ظاهرية ابن حزم أو تطويق المطوًّق: قراءة في كتاب طوق الخطاب لعلي الديري
بقلم: مبارك حامدي
ملحوظة: منشورة في العدد الأخير من مجلة البحرين الثقافية.
طوق الخطاب ( دراسة في ظاهرية ابن حزم) كتاب الباحث علي أحمد الديري صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، وعن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة بالبحرين أواخر سنة 2007، ويمكن إدراج هذا الكتاب في سياق القراءة الفلسفية اللسانية لأحد روافد الفكر الأصولي الإسلامي، وكان مقصد الدراسة تقليب النظر في الأسس الفلسفية واللغوية التي شكّلت الرؤية الظاهرية في قراءة الخطاب الديني المؤسس متمثّلا في القرآن والسنة، وكان من أهداف المؤلِّف في هذه الدراسة بلورة المفاهيم التي استند إليها ابن حزم، وإظهار المضمر منها، والربط بين مفاصل " النظرية الظاهرية" والكشف عن مسبّقاتها وفرضياتها ومسلماتها التي اشتغلت في بناء نظرية المعرفية وإشكالية الفهم، انتهاء بالجانب التطبيقي، وهو تفسير الخطاب، وسنحاول في سياق هذا التقديم تبيّن منهج الكتاب في بلورة النظرية الظاهرية وحدوده، والوقوف على ما توصّل المؤلف إلى بنائه من الفكر الظاهري مُظهره ومضمره، أصيله ووافده.
إ
شكالية التسمية: طوق الخطاب
أشار المؤلف في تصديره إلى الطابع الضدّي لمعنى "الطوق"[1] ، فهو يعني القيد كما يعني القدرة والطاقة والوسع، ولهذا الطابع الضدّي أساس مكين في توصيف منهجنا وفكرنا في مباشرة الأشياء والأفكار، ففي الوقت الذي يحدّ فيه المنهج من رؤيتنا بفرض قواعد وزوايا للنّظر بعينها ، يفتح لنا آفاقا ، ويكسبنا قدرة على ارتياد تلك الآفاق، فهل يمكن أن نقول بذات المعنى إن قراءة الديري لابن حزم هي نفسها طوق يحدّ ويُقدر في آن، وأن قراءتنا لقراءته طوق أيضا، وهكذا تصبح كل قراءة طوقا، ولا تحمل سمة الزينة والجمال منها إلا ما وسّعت وأقدرت وفتحت لا تلك التي ضيقت وحدّت وأغلقت؟
إن اختيار المؤلف لهذا العنوان – بما هو علامة – يكشف عن فهم لوظيفة القراءة الضدية، وما تطرحه من صعوبات قد لا يكون أهونها لبتر المدوّنة المقروءة وتضييقها أو تسطيحها وابتسارها.
في بنية الكتاب ومضمونه:
قسّم المؤلف الكتاب إلى فصول أربعة مع مقدمة وخاتمة
– الفصل الأول: نظرية المعرفة الظاهرية
– الفصل الثاني: فهم ابن حزم للظاهرة اللغوية
– الفصل الثالث: الظاهرية ومشكلة الفهم
– الفصل الرابع: قوانين الظهور ( قوانين تفسير الخطاب)
يلاحظ المتأمّل في بنية البحث تدرج المؤلف من العام إلى الخاص، ومن الأصل إلى الفرع، ومن التنظير إلى التطبيق، وهو ما أضفى على الدراسة تمشّيا متماسكا وتمفصلا واضحا بين الأقسام يفهم فيه اللاحق في ضوء السابق، وهكذا يظفر القارئ برؤية واضحة للنظرية الظاهرية في كلّياتها وجزئياتها، لا بل إن تحديد الكليات يجعل ما لم يذكر من التفاصيل واضحا بمجرد تطبيق الأولى على الثانيةغير أن مضمون الفصل الثالث: الظاهرية ومشكلة المعرفة، كان أشبه أن يكون – في رأينا – أن يلي الفصل الأول، وذلك لأن إشكالية الفهم شديدة الصلة بنظرية المعرفة وهي كالمنطوية تحتها، لا تحت الظاهرة اللغوية التي سبقتها، وهي أقلّ عموما إن شئنا مراعاة هذا المقياس أيضا،وممّا يدلّ على الاتّصال الوثيق بين نظرية المعرفة وإشكالية الفهم عودة الباحث إلى الحديث عن العقل والعقلانية، وموانع الفهم (أي المعرفة) في ثنايا القسم الثالث المخصّص لمعالجة قضية الفهم[2]
