يُحضِر المأتم (الحسينية) جزءاً من السيرة، سيرة المخيلة أحياناً وسيرة العقل أحياناً أخرى، أو يحضرهما معاً، حسينية بيت قاسم حداد مثلاً، قد شكلت بحضورها جزءاً خصباً من مخيلة قاسم، وهو ما فتئ يذكّرنا دوماً في روايته لسيرته الإبداعية بهذا الحضور، لكنه ليس الحضور الذي يغلق المخيلة عليه، فمخيلة المبدع لا ترتهن إلى مكون واحد، فهي حيث التعددية والنشاط والحرية والذهاب إلى المستقبل وإعادة الخلق، أي خلق ما يحضر فيها. مخيلة قاسم يتحدث قاسم حداد عن هذا الحضور في أحد حواراته ‘’ثمة خصوصية صاغت لي عالما سحريا سببه النشأة في بيئة شيعية، ففي العائلة الشيعية عادة ما تنعقد طقوس وتقاليد الحسينيات في معظم شهور السنة بالإضافة إلى شهري محرم وصفر. في دارنا كان الأمر أكثر خصوصية، فقد كان في الدار مأتم للنساء تنعقد فيه القراءة، ومنذ طفولتي نشأت على معايشة هذه الأجواء والتشرب بتفاصيلها اليومية.أعتقد أن نشوئي في هذا الجوّ الذي يعتمد على البكائيات والعزائيات ولّد لديّ حسّ الإيقاع مبكراً وصقله. كان كل شيء حزيناً في تلك الطقوس. لم أكن أدرك تماماً مفهوم الحزن ولكنني أعيشه. لقد كان كل شيء في تلك الطقوس يرتبط بالإيقاع. ربما يكون لسماعي ومعايشتي هذه الطقوس باستمرار، والمشاركة في مواكب العزاء، بهذه الطريقة الإيقاعية قد أثرا لاحقاً في الإحساس المبكر بالوزن والبحور’’[1]. إن هذه المخيلة الكربلائية لم تسعف قاسم فقط في الإحساس بالإيقاع الذي هو أحد شروط الشعر، إذا ما فهمنا الإيقاع بمعناه المفتوح كما هو عند قاسم، بل أسعفته أيضاً في إعادة خلق اسمه، وهو الشرط الثاني في الإبداع، يعيد المبدع عادة خلق العالم، وجزء من هذا الخلق هو خلق اسم جديد له أو لقب جديد مشتق مما يخلقه من إبداعات، وبهذه القدرة يملك المبدع القدرة على تحويل العالم وتحويل ذاته، يتحدث قاسم عن مخيلته الكربلائية التي أعاد من خلالها تحويل اسمه من جاسم إلى قاسم، على النحو التالي: ‘’… لكوني، من جهة أخرى، مرتبطاً، في اللاوعي، باسم ‘’القاسم بن الحسن’’ أحد الشباب الذين قاتلوا مع الحسين في كربلاء، والذي استشهد يوم عرسه كما تقول الحكاية. وكنت في الخامسة من عمري عندما اختاروني لأقوم بدور القاسم، في حسينية النساء في البيت، في زفّـتـه قبل ذهابه إلى المعركة واستشهاده في يوم الثامن من المحرم’’[2]. الموقف من المخيلة في بروفايل سابق[3] كتبت شيئاً من التاريخ الاجتماعي لمأتم جدتي سلامة (مأتم بنت الحايي.. مأتم حجي طرار)، يحضر هذا المأتم في سيرتي كما تحضر جدتي، وكما يحضر بيتها المفتوح الأبواب دوماً، إنه يحضر جزءاً من سيرة تكويني الفكري، مقروناً بسيرة موقفي من المخيلة، وسيرة المخيلة يختلف عن سيرة الموقف من المخيلة، فالسيرة الأولى غير واعية وهي أقرب إلى عمل الإبداع، أما الموقف من المخيلة، فهو موقف فكري يعبر عن خيار واع، يتحدد فيه مفهومنا للمخيلة وعملها وتقييمنا لها وآليات عملها. كيف كان موقفي من المخيلة الكربلائية من خلال سيرتي مع مأتم جدتي؟ أستخدم هنا مصطلح المخيلة الكربلائية لأحيل على السرديات التي أنتجها الخيال الشيعي مشبوكاً بالتاريخ لواقعة كربلاء، والمخيلة هنا هي مستودع عمليات التخييل الجماعية على مدى تاريخ طويل، وهي عمليات تتداخل فيها أمنيات الجماعة وأحلامها ومحنها ومقدساتها وأحداثها التاريخية، الأمر الذي يصعب فيه فصل الحقيقي من غير الحقيقي والواقعي من الخيالي والتاريخي من الاختلاقي ‘’التخييل أعم من الخيال وأكثر تجاوزا له على مستوى التصور والإلهام والخلق، لاعتماده على الإغراب والمفارقة والخيال المجنح البعيد في التشخيص الأسلوبي والذهني، ناهيك عن افتراض الأحداث الممكنة والمستحيلة ونسجها فنيا وسرديا في عالم فني جمالي في أبهى روعة إبداعية. ويجر التخييل معه في اللغة العربية كلمات اشتقاقية أخرى كالمخيلة بكسر الياء(مصدر الخيال)، والخيال (منتوج المخيلة)، والتخييل (فعل التخيل وممارسة الخيال، وهو دال الحركة والإبداع والإلهام) الذي يدل على الاختلاق والتوهيم بالحقيقة والخداع الفني وتصور الأحداث والشخصيات في سياق فني يتقاطع فيه الخيال والواقع’’[4]. مخيلة المآتم النسائية تمتاز المآتم النسائية بأنها جزء من البيت، إنها تكاد كالمرأة في المجتمعات المحافظة لا تغادر البيت، تبدو كأنها غرفة من غرف البيت، حتى إننا لا يمكن أن نصفها بأنها ملحقة بالبيت، فهي وسطه غالباً، كما هو الأمر مع مأتم جدتي، لقد وعيت طفولتي في وسط هذا المأتم، ووسط البيت الكبير الذي كان فيه. وهذا ما جعل كثيراً من المآتم النسائية غير مسجلة في الدوائر الرسمية ودائرة الأوقاف الجعفرية، كانت آخر إحصائية شفهية متداولة تقول إن عدد المآتم النسائية في قرية الدير يزيد على الثلاثين مأتماً أو حسينية. والقليل منها مسجل، في حين المآتم الرجالية تبلغ سبعة مآتم، وجميعها مسجلة، وتقع في الحيز العام للقرية، الأمر الذي جعلها مكاناً عاماً. ربمــا تكـــون هــذه الميزة، هي ما يجعل المأتم النسائي أقرب إلى مزاج صاحبته وسلطتها، والمآتم الرجـــالي وإن كان لا يخرج كثيراً عن ذلك، لكنه يتوفر نسبياً على مزاج أكبر من صاحبـــه وأقل من قريته أو عائلته أو فريقه، فهو يمثــل جماعة صــاحب المأتم وعائلته، وتتوسع هذه الجماعة بتوسع الخطوط الحركيـــة الفكـــرية التي تمثلها. ظلت المأتم النسائية بحكم عزلتها البيتوتية مكاناً للمخيلة المطلقة الجامحة التي لا يحدها عقل صارم ولا شرع متشدد، وربما يصح أن نصفها بأنها مخيلة نسائية بوجه ما، لا مكان للكلام الموجه في هذه المآتم النسائية، الموجه بخط حركي أو أيديولوجي. ليس هناك خطابة تصنعها موجات فكرية، هناك نياحة وسيرة (شبه تاريخية) ومرويات سردية وقصائد مقفّاة، وأصوات نسائية تضج على إيقاع الحزن والبكاء. توجيه المخيلة في تحقيق عن (مأتم النساء) طرحت مجلة الأنصار [5] السؤال التالي (لماذا هذا الهجوم الشرس حول آلية العمل في مأتم النساء؟ وهل هو قادر في صورته الحالية على إخراج جيل واعٍ فاهم؟ كانت الإجابات: واقعاً أنا لا أذهب إلى المآتم النسائية، عندما أذهب إليها لا أحصل على فائدة تذكر… إن المأتم النسائي متخلف عن الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي). في نهاية الثمانينيات كنت مدفوعاً بحس ثوري لتغيير العالم، كان العالم هو أنا وأسرتي وقريتي ومأتم جدتي، كنت أرى أن المأتم النسائي لم يستجب لصوت الصحوة الإسلامية، والسبب الذي كنت أعتقده يكمن في أن الملايات متخلفات وغير واعيات ولا يسمحن بالتغيير. كنت أرى ملايات مأتم جدتي هكذا، وهنَّ الحاجيـة مريم بنت الحاج أحمد صميل (توفيت ديسمبر1997) والمعروفة بالحاجية مريوم، والحاجية شريفة بنت سيد عبدالله (توفيت 2000) والمعروفة بالحاجية شروف. والحاجية صفيــــة بنت الحاجي عبدالله محسن (توفيت في فبراير2004)، المعروفة بالحاجية صفوي. خضت معهن محاولات تغييرية لكنها باءت بالفشل، كنت أرى فيهن حجر عثرة أتمنى أن تزال بسرعة، من أجل أن يأتي صوت الوعي الجديد والطرح الجاد. اليوم أحن لأصواتهن بناستالوجيا بالغة الدفء، اليوم أعيد اكتشافهن من جديد، أرى أني بحاجة إلى أن أنصت إليهن من أجل أن أفهم عالمهن الخاص وثقافتهن الخاصة، بعيداً عن تشنجات وعي الصحوة الدينية. لست ضد المحاضرات الجدد اللاتي بدأن يزاحمن الملايات أو يتزاوجن معهن، لكني ضد هذا الوهم بأنهن يمتلكن الوعي والطرح القادر على أن يأخذ النساء إلى الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي. بل أنا ضد هذه الكلمات المشحونة بتخمة من الأوهام. لم يجد خطاب الصحوة بحسه الأيديولوجي في خطاب الملاية ما يعزز من سلطته واستحواذه وتفسيره لواقعة كربلاء، التي راح يؤولها لصالح حسه الثوري، ولأنه خطاب لا يحسن الإنصات إلى ما يختلف معه، فإنه لم يجد في الملاية غير علامة على نقص الوعي والتخلف والتقليدية وعدم القدرة على طرح الإسلام وكربلاء طرحاً جديداً، لكنه لم يكن ومازال عاجزاً عن أن يرى مأزقه في تضييق الإسلام وأدلجة كربلاء. سير هذه الملايات وتجاربهن جزء من ثقافتنا التي يجب الإنصات إليها، وفهمها وتوثيقها، بعيداً عن حس الإدانة الديني أو الأيديولوجي. أنا مدين في جانب من فهمي لعمل الخيال الخلاق في التاريخ إلى صوت هؤلاء الملايات، وهن يعدن سرد التاريخ بخيال لا مثيل له، لذلك فأنا مدين باعتذار متأخر إلى ملايات مأتم جدتي لأني أسأت الاستماع إليهن، وأسأت تقدير صوتهن الأصيل الذي لم تشبه هُجنة أيديولوجية تضيق بالآخر [6]
جمح المخيلة
كان الخط الحركي الإسلامي الذي مثلته خلال الثمانينيات، نداء لجمح هذه المخيلة، وتوجيهها نحو شرع منضبط وعقل مؤدلج. كنت أرى في هذه المخيلة أسطورة تجتر الدمعة لا الفكرة، مخيلة لا تستجيب لحركة الواقع التي كنا مأخوذين بها حد مجاوزة الواقع. كان صوت القيادات الحركية قد بدأ يضع هذه المخيلة ضمن دائرة وعيه، كان يريد من المأتم النسائية أن تكون في مستوى وعي الإسلام الحركي، وقد بدأت الناشطات الإسلاميات محاولاتهن للدخول إلى هذه المآتم، من أجل تقديم شكل خطاب جديد، يفيد من صيغة الخطابة الرجالية، التي لا تكتفي بالجانب البكائي الحسيني، وهنا برزت مع ظهور أسماء الخطيبات الجديدات تذمرات الملايات التقليديات وصاحبات المآتم. مع صعود هذه الموجة كنت قريباً جداً من جدتي ومأتمها الذي ظللت أخضعه لاستخدامات متعددة، منبثقة من هذه الموجة، غير أنها استخدامات تقع خارج صفة المأتم، حين يكون مأتماً نسائياً، هو عالم آخر ومكاناً آخر. لا يمكن لاستخداماتنا الحركية أن تخضع المأتم لها، فهو يمثل خط ممانعة قوية للمخيلة الكربلائية التقليدية، وعلى الرغم من أنني ظللت لفترة طويلة مسؤولاً عن تركيب سواد مأتم جدتي، إلا أنني لم أستطع أن أغير حتى في شكله ومساحته التي تغطي المأتم كله، وعلى الرغم من أنني حاولت إدخال شعارات حركية من خلال تركيب السواد، إلا أنني فشلت، وذلك يعود إلى مزاج المخيلة البكائية لملايات المأتم. لقد كن يرين في بقاء المأتم وفق شروط مخيلتهن المطلقة العنان من أي مساءلة واستخدام، بقاء لهن ومحافظة على وجودهن واستمراراً لتقاليدهن وتراثهم الأثير. تقليص المخيلة في محرم1990 بدأنا مشروع مهرجان عاشوراء الأول، كان مقر المهرجان مأتم جدتي، يبدأ المهرجان بعد عشرة محرم، وقد خصصناه لإقامة محاضرات ثقافية عن عاشوراء، كيف نسثمر عاشوراء في واقعنا؟ وكيف نعي الثورة الحسينية؟ وكيف نحولها إلى وعي جديد حركي؟ وكيف نخلصها من الأوهام الأسطورية؟ كان المشروع امتداداً لمشروع سابق خضناه قبل ثلاث سنوات، في عام 1987تحديداً، وهو مشروع خطابة حسينية، كنا نتدرب كل ليلة من ليالي محرم، بأن يتولى أحد الشباب التحضير لها ويكون ليلتها هو الخطيب الذي عليه أن يقدم موضوعاً جديداً ونعياً تقليدياً. كان الاتجاه السائد تقليص مساحة النعي التي هي مساحة المخيلة ومحل خصوبتها، وتوسيع مساحة الخطابة التي هي محل الفكر والوعي وتقديم مفاهيم الإسلام الحركي. كنا في سياق، إعداد جيل حركي جديد، يفهم كربلاء فهماً جديداً، وقد انتدبنا أنفسنا للقيام بهذه المهمة، وعلينا واجب التثقف والتدرب وخوض التجارب، لحسن حظي، لم أتوفر على صوت جميل، وكنت الوحيد من بين الأصدقاء الذين خاضوا التجربة مقتصراً على الخطابة فقط دون النعي الحسيني، في حين كان الأصدقاء السبعة يتولون تقديم مجلساً كاملاً بنعي وخطابة، كنت أستعين بصديق طفولتي أحمد رمضان، لقراءة مقدمة حسينية لمجلس محاضرتي، ومازال هو يذكر بشيء من المرح طريقته في قراءة قصيدة (وجه الصباح علي ليل مظلم…) التي افتتح بها أحد مجالسي (تسمى الفترة التي يقرأ فيها الخطيب بالمجلس، فيقال بدأ المجلس وانتهى المجلس). كان التحول من مشروع الخطابة الحسينية إلى مهرجان عاشوراء، تعبيراً عن الانحياز إلى الجانب الفكري، وعدم التعويل على الجانب البكائي والمأساوي في كربلاء، كما أنه كان معبراً عن انحيازي إلى الجانب الفكري في ذلك الوقت. وهو من ناحية الأخرى يحمل أيضا قناعتي المبكرة بعدم امتلاكي مهارات القراءة الحسينية التي تشترط الصوت الشجي والقدرة على النعي بالطريقة الحسينية. تطهير المخيلة لقد خصصنا مهرجان عاشوراء الثاني والأخير، والذي أقمناه أيضا في مأتم جدتي، لكتاب (الملحمة الحسينية). لقد قسمنا الكتاب على عشر ليال، يتولى كل ليلة شخص تقديم محاضرة من هذا الكتاب. الكتاب محاولة لتصحيح واقعة كربلاء من الانحرافات التاريخية التي صنعتها المخيلة. تصحيح الانحرافات التاريخية، كان يعني رفض نشاط المخيلة الكربلائية التي أنتجت هذا الكم الضخم من المرويات والأشعار والقصص والكرامات والبكائيات. كان يعني تجفيفاً لمساحات واسعة من هذه المخيلة وما يرافقها من دموع حارة وطرية. كان يعني أن تبقى المآتم النسائية من غير ذاكرة، لأن ذاكرة هذه المآتم تكمن في أرشيف مخيلتها. كان الإسلام الحركي، كما مثله مطهري مثلا، يريد أن يغير الواقع، وهو يريد من التاريخ ما يغير به الواقع، لا ما يجعل الواقع ثابتاً، والبكاء كان من وجهة نظر هذا الإسلام الحركي، يجعل من كربلاء تاريخا ساكناً لا متحركاً، هو يريد أن يعرف اليوم معسكرات يزيد ومعسكرات الحسين، ‘’نعم لو كان الحسين بن علي بيننا اليوم لقال لنا: إذا كنتم تريدون إقامة العزاء من أجلي وأردتم الضرب على الصدور من أجلي فان شعاركم لا بد وأن يكون فلسطينيا’’[7]. الإسلام الحركي، يريدك أن تحرك الواقعة التاريخية لتكون واقعة معاصرة، هو ليس معنياً بالسياق التاريخي، بقدر عنايته بالسياق المعاصر، هو يريد أن يستخدم الواقعة في حركة صراعاته الحالية، وليست لديه مشكلة في أن تنحرف الواقعة التاريخية عن سياقها التاريخي، لكنه معني بإضفاء قدر من المعقولية عليها من أجل أن يكون استخدامه أكثر إقناعاً، ومن أجل أن يعطي احتراماً. هكذا يحرك مطهري مثلا واقعه اليوم باستخدام واقعة أمس’’ماذا لو أن الحسين بن علي (ع) كان بيننا اليوم، وأراد أن يطلب منا أن نقيم له العزاء؟ ترى أي الشعارات كانت هي التي سيطالبنا بترديدها؟ فهل كان سيقول لنا اقرأوا في المجالس ‘’أين ابني الفتى على الأكبر’’، أو يطالبنا بالمناداة: ‘’يا زينب المعذبة الوداع الوداع’’، وهي أمور لا شك لم يفكر فيها ‘’الإمام الحسين’’ طوال حياته وإنه لم يردد مثل هذه الشعارات الخانعة الذليلة، في يوم من أيام عمره نعم فلو كان الحسين بن علي بيننا اليوم، لقال لنا: إذا كنتم تريدون إقامة العزاء من أجلي، وأردتم الضرب على الصدور، والخدود، من أجلي، فإن شعاركم لابد وأن يكون فلسطينيا فشمر اليوم هو موشي دايان وشمر ما قبل ألف وثلاثمائة عام، قد مات، وعليك أن تتعرف على شمر هذا العصر، لأن جدران هذه المدينة، يجب أن تهتز اليوم من شعارات فلسطين’’[8]. بالنسبة للإسلام الحركي، المخيلة مهمة بقدر ما يمكن استخدامها لتغيير الواقع وتحريك جمهوره، وتفقد أهميتها حين تفقد قدرتها على هذا الاستخدام، وهذا الاستخدام هو ما يجعل من المخيلة أيديولوجيا، هو يريدها في حالة أيديولوجية نشطة. لذلك فالنقد التاريخي الذي يصدر عنه الإسلام الحركي في مراجعته للمصادر التاريخية التي أرّخت للواقعة وطريقة تمثل الخطابات الحسينية لها، لــيس محكومــــاً بأفق المدارس التاريخية المعاصرة ومناهجـــها المعرفية، بقدر ما هو محكوم بأفق الأيديولوجيا الحركية، وإن كـــان أفق هذا النقد يفضي إلى نتائج تلتقي أحياناً بنتائج ذاك الأفق. لقد كنا محكومين بهذا الأفق، ونحن نحاول تغيير خطاب المآتم النسائية. كنا نستحضر في حركة تغييرنا خطاب فضل الله وهو يتحدث عن دور المرأة القيادي الحركي ممثلاً في حركة زينب والرباب وسكينة. وكنا نستند إليه في محاولة تحويل المـــأتم النسائي من وظيفة الاستماع والبكـــاء إلى وظيفة الخطابة والمعرفة. لكن أي معرفة وأي خطابــــة كنا نريدها أن تحل مكان هذه المخيلة الكربلائية المطلقة؟ كــــانت نماذجنا التي نحلم بها، خطيبات قادرات على بيان الحقائق العقائدية وبيان المفاهيم الإسلامية وبيان القيم والأخلاق. فالمجتمع النسائي يحتاج كما كنا نراه إلى إعادة النظر في تفعيل طاقاته وتحريك مواهبه وإخراج الخطيبات العالمات القادرات على العطاء وعلى البذل، يحتاج إلى ما هو أكثر، يحتاج إلى دروس دينية بشكل مكثف في الفقه والعقيدة. كنا نحلم بخطاب نسائي يحمل طرحاً سياسياً ووعياً تربوياً ومجتمعياً وتاريخياً. كنا نستخدم كل هذه المصطلحات المفخـــــــمة بسذاجة ومراهقة، والغريب أن هذا الخطاب مازال فعالاً بالنبرة نفسها. والدليل على ذلك أني اقتبســـت الفقرة السابقة التي تتحدث عن النماذج النسائية التي كنا نحلم بها، من أحد المواقع الإلكترونية، دون أن أضطر إلا إلى الاختصار فقـــط. ولست مضطرا إلى الإشـــارة إلى المصدر، لأنها تصلح أن تقتبس من عشـــرات المواقع. كيـــف يبدو الموقف اليوم من هــذه المخيلة؟ كيف نشاطها الاجتمـــاعي؟ كيف حضورها في وسائط الميديا؟ تلك أسئلة تحتاج مقاربـــة أخرى.
