الرأس. علينا أن نوالي رأس النخلة وجسدها كي لا تبقى كالذبيحة الممثل بها.

ربما تغفر لنا آمنة احترامنا لهذا الطقس الذي سيمنح جنتها النخلة كاملة من غير تشويه ولا تأخير. يا أمَّ بيتنا اغفري لنا.

أبناء آمنة، محمد علي وسعيد وحسن وجميل وشيخة وخاتون وخيرية وخديجة تحلَّقوا يوم العيد حول نخلة أمهم وكأنهم في يوم 28مارس1980.

كانت فتحية عباس فضل مُصرة عصر يوم العيد أن تأخذني إلى البيت العود الذي أراه للمرة الأولى، كأنها تريديني أن أحضر مقام هذه النخلة الأخير، فتحية عباس هي الحفيدة الأخرى ضمن قائمة طويلة من الحفيدات والأحفاد لآمنة من جهة الأم (مشهد) الأخت الكبرى التي لم تجد الأخوات طريقة لتحديد عمر النخلة غير الإحالة إلى عمرها، توفيت (مشهد) قبل سنتين دون أن تُعطي شهادتها التاريخية على سيرتها مع هذه النخلة التي هي من عمرها، كما أخواتها يظنن ذلك، ربما لأنها الأكبر فقط وليس لأنها من عمرها. فالأعمار تظل دوماً لغزاً أو شبه سرّ أو معرفة مؤجلة بالتوقعات في مجتمعات النخيل.

إبراهيم شريف سيرة الأرقام

01

تحضر في سيرة إبراهيم شريف سيرة الأعداد أكثر مما تحضر سيرة الكلمات، أحبَ الأعداد، وتمثل روحها الدقيقة، وصرامتها المنضبطة، وإيجازها المختصر، وحقها المنصف، ودلالتها على الحقيقة، ولعبتها الذهنية، جعل سيرته عدداً مفتوحاً على الحياة، فكان رقماً يصعب تجاوزه.

حضور الأعداد في سيرة إبراهيم شريفة، أحالني إلى احتفاء الفلسفة الفيثاغورثية بالأعداد، وكان أخوان الصفا خير من تمثل هذه الفلسفة في رسائلهم. لقد كانوا يرون أن الروح عدد متحرك ذاتياٌ ينتقل من جسم إلى آخر، وأن كل الأشياء أعداداً، وأن صور الأشياء مطابقة لصور العدد، وأن الأشياء كلها تركبت بحسب طبيعة العدد، ولمكانة العدد التي يعوِّل عليها أخوان الصفا في فهم العالم، كانوا يعبرون عنه بمجازات: مفتاح العلوم، والحاكم الأعظم، ومصباح المتفلسفين، وهلال العارفين([1]).

لقد ظل إبراهيم شريف، يحتفي طوال سيرته بروح الأعداد، ويرى السياسة من خلالها، كيف تُصرِّف شؤون الناس بالأعداد؟ كيف تحل مشاكلهم الإسكانية بالأعداد؟ كيف تكشف فساد العالم بالأعداد؟ كيف تفضح غير الشرفاء بالأعداد؟ من غير العدد لا يمكنك أن تملك مفتاح السياسة، ولا أن تحكم عالمها بحكمة الفلاسفة، ولا أن تدير لعبتها المخاتلة بالكلمة.

كان أخوان الصفا يرون أن مهمة العدد تتمثل في أنه يحدِّد لنا النسبة الشريفة التي وفقها ينتظم العالم وأشيائه بالجمال والعدل والحكمة. متى فقدت هذه النسبة فقد العالم جماله وعدله وحكمته وشرفه. وهذه النسبة الشريفة هي  تماماً ما شغل سيرة شريف. كان يريد لهذا العالم أن يكون بالأعداد وفق هذه النسبة الشريفة، كي يكون العالم وطناً يحتفي بالعدل والجمال والحكمة.

§ الاقتصاد المكثف

أحبَ الأرقام وأحبَ السياسة، الأرقام جعلته سياساً ملتزماً، والسياسة جعلته رقماً متحركاً، الأرقام فتحت له الحياة المصرفية، فكان الرجل الثاني في بنك طيب من غير أن تكون لديه شهادة أكاديمية، لمح  البنك في عينيه ضوءاً يشير إلى برعاته في ملاعبة الأرقام، كانت ساحة البنك ملعب تحدِّيه، فسجَّل فيه إنجازاته الرقمية في الاقتصاد.