ونختم التعليق على بنية الكتاب بملاحظة شكلية تتمثّل في انعدام التوازن بين الفصول بشكل واضح بحيث دخل الضيم على تساويها (أو على الأقل تقاربها )، فكان أطول الفصول هو الفصل الرابع: قوانين الظهور(61صفحة) بينما كان الفصل الثالث الموسوم بـ:فهم ابن حزم للظاهرة اللغوية في(39 صفحة) فقط، واستأثرت نظرية المعرفة بـ: (59 صفحة) والظاهرية ومشكلة الفهم بـ: (45 صفحة)، فكيف يمكن فهم "تهميش" إشكالية اللغة، وهي من البحث في قلبه، وعليها مدار الدراسة من حيث هي "عمدة الخطاب"؟
الفصل الأول: نظرية المعرفة الظاهرية
تدرج المؤلف في تحليل نظرية المعرفة من الأسس المعرفية إلى العقل وفاعليته إلى مفهوم الحقيقة وصولا إلى أدوات التفكير اليقينية، متوخّيا في كل مستوى تعريف المفهوم عموما ملتمسا تجسّده عند ابن حزم ملمّا في جميع ذلك بأجزاء المفهوم ومعانيه، وآية ذلك عرضه لمفهوم المعرفة، فمعنى التسويغ والأسس والأصول، وقس على ذلك في تناوله لفاعلية العقل، فقد عرض لمفهوم العقل في المعاجم الفلسفية، ففاعلية العقل، فمعانيه ووظائفه عند ابن حزم، وصولا إلى موقفه من مصادر المعرفة المناوئة للعقل الخ…
صدر الباحث، مستندا إلى موسوعة لالاند الفلسفية،من عدد من الأسئلة الفلسفية العامة التي على أساسها تتحدّد اختيارات المفكر في مباشرته لموضوع تفكيره، وهذه الأسئلة هي: ما المعرفة ؟ كيف تعرف الذات موضوعها؟ ما المشكلات الفلسفية الناشئة عن العلاقة بين الذات المدركة والموضوع المدرك،أو بين العارف والمعروف؟ إلى أي حدّ يبدو ما يتمثله البشر مماثلا لما هو قائم؟ وكيف يمكن للذات أن تثق بصحة معرفتها، أو أن تتيقّن من معرفتها؟ وكيف تبرر معرفتها؟ وإلى أي مصدر تستند في تسويغ معرفتها أو يقينها؟[3] وتعتبر هذه الأسئلة، بحق، الأساس الفلسفي المتين الذي تتحدد وتتمايز المشاريع الفكرية بحسب نوع الإجابة عليه، وكان ما تلا هذا المهادَ النظري بحثا من قبل المؤلف عن إجابات ابن حزم عليه، ساعيا بذلك- أي المؤلف – إلى تطويق المدونة، وإبراز اختياراتها الفلسفي، وانتهى إلى أن ابن حزم قد طلب المعرفة في درجتها اليقينية التامة، وهي المعرفة التي مبرهنة مطابقة للشيء تمام المطابقة، وأن ضمان تلك اليقينية هذه المطابقة تتأتّى من مصدرين لا يرقى إليهما الشك في رأيه، وهما الحسّ والبدهيات الضرورية أو ما يسميه بأوليات العقل[4] وفي هذين المصدرين كلام يطول يبدأ بخداع الحواس عند ديكارت(ت.1650)، ولا ينتهي بمسبّقات العقل عند كانط (ت.1804)، غير أن الباحث لم يخصص قسما لنقد ابن حزم ، وهو اختيار لم يلزم نفسه به، وإن كنا نرى عكس ذلك إن رمنا تطويق فكر ابن حزم حقيقة أي بيان قدرته وطاقته التفسيرية.
وفي معرض تحليل الكاتب لفاعلية العقل في خطاب ابن حزم بين مفهوم العقل في المعجم الفلسفي مركزا على هذا المفهوم عند ابن سينا، وعلى ما ورد في موسوعة لالاند الفلسفية متوسلا بهما إلى معاني العقل عند ابن حزم ووظائفه، ولئن تتبع المؤلف معاني العقل عند ابن حزم، فعدد منها أحد عشر معنى، مرجعا إياها إلى أصولها الأرسطية، ومبينا اختلاف ابن حزم عن أرسطو في اعتبار العقل كيفية عند الأول وجوهرا عند الثاني، رغم استناد المشروع الظاهري إلى المنطق الأرسطي ونظريته في المعرفة، ولئن شرح المؤلف ذلك، فإنه في رأينا قد فاته أن يعلّل ذلك أن العقل عند ابن حزم هو عقل الاسم وعقل النص، بينما هو عند أرسطو عقل الفعل بالمعنى الذي يتبنّاه الفيلسوف المغربي عبدالله العروي في كتابه مفهوم العقل[5]، وإن كان قد أشار إلى خصوصية العقل عند ابن حزم في أنه منقاد إلى الشّرع أي النص[6]
أما إيراد معاني العقل عند ابن سينا ولالاند فلم نر توظيفا له في حدّد العقل عند ابن حزم، إذ لم نجد مقارنة أو تعليقا أيّا كان نوعه بحيث يمكن الاستغناء عنه دون أن يحس القارئ بأيّ خلل في التحليل، فقد أحاط المؤلف بالعقل عند ابن حزم إحاطة شاملة، وربطه بأصوله الأرسطية، وبيّن وجوه الاختلاف بينهما، غير أنه كان بالإمكان في المقابل العودة إلى مفهوم العقل في اللغة العربية والبحث عن صلة ما بين معاني العقل كما وردت عند ابن حزم ومعانيه، وبين تلك التي وردت في المعاجم، وهي صلات موجودة من منظور فيلولوجي (أي آني)، ولئن افتقرت العربية إلى معجم إيتيمولوجي يؤرخ لأصول معاني المفردات وتطورها كما هو معروف في اللغات الأخرى، فقد ركن الباحثون في ظل هذا النقص إلى التدرّج من المعاني العامة إلى المعاني الخاصة ومن المعاني المحسوسة إلى المعاني العقلية، ومن المعاني الحقيقية إلى المعاني المجازية، على اعتبار أن المعاني العامة والمحسوسة والحقيقية أسبق معرفيا وتاريخيا[7]، وأن الأولى أصيلة والثانية مولّدة، ومن تلك المعاني: الربط والإمساك والحبس والدّيّة والتقلص والإسقاط وصولا إلى الدلالة على معنى الفهم والإدراك، دون أن تنفك هذا المعاني الثواني عن ظلال المعاني الأول[8]، ولا شك أن ابن حزم كان ، وهو يحدّ العقل، واقعا تحت تأثير اللغة التي يكتب بها ويفكر من خلالها، من خلال مجازاتها وتصوراتها للأشياء والعالم.
أما الأمر الثاني الذي نرى أنه كان من الواجب الإشارة إليه واستثماره في توضيح معاني العقل عند ابن حزم وخاصة في معرض بيانه لمدى فاعليته فهو علاقة العقل بموضوعه من حيث القدرة المحدودة أو غير المحدودة على الإحاطة بموضوعه، فإذا كان المذهب التجريبي والمادي والذرائعي والوجودي يرى محدودية العقل،فإن المثالية والحدسية والماهوية والقصدية أو الظاهراتية ترى لا محدودية العقل [9] ، ويقع تصور ابن حزم للعقل في منطقة وسطى ، فهو يرى أن العقل عاجز عن فهم الحروف المقطعة في أوائل السور مثلا، وهو عاجز كذلك عن إدراك ماهية الجوهر المتعالي.
إن استحضار كل هذه الأبعاد كان من شأنه إدراك حصريّة ابن حزم ومحدودية فهمه لفاعلية العقل، ورفضه لما أسماه بمصادر المعرفة المناوئة للعقل كالقياس والتأويل الاستقراء لأنها في رأيه من الظنّيات، وانحيازه لما سمّاه بالبرهان، وهو برهان يقع ضمن النص، وإن استند إلى البدهيات وأوليات العقل ينشد بهما معرفة يقينية, كما يقول.
الفصل الثاني: فهم ابن حزم للظاهرة اللغوية
حلّل المؤلف أصل اللغة عند ابن حزم، وشدّد على تميّزه بالقول بأن اللغة والإنسان متزامنان استنادا إلى النص القرآني، وأن اللغة الأصلية التامة الكاملة قد اندثرت، وحتى إذا كانت موجودة فأننا لا نعرف هذه اللغة على وجه التحديد، وبذلك ساوى بين اللغات الموجودة، واستبعد القول بفضل بعضها على بعض، وتكمن أهمية هذا الرأي كما يقول المؤلف، بحق،أن ابن حزم يعترف بالبعد الميتافيزيقي، ولكنه يستبعده، فيحرر بذلك اللغة البشرية من الأحكام المعيارية غير الموضوعية المفاضلة بين اللغات،ثم عالج المؤلف علاقة الأسماء بمسمّياتها عند ابن حزم، وتوقف عند قوله بأن المسميات هي المعاني من أشياء وموجودات حسية وذهنية، أما الأسماء فهي عبارات عنها[10] وقد ألمح الكاتب إلى علاقة هذه الإشكالية بشواغل كلامية تتعلق أساسا بالذات الإلهية: هل الاسم علامة تشير إلى مسمّاها، أم أن الاسم هوعين المسمّى؟
ومن المفاهيم المركزية التي حلّلها المؤلف مفهوم البيان لدى ابن حزم الذي عرفه بأنه أن يكون "الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه" فالبيان، كما يقول المؤلف،معلق بشرطين هما: الإمكان والإرادة، وبذلك فإن المعنى يقع ضمن منطقة الإشكال والالتباس، ولا يمكن له،أي المعنى، أن يخرج من هذه المنطقة إلى منطقة إمكان الفهم حقيقة إلا عن طريق التبيين أو الإبانة، وهذا خلاف ما روّج له المعادون للظاهرية الذين فهموا ظاهر المعنى بمعنى المظهر أو السطح الذي يحتاج إلى إمعان وتفكر واستخراج[11]. ويسترسل الأستاذ الديري في معالجة الظاهرة اللغوية عند ابن حزم، فيبين مفهوم اللغة وعلاقته بالفكر، مميّزا بين لغة الإنسان ولغة الحيوان، موضّحا أنه لا يصحّ إطلاق مصطلح لغة إلا على ما توفر فيه شرط التصرّف والقصد في مقابل الطبع والعفوية.
ولما كانت اللغة هي التصرف في العلوم والصناعات كانت والفكرَ شيئا واحدا أو لنقلل: وجهين لشيء واحد هو الإنسان[12]
وقد كان همّ الباحث أن يبين أن إصرار ابن حزم على ر بط الأسماء بمسمّياتها، وتعريف البيان على ذلك النحو إنما كان لأنه -أي ابن حزم- يعتبر اللغة هي الوسيلة التي لا يمكن من دونها الوصول إلى حقيقة الأشياء، وليتمّ ذلك لا بدّ أن يدلّ كل لفظ من ألفاظها على معناه الحقيقي من غير تشغيب، ويكشف هذا الحرص على اندراج نظرية ابن حزم برمتها، ومفهومه لظاهرة اللغة في صلب الحجاج والردّ على باقي المذاهب التي توسّعت في التأويل إلى الحدّ الذي صار معه المعنى الأصلي استثناء، والمعنى المجازي المعدول به عنه قاعدة، غير أنه كان بوسع الباحث أن يشير إلى آثار الأخذ بنظرية ابن حزم التي تتلخص في أن "الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضى لفظه فقط" المنبنية على فرضية منطقية مفادها أن "القضية لا تعطيك أكثر من نفسها"[13] . كان بإمكان الباحث أن يبين الوهم القائل بأن اللغة تعبر عن الأشياء، أو هي الوسيط المباشر بين الذات والموضوع، إذ الأمر أبعد من ذلك، يