أرشيف التصنيف: بروفايل

ركاز.. «نيو لوك» أو «نيو أخلاق»

 

rokz.3JPG

تعرف (ركاز) في موقعها الإلكتروني هويتها بالتالي ”نحن مؤسسة إعلامية مستقلة غير ربحية تهدف  إلى تعزيز الأخلاق في المجتمع الكويتي وفي المجتمعات الأخرى عن طريق التنسيق مع المؤسسات المدنية في تلك المجتمعات والدول”(i).
وتبرر (ركاز) مشروعها الأخلاقي التغييري بظهور مجموعة من السلوكيات الغربية على الشباب وكذلك الغريبة عن قيم وعادات المجتمع الكويتي، وترى إن هذه السلوكيات الغريبة جاءت نتيجة لبعد الشباب عن القيم الأخلاقية والقيم المجتمعية النبيلة وكذلك لفقدان الساحة الكويتية لخطاب إعلامي موجه.
تقدم نفسها بأنها المتحدثة والحامية لـ ”قيم وعادات المجتمع الكويتي القيم الأصيلة” وتتحدث بنبرة جماعية عن ”أخلاقنا وقيمنا الأصيلة” وتحذر من ”الأخلاقية الدخيلة” على المجتمع الكويتي. وتدعو بصوت جماعي إلى ”الاعتزاز والتمسك والرجوع إلى مبادئنا وتراثنا الأصيل”.
وتقوم فكرة (ركاز) على القيام بحملات إعلامية تحمل كل حملة منها مجموعة من القيم ومجموعة من الأهداف الخاصة، إضافة إلى بعض الفعاليات المصاحبة.وركاز، كلمة تطلق على الذهب والفضة داخل الأرض، وعلى الشيء الثابت والراسخ في الأرض.وأخلاقنا وقيمنا الأصيلة – كما يقول أصحاب المشروع- نفيسة بنفاسة الذهب والفضة وراسخة على مر العصور والأزمان، فلذلك جاء ركاز لتعزيز الأخلاق. وركاز؛ كما يقول موقعه الإلكتروني مشروع اختار ألاّ يقصر برامجه على المساجد والجوامع فخرج إلى الناس في أنديتهم وأماكن تواجدهم ومقرّاتهم وديوانياتهم. تأسس ركاز في دولة الكويت الشقيقة ويقوده الشيخ محمد العوضي. وبدأ ينتشر في عدد من الدول كالمملكة العربية السعودية، دولة قطر، دولة الإمارات العربية المتحدة، المملكة الأردنية الهاشمية، الجمهورية اليمنية، وفي بلجيكا.
زرانيق راقبْها
في النصف الثاني من الثمانينات، أخذتنا الحماسة الدينية ونحن ما نزال طلاباً بالمرحلة الثانوية، لتشكيل جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك في قريتنا (الدير) القرية البحرية الزراعية الساكنة بالنخيل الوادعة بالبحر، إلا من حركة المراهقين والمراهقات الطبيعية وحركة أشرطة الفيديو التي بدأت تظهر بين أيديهم، كان هدف الجماعة مراقبة طرقات القرية خصوصا الزرانيق فيها، والزرانيق جمع زرنوق، وهو الممر الضيق الذي لا يتسع لأكثر من عاشقين يمران فيه على خَفَرٍ وهما يختلسان هوى يمر بينهما.
كنا مدفوعين في ذلك إلى حماية الأخلاق وصيانتها، والحقيقة أن الأخلاق لم تكن مهددة، لكن حماسنا الديني الذي غذّته فينا الدروس الدينية المكثفة الأخلاق، هي التي أرتنا أن أخلاق قريتنا العفيفة معرضة لغضب الله، لكن المفارقة ليست هنا، المفارقة أن الشباب المنخرطين في حملة (راقبْها)، إذ كان هدفنا مراقبة الزرانيق المشبوهة، خصوصا الزرانيق التي لم تصلها حركة الكهرباء بعد، فيشعلها المراهقون بكهربائهم الطبيعية، هؤلاء الشباب استجابوا لطبيعتهم العمرية ونسوا مركوزات دروسهم الدينية ومواعظهم الأخلاقية، فراحوا يمارسون بطولاتهم على طريقة ما هو مركوز فيهم من طبيعة لم تمسسها ثقافة التأثيم والتحريم بعد.
الأخلاق الفسيحة
ليس هناك عنوان عريض وواسع يمكنك من أن تعتمده غطاء لأي مشروع أو حملة أو فكرة أكثر من الأخلاق والعادات والقيم والدين، يكاد هذا العنوان يكون حصناً حصيناً يحميك من النقد والمساءلة والاعتراض، بل يمكنك عبره أن تقوم بعمل غير أخلاقي وتصفه بأنه أخلاقي ضد من يقفون ضد مشروعاتك التي تستخدم فيها هذا العنوان الفسيح. ويمكنك بهذا العنوان أن تملك شارعاً أو تراقب زرنوقاً أو تحتل (رمزياً) مجمعاً أو تحتكر منتجعا، يمكنك بهذا العنوان أن تبتكر لك ما تشاء ليلاحق خطابك مؤسسات الناس الداخلية كي تضمن وصوله إليهم، إن لم يصلوا هم إلى خطابك حيث المؤسسات التي لم تعد تتسع لك.
بل عبر هذا العنوان، يمكنك أن تستنفر أعلى سلطة تشريعية ورقابية في الدولة، لتجعلها تقف معك تحت مظلة العنوان نفسه، أياً كانت تفاصيله، كما هو الأمر مع رئيس مجلس الأمة الكويتي ”قال رئيس مجلس الأمة أن شباب الكويت يعتبرون مثالاً رائعاً في تجسيد الوحدة الوطنية والتحلي بالأخلاق الراقية والحميدة، وأن ما زرعه الآباء والأجداد من الأخلاق والقيم النبيلة هو ما تعهده الأمة من شباب الكويت الذين يسطرون أروع آيات النجاح في عملهم وأخلاقهم، مؤكداً أن العمل على إيجاد مشروعات توعوية قيمة كمشروع (ركاز) تدل على حرص الجميع على الحفاظ على أخلاق شبابنا وحثهم على أن يكونوا المثال الأروع في التحلي بالقيم والعادات الأصيلة المستمدة من الشريعة الإسلامية”(ii)
وكما هو الأمر مع النائب في مجلس الأمة الكويتي ”قال النائب وليد الطبطبائي إن المشروع القيمي الأخلاقي (ركاز) يقدم تصوراً وجهداً طيباً في حماية الشباب والعمل نحو توجيههم والاهتمام بالأخلاق والمبادئ الأصيلة التي تمثل أخلاق وعادات أهل الكويت مؤكداً أن بناء حالة من التفاعل ضد بعض الممارسات والسلوكيات اللاأخلاقية هو دور جيد وفاعل وتوعوي بتحذير شبابنا وإشعارهم بأهمية التمسك بالقيم والأخلاق الحميدة”(iii).
أخلاق المناقصات
أمام هذه السلطة التي تمثل أعلى القيم الأخلاقية في الدولة، لا يمكنك إلا أن تزايد بجمل أكثر بلاغة وأكثر تماهياً وتأييداً للمشروع، وإلا ستكون ضدّ الأخلاق وضد الدين وضد القيم وضد العادات وضدّ الله. كي تحمي نفسك وتبرئ ساحتك عليك أن تتقن أخلاق المزايدة، وليس أكثر من رجال السياسة إتقاناً لبلاغة المزايدات، على الخطابات التي تتحدث باسم الآباء والعادات والتقاليد والمجتمع. وشيئاً فشيئاً تتحول المزايدات إلى مناقصات تجارية، يجري التفاوض على من هو الأحق بها.
وأنا صدقاً لا أرغب أن أكون ضد الأخلاق، ولا أرغب في أن أكون مزايداً ولا مناقصاً. لذلك أرجو من يقرأ من الأخوة في (ركاز) نقدي لهم، أن يقرأوه على سبيل (المؤمن مرآة أخيه المؤمن) وأنا وإن كنت بمواصفات الركازيين لست مؤمناً، لكني بمواصفات غير الركازيين، لست كافراً ولا حاقداً ومبغضاً، أنا قارئ، أتوفر على قدرة في تفكيك خطابات الأخلاق، والتفكيك هنا لا يعني الهدم والنقض، بل يعني كشف ما يلتبس بخطابنا عن الأخلاق من قيم تنقض غايتنا الأخلاقية العليا وتعيق تواصلنا الاجتماعي والإنساني.
الأخلاق وخطاب الأخلاق
ومبرري في ذلك، أن خطابنا عن الأخلاق ليس هنا الأخلاق، كما أن خطابنا عن الدين ليس هو الدين، وهذا يعني أن خطاب (ركاز) عن الأخلاق، ليس هو الأخلاق، ولا يحق لركاز ولا لغيرها أن تحتكر ميدان الأخلاق وحدها أو أن تدعي أنها الممثل الحق له. وإذا كانت (ركاز) تقدم نفسها بصفتها صاحبة مهمة إنقاذ الأخلاق في مجتمعاتنا الخليجية من الانهيار والتهديدات الخارجية، فلا يحق لها، من ناحية أخلاقية، أن تعتبر المختلفين معها أو حتى الذين يقفون ضد حملاتها، من باب عدم الاقتناع، لا يحق لها أن تعتبرهم مناوئين للأخلاق أو للدين، فهم مختلفون مع خطابها فقط، كما هو الأمر بالنسبة لي.
ركاز الطريق الثالث
أقول ذلك وأنا أستحضر نبرة كتابات الإعلاميين وأصحاب الأعمدة في الصحافة البحرينية الذين وجدوا في إيقاف حملة (ركاز) في البحرين ما يتجاوز هذا الاختلاف، وحملوها شحنات غضب لا تتفق مع أخلاق التسامح. كما هو الأمر مع الزميل محمد المحميد الذي كتب في عموده اليومي طريق ثالث تحت عنوان (ركاز.. إيقافها عيب)، ”في الأمر مكيدة دبرت بليل، وهناك استجابة لضغوط من ذوي القلوب والنفوس المريضة، ممن لا يريدون تبديل سيئاتهم حسنات ولكنهم يصرون على زيادة سيئاتهم إلى سيئات..” (iv)
(الطريق الثالث) كما ظهرت فكرته لأول مرة العام 1936 على يد الكاتب السويدي ”arquis Child” هو طريق الوسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، فهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي(v). عادة ما تحول المفاهيم التي تنتج في حقل الاقتصاد والسوق إلى مفاهيم لها استثماراتها في حقل الفكر والثقافة والأيديولوجيا، وهذا ما حدث مع مفهوم الطريق الثالث.
صار (الطريق الثالث) يفتح التفكير على التعدد والاحتمال والاتساع، الطريق الثالث يفتحنا على أخلاق الاختلاف، وأخلاق الاختلاف تعد من الركازات التي تقوم عليها اليوم المجتمعات المتعددة الانتماءات، وهي تمنعنا من أن نصف المختلفين مع خطابنا بأوصاف النفوس المريضة الذين لا يريدون أن يبدلوا سيئاتهم حسنات. حين نتخذ من الطريق الثالث عنواناً لشِق كتابتنا، والكتابة بالمناسبة أصلها شق، فإن تكتب يعني أن تشق فكرة وطريقا (أو طرقا) واسعاً للآراء والأفكار، وهذا يلزمنا أخلاقياً بأن نتسع لمن لا يرون في خطابنا أو طريقنا عن الأخلاق ما يمثل رؤيتهم للأخلاق.
من حق الزميل المحميد أن يدافع عن الخطاب الذي يتفق معه، وأن يبذل ما في وسعه لنصرته مهما قل عدده، لكن من دون التعريض والغمز لمن هم على خلاف أو اختلاف معه، كما يفعل في طريقه الثالث الضيق ”فلسنا طوفة هبيطة.. وغيرنا مو أحسن منا.. وإذا كان الموضوع يحتاج إلى اعتصام أو صراخ حتى تتم الاستجابة والرضوخ وإعادة المشروع والتعهد بعدم مساسه والتطاول عليه مرة أخرى، فلن نعجز عن ذلك مهما قل عددنا..!!”.
و يبدو أن جمهور (بدلها) قد وجد في خطاب الطريق الواحد (وليس الطريق الثالث) ما يعبر حقيقة عن نبرته الأخلاقية، ولذلك راح يمتحي من القاموس نفسه: القلوب المريضة، والمعادة والشياطين والعصاة.
يعيد هذا الجمهور تمثيل خطاب (ركاز) الأخلاقي نفسه، فيقول ”هناك دائما قلوب مريضة يغيضها ان ينتشر الخير ويعود الناس إلى الأخلاق… انها سنة الله في خلقه ليعلم الصالح من الطالح، ليعلم الصادق من الكاذبrokz2.. إنها سنة قديمة، انظروا لقول قوم لوط، قال تعالى ”أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”.. إن من اتخذ القرار بإيقاف ركاز حتى لو لم يقلها بلسانه فقد قالها بقلبه.. اوقفوا ركاز إنهم يدعون للأخلاق.. ألهذه الدرجة تكون المعاداة للحملات الخيّرة والمباركة والتي تدعوا لتأصيل وترسيخ الثوابت والقيم الفاضلة، ماذا يريد هؤلاء المعارضين؟؟ أيريدون أن يبقى الغافلون والعصاة على غفلتهم وعصيانهم، أيكرهون صلاح العباد وعودتهم لرب العباد.. بشهر الخ ير الناس العاصية تتوب.. وتلتزم بالعبادات والطاعات حيث ان شياطين الجن مصفدة.. ولكن هناك شياطين من الأنس لم تصفد.. والخووووووف من هؤلاء!!” (vi)
إنها ليست أخلاق الطريق الثالث، هي أخلاق الطريق الواحد، وربما هي أخلاق طرف الطريق. وفي الطرف لا مكان لتوسط الأشياء، الطرف أقرب للسقوط، وحين تسقط الأشياء تغيب. هكذا تغيب أخلاق التوسط، ما هي هذه الأخلاق الساقطة من أجندة (ركاز) أو الغائبة عن خطابها؟ ولنتذكر أن المؤمن بما هو مرآة لأخيه المؤمن وحتى غير المؤمن، فهو ذاكرة أيضاً، لأنه يذكر أخاه المؤمن بما يغيب عنه وينساه.
أخلاق الطريق الثالث