لقد تمثلت سيرة إبراهيم شريف مقولة "السياسة اقتصاد مكثف" فراح يفهم السياسة من خلال الاقتصاد، الاقتصاد كما يتجسد في قيم الحق والعدل، وهي القيم التي تحكم علاقات الناس وتحقق استقرارهم السياسي، وجمالهم الوجودي. ظل مشغولاً بهذا الاقتصاد، يفكر فيه من خلال الناس، ويقترح حلوله من خلال الأرقام، يقول إبراهيم: "أحد الشباب البسطاء العاملين في موقف سيارات مستشفى السلمانية أوقفني ذات يوم من عام 2005، على خلفية مقابلة أيَّدتُ فيها فكرة السكن في الشقق بديلاً لأزمة السكن، فقال "يا أستاذ أنت تطالب بأن نسكن في بيوت الحمام – يقصد الشقق- وهم ينهبون الأراضي". مساء ذلك اليوم ذهبت للبيت وأنا مهموم بما قاله الشاب فجلست وبجانبي آلة حساب، وأجريت عملية حسابية حول مساحة الأراضي المطلوبة لإعطاء أرض لكل عائلة بحرينية، فوجدت بأن المساحة لا تتعدى 30 كيلومتراً مربعاً، أي أقل من نصف أراضي البحر المدفونة خلال الثلاثين عاماً الماضية. استنتجت، كما استنتج الشاب البسيط قبلي، بأنه لا يوجد نقص في الأراضي ولكن ما هو موجود لدينا هو فساد واحتكار في توزيع الأراضي وجشع لا حدود له لدى بعض المسؤولين. تقديرنا هو أن الفاسدين يستولون بغير حق على ألف مليون دينار سنوياً، ولو استطعنا أن نوقف الفساد في الحكومة فإن دخل كل عائلة بحرينية متوسطة أو محدودة الدخل سيرتفع بمقدار 15 ألف دينار سنوياً"

§ حليب السياسة

عاش إبراهيم شريف أجواء محرق الستينيات حيث يتقن الإنسان درس السياسة مبكراً، ويرضعها مع حليب والدته. السياسة في هذه البيئة تعني أن تكون عروبياً مناهضاً للمستعمر البريطاني، يقول إبراهيم عن حضور هذه البيئة في سيرته: "عندما يكون منزل عائلتك لا يبعد إلا بضع مئات من الأمتار عن القاعدة الجوية البريطانية RF (الآريف) فإن احتكاكك بالمستعمر يكون حدثاً عادياً ويومياً. في كل نزهة (كشتة) لأهل المحرق للبرك المنتشرة على ساحل قلالي والدير يخترق الباص منطقة الآريف "المحتلة"  فترتفع أصوات النسوة والأطفال لإغاضة الإنجليز بصيحات "يسقط يسقط الاستعمار" و "الله أكبر فوق كيد المعتدي" و "يعيش جمال عبدالناصر". في هذه البيئة الوطنية كانت لي التجربة الأولى الميدانية في شهر مارس الخالد من عام 1965 حيث خرجت مدارس المحرق عن بكرة أبيها، وكنت آنذاك طالباً لم يبلغ الثامنة من عمره بمدرسة خالد بن الوليد، خرجنا جميعاً في تظاهرات عارمة تأييداً لعمال بابكو بعد تسريحهم من الشركة البريطانية".

§ فريج التعدد

ولد إبراهيم شريف عام 1957 بفريج محطة السيارات القديمة في المحرق (فريق استيشن)، كان الشخص في المحرق يولد على فطرة التعدُّد العرقي والمذهبي، وليس لديه الخيار ليكون شيئاً واحداً في دينه أو عرقه أو مذهبه، وجد إبراهيم نفسه في مدينة يضيع فيها كل شيء، ولديها القدرة على استيعاب كل شيء، وعائلة السيد شريف استجابت بسرعة لحس هذه المدينة، لم تجعل المدينة على صورتها، بل صارت هي على صورة المدينة.