[4] مفهوم التــخيـــيـــل الروائي، جميل حمداوي: http://www.doroob.com/?p=10447 [5] مجلة الأنصار: مجلة إسلامية تصدر عن حسينية بن زبر، العدد.2007 ,9 [6] انظر بروفايل الملاية، جريدة الوقت، العدد 348 – السبت 15 محرم 1428 هـ – 3 فبراير 2007 http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=2342
في الصيف الماضي أصدر Robert Gleave (روبرت غليف) كتابه ”إسلام النص: تاريخ المدرسة الأخبارية الشيعية وعقائدها” باللغة الإنجليزية، وهو لمّا يترجم بعد. هل زُقمُّْ اٌمفًّم قد قرأ بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول
عن الإسلام، وصار مسلماً على الطريقة الأخبارية الشيعية، أي صار مستبصراً أخبارياً؟ لا، طبعاً. وهذا السؤال لا يعدو أن يكون مزحة. لكن السؤال نفسه سألني إياه كثيرون، بصيغ مختلفة، الصديق حسين مرهون، سألني مستنكراً ومستهزئاً في الوقت نفسه: هل أنت علماني أخباري أم علماني أصولي؟ يبدو أن نهايتك ستكون كبدايتك أصولي ديني متزمت. على الجبهة المضادة، هناك سؤال مصاغ بحس تشكيكي مرتاب، ما هدف علي الديري من طرح موضوع (الأصولية والأخبارية)؟، وهناك سؤال مصاغ بحس من يعتذر عنك ويشفق عليك ويبدي تفهمه لورطتك، هل يمكن لعلي الديري أن يتخلص من تربيته الدينية؟ قلت للصديق مرهون الأصولية والأخبارية موضوع أشتغل عليه بمسافة علمية وعلمانية، وهي مسافة أمان، تُؤمّن لي عدم التماهي مع موضوعي. الاهتمام بموضوع ما ،لا ينفصل عن الانهمام به، وهو انهمام قد يوقعك أحياناً في تحيزات تجعلك متماهياً مع موضوعك، لكن هذه التخوفات لا ترتبط بموضوع (الأصولية والأخبارية) أو أي موضوع ديني ما، بل ترتبط بكل موضوع يدخل في حيز اهتمام أي باحث. أن تكتب عن موضوع يعني أنك ستتهم بأنك متبنيه حد التماهي أو أنك تعاديه حد التعالي، أنت متهم به، ولا يمكن أن تكون باحثا عن فهم لهذا الموضوع، فهماً يعينك على معرفة اشتغاله في حاضرك. بين (روبرت غليف) وتهمة أن يكون علمانيا أخبارياً أو أصولياً أو أن يكون مستبصراً قد هداه الله إلى التشيع، مسافة ليست ناتجة عن الجغرافيا والتاريخ والحضارة، بل مسافة في أذهاننا، تعطي للآخر القدرة على أن يكون منفصلا عن موضوعه، وتسلبها من الذات، أي لا يمكن للباحث هنا أن يقيم مسافة نقدية عن موضوعه، ويمكن للباحث هناك أن يقيمها. لقد ظل أركون لفترة طويلة يحاول أن يقنع الآخرين بأن عمله في مجال التراث الإسلامي، لا يعني أنه مفكر إسلامي ولا أنه إسلامي ولا أنه أصولي ولا أنه محافظ رجعي غير قادر على أن يخرج على ماضويته. في الصيف الماضي، كنت والصديق محمد المبارك مع الباحث الانثروبولوجي الدينماركي توماس الذي يعد أطروحة دكتوراه حول الكيفية التي يشكل الناس بها تاريخهم الاجتماعي من خلال المكان الحوادث. وقد اتخذ من منطقة الحد وقلالي وسماهيج والدير مكاناً لمعرفة هذه الكيفية معرفة تطبيقية. قلت له: إن الشيخ إبراهيم المبارك قد شكّل بأخباريته في الخمسينات والستينات وحتى قبل الثورة الإيرانية في السبعينات، ثقافة الناس في قرية الدير، وله حضور في تاريخهم الاجتماعي. لقد التقط مصطلح (الأخبارية) بحس باحث يقظ، وراح يتقصاها ويتقصى حضورها في تشكيل ثقافة هذا المكان. ومع ذلك لن يسأله أحد مستنكراً، هل أنت انثروبولوجي أخباري أو أصولي؟
كانت البحرين منذ عصر الشيخ يوسف البحراني (1695-1772) وحتى عصر الثورة في السبعينات أخبارية، تعتمد إضافة إلى القرآن كتب الأحاديث الأربعة مصدراً خبرياً قطعي اليقين ليس فقط للتشريع الفقهي، بل للفهم القطعي للعقائد والمعاملات اليومية والمواقف السياسية، وإدارة العلاقة مع أصحاب المذاهب الأخرى. الكتب الأربعة المعتمدة عند هذه المدرسة هي، (الكافي) للشيخ الكليني المتوفى 328 هـ، وعدد أحاديثه 16199 حديثاً، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) لابن بابويه القمي، المتوفى 381 هـ، وضمَّنه 5998 حديثاً، وكتاب (تهذيب الأحكام) للطوسي، المتوفى 460 هـ، وعدد أحاديثه 13590 حديثاً . وكتاب (الاستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار) للطوسي أيضا، وعدد أحاديثه 5511 حديثاً .
شكلت هذه المدونة الأخبارية المصدر الثاني للتشريع عند الأخباريين، بعد أن رفضوا اعتماد العقل والإجماع الذي أضافه الأصوليون، مصدراً للتشريع.
هل يمكن لمدرسة فقهية أن تتسيّد مدة أكثر من قرنين بلداً ما، من دون أن تترك آثارها في صياغة ثقافته وسياسته ورؤيته وصراعاته السياسية ونمط تدينه؟
طبعاً لا يمكن ذلك، فتماماً كما تركت المالكية آثارها في نمط التدين المغربي، وتركت الشافعية كذلك آثارها في التدين المصري، كما ترك المذهب الحنفي آثاره في التدين العراقي، وكما صاغت الوهابية نمط تدين شبه الجزيرة العربية، كذلك الأخبارية صاغت تدين البحرين.
هذا ما أفترضه، وأحاول في هذا البروفايل المخصص لـ (الأخبارية والأصولية) أن أفهمه. وأفهم آثاره الحالية في نمط تديننا. لا يمكن أن يكون تديننا مطابقاً للتدين الذي جاءت به الثورة الإسلامية في إيران، هناك أثر واضح وقوي لحدث الثورة في انتشار التدين السياسي، لكن هناك تديناً آخر أعاد تمثيل التدين السياسي الذي جاءت به الثورة، وهو مازال يشتغل فينا، ويعطي لتديننا سماته المتعلقة بدرجة التسامح أو التعصب والانفتاح أو الانغلاق والقبول بالآخر أو رفضه، وعلاقته بالدولة والمرأة.
والدليل على ذلك أن الكتب التي أنتجتها هذه المدرسة منذ أكثر من قرنين، مازالت تطبع ويرجع إليها ويحتفى بها، ويفاخر بغزارتها، وتدرس في الحوزات والمدارس الدينية البحرينية، كما أن قصص تأليفها وتاريخه، مازالت تحكى وتحدث فعلها في متخيل الجماعات.
كما أن جامعة الشيخ حسين العلامة، وهو أحد أكبر زعامتين دينيتين ومرجعيتين على الطريقة الأخبارية، ستكون قريباً إحدى الجامعات البحرينية الأكاديمية. كيف سنفهم حدث تأسيس هذه الجامعة إذا لم نفتح ملف (الأخبارية والأصولية)؟
يطيب للشيخ محسن العصفور لقب ‘’صقر آل عصفور’’ الذي أطلقه آل عصفور عليه، ويطيب لي أن أسميه ‘’صقر الأخبارية’’ فهو من صقور الأخبارية المتشددين، فلغته مشحونة باليقين الأخباري، والأخباريون لا يركنون إلا لليقين القاطع، لذلك فلغته قطعية اليقين دوماً، لا تعرف المواربة ولا المجاملة ولا الإيماء، ولا تحتاج إلى أن تستنتج ذلك، فهو لا يكف عن القول إنه لا يخشى في أخباريته لومة لائم. شديد دوماً في مواقفه وقاطع دوماً مع المختلفين معه، وعلى الرغم من إفراطه في اليقين إلا أنه لا يعرف السكون الذي يمنحه اليقين الأخباري، فهو مليء بالحركة والنشاط، مشاريعه أكبر من شخص وليست أقل من مؤسسة، فاجأني بحجم مركزه الذي أطلق عليه ‘’مؤسسة مجمع البحوث العلمية’’ ويستعد قريبا لافتتاحه، كما أنه يعمل حالياً على تأسيس جامعة الشيخ حسين العلامة في مقر حوزته التاريخية في الشاخورة. في هذا الحوار الذي ننشره على ثلاث حلقات، يقدم الشيخ محسن، حديثاً مطولا حول جهوده العلمية في إعادة نشر التراث الأخباري. بروفايل : تبدو اليوم أنت الأكثر اهتماماً بالتراث الأخباريةالذي كان موجوداً في مدرسة البحرين الأخبارية منذ القرن الثامن عشر الميلادي، كيف تولد لديك هذا الاهتمام؟
– ليس هذا الاهتمام وليد الصدفة ولا وليد ظروف خاصة وإنما بحكم الامتداد الرسالي والوظيفة التي تنوء بها رجالات هذه الأسرة جيلاً بعد جيل بفضل من الله تعالى وتوفيقه وكوني من سلالة العمود الفقري العلمي لهذه الأسرة في هذه المملكة من الطبيعي أن نشهد توارثا للزعامة الدينية بدرجاتها المختلفة، ونحظى باهتمام وعناية وتوجه الرأي العام والخاص، إن أسرة آل عصفور هي أكبر أسرة علمية أنجبتها البحرين، وقد ناهز العهد العلمي لهذه الأسرة الأربعة قرون وانتشر الكثير من رجالاتها العلمية في ربوع العالم الإسلامي في إيران والعراق ودول حوض الخليج وأنجبت أكبر زعامتين دينيتين ومرجعيتين عالميتين أولهما المحقق الشيخ يوسف وثانيهما ابن أخيه جدنا العلامة الشيخ حسين قدس الله نفسهما الزكية، وكان لهما دور كبير في إثراء المكتبة الإسلامية وإيجاد نقلة في تاريخ الفقه الإسلامي الشيعي، ومن الطبيعي أن يفرز هذا الواقع، وراثتنا لهذه المسؤولية، وهذا العبء وهذا التراث حيث مازلنا نعني به جيلاً بعد جيل وبحمد الله قد تهيأت لي من الظروف ما لم تتهيأ لغيري، وهذا يجعلني أكثر عبئاً وأكثر مسؤولية. بروفايل: لكن يبدو في لحظتك بدأت العناية أكثر قوة في بعث هذا التراث..
– لقد قمت منذ السنوات الأولى من الدراسة في مدينة قم بجمع ما نتمكن من جمعه من المكتبات الخطية من تراث علماء البحرين من مكتبة السيد المرعشي والسيد الكلبايكاني ومسجد الأعظم ومكتبة الحضرة الرضوية في مدينة مشهد ومكتبة مجلس الشورى بطهران وذلك للتمهيد لتحقيقه وطبعه ونشره. بعث تراث الأخبارية وقد تمكنت بحمد الله من تحقيق ست مجلدات من الموسوعة الفقهية (الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع)، ورسالة الأشراف في المنع من بيع الأوقاف، ومحاسن الاعتقاد، وشارحة الصدور (منظومة في الأصول الخمس الاعتقادية) وكتاب سداد العباد وكنز المسائل للشيخ عبدالله الستري، وقد طبعت، وهي متداولة في الأوساط العلمية وان شاء الله سنسرع الخطى بعد إنشاء مؤسسة تحقيق ونشر خاصة تعنى بنشر تراث علماء آل عصفور.
جمعت فهارس أكثر المكتبات الخطية في إيران وتم جردها واستخراج أسماء وأرقام إيداع الكتب الخطية الخاصة بتراجم علماء البحرين، معجم تراجم علماء البحرين يزيد على العشرين مجلدا. لقد بدأ شغفي بمطالعة كتب تراث أعلام أسرتنا قبل سن الخامسة عشرة وكان لي رغبة ملحة أن أسجل إضافة مهمة لهذا الكتاب تلحق بالأصل، وأول ما خطر ببالي بعد الالتحاق بحوزة قم في السنة الأولى هو اختصار هذه الموسوعة لتكون رسالة عملية يرجع إليها مقلدو الشيخ يوسف وكذلك سائر طلاب العلوم الشرعية عند محاولة فهم فتوى الشيخ يوسف في المسائل المختلفة عند النقل عنه.
ثم خطر ببالي بعد حوالي خمس سنوات تأليف المقدمة الفاخرة لكتاب الحدائق الناضرة، وأنهيت بحمد الله ثلاث مجلدات منها في فترة قياسية لا تتعدى خمسة الأشهر وقد طبعت المجلد الأول منها آنذاك وبعد اشتهار خبره في الحوزة ونشر مجلة الحوزة مقالاً عنه بالمدح والثناء أرسل الي الشيخ علي إسلامي مدير قسم النشر بجامعة المدرسين لإبرام اتفاقية لطباعة الكتاب والحاقة بالأصل الحدائق في طبعات الحدائق المستقبلية بل وإبرام اتفاقية لإعادة تحقيق كتاب الحدائق من جديد بعد نشر مجلة مرآة التحقيق (آينة بجوهش) لمقال لي حول الأخطاء المطبعية والتخريجية لطبعة النجف والتي تتولي جامعة المدرسين إعادة طباعتها بالأفست كلما نفذت نسخها.
ويتناول المجلد الأول مقدمة عن تاريخ الفقه ونبذة عن تاريخ أسرة آل عصفور واستعراض العهد العلمي لهذه الأسرة الذي نبغ فيه جمع من رجالات هذه الأسرة وعلى رأسهم الشيخ يوسف وابن اخيه الشيخ حسين وتناول الظروف التي تزامنت مع عصره وما جرى عليه من تنقلات وارتحال من البحرين مسقط رأسه إلى القطيف أولاً ثم إلى ايران واستقراره في شيراز ثم هجرته إلى فسا والاصطهبانات ثم إلى بهبهان ثم إلى كربلاء والاستقرار فيها حتى الممات وكذلك ذكر أساتذته وتلامذته والعلماء المعاصرين له ونقل كلمات الثناء عليه في كتب التراجم.
وأما المجلد الثاني فيتناول شخصية الشيخ يوسف العلمية في خطوطها العامة والتفصيلية ونظرياته بشكل مختزل مستنداً إلى عباراته في كتبه مع ذكر النص والمصدر والإجابة عن الكثير مما أثير حول شخصيته من تساؤلات وشكوك خصوصاً عدوله عن مسلكه الأخباري في الوقت الذي كان فيه الزعيم الأوحد للمدرسة الأخبارية في مدينة كربلاء بلا منازع وكانت تشد له الرحال من الدول والحواضر العلمية للتتلمذ عنده. وتمّ الكشف لأول مرة بالتفصيل ما جرى عليه في آخر حياته من تآمر واضطهاد على يد الوحيد البهبهاني وما قام به الأخير من وشاية لحاكم كربلاء والاستعانة بمدد من الجند لمنعه من التدريس في الحرم وصرف الناس عنه بالقوة وفرض الإقامة الجبرية عليه ثم تسفيره إلى قرية المسيب على بعد سبعين كيلومتراً حيث قضى آخر أيامه فيها، ولا يبعد أن دس إليه السم للقضاء عليه بعد فشل كل الوسائل في منع الارتباط به وقصة دفنه بالقرب من ضريح الإمام الحسين تحت قبته في الحرم الحسيني.
والمجلد الثالث دراسة مفصلة عن كتاب الحدائق ومنهجيته ومصادره وما امتاز به من منهجية ونسخه وأماكن وجودها في المكتبات الخطية وطباعاته.
وأما المجلد الرابع فهو شرح وتعليق على المقدمات الاثنتي عشرة التي وضعها الشيخ يوسف في مقدمة كتابه الحدائق لبيان الفرق بين الأصوليين والأخباريين والانتصار لمنهج الأخباريين الذي سيعتمده في منهجية استدلاله وقوة تمسكه بمنهج أئمة أهل البيت المأثور.
ولكن حدثت مستجدات متسارعة في تلك الفترة حالت دون إنجاز جامعة المدرسين لتلك الأمنية التي كنت أطمح إليها وهي طباعة كتاب الحدائق بتحقيقي وتعليقي مع مقدمتي الفاخرة وتتمة جدي الشيخ حسين لـ(عيون الحقائق الفاخرة) في دورة متكاملة في واحد وثلاثين مجلداً كما كان متفقاً عليه. تقرير سبحاني
إذ اتفق في تلك الفترة أن أعلنت جامعة طهران عن دراسة ماجستير في التاريخ محوره دراسة عن حياة الشيخ يوسف البحراني ومنهجه العلمي، وباعتبار ان الجزء الأول كان مطبوعاً ومتوافراً في قم فعمد بعض طلاب تلك الجامعة من مشائخ الحوزة إلى الاتصال بي لطلب تصوير بقية الأجزاء للاستفادة منها في تحضير رسالاتهم لطلب الماجستير واختصار الطريق على أنفسهم، فأخبرتهم بأن جامعة قم ستقوم بطباعته.
وستكون هناك زوبعة لأن الكثير من الحقائق التي طمست وتمت المغالطة فيها سيتم الكشف عن زيفها وحقيقتها، بالمصادر والأرقام فبلغ الخبر إلى مدير قسم النشر الذي طلب سحب الكتاب من قسم الصف وإحالة أجزائه إلى لجنة الرقابة العلمية والتي من ضمن أعضائها الشيخ جعفر السبحاني والشيخ محمد المؤمن عضو مجلس الخبراء وبعد شهر تم إرسال التقرير من هذين الشخصين، وقد منعت من الاطلاع عليه باعتبار انه سري وشأن داخلي وتم تسريب ما تضمنه عبر احد الموظفين حيث زرته على انفراد وسمح لي بقراءته دون أخذه معي أو تصويره، وقد قرأت فيما ورد في تقرير الشيخ جعفر السبحاني أن الكتاب مهم وجدير بالطبع لكن ينبغي حذف بعض الأمور التي تثير الحساسية وان كان ما فيه من حقائق لكن ليس كل ما يعلم يقال.
وقرأت فيما ورد في تقرير الشيخ محمد المؤمن أن الكتاب تضمن أموراً مهمة ولكن طلب حذف مواضع علمت عليها باللون الأحمر في النسخة المرفقة بهذا التقرير، خوفاً من إثارة الشكوك بالمسلك الأصولي والطعن فيه، وقد أبدى خشية من طرحها كي لا يعود مجد الأخبارية في حوزة قم.
وقد شاهدت تلك العلامات بالخط الأحمر حول المتون المطلوب حذفها وبعد مراجعة المدير الشيخ علي الإسلامي، سلم لي نسخ الكتاب الأصلية بخط يدي وطلب مني حذفها كشرط لطباعة الكتاب، فرفضت حذف الجميع، وبعد مراجعة أخيرة حول الموضوع عرضت عليهم حلاً وسطياً وهو أن يطبع الكتاب بالنحو الذي طلبوه، لكن يسمح لي بطباعة الكتاب بالنحو الذي أريده بدون حذف، وذلك بأن لا يكون لهم حقوق الطبع.
ولكن تزامن في تلك الأيام فترة الانفراج السياسي في البحرين والسماح لجميع المبعدين والمهاجرين الذين مضى عليهم أكثر من عشر سنوات فعدت إلى البحرين وانقطع التواصل معهم وتجمد الاتفاق برمته.
وبعد سنوات حدثت هناك حركة تغييرات في أكثر الجهاز الإداري ولم أراجعهم حول الموضوع حيث توقف نشاط قسم الطبع في جامعة المدرسين بالكامل وتوقفت طباعة كتاب الحدائق مضافاً لغيره.
بروفايل: أين هي اليوم الطبعات الأولى من كتاب الحدائق؟
– من الأمور المألوفة القديمة التي جرت عليها العادة بين العلماء في الحواضر العلمية أن الكتب لا يتم استنساخها وتداولها في حياة مؤلفيها، ولا تشتهر إلا بعد وفاة المؤلف، أما كتاب الحدائق لأهميته العلمية وكونه أول كتاب استدلالي موسع يحوي الأقوال والأدلة ومناقشتها في تاريخ الفقه الشيعي ويتناول الموضوعات بشكل استدلالي مسهب، هذه الطريقة لم تكن معهودة قبل تاريخ الشيخ يوسف، فقد عني النساخ بنسخه ونشره عناية كبيرة كما طبع طبعة حجرية منقحة مضبوطة في سبع مجلدات في مدينة تبريز الإيرانية قبل أكثر من مئة سنة ويرجع السبب في ذلك إلى أن الشيخ يوسف يعد رائد ومؤسس الاستدلال الشيعي من أوسع الأبواب حيث تميز منهجه بالدقة العلمية المتناهية في تحري نشأة الفرع الفقهي واستقصاء أدلته وتتبع من اختاره من المعاصرين والمتأخرين ومتأخري المتأخرين على حد تعبيره. تتمة الحدائق وكان أول المقتفين لمنهجيته تلك، هو ابن أخيه و تلميذه جدنا الشيخ حسين إذ أكمل بوصية منه، ما تمكن من إكماله من كتاب الحدائق الناضرة، تحت عنوان ‘’عيون الحقائق الفاخرة في تتمة الحدائق الناضرة’’ وقد طبع في مجلدين وشرع في تدوين موسوعاته الاستدلالية الضخمة كالسوانح (سبع مجلدات خطية) والأنوار اللوامع (أربعة عشر مجلداً) والرواشح الذي لو قدر له الإكمال، لأصبح أعظم كتاب فقهي في تاريخ الإسلام، و لو طبعت أجزاؤه الطباعة الحديثة، لكانت في حدود ثلاثين مجلدا، وهو بعد في الطهارة وبداية أحكام الصلاة، ولو قدر له الإكمال حتى نهاية كتب الفقه، لنافت أجزاؤه على المئة مجلد.
وكذلك اقتفى أثره كل من جاء من بعده من الفقهاء الموسوعيين من أمثال صاحب الجواهر المعروف الشيخ محمد حسن النجفي في كتاب الجواهر في شرح شرائع الإسلام ومفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة للسيد محمد جواد العاملي. بروفايل: ألم يبلور الأصوليون منهجا استدلاليا قبل الشيخ يوسف بكثير؟ – التراث الفقهي الشيعي ككل مر بمراحل متعددة حتى وصل إلينا، ولدينا محاولات جديدة وجادة لدراسات مفصلة عن المراحل التي مر بها منذ عصر النص الأول والنهاية التي وصل إليها في عصرنا هذا، وكيف بدأ بسرد النص الروائي معنعناً بالأسانيد ثم من دون أسانيد ثم بدون قائله ممن روي عنه من أئمة أهل البيت.
كما المقنعة للشيخ المفيد والنهاية للشيخ الطوسي، ثم توسع الكتب الفقهية وعناوين الأبواب والمسائل والتفنن في الاختصار والترتيب والتبويب كما في كتاب الانتصار للسيد المرتضى والمراسم لابن سلار ثم نشأة فقه الخلاف والمقارنة مع المذاهب المخالفة والتي بدأها شيخ الطائفة الشيخ الطوسي.
وبلغ ذروتها العلامة الحلي في كتاب الخلاف وتذكرة الفقهاء ومنتهى المطلب وتحرير الأحكام وظل المنهج الفقهي يتعدد ويتنوع حتى بدأ المنهج الاستدلالي يتوسع بين فقهاء المذهب أنفسهم وتصديهم لمناقشة بعضهم البعض فيما اختاروه والانتصار لما يختارونه بالاستدلال عليه.