الأخلاق الغائبة، هي أخلاق الطريق الثالث، الأخلاق التي تتوسط العالم وتناقضاته، هي الأخلاق التي لا تقسم العالم إلى خير وشر، ولا تقسم أعمال البشر إلى حسنات مطلقة وسيئات مطلقة، هي الأخلاق التي تضع سبعة ألوان بين الحسنة والسيئة، هي الأخلاق التي تخرجك من عالمك الواحد المغلق وتصلك بعالم متعدد، هي الأخلاق التي تجعلك تعيش العالم والدنيا وكأنك ستعيش فيها أبداً، لأنك بهذه الأخلاق ستعمر العالم لمن سيأتون بعدك ولمن هم يعيشون معك. لن تجد في خطاب أخلاق (ركاز) شيئاً من هذه الأخلاق، ولا شيئاً من ثقافتها، هم مشغولون بأخلاق الخلاص والنجاة الفردية، وهي أخلاق العباد والمكلفين، لا أخلاق الأحرار الذين يقيمون بحريتهم عالماً حراً ومتنوعاً.نحن نعاني فعلاً من أزمة أخلاق، لكنها أزمة الأخلاق الغائبة عن ركاز، لا الأخلاق الركازية. بل لا أبالغ حين أقول إن الأخلاق الركازية وإن بدت في بعضها محل اتفاق وقبول كاحترام الوالدين وزيارتهما، إلا أنها تلتبس دوماً بما يسيء لها، لأنها تأتي في صيغة مجموعة واحدة مغلقة، فأخلاق احترام الوالدين لا تأتي وحدها، بل تأتي مصحوبة بأخلاق أخرى وهي الأخلاق التي تُعلي من جانب من شأن الخلاص الفردي الخلاص من عذاب القبر ويوم القيامة، وتزيح من جانب آخر وفي الوقت نفسه أخلاق الطريق الثالث، هكذا تصبح قيمة احترام الوالدين إبرة ضائعة وسط كومة قش.
أخلاق الخلاص كما تجسدها (ركاز) تكاد تكون محصورةً في الموضوعات المتعلقة بالنهي عن الذنوب واقتراف السيئات والأمر بالطاعات وإيتاء ما يوجب الحسنات، والحسنات والسيئات تبدو في خلفية (ركاز) مفاهيم قاطعة وحادة وغير قابلة لفهم متباين أو تأويل متعدد.
ثقافة بدلها
الثقافة في إحدى مفاهيمها مجموعة من الأوامر والنواهي التي عبرها يتم تشكيل الإنسان وصياغته، بهذا المفهوم يمكننا أن نقرأ حملة (ركاز) الأخلاقية، بما هي حملة ثقافية تتجاوز مسألة حث الشباب على تبديل سيئاتهم حسنات، لتكون تبديلاً لمفاهيمهم للحياة وتجسداتها المتعددة في سلوك الناس والمجتمعات.بهذا تكون حملة (بدلها) تعني بدل ثقافتك التي ترى من خلالها العالم والإنسان، أن تكون ركازياً، يعني أن تكون خَلاصياً، ترى عالمك من خلال أخلاق الخلاص، وهي أخلاق ترى العالم خيراً مطلقا أو شراً مطلقا، وعلينا أن نعبره سريعاً كي نَخلص إلى الجنة، وإلا فالنار تنتظرنا.
دعاة «نيو لوك»
أن يخرج الدعاة بأخلاق خلاصهم إلى الفضاء العام المشترك حيث المواطنون (وليس المؤمنون على مذهب جماعة ما) بمختلف توجهاتهم، مسألة لا يمكن فهمهما في سياق التحول إلى العمل العلني بدلا من العمل السري أو العمل داخل الأقبية والغرف المظلمة أو العمل عبر المؤسسات المدنية بدل المؤسسات الدينية، كما يشير إلى ذلك الزميل جمال زويد في عموده راصد ”بعض القوم يطالبون الإسلاميين بالانفتاح وعدم الانغلاق، ويطالبونهم بعدم قصر خطابهم على المساجد ودور العبادة، ويطالبونهم بالتركيز على الأخلاق والفضائل والابتعاد عن السياسة، ويطالبونهم بالكلام وتوجيه الشباب تحت الأضواء الساطعة وفي الأماكن العامة وليس في الأروقة المظلمة وفي الدهاليز القاتمة. ويطالبونهم ويطالبونهم ولكن الوقائع تكشف أن المطلوب هو شيء آخر غير مذكور”(vii).
الخروج إلى الفضاء العام، يحتاج إلى تحول في الخطاب أو خروج على بعض مسلماته وبدهياته، أي يحتاج إلى تحول في مفاهيمنا للأخلاق والعالم والإنسان، لتكون ضمن شروط هذا الفضاء، وهذه الشروط هي نفسها أخلاق الطريق الثالث أو مقتضياته. فهل الشيخ محمد العوضي مثلا يتوفر على خطاب جديد ومغاير لخطابه الثمانيني أو التسعيني مثلا؟ وأنا هنا لا أحصر المغايرة في الموقف من السلطة السياسية وطريقة التعامل معها، فتلك مسألة تخضع لحسابات المراوغة السياسية، أكثر مما تخضع لقناعات التحول الفكري.هل منطلقات خطاب (ركاز) في مجمع الدانة، تختلف عن منطلقاتها في المساجد؟ وأنا هنا لا أعني الاختلاف الشكلي الذي هو أقرب إلى ما يعرف اليوم بالنيو لوك (New look). أن نخرج إلى المجمعات بنيو لوك، لا نيو أخلاق، فهذا يعني أننا نستخدم الفضاء العام لصالحنا الخاص، لا للصالح العام والصالح العام هو ما يفتح الناس على بعضهم انفتاحا يفضي بهم إلى قبول اختلافهم والدفاع عن آرائهم بحجج كلامية.
حملة (ركاز) هي حملة دعاة بنيو لوك لا بنيو أخلاق، وهنا لا أعني أن أخلاق الصدق يمكن أن تتحول إلى تمجيد إلى أخلاق الكذب، لكن أعني أن أخلاق تمجيد رفض خروج المرأة للفضاء العام، يمكن أن تتحول إلى أخلاق تمجيد تؤكد أهمية خrokzروجها ومشاركتها. وأن مصفوفة أخلاق الخلاص التي تركز على يوم القيامة وعذاب القبر يمكن أن تتحول إلى أخلاق الخلاص من أمراض التعصب ورفض الآخر وقبول التعدد، وهكذا نكون بنيو أخلاق. ويبدو أن هذا الفرق  لم يلحظه أيضا بيان الاستنكار الذي أصده الأمين العام لجمعية المنبر الوطني الإسلامي ورئيس كتلتها النيابية عبداللطيف الشيخ، إذ يقول ”في الوقت الذي يطالب أصحاب الاتجاهات الأخرى من المتربصين بالإسلاميين بانفتاحهم على الآخرين وعدم قصر الخطب والمحاضرات على دور العبادة ويطالبونهم بالابتعاد عن السياسة والتركيز على الأخلاق والفضائل وتوجيه الشباب في العلن يأت هذا المنع والإيقاف غير المبرر لحملة من شأنها أن تسهم في بناء المجتمع وترسيخ قواعده على أساس إسلامي عصري وهي ليس لها أدنى علاقة بالسياسة”(viii).
وأخيراً، إذا كان ليفي بريل Lévy Bruhl يذهب في تحديد الأخلاق بمطابقة السُّلوك للواجب، فإن الواجب هذا مرجعيته اليوم لا أخلاق الخلاص حيث الجماعات المغلقة على زمنها ومذهبها ومقدساتها، بل أخلاق المجتمع المفتوح المتعدد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=80624

الهــــوامـــش
i انظر موقع (ركازhttp://www.rekaaz.com/
ii انظر التصريح في (قالوا في ركاز) في موقع (ركاز(
iii انظر التصريح في (قالوا في ركاز) في موقع (ركاز(
iv جريدة أخبار الخليج، 4 أكتوبر,2007 عمود الطريق الثالث،
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp?Article=205405&Sn=RYTH&IssueID=10785
v انظر: غادة موسى، الطريق الثالث.. تحولات الليبرالية أم أمل الاشتراكية؟
http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/2001/02/article2.shtml
vi انظر تعليقات الجمهور في موقع ركاز.
vii جريدة أخبار الخليج، 4 أكتوبر,2007 عمود راصد،
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp?Article=205408&Sn=RASD&IssueID=10786
viii انظر: بيان جمعية المنبر الوطني الإسلامي، في جريدة أخبار الخليج
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_Articles.asp?Article=205433&Sn=BNEW&IssueID=1078668701=DIeu

الليبرالي النبي

   من هو الكاتب الليبرالي الجديد؟

هذا هو السؤال الذي طرحه شاكر النابلسي في 6أغسطس، في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، وبقدر ما كان جواب النابلسي يحيل إلى المفهوم، سأحيل أنا إلى الخطاب الذي يعرف من خلاله النshaker_alnabulsiابلسي مفهوم "الكاتب الليبرالي الجديد"، فالخطاب هو أرض المفهوم، وهذه الأرض هي التي تعطي للمفهوم معناه ونكهته وقوامه.

وبقدر ما كان خطا ب النابلسي في ظاهره غير معني في تعريفه "للكاتب الليبرالي الجديد" بموقفه السياسي، سأكون أنا أيضاً غير معني في قراءتي لخطابهم بموقف الكتاب الليبراليين الجدد الذين يتحدث باسمهم النابلسي، هل هم "متصهينون أشد من الصهاينة أنفسهم لا صلة لهم بمبادئ الليبرالية ولا بمُثل الحرية"؟ كما يذهب إلى ذلك أحمد دينين. هل هم هؤلاء المتحرقون ل “نعيم” الحرية الأمريكي المحمول على آلة الموت الصهيونية؟  كما يذهب إلى ذلك دكتور حسن مدن.هل هم أقرب للمحافظين الأمريكيين الجدد؟ كما يراهم مثقفون ليبراليون عرب في بيانهم "صرخة ضد التبسيط"

إذن، لست معنياً هنا بالموقف، قدر عنايتي بالخطاب الذي يصدر عنه شاكر النابلسي في تعريفه "الكاتب الليبرالي الجديد".

صرخة ضد التبسيط

في يونيو2005 أصدر مجموعة من المثقفين الليبراليين العرب بياناً عنوانه " ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط" ومن الأسماء التي وقعت على البيان: حازم صاغية، تركي الحمد، محمد الحداد، رشيد الخيون، ودلال البزري،  سيار الجميل… إلخ.

مما جاء في البيان "ما نحاوله نحن الموقّعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا… نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض… إن الديمقراطية تتويج لمسار وليست أول المسار، كما يشيع من يسمّون أنفسهم "ليبراليين جدداً" وهم أقرب إلى أن يكونوا "محافظين جدداً".

يبدو أن البيان لم يكتب له الرواج، على الرغم من ألمعية الأسماء التي وقعتها ورزانة الخطاب الذي صدرت عنه. ويبدو أكثر أن صرخته لم تصل لليبراليين العرب الجدد، كي يعيدوا النظر في بيانهم الركيك حد التبسيط الذي أصدره النابلسي في يوينو2004 تحت عنوان "من هم الليبراليون العرب الجدد، وما هو خطابهم؟". فلو كانت الصرخة قد وصلت في شكل مراجعة نقدية لما أصدر النابلسي بيانه "من هو الكاتب الليبرالي؟" في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، عل الأرضية البسيطة ذاتها من دون أن يكلف نفسه عناء حفرها أو تقليبها أو تخصيبها. فهل هو أصمّ أم أرضه صماء؟!

تبسيط الحقيقة

ما يفعله خطاب الليبراليين هو بالضبط ما وصفه البيان بحصافة، تبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا، وهو تبسيط يتم باسم الديمقراطية والليبرالية. كما يتم من جهات أصولية أخرى بأسماء تبسيطية أخرى. وهذا التبسيط هو ما يجعل من مأزق هذا الخطاب، هو نفسه مأزق الجهات الأصولية الأخرى. لنر كيف يقدم خطاب الليبراليين الجدد نفسه؟ وكيف يتمثل بهذا التقديم العناوين الأهم في حياتنا؟

ما يتعلق بعلاقته بالحقيقية، فهو يقدم نفسه "كاتب الحقيقة.. يسعى إلى كشف الحقيقة المُرَّة علاقات الكاتب الليبرالي مع الحقيقة فقط، ومن أجل الحقيقة فقط وليضرب الآخرون رؤوسهم في الحيط. فلا نزلَ القَطرُ.. يهمه قارئ الغد، الذي هو وحده سيكتشف الحقيقة"

هل يدير الأصولي علاقته بالحقيقة بغير هذا الخطاب؟ فدينه دين الحقيقة، ونبيه أو إمامه أو زعيمه أو فقيهه يموت دون الحقيقة المرة، وليس يهمه غير الحق، وطريقه طريق الحق مهمها قل سالكوه. وليست تهمه الدنيا، بل الغد حيث الجنة.

كيف يمكن للخطاب أن يكون ليبرالياً وجديدا وهو يدير علاقته بالحقيقة المعرفة بأل التعريف التي هي أل الإطلاق؟ لا يمكن ذلك إلا بتبسيط العناوين الأهم في حياتنا، وهل هناك أهم من الحقيقة؟!

ما دامت هي معرفة بـ(أل) فهي جاهزة وكاملة وعلينا فقط أن نعثر عليها، "عند العرب أو العجم، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه…." أو في البيت الأبيض!! والأرجح أن تكون هناك، وبقية الخيارات كلها وهمية أو خاطئة.

الحقيقة في هذا الخطاب ليست صيرورة تشكلها تجارب الأمم بإخفاقاتها ونجاحاتها بعلوها وهبوطها بتضادها وتكاملها باحترابها وسلمها بتقدمها وتأخرها بتدافعها الدائم.الحقيقة في هذا الخطاب تذهب لها في بيت أبيض فتعثر عليها نقية صافية مكتملة. الحقيقة في هذا الخطاب ليست مساراً يحتاج إلى حمل طويل ومخاض ذاتي عسير، الحقيقة موجودة وجاهزة وتحتاج فقط إلى قبول، ولو بولادة قيصرية، ورحم الله سقراط وأمه، فقد كانا يولدنا الناس ولادة طبيعية بالتدافع الذاتي، ولم يلجآ في أي يوم إلى استعمال أجهزة ذكية!!

وتبلغ هذه الحقيقة حدا من الأصولية الأحادية أن تضعك بين اثنين، إما أن تكون كاتبا ليبراليا وجديدا أو أن تكون من القوم "النائمين الساهميين المخدرين بحشيش الشعارت". هذه الحدية تجد تفسيرها في خطاب الحقيقة الذي هو خطاب (أل) التعريف الذي يدير الحقيقة بعقلية الأصولي.

 النبي الجديد

يبدو الكاتب الليبرالي صاحب الحقيقة المرة، وهذه إحدى مقتضيات أصوليته وشواهدها، في إدارة للحقيقة والنظر إليها، نبياً صاحب دعوة جديدة وقبلة للحقيقة جديدة، لكنها لا تتجه هذه المرة للشرق، بل تتجه للغرب في أقصاه، هناك حيث الكعبة بيضاء.

يبthumbدو نبياً يكشف وحده الحقيقة المكتملة " حتى ولو رجموه بالحجارة، وبصقوا عليه، وشتموه، ورموه بأقذع الصفات السوقية" الحقيقة التي" تقضُّ المضاجع، وتنبشُ المواجع"، ومن يحمل رسالة الحقيقة النبوية لا يمكن أن يكون لسان حاله غير لسان اللاهج بالثبات "سنبقى غير مترددين، ولا تائبين، ولا متراجعين، ولا خائفين". إذا كان هو هكذا، فهل يحق أخلاقياً لخطابه الذي يقوم على هذه الروح الرسولية والأصولية حد المقاومة والصمود أن ينكر على خصومه أن يكونوا بالروح نفسها؟!! وهل هو بهذه الروح خطاب ليبرالي جديد أم هو خطاب محافظ جديد؟

النبي الجديد ليست لديه مشكلة مع رسالته، فهي تحمل الحقيقة كاملة وجاهزة وبسيطة ولا تنتظر سوى الدعوة والإبلاغ. مشكلته تبدأ لحظة احتكاكه بالجمهور، على عكس المفكر الذي تبقى مشكلته دوماً مع خطابه ومعيقاته الداخلية وسيروراته الذاتية في تشييد حقائقه غير المنتهية. هو يتحدى الإكراهات التي تحول دون نمو فكرته، هو يتحدى ذاته بالدرجة الأولى.

تبدو مشكلة خطاب شاكر النابلسي مشكلة نبوية، فالآخر الذي يشغله في خطابه والآخر الذي يتحداه هو الجمهور غير المؤمن بحقيقته التي عثر عليها في البيت الأبيض، يخترق هذا الآخر كل جملة من خطابه "ليس راعياً لقطعان الأغنام والأنعام، لا يطمع بتصفيق الجمهور، ولا بباقات ورودهم، ولا بقبلاتهم".

بقدر ما هو ينفي من جانب انشغاله بهذا الآخر، يؤكد من جانب آخر فرط حضور هذا الجمهور وفرط انشغاله به، وهذا ما يؤكده استداركه "ولكن غاية مُناه أن تصل رسالته إليهم، وتفعل فعلها فيهم. تحرق خشبهم القديم المسوّس، وتذري في الهواء قشهم العتيق، وتنفض من رؤوسهم بيوت العنكبوت، وتخرجهم من الكهوف المظلمة الباردة" إنها بهذه الغايات البعيدة، رسالة نبوية بامتياز.

ويؤكد هذا الحضور النبوي، إننا لا نعثر على أثر لمن يختلف معه من الليبراليين الذين هم ضد التبسيط، في حين أن خطاب المفكر يكون مشغولا دوما بأنداده المختلفين معه أو القريبين منه أو الذين يشاركونه في جزء من أرضيته المعرفية. فهو يدير معهم حوارا واختلافا وجدلا، وبهذا الشكل تنمو حقائقه، لكن يبدو أن ليس لدى النابلسي غير حقيقة واحدة وهي مكتملة وجاهزة ومكانها معروف. ولا وقت لديه يضيعه مع أنداد يشككونه في رسالته النبوية، لذلك من الأفضل أن ينشغل بظلاماته من الجمهور، فهي دليل الأنبياء على صدق ما يدعون.

اللغة البسيطة

ويبلغ الكاتب الليبرالي منتهى تبسيطاته ومنتهى أصوليته ومنتهى أحاديته ومنتهى سذاجته ضد العنوان الأهم في حياتنا، حين يصادر على اللغة حقها في النظر إلى العالم بحقائق متعددة. ويصادر عليها حقها في سياسة حقائقها ويصادر عليها حقها في تصيير حقائقها. ويصادر على حقيقة أن اللغة حين تصوغ الحقيقة عند "العرب أو العجم ، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه" تسميها بعدد أسماء الله وتسوسها بعدد أنفاس خلائقه وتواريها وتداريها وتجاريها وتراوغها وتعمهمما وتضيقها. هكذا تشتغل اللغة في بناء عوالم الحقيقة غير المنتهية.

في قبال حقيقة عمل اللغة التي تتوسط بيننا وبين حقائق عوالم الكائنات والأشياء، يزعم خطاب النابلسي إن علاقته بالحقيقة بدون وسيط، كعلاقة الأصولي بالله بدون وسيط وباسم هذه العلاقة المباشرة يحضر الله أو تحضر الحقيقة في كل الأشياء التي يمتلكها هذا الأصولي أو الليبرالي الجديد في أصوليته.

هكذا ينفي الكاتب الليبرالي عن خطابه وعن نفسه آثم اللغة ومستخدميها وآثم حقيقتها في صياغة العالم "الكاتب الليبرالي ليس سياسياً في كلامه وفي أقواله، يداري ويجاري ويواري. يزوغ من الحقيقة كما يزوغ السياسيون، ويراوغ كما يراوغ السياسيون، ويعممون الكلام، ويطلونه بطبقة من العسل السام. السياسيون يقولون عن الأعور، إنه يبصر بعين واحدة، أما الكاتب الليبرالي فيقول للأعور: أعور"

لو

هكذا تكتمل النبوة الجديدة، بالقدرة على تصيير اللغة تصييرا يجعلها تتطابق تماما والحقيقة، تقول عن الأعور أعور، من دون مواربة ولا مخاتلة ولا زيادة ولا نقص ولا حجب ولا ستر ولا مراوغة. لغة الكاتب الليبرالي لغة الحقيقة!!

وبالتعويل على هذه اللغة التي تقول للأعور أعور، ولا تترك مجالا لبناء حقيقة أخرى له، بهذه اللغة يمكننا أن نحل مشكلة الإنسان. ومشكلة الشرق الأوسط الجديد.وبغير هذه اللغة سنبني عوالم مختلفة للشرق الأوسط وهذا سيؤدي إلى الفوضى غير الخلاقة.

ولغة الحقيقة تماما كلغة الأنبياء لا يمكنها أن تستجيب للسلطة أو القوة التي تريد أن تفرض على اللغة معانيها للأشياء.لكن ما يتناساه الليبراليون الجدد هو أن قدرتهم على تسمية الأعور أعور قد خذلتهم في تسمية ما يجري الآن بعينين سليمتين، وهذا ما تفطن له نصر حامد أبوزيد في مقالته (العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء) حين خاطبهم "يؤسفني أيها العقلانيون الليبراليون الذين ينظرون بعين واحدة، فيتمتعون بحاسة نقدية مفرطة تجاه الأنا، وعمي كامل تجاه الآخر، أن أعلن تبرؤي منكم ومن مواقفكم"

من هو علي شريعتي ؟

565064179_08f91242c9

*مفكر إيراني ولد 1933

*أرسل في بعثة إلى فرنسا عام 1959م ودرس الأديان وعلم اجتماع الأدب .

*حصل على شهادتين للدكتوراه في تاريخ الإسلام و علم الاجتماع .

· كان نشطا سياسيا ضد نظام الشاه .

· قتل في لندن عام 1977م .

· من مؤلفاته المنقولة إلى العربية :

– العودة إلى الذات .

– الإنسان والإسلام .

– النباهة و الاستحمار.

خــرائط كـــتب المســـيري

elmessiri01

تعرفت على خارطة المسيري الفكرية، مع مطلع العام ,2001 كنت حينها قد انقطعت مدة تزيد على السنوات الخمس عن قراءة الكتب والمجلات التي تصدر عن نفس إسلامي أيديولوجي، لأسباب لي س أقلها أنها ما عادت تستطيع أن تقول شيئاً جديداً، وليس أكثرها أني كنت أبحث عن أفق جديد، في فهم ذاتي وعالمي، لكن في العام 2001 زرت (قم المقدسة) وهناك تعرفت على مشروع عبدالجبار الرفاعي، عبر مجلته «قضايا إسلامية معاصرة»، بدأت أكتشف أن هناك نفساً جديداً، يمثله علم الكلام الجديد.
مشروع الرفاعي كان معنياً بتقديم علم الكلام الجديد الإيراني خصوصا ضمن عنايته بتقديم خطاب ديني معرفي جديد، فيه المعرفة تروض الأيديولوجي، تعرفت في هذا السياق على عبدالكريم سرو ش، محمد مجتهد شبستري، ملكيان، وغيرهم، كان أفقهم مغايراً تماماً ومنصهراً تماما مع الأفق الذي أقرأ فيه، تحضر في هذا الأفق النظريات الحديثة والمفاهيم الجديدة والأعلام الذين صاروا يمثلون المشهد الفلسفي الحديث. كأني اكتشفت قراءة جدية وجديدة للتراث الديني.
في هذا السياق حضر عبدالوهاب المسيري كواحد من كتاب مجلة قضايا إسلامية معاصرة، لكني لم أكن قد قرأت له في هذه المجلة بعد، لكن المجلة قادتني إلى أن أتعرف على مجلة (إسلامية المعرفة) التي تصدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في أميركا، هناك قرأت للمسيري، دراسة لا تنتمي أبداً إلى نفس الكتابات الإسلامية الأيديولوجية التي لا أخطئ شمّ رائحتها ولو على بعد سبعة فراسخ.
قرأتُ للمسيري، فشدني حديثه عن النماذج المعرفية، وكيفية بنائها، وأهميتها في قراءة الوقائع. هنا استحضرت خارطة قراءتي النقدية مفاهيم قريبة من هذا الحقل، كالنماذج الإرشادية والأنظمة المعرفية والابستمية والعقل المكوِّن والعقل المكوَّن، وجدت في خطاب المسيري اكتشافاً جديداً يستحق الاحتفاء، فرحت أقرأه بفرحة المكتشف. هكذا كانت خارطة الطريق إلى المسيري.
النموذج أداة تحليل
كان مفتاح دخولي إلى خارطة المسيري، هو اعتماده النماذج التفسيرية بوصفها أدوات تحليل، وليس المنافحات الأيديولوجية، ولا التراكمات المعلوماتية، وكم فرحت حين قرأت في سيرته غير الذاتية غير الموضوعية (رحلتي الفكرية.. البذور والجذور والثمار)، عن تذمره الشديد من التلقي المعلوماتي له، فهو يقول بألم ‘’للأسف الشديد قام كثير من النقاد ولعهد طويل بحصري داخل إطار المعلومات الضيق والمستوى التحليلي السياسي.. هناك البعض ممن ينظرون إلى دراساتي من هذا المنظور فلا يجدون فيها معلومات صلبة كافية، ولا الجداول التي يتوقون لها، ولا الإحصاءات التي تشفي غليلهم المعلوماتي ومن ثم فهم يرون أعمالي لا قيمة لها’’.[1]
لقد أٌهمل البعد الفلسفي المعرفي الذي يقف خلف الكم المعلوماتي الذي يديره المسيري ببراعة، لكنها براعة ليست منبعها الكم بل الكيف الذي يكمن سره في قدرته على بناء نماذج تفسير، وهي نماذج غير مغلقة، بل مفتوحة، والدليل على انفتاحها أن المسيري لا يمل من أن يذكرنا أن النموذج يحمل قدرة تفسيرية لكنه لا يحمل كل القدرة، أي أن النماذج تتفاوت في قدرتها على تفسير الوقائع والمعلومات، فهي توصف بأنها أكثر تفسيرية وأقل تفسيرية، ولا توصف بالصحة والخطأ، وهي قابلة دوماً للتعديل والتطوير، لذلك لم يكن يجد حرجاً في أن يروي لنا كيف تطورت نماذجه التفسيرية منذ السبعينات وحتى التسعينات، عبر المراجعة والاختبار.
معارك النماذج
كانت معاركه طيلة سيرته معارك سببها إيمانه بفكرة النماذج والتفسيرية والخرائط الإدراكية ودفاعه عنها، معاركه مع النقاد الذي لا يعطون قيمة لغير المعلومة، ومع زملائه الأكاديميين في الجامعات الذين يراكمون معارف تاريخية عن الشعراء وظروفهم وعصرهم وأسماء قصائدهم، ويبنون أحكاماً سطحية لا تستطيع أن تنفذ إلى عمق ما يراكمون.
ولعل من المفارقات التي تحسب للمسيري هنا، هي المفارقة بين إيمانه بالنماذج التفسيرية، والكم الكبير من التفاصيل التي مسيرييرويها في كتبه وسيرته، حتى تظن أن لديه مركز معلومات وطاقم سكرتيرات يدرن سجلاته الشخصية والأرشيفية، تجده يتحدث عن تفاصيل سيرة أطروحته للدكتوراه وكتابتها ومحتويات فصولها وحكاية الأساتذة الذين تولوا قراءتها وصدامته المعرفية والشخصية معهم وما حدث يوم مناقشتها، وتجد حكايته مع مرضه وتفاصيل زيارته للأطباء وأسمائهم وخلفياتهم وطريقة إدارتهم للمرض ورؤيته للموت وتطورها، وحكاية قسم الدراسات العليا بالجامعات السعودية وصراعه مع أساتذة كم المعلومات. وحديث عن مدينته دمنهور وتاريخها وحكايات ناسها.
ما الذي يجمع هذه الحكايات؟
يجمعها النموذج التفسيري والخريطة الإدراكية، تأتي هذه التفاصيل والحكايات في سياق نموذج يفسر من خلاله المسيري ببراعة ما يحدث ويقع. لن تجد حكاية من غير سند يشدها، ولا تفصيلة من غير سياق يُكمل معناها. وسند الحكايات وسياق المعنى تجده في النماذج التفسيرية، والخرائط الإدراكية التي هي ‘’المقولات والصور الإدراكية التي يدرك من خلالها الإنسان نفسه وواقعه ومن حوله من بشر ومجتمعات وأشياء. وهذه المقولات والصور تشكل خريطة يحملها الإنسان في عقله ويتصور أن عناصرها وعلاقات هذه العناصر بعضها ببعض تشكل عناصر الواقع وعناصره’’.
إن التفاصيل الخاصة الصغيرة التي يجيد المسيري عبرها كشف خرائطنا الإدراكية، هي ما يعطي لكتاباته ألفة وسلاسة وبياناً بالغ البلاغة من غير تكلف ولا زخرفة. والدرس الذي يعيطك إياه المسيري في سيرته منذ الصفحات الأولى هو: انطلق من الخاص إلى العام. من تجربتك، من حكايتك، من سيرتك، من قريتك ومدينتك وحضارتك وثقافتك.
الموقف والرؤية
الفرق بين الكاتب والمفكر، يكمن في الفرق بين الرؤية والموقف، يصير الكاتب مفكراً متى كانت مهمته إنتاج رؤى، ويظل كاتباً فقط متى انحصرت وظيفته في بناء مواقف. وهذا الفرق الذي قد يبدو بسيطاً أجده عسيراً وشاقا، وكثيراً ما تجد أنك تصنف بمجرد أن تبدي أنك مهتم بكتب مؤلف ما. حتى إني صرت أتحاشى أن أبدي اهتماماتي القرائية لهذا السبب، فعلى سبيل المثال، إعجابي بكتب الفيلسوف المغاربي طه عبدالرحمن، لم يكن إعجاباً بمواقفه تجاه الغرب وتجاه الحداثة وتجاه ما بعد الحداثة، ولا تطابقاً معها، بقدر ما هو إعجاب بمفاهيمه المبتكرة في قراءة التراث الفلسفي، كمفهوم فقه الفلسفة ومفهوم التأثيل، أي إعجاب بهذه المفاهيم بما هي مفاتيح للرؤية والفهم والتحليل.
كذلك إعجابي بالمسيري، ليس نابعاً بمواقفه تجاه ما بعد الحداثة والغرب والصهيونية ونظام الحكم المصري. وإنما إعجاب بمفاهيمه التي ابتكرها في قراءة خطاب الحضارة الغربية، كمفهوم التحيز، الخرائط الإدراكية، النماذج التفسيرية، العلمانية الشاملة، الجزئية، والكمونية والحلولية.
من الصعب أن توضح هذه الفروقات التي تكشف من خلالها سر إعجابك وقراءتك للمسيري أو طه عبدالرحمن، ليس صعباً أن توضحها لقارئ عادي فقط بل هي أشد صعوبة مع مثقف يكتب ولديه مواقف مختلفة معهما. مع ذلك أجد في هذا التفريق ما يجعلني على مسافة من الانحياز لهما انحيازاً يغلقني عليهما، كما يجعلني أدرك أيضاً أن مفاهيمهما ونماذجهم التحليلية ليست منفكة تماماً من مواقفهما.
الناقد الثقافي
لعل ما عزز من حضور المسيري في خارطتي الإدراكية، أو ما جعلني أجد في خطابه ما يمكن أن يعزز من قدرة خارطتي على القراءة والتفسير والإدراك والرؤية، هو تكوينه النقدي الأدبي، الذي هو تكوين تخصصي الأساسي، فهو قد طوّع هذا التكوين واستثمره في بناء نماذجه التفسيرية.
يقول المسيري في سيرته ‘’كيف يمكن لمتخصص مثلي في الشعر والنقد الرومانتيكي أن يتحول إلى متخصص في الصهيونية، ويترك تخصصه الأصلي تقريباً؟ وفي محاولتي الإجابة عن هذه التساؤلات أزعم أن الدراسات الأدبية عمقت من فهمي للصهيونية، وأنني استفدت من مناهج التحليل الأدبي في محاولتي تفكيك وإعادة تركيب الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية. كما أزعم أن ثمة وحدة فكرية تجمع بين جانبي حياتي الفكرية. فالدراسة الأدبية هي في نهاية الأمر تدريب على قراءة النصوص قراءة نقدية لتحديد ما هو هامشي عرضي في نص ما، وما هو مركزي جوهري. وهذه مهارة أساسية مطلوبة للتعامل مع كل من النصوص والظواهر الأدبية وغير الأدبية. وكثير من النصوص الصهيونية قد يكون بسيطاً، ولكنها نصوص ماكرة مراوغة تحاول أن تخبئ أطروحتها الأساسية’’.[2]
لم يستخدم المسيري، أبدا مصطلح النقد الثقافي، ولم يُنظّر له، لكنه في جوهر تحليله للنصوص الأدبية الغربية والأساطير والأغاني والروايات والشعر الصهيوني، كان يبحث عما هو مراوغ فيها خلف ما هو جمالي. وهذا العمل على النصوص الأدبية بهذا المنظور، عزّز في خارطتي القرائية ما فتحه النقد الثقافي. وربما يكون شغل المسيري على المجاز بمنظور مختلف تماماً عن منظور البلاغة التقليدية، هو الأكثر لفتاً بالنسبة لي، حينها عرفت أن المجاز ليس تبسيطا للواقع بل تركيباً له وتعقيداً.
وتحليل الصور المجازية هو أحد الخبرات الأدبية المهمة التي تمرس فيها المسيري من خلال تخصصه النقدي، وقد استخدمها بكثرة في دراسته للصهيونية، كما يقول ‘’فالصورة المجازية ليست مجرد زخرفة تضاف، وإنما هي مقولة إدراكية متخفية في شكل صورة. وقد درست وظيفية الدولة الصهيونية من خلال مجموعة من الصور المجازية التي استخدمها الصهاينة وأعدائهم في وصف الدولة الصهيونية. فكثير من الصهاينة ينظرون إلى إسرائيل وهم يَعدونها ‘’رقعة’’ أو ‘’مساحة’’ أو ‘’مكاناً تابعاً’’ أو ‘’بلداً’’ تحت الوصاية هكذا صار المسيري، بالنسبة لي، جزءاً من خارطتي التي أقرأ بها وأفسر بها، وأحياناً ربما أقف بها حين تهتز الجغرافيا الثقافية، وكانت في حرب يوليو/ تموز 2006 ملجئي في الرؤية والموقف.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=64428
الهوامش
[1]، [2]، [3] المسيري، رحلتي الفكرية.. البذور والجذور والثمار، ص .560 ,556 ,579