جاء الجد الأكبر من قرية (بهدة) بفارس، قبل 100 عام في بداية القرن العشرين، لا ليضع مولوده في البحرين فقط، بل ليعود به إلى بيئته العربية، حسب الرواية التي تقول إن الهولة قبائل عربية تحوَّلت إلى الساحل الفارسي بفعل الهجرات، وعادت منه إلى بيئتها العربية بفعل الهجرات العكسية.

الأرقام المختلفة يمكنها أن تأتلف متى ما عثرت على نسبتها الشريفة، كذلك الأعراق والأديان المختلفة يمكنها أن تأتلف متى ما عثرت على نسبتها الإنسانية الشريفة. وجدت عائلة السيد نسبتها الشريفة في المحرق، فراحت تأتلف معها وفق نسبتها، فصارت مدينتها وهويتها ومكانها الذي يمنحها معناها.

يقول إبراهيم: "ولدت في عائلة عروبية متدينة والدي ووالدتي ولدا بالبحرين، أمي فاطمة رحمها الله من عائلة المير، ووالدي السيد شريف رحمه الله من عائلة السيد، مع جيلهما بدأ العرق الهولي بالمحرق يستعيد هويته العربية، الجيل الذي ولد في الخمسينيات لم يكن يعرف له هوية غير العربية، جدي سيد عبد الرحيم الذي كان رجل دين يقرأ على المرضى ليتعافوا، كان مؤيداً لجمال عبد الناصر ويقود تياراً عروبياً، وكانت المظاهرات المؤيدة له تخرج من المساجد. كانت اللغة المستخدمة في بيتنا هي العربية، ولم يكن والدي ووالدتي يتكلمان الفارسية إلا حين يريدان أن يقولا شيئاً لا يرغبان أن نعرفه. لذلك لم أعرف أنا ولا جيلي تقريباً اللغة الفارسية، ولم نكن نعي هوية غير العربية لنا. الهولي بالمحرق ليس لديه إحساس بفارسيته، ولن تجد أحداً بالمحرق يقول لك إن أصله غير عربي. كل هجرة كانت تستوعب من قبل السابقة لها، فتستعيد عروبتها. إن هجرة الهولة إلى البحرين أقدم حتى من مجيء آل خليفة، إنها تمتد إلى ما يقارب 300 سنة".

لم يعش إبراهيم في سيرته صراع الهويات، ولا اللغات ولا الانتماءات، لقد تشبعت سيرته بالمد القومي العروبي، وراح يعي العالم من خلال هذه الهوية. لقد خلقت هذه الهوية مبكراً نسبتها الشريفة التي منحته وجوداً منسجماً في محرق الستينيات.

§ العمة شريفة

تفتَّح وعي إبراهيم شريف على القراءة من خلال عمته شريفة السيد، معلمة اللغة العربية، كانت تحضر له القصص العالمية قصص همنجواي ونجيب محفوظ ودستوفسكي وتشارلز ديكنز. القراءة في ستينيات المحرق تعني الثورة، من يقرأ يعي ومن يعي يعرف أنه يجب أن يفعل شيئاً، ولم يكن هذا الفعل غير تغيير العالم. على الرغم من أن شريفة كانت قريبة من حس الحركة الوطنية، لكنها لم تفتح أفقه عليها، كانت تكتفي بأن تجعله يقرأ، لم يقرأ إبراهيم مطولات هؤلاء الأدباء العالميين، فحبه للأعداد أفقده نهم القراءة، لكن لم يفقده معنى القراءة، لم يكن يقرأ الكتب من الجلدة إلى الجلدة، وهي عادة ستظل ترافقه حتى مع كتب الأعداد والاقتصاد، كان يقرأ فحاوي الكتب، ويعمل بها.

§ رفقة المدرسة

استوعبت سيرة إبراهيم درس العدد في المدرسة، كان في مدرسة خالد بن الوليد بالمحرق، في المرحلة الابتدائية، وجد نفسه واحداً ضمن خليط مختلف، وكي يكون واحداً ضمن فريق متعدِّد، كان عليه أن يجد (نسبة شريفة) تجعله يأتلف مع هذا المختلف، لقد وجد في الصداقة ما يجعله منسجماً مع هذا الكل، فكان إبراهيم بن فخرو صديق درجه، وكان المحامي محمد أحمد صديق منافسته، تعلم الرقم واحد من منافسته لمحمد أحمد على المركز الأول، ظل محمد يفوقه حتى الصف الثالث، قبل أن ينتقل إلى المنامة.