كل هذا التراث على تنوعه ومراحل توسعه يوجد اليوم في متناول أيدينا وعند الاستقراء السريع لجملة ما صنف، ننتهي إلى انه لا يوجد كتاب قبل الحدائق تناول الفقه الاستدلالي بهذه الطريقة وهذه السعة مضافاً لعرض معاني الروايات ودلالتها على ما يستدل عليه من أحكام ويستفاد منها من وجوه بغض النظر عن كونها أصولية أو إخبارية، بل ومحاكمة الطرفين الأخباريين والأصوليين إن تبين أن أحداً منهم خالف الدليل وتنكب عن الصراط وانحرف عن الجادة. بروفايل: لماذا لم يكمل الشيخ حسين دورة الحدائق الفقهية كما أوصاه الشيخ يوسف؟
– لقد أكمل بعض مباحث لواحق كتاب النكاح وأنواع الطلاق والفراق من الظهار واللعان وبقية أحكام ما يتفرع عليها من الأحكام في مجلد تحت اسم (عيون الحقائق الفاخرة) في تتمة الحدائق وقد شرع فيه من الموضع الذي انتهى إليه قلم الشيخ يوسف في كتابه الحدائق.
وقامت جامعة المدرسين بطباعة هذه التتمة في مجلدين وقد الحق بموسوعة كتاب الحدائق وقد طلب مني أن أقدم له، فقدمت لتلك الطبعة مقدمة مختصرة طبعت في أول الكتاب.
وقد حال بينه وبين إكمال بقية الكتب الفقهية الأخرى حسب تسلسل التبويب المعهود حتى نهاية كتب الفقه استشهاده على يد الغزاة العمانيين بتاريخ 21 شوال سنة 1216 هـ بعد أن احتلوا البحرين سنة 1215 هـ.
وقد عثرنا على نسخة الأصل من المجلد الأخير من كتاب الحدائق، وتلك التتمة بخط كل من الشيخ يوسف وخط الشيخ حسين قدس سرهما.
وسنحضرها، ليتم عرضها -إن شاء الله تعالى- في مركزنا الثقافي الذي نحن بصدد إكماله وافتتاحه في القريب إن شاء الله تعالى.
هل (الأخبارية والأصولية) موضوع أو محمول أو قضية أو جدلية أو فتنة أو ملف أو صراع أو هو كل ذلك، أياً كان هو، لكن ما إن تفتحه، فإنه ينفتح عليك تاريخ مشحون، مشحون بالأسماء والأعلام والأحداث والمواقف والكتب والاختلافات والخلافات والسير والمدارس والجغرافيا والمعرفة والدين والسياسة والسلطة والقوة والثقافة والآراء والأقوال، إنه تاريخ المعرفة، والمعرفة ليست شأناً مقدساً، إنها أقرب إلى التدنيس منها إلى التنزيه، فهي من صنع الإنسان، والإنسان لا يصنع شيئاً منزّهاً، مهما كان بديعاً وجميلاً، فالإنسان يشحن ما يصنعه، بكل ما فيه من خير وشر وعقل وهوى وروح ومادة.(الأخبارية والأصولية) بما تحمله من تاريخ مشحون، هي المعرفة الدينية الشيعية التي أنتجها علماء الدين طوال هذه القرون، كيف يمكنك أن تقرأ هذا التاريخ الطويل؟
اخترت أن أقرأ تاريخها غير المنزّه، من مكتبة أبي، أبي الذي ألفتُ أن أسمع فمه يردد باستمرار اسم كتاب (السداد) للشيخ حسين العلامة، كان يحكي شيئاً من سيرته، وشيئاً من فتاواه، خصوصاً فتاواه المتعلقة بباب الطهارة والصلاة والحج، وكان موضوع طهارة النواصب يثير إشكالاً معاصراً عندي، فالشيخ حسين وضع سداده في القرن الثامن عشر الميلادي، وفي ظروف تاريخية متوترة، كان نتيجتها مقتله في( 1216هـ – 1801م) وهروب عائلته بتراثه الفقهي الغزير إلى بوشهر. كتاب السداد
كان كتاب الشيخ حسين الموضوع في مكتبة الوالد مطبوعاً الطبعة الثانية بتحقيق في النجف في مطبعة النعمان، في سنة .1961 كان على غلافه (طبعه الأقل جواد السيد فضل الوداعي الموسوي البحراني أحسن الله خاتمته).
انطبعت صورة غلاف الكتاب بلونه الأخضر الفاتح في ذهني، حتى غدت كأنها أيقونة في مخيلتي، كلما جاء الوالد على اسم الشيخ حسين، جاءت صورة الغلاف، وتأتي معها صورة الشيخ حسين، لكن ليس الشيخ حسين العلامة. إنها صورة الشيخ حسين بن الشيخ عباس الستري، كان يقيم الجماعة في قريتنا يوم الجمعة منذ الستينات، وحتى مطلع الثمانينات، وعادة ما يكون غداؤه وقيلولته في مجلسنا. توضيح جمل السداد الغامضة، يتولاها الشيخ بعد قيلولته، اقترح عليه الوالد في 1983 أن يعلمنا النحو من متن الإجرومية، كنا نقرأ من (التحفة السنية في شرح متن الإجرومية) كانت النسخة صفراء وخطها صغير. جلست إلى درس الشيخ وأنا في الصف السادس، لم أستوعب شيئاً من درسه، لكني كنت حريصا وفخوراً بالجلوس إلى حلقة الدرس. مع هذا الحرص، لم تتحسن مهاراتي في اللغة العربية ولا في النحو، فقد ظلت درجاتي فيها في حدود الجيد أو ربما أقل.
منهاج الصالحين
سأغادر مجلس الشيخ المعتق في إخباريته، وأنا أحمل اسم شيخ حسين العلامة وصورة غلاف كتابه، لكن هذه الصورة لن يكتب لها أن تستقر في تديني، ففي السنة نفسها سأنفتح على دروس المأتم الدينية، حيث هناك الثورة على فكرة تقليد الميت ابتداء التي كانت تعني الثورة على مدرسة الشيخ حسين الأخبارية، هناك سيتولى مدرسونا في المأتم طرح المرجعيات الأصولية الجديدة التي لم أسمع أبي يذكرها، ولا الشيخ حسين بن الشيخ عباس يرددها، اخترت السيد الخوئي ليكون مرجعي ومقلدي، واشتريت رسالته العملية (مناهج الصالحين) كان غلافها أكثر غماقة من غلاف كتاب السداد، ولاحقاً سيأخذنا أساتذتنا بالمأتم إلى السيد علوي الغريفي، حيث كان يخصص درساً لشرح المنهاج، شرحاً مبسطاً وسريعاً. وكان باب الطهارة هو الباب الذي تمكنت من متابعته في درس السيد علوي.
حتى هذه اللحظة لم أكن قد سمعت بمصطلح الأصوليين والأخباريين، كنت أستشعر أن هناك حساسية جديدة بدت تتشكل تجاه شيخ حسين العلامة وتجاه مقلديه، بدأنا نرى في تقليد الشيخ حسين نموذجاً تقليديا قديماً، وهو لا يتماشى مع حركة الإسلام الثورية الجديدة. كما بدأنا نستشعر بنفرة تجاه تقليد الأموات، وصرنا نرى التدين الذي يمثله الآباء بالرجوع إلى هؤلاء الأموات تديناً تقليدياً ينبغي مفارقته، حتى كنا نستشكل على ممارساتهم الفقهية، ونتندر على وعيهم الديني. صدمة مطهري
ستشكل لحظة التعرف على مصطلحي الأخبارية والأصولية صدمة لوعيي الديني، كنت لحظتها في المرحلة الإعدادية، أقرأ كتاب مرتضى مطهري (الاجتهاد في الإسلام)، قرأت فقراته العنيفة تجاه الإخباريين، لم أكن حينها أعرف هذا المصطلح، لكني فهمت من خطابه، إنهم علماء وفقهاء، كنت أتساءل: كيف ينال منهم؟ هل يجوز أن ننال من الفقهاء؟ أليست نجاتنا في تقليدهم؟ ما مصير هؤلاء الناس الذين يقلدونهم؟ هل أعمالهم باطلة؟ أليسوا من الصائنين لدينهم والحافظين لأمر مولاهم من الذين للعوام أن يقلدوهم، ليكون عملهم صحيحا؟
كان مطهري، يقول بنبرة تهويلية ‘’هنا ينبغي أن نشير إلى حدث مهم وخطير برز في عالم التشيع خلال القرون الأربعة الماضية يتعلق بموضوع الاجتهاد. وهذا الحدث هو موضوع ‘’الأخبارية’’. ولولا وقوف عدد من العلماء البارزين الشجعان في وجه تلك الموجة وصدها، لما كنا نعرف وضعنا الحاضر. إن مذهب الإخباريين هذا لا يزيد عمره عن أربعة قرون، ومؤسسه رجل اسمه ‘’الملا أمين الاسترآبادي’’ وكان رجلاً ذكياً، وقد اتبعه جمع من علماء الشيعة. يدّعي الإخباريون أن الشيعة القدامى،حتى أيام الصدوق، كانوا يتبعون المسلك الإخباري. ولكن الحقيقة هي أن الميول الأخبارية، باعتبارها مذهباً له أصول معينة، لم يكن لها وجود قبل أربعة قرون.إنهم ينكرون أن يكون العقل حجة، المذهب الإخباري ضد مذهب الاجتهاد والتقليد، كانت الأخبارية حركة مناوئة للعقل، وهي تتميز بجمود وجفاف عجيبين’’.
كان السؤال الذي يراود براءة تصوري الطفولي، هو كيف لعالم دين أن يهاجم علماء دين آخرين من نفس مذهبه؟ ولماذا هذه الحدة في الهجوم؟ وكان وقع الصدمة يزداد كلما واصلت القراءة ووجدت أن مطهري يمعن في هجومه، خصوصا وأن مطهري كان يمثل بالنسبة لي نموذجا لعالم الدين المتفتح المثقف الذي لديه اطلاع عصري في كل شيء، أي أنني لم أشك أن مطهري ربما يكون مخطئاً، لكن كيف يمكن أن يقع هذا التناحر بين علمائنا، هذا ما كان يؤلمني لحظتها.
التاريخ المنزّه ما هدّأ شيئاً من صدمتي، هو أن مطهري يتحدث عن تاريخ بعيد جدا، وإن كانت حساسيتنا الدينية، تجعلنا نرى العلماء كلهم وكأنهم يعيشون في لحظة زمنية واحدة، فالعالم الذي عاش قبل 400 سنة له القدسية نفسها التي للعلماء المعاصرين، فهو امتداد لتاريخ منزّه، ولا يذكر اسمه إلا بالألقاب التبجيلية، كان مطهري يقول ‘’ولكن من حسن الحظ أن أشخاصا حكماء، مثل وحيد البهبهاني، وكذلك طلابه، ومن ثم المرحوم الحاج شيخ مرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه، بادروا إلى الوقوف بوجه هذه الحركة. كان وحيد البهبهاني في كربلاء، وفي الوقت نفسه كان صاحب ‘’الحدائق’’ الإخباري في كربلاء أيضاً، وكان لكليهما حلقة درس. كان وحيد اجتهادي المسلك، وكان صاحب ‘’الحدائق’’ إخباري المسلك. ولقد كان صراعاً صعباً حقاً ، انتهى بانتصار وحيد البهبهاني على صاحب ‘’الحدائق’’. أمّا الشيخ الأنصاري فقد كافح الأخبارية بوضعه أساساً متقناً لعلم الأصول، بحيث إنّه كان يقول لو أن أميناً الاستر آبادي كان حياً لقبل بما وضعته في علم الأصول. وعلى أثر هذه المكافحات اندحرت الطريقة الأخبارية، وليس لها اليوم أتباع إلاّ في بعض الزوايا النائية’’. تخريب الحدائق
كنت قد اعتدت أن أسمع اسم الشيخ حسين العلامة، مقترناً باسم الشيخ يوسف البحراني، فهو أستاذه وخاله، وهذا ما شكّل صدمة أكبر بالنسبة لوعيي الديني الذي شكَّله أبي بترداد اسم شيخ حسين. كنت أرى الشيخ حسين العلامة في صورة شيخ حسين الستري ولم أشك أن لحيته البيضاء البهية هي نفسها لحية صاحب السداد.
أحسست كأن مطهري قد عبث بحدائق الشيخ يوسف البحراني، فالحدائق التي لم أرها، كنت أسمع باسمها يتردد بتبجيل عظيم، فهي موسوعة الشيخ يوسف الفقهية الكبيرة التي لم يؤلف مثلها في التاريخ. لقد استقرت في وعيي صورة هذه الحدائق مقرونة بالتبجيل، فكيف يخربها مطهري بدفقة حبر؟!!
ذهبت لأستاذي في المأتم أستفسر منه، وأطلب منه توضيحاً يهدّئ من صدمتي، كان جوابه يشبه جواب من يريد أن يغلق ملف قضية تاريخية قديمة، قال لي، الأصولية والأخبارية فتنة قديمة، ولا نريد إثارتها كي لا تكون فتنة تضعف وحدة الصف الإسلامي، لقد أفهمني ذلك بحس يشبه الحس الأمني. مكتبة تقليد الأموات ابتداء لم أكن أعي حينها، أن حركة التدين الثورية الجديدة التي جاءت بها الثورة الإسلامية في إيران، ستجد في نمط التدين التقليدي الذي يمثله النمط الإخباري المعروف في البحرين، والذي لم يكن له منافس، ستجد في هذا النمط ما يتعارض معها، وأنها ستعمل على تغييره. لن يكون هذا التغيير سهلاً، رغم أن الثورة وجدت قبولاً في نفوس الناس، فالآباء لم يجدوا أنهم مضطرون لتغيير أنماط تدينهم وأسماء مراجعهم ومقلديهم، لكن الحس الثوري التغييري، وجد في كل شيء تعارضاً، تعارضاً يحتاج إلى تغيير وإلا أصبح معارضة، والمعارضة تفضي إلى الصدام.
لكن الصدام هذه المرة لم يكن تحت عنوان الإخباريين والأصوليين، لكن من مثلوا التدين الإخباري، كانت حساسيتهم الدينية للعالم مختلفة تماماً عن الحساسية الجديدة للثورة، لذلك كان على الأخبارية أن تتراجع أو أن يتراجع عنوانها وتعيد تمثيل نفسها في شكل آخر. وتلك حكاية أخرى تحتاج إلى فصل جديد.
لقد فتحت، اليوم، مكتبة أبي فوجدتها كما هي، تخبر عن تاريخ ما قبل الثورة، ما قبل تقليد الأحياء، وإشكال صلاة الجمعة، وتقليد الولي الفقيه، وولاية الفقيه، وآية الله، والمجتهد، والمرجع الأعلى. لم تكن تخبر عن تاريخ ما بعد الثورة.
فتحت مكتبته، فوجدت فيها، (سداد العباد ورشاد العباد)، وكتاب (الحج من كتاب سداد العباد) للعلامة الوقور الشيخ حسين آل عصفور البحراني، وكتاب تلميذه (كنز المسائل والمآخذ في شرح المختصر النافع) بأجزائه الخمسة لخاتمة المحدثين العلامة الشيخ عبدالله الستري البحراني (1776- 1853). و(الرسالة الصلاتية) للشيخ يوسف البحراني (1695ـ 1772).