في الصف الخامس، تغادر عائلة السيد المحرق، وتستقر في السلمانية عام 1966م، فيلتحق بمدرسة العلاء الحضرمي، وهناك يتعرَّف على تجربة جديدة لا تقل في تنوعها عن مدينة المحرق، وهذا ما عزَّز من حضور أشكال التعدُّد في سيرته.

وكي يستوعب تماماً درس (الأول)، راح يبحث في الثانوية عن أكثر مدرسة تضم متفوقين، كي ينافسهم على المركز الأول، فوجد مدرسة المنامة، وهناك يعقد صداقة جديدة مع نادر المؤيد الذي سيكون فيما بعد وكيل وزارة الصناعة. يتصدر إبراهيم المرتبة الأولى على مدرسته في نهاية المرحلة الثانوية، لكنه يكتشف خطأه الفادح في استيعاب درس (الأول)، لم تكن مدرسة المنامة هي مدرسة الأوائل الذين كان يبحث عنهم ليتحداهم، كانت الهداية هي مدرسة الأوائل. لم يكن إبراهيم هو الأول على مستوى البحرين، كان الأول طارق عبد الغفار من مدرسة الهداية، وكان الثاني عبد اللطيف شريف (أخو النائب عثمان شريف) من مدرسة الهداية أيضاً، والثالثة كانت أنثى هي ابتسام العلوي، والرابع كان إبراهيم شريف. ظل يبكي طول ذالك اليوم، لأنه أخفق في درس (الأول).

§ فريق اشتراكي

حين تنتقل العائلة إلى السلمانية، ستشكل السنوات السبع التي سيقضيها في هذه المنطقة قبل رجوعه مع عائلته إلى المحرق على إثر وفاة والدته، خبرات حياتية وثقافية وعملية، لن يكون مصدرها كتاب ولا مدرسة ولا معلم، إنه فريق كرة القدم. لقد أحب إبراهيم كرة القدم حباً كان يغلب حبه للقراءة، ولن يشبه هذا الحب شيئاً سوى حبه للإعداد.

شكَّل إبراهيم فريقه، كان فريقاً خليطاً من مجتمع (السلمانية) العجم والهولة والسنة والبحارنة، من الذين ينتمون إلى عوائل مختلفة، العليوات والمسقطي والسيد والمهزع والمحري. كانت أسماء الفرق الرائجة ذات دلالات سياسة، من نوع: الكفاح والنهضة والوحدة، أطلق إبراهيم على فريقه اسم "التحرير" ولكن الاسم الرائج كان فريق إبراهيم شريف.

سيتولى إبراهيم مسئولية الفريق بشخصيته التي أخذت من الأعداد صفات الدقة والانضباط والالتزام والصرامة، وسيضيف إلى شخصية الأعداد فيه، شخصية أبيه الذي تعلم الانضباط من عمله في بابكو ودراسته في بريطانيا. سيكون إبراهيم بهذه المؤهلات هو الرئيس والمدرب والكابتن وحافظ تجهيزات الفريق.

كان الفريق يأتلف بنسبته الرياضية الشريفة، ويحقق إنجازاته على قدر تمثله لهذه الصفة، هناك عند حوطة (أبل) في المنطقة الأقرب من السلمانية إلى الزنج، كان إبراهيم يتعلم دروس التنظيم والإدارة مبكراً، أتاحت له هذه التجربة أن يتقن دروس تأليف الجماعات المختلفة وقيادتها وفق نسبة روحية مشتركة، كانت درساً في الاشتراكية من غير نظرية ولا أيديولوجية.

§ صدمة بيروت

الرابع على البحرين يصل في 1973 عن طريق بعثة حكومية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت طالباً في كلية الهندسة، شكَّلَت له بيروت صدمة حضارية، وهو يرويها على النحو التالي: كنت أصغر طالب في الجامعة إذ إن عمري لم يتجاوز 16 عاماً، مثّلت لي بيروت صدمة حضارية، فلأول مرة أرى تربة حمراء، وطقساً بهذا اللطف، وأزياء بهذا الجمال، واختلاطاً بين الجنسين بهذه الحرية الكبيرة. كان كل شيء مختلفاً، فأنا الذي أقمت يوماً ما الدنيا على أختي الصغيرة التي لبست كعباً رفيعاً، أرى اليوم كل شيء رفيعاً، حتى تنانير الفتيات رفيعة (الميني جوب). كانت بيروت صدمة لشخصيتي المحافظة. لقد فتحت أفقي على حياة جديدة، وكانت أجمل أيام حياتي، لكنها لم تتمكن من فتح سلوكي أبداً، بقيت شخصيتي محافظة في علاقاتها خصوصاً مع الجنس الآخر

كانت بيروت كعبة لجميع التيارات السياسية والأيديولوجية، وحين لاحظ الأخوان المسلمون أني كنت شخصية محافظة في سلوكها، وأني كنت حريصاً على الصلاة، بدأوا يفاتحوني في 1974 بشأن الدخول في تنظيمهم، رفضت بحزم قاطع، ذلك لأني كنت أحمل صورة سيئة عنهم، فسمعة الأخوان في البحرين لم تكن مشرفة، حين كنا نمر بالقرب من نادي الإصلاح، نتحدث باستهجان عنهم، فهم موالون للحكومة ومحافظون ومواقفهم غير مشرفة من الهيئة الوطنية في الخمسينيات.

شكَّل الجانب الثوري في شخصيتي بأفقها الوطني العروبي، حماية لي من الدخول في تنظيم الأخوان المسلمين. ولأني كنت مهيأ لدخول أي تنظيم يحمل هذا الأفق، كانت استجابتي سريعة للعرض الذي تقدم به أحدهم لي للدخول في التنظيم. فدخلت تجربتي الأولى في العمل السياسي المنظم. شاركت في نشاطات الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وفي التيار السياسي الواسع الذي كانت تمثله الجبهة الشعبية في البحرين".

قد سبق جيل إبراهيم هناك، جيل مؤسس، جيل يضم عبد الرحمن النعيمي وعبد النبي العكري، وعبيد العبيدلي، وليلى فخرو.

دخل إبراهيم التنظيم بروحه الانضباطية الالتزامية المنظمة، فراح يعمل بكلّه من أجل رسالة هذا التنظيم، غير أن هناك تحولاً هاماً على المستوى الأيديولوجي، أكسب شخصيته مرونة أكبر، هذا التحوُّل تمثل في انتهاء فكرة العصبية القومية أو الشوفينية القومية العربية، لقد أصبحت الفكرة القومية فكرة أكثر إنسانية وانفتاحاً وتقبلاً للآخرين وأقل حدة، وهذا ما جعل من روحها تناغي روح إبراهيم، فقد كانت شخصيته تحمل التنظيم الملتزم والمنضبط وفي الوقت نفسه تحمل الروح الإنسانية، وهذا ما جعل من روحه منفتحة على اليسار في ثوريتها من أجل إشراك الآخرين في الثروة ومساعدة الضعفاء.

كان انخراطه في التنظيم استجابة إلى روحه العاشقة إلى العمل الجاد والملتزم، لذلك كان حريصاً على حضور الاجتماعات وتنظيم الأتباع والقيام بالتبرعات، وغيرها من الأعمال التي تتطلبها التنظيمات السياسية.

§ جامعة تكساس

  بعد الحرب الأهلية في لبنان نقلت الحكومة الطلاب إلى جامعات تكساس بالولايات المتحدة، فتمت إعادة تكوين الاتحاد الوطني لطلبة البحرين هناك. في بيروت كان الطلاب المنخرطون في الاتحاد كتلة واحدة في مكان واحد، أما في تكساس وهي أكبر ولاية أمريكية، فقد توزعت الكتلة على خمس جامعات، وكانت الحكومة تقصد توزيعهم، لتشتت نشاطهم السياسي المعارض، يقول إبراهيم: "مع صعوبة الاتصال بيننا إلا أننا انخرطنا في كتلة أوسع فقد ساهمنا مساهمة فعالة في نشاطات منظمة الطلبة العرب. وكان الطلاب البحرينيون في الصفوف القيادية، لم تضف تكساس أفقاً حضارياً جديداً على ما فتحته بيروت، لكنها أتاحت لي أن انخرط أكثر مع القضايا العربية".

       تجربة إبراهيم شريف في بيروت وتكساس، لم تشكِّل له خصومات سياسية وأيديولوجية مع جبهة التحرير التي تمثل الخصم التقليدي للجبهة الشعبية، وذلك لأن الغلبة في هذين المكانين كانت للجبهة الشعبية، على خلاف الأمر في القاهرة مثلاً. مع ذلك لم يخل الأمر من خلاف، لقد اصطدم تيار الشعبية مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في موقفها المؤيد للاتحاد السوفيتي في احتلال أفغانستان، و في وقوفها مع الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (جبهة بوليساريو)، والتي تأسست  في 20 مايو/ أيار 1973 بهدف إقامة دولة مستقلة في إقليم الصحراء الغربية.

سيكمل إبراهيم شريف في تكساس تجربته السياسية بفتحها على أفقها العربي، لكنه لن يكمل تجربته الدراسية، في أبريل 1980 أبعدته السلطات الأمريكية بعد أن ضبطت المخابرات الأمريكية معه في طريق عودته من معسكر شبابي ثقافي في كندا، أزراراً تحمل شعار ثورة ظفار وإعلاميات فلسطينية وشيكاً يحمل تبرعات، لقد خضع لتحقيق طويل من عملاء في مكتب الـ إف بي آي، يبدو أن أمريكا كانت تعيش حالة من الهلع بعد انتصار الثورة الإيرانية وقضية الرهائن الأمريكيين في سفارتها بطهران. لقد حُرم من إنهاء سنته الأخيرة في دراسة الهندسة الميكانيكية.

§ 15 يوماً

إن ختم المنع الأمريكي كان قوياً حدَّ أنه لم يتمكن من دخول بريطانيا، كان ينتظره في البحرين، غضب الأب وعذاب المخابرات، يقول إبراهيم: "في يونيو 1980 اعتقلت لمدة 15 يوماً بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية، وسحب جوازي لمدة ثلاث سنوات. لكن في مقابل ما كان ينتظرني، كنت أحمل معي مهمة تنظيمية، فالانخراط في التنظيم يعلمك الالتزام بعملك مهما كانت الظروف، كان علي أن أشتغل على تنظيم طلاب الكلية الجامعية بالبحرين، غير أن امتداد تيار الصحوة الدينية لم يُمكّني من إنجاز هذه المهمة".

§ الأعداد المحبة

في الحديث عن رفيقته فريدة غلام كان إبراهيم متجلياً تماماً ومنتشياً تماماً وفخوراً تماماً حدَّ الإعجاب، كان يقول بكل أنواع هذه التماماً: "لم تكن المهمة التنظيمية هي الشيء الوحيد الذي كنت أحمله معي، فقد كنت أحمل معي حباً دفّاقاً وحيداً، جئت حاملاً من كندا قصة حب فريدة غلام، المرأة الوحيدة التي عرفت معها تجربة الحب والحياة، تعرفت عليها في نهاية السبعينيات في إحدى معسكراتنا الطلابية في كندا، كانت تدرس الرياضيات هناك. حين رأيتها للمرة الأولى كانت مجهدة بسبب مرض التلاسميا الذي ورثه دمها، ووجد في برودة كندا منشطاً فاعلاً له. في 1981 كنت مع أبي نسأل أباها الأعجمي الشيعي، هل تفضل أن نعقد القران عند رجل دين شيعي أو سني، فقال لي: لا فرق عندي، لكن لو نذهب عند شيخ عمر أسهل لنا.

ارتبطت بفريدة بعلاقة ندية، وظلت شريكي في العمل السياسي منذ السبعينيات، وهي مرجعي في كل ما يتعلق بالحركة النسوية. أنا وفريدة عددان متحابان، والأعداد المتحابة عند الفيثاغورثيين هي أعداد قواسم كل منها تعطي مجموع الآخر. كلانا نتقاسم الجد والمثابرة والالتزام والانضباط، ومجموع قواسمنا كان أنا وفريدة. وفريدة بالمناسبة كانت الرابعة على مستوى البحرين. إنها امرأة حديدية على الرغم من ضعف حديد دمها".

§ العقد المر

مع منتصف الثمانينيات، لم يعد للجبهة الشعبية حضوراً في المجتمع، فتيار الإسلام السياسي اكتسح الساحة كلها، هنا بدأ تاريخ جديد للجبهة، سينتهي التنظيم الحديدي، وسيفقد شكل المسبحة بتراتبيتها الدقيقة، سيدخل مرحة أن يكون تياراً عاماً له أتباعه ومحبوه وتاريخه النضالي وأحلامه التغييرية. لن تكون هناك خلايا، ولن يكون هناك مُنظمُّون جدد.

مع بداية التسعينيات سيتداعى رفاق الدرب في الجبهة الشعبية والتحرير بالتزامن مع حركة العريضة الشعبية إلى اجتماعات ليست سرية لكنها ليست مكشوفة في الوقت نفسه، سيكون بيت إبراهيم شريف مركزاً يحضره الداعمون للعريضة الشعبية، هنا سيصاغ الموقف ويبدأ التفكير في أشكال الدعم، وستكون الأسماء البارزة في الواجهة هي إبراهيم كمال الدين والمهندس سعيد العسبول والدكتورة منيرة فخرو وحصة الخميري وأحمد الشملان، وسيقف خلف هذه الأسماء أسماء أخرى داعمة لكنها غير مكشوفة وغير سرية.

§ حرق السفن

في الغرفة نفسها في بيت إبراهيم شريف، سيدرك رفقاء الدرب من الشعبيين والتحرريين أن عصر الأيديولوجيات انتهى وأن الشموليات لا مكان لها، ستبدأ فكرة تعويم الأيديولوجيا تأخذ مساحة من نقاشاتهم غير السرية وغير المكشوفة، وسيتزامن مع هذا التعويم انفتاح أكثر على الجماعات الأخرى الإسلاميين واللليبراليين والتجار، سيكون الجامع ليس الأيديولوجيا، وليس التنظيم الحزبي الحديدي، لكنه برنامج العمل. وهنا ستتم الدعوة إلى حرق السفن كما فعل طارق بن زياد، على الجبهة الشعبية وعلى حركة التحرير أن يحرقا سفنهم التنظيمية والأيديولوجية، وألا يكون لهم ملجأ آخر غير المستقبل الجديد الذي سيأخذ مسمَّى (التجمع الوطني الديمقراطي). لقد تمَّ بالفعل صياغة وثيقة هذا التجمع في 1998 على خلفية الدعوة إلى هذا الحرق من أجل ولادة جديدة.


[1] ) انظر: أخوان الصفا، الرسالة الجامعة، ج5، ص14،15

الحاج عيسى بن عبدالله مطر

جردية الوقت

الحاج عيسى مطر هو عم والدي وأخو جدي، وكان لفرط حبنا لروحه المشرقة دوماً بحب الناس، ندعوه جدنا. حين تقول والدتي صباح عبدالحسين طرار أن جدك حجي عيسى يسأل عنك، أعرف حينها أن عتب المحب ينتظرني، توفي صباح الاثنين18سبتمبر2006. حين أخبرني الوالد بوفاته، عرفت حينها أن جملة أمي لم تكن تريدني فقط أن أحقق وصلاً بجدي، لكنها كانت تريدني أيضاً أن أحقق وصلاً بتاريخه المديد، كانت تريدني أن أكون شاهداً على حياته، كي أرويها.

الحاج عيسى مطر

كان حتى الأول من أمس يدخن (نارجيلته) التي احتفلت قبل بضع سنوات بيوبيلها الذهبي، فيما كان يحتفل هو بعيده المائة، ظل وفياً لها ولم تخنه أبداً على الرغم من وشاية الأطباء بها.

في وثيقة سفره الحمراء، هو من مواليد 1905، وفي ذاكرته الندية الطراوة والشديدة التوهج والحضور حتى مساء الأمس هو من مواليد 1320هـ. وما بين الوثيقة والذاكرة روايات عدة، بعضها يقول 1901، وبعضها تقول أكثر 10 سنوات من أخته تقية التي ما زالت حية ترزق بذاكرة أضعف 10سنوات من أخيها، ما زالت تقية تروي تاريخ قرية الدير لكنها لم تعد تدرس القرآن لأهل القرية الذين يدينون لها رجالاً ونساء بتعلم القرآن وحفظ المنتخب الطريحي.

غير أن الحاج عيسى مطر لم يكن قد تعلم القرآن في قرية الدير، فقد أرسله النوخذة أبوه الحاج عبدالله بن عيسى (توفي 1963) أحد وجهاء القرية إلى المحرق حيث فريق الحياك، كان ينتظره هناك في بيت منصور بن نايم رفيقه جاسم بن منصور بن نايم، هناك كان الملا محمد الإحسائي يدرس القرآن والخط العربي. ستتطور هذه الرفقة إلى صداقة تفضي بهما إلى امتهان الطواشة (شراء وبيع اللؤلؤ). ومن كرسي القرآن ينتقلان معاً إلى كرسي قهوة بن حمدان في المحرق المكان الذي اشتهر بتجمع تجار اللؤلؤ فيه.

ما زال حفيده حسين مطر يتذكر رواية والدته التي لا تكف عن سرد صورة بشت أبيها الذي يتأبطه صباحاً وهو يهم بالخروج إلى عمله من قرية الدير إلى المحرق.كان ذلك قبل أن يكسد سوق اللؤلؤ الذي أفضى بالحاج عيسى إلى أن يشتغل في تجارة المواد الغذائية إلى جانب بيع الأدوية والمستلزمات الصحية، وقد وطد هذا الاشتغال علاقاته بتجار (القراشية) بالمحرق.

ظل مديناً إلى الملا أحمد الإحسائي بخطه الجميل الذي كان يسجل به الديون المستحقة لوالده، كما أنه كان فيما يقول ابن أخيه الحاج أحمد محتفظاً بقيد واضح الخط، كان يسجل فيه مديونيات تجارته وحساباتها وأرباحها.

في منتصف الستينيات يفقد الحاج عيسى بصره تدريجياً حتى لم يعد يرى شيئاً، تلقى علاجاً تحت إشراف الدكتور سنو(snow)البريطاني المشهور في مستشفى النعيم، وذهب في رحلة علاج إلى الهند وإلى شيراز، غير أن رحلة بصره نحو الظلام كانت أسرع مرات من رحلته نحو النور. فقد بصره كلية، فصارت بصيرته أشد توهجاً، يعرف بها الأصوات والأشخاص ويروي بها تاريخه الطويل وتاريخ المكان الأكثر طولاً.

يحفظ جيداً تاريخ سنة الطبعة 1925ويحفظ أحداثها ولا يمل يعيد سردها، كأنها الحدث الأكثر عنفاً في تاريخه الطويل، يومها لم يكن في البحر، لكنه كان يستقبل فاجعة البر، ويبدو أنه يصدر في سرده من أصداء هذه الفاجعة، والحدث الثاني الشديد الحضور في سرده، هو ما يُعرف شعبياً بسنة المجاعة، وهي تقع ضمن سنوات الحرب العالمية الثانية، كانت له أياد كريمة على فقراء أهل قريته في هذه السنة، وقد تولى رعاية مأتم محمد علي (المأتم الشمالي) في هذه السنوات، وأحضر من البصرة الخطيب سيد محمد السويحي.

يروي بشيء من العتب والحسرة، العرض الذي رفضه أبوه الحاج عبدالله بن عيسى، كانت علاقته جيدة بشيوخ آل خليفة الذين كانوا يصيفون على أطراف قرية الدير، وقد عرضوا عليه تملك بعضا من الأراضي في القرية، إلا أنه ظل متردداً أو رافضاً أو مهملاً، ليس في سرد الحاج عيسى ما يوضح هذا الأمر.

يقول حفيد ابن أخيه كنت أغيب عنه الأشهر، لكن لم تكن ذبذبات صوتي تغيب عن ذاكرته الطرية، بمجرد أن أبادله التحية يبادلني التعريف بي، وكأنه يقول لي ما زالت ذاكرتي قادرة على العتب، فلا تغب كثيراً فأأعتب أكثر. كانت تحرجني ذاكرته لأنها تتذكر جيداً تاريخ غيابي الطويل عنه، وتتذكر جيداً الأشخاص الذين تحملهم السؤال والسلام والرجاء، كان يرجو زيارتي لكني كنت أرجئ عيادته، اليوم أنا أكثر رجاء منه، أكثر رجاء أن يغفر لي هذا الغياب.

منذ فقد الحاج عيسى بصره، وهو دائم السؤال عن الوقت، دائم السؤال عن الساعة، كأنه كان ينتظر شيئاً يأتي، فهل كان قد جاء أمس جواب الوقت؟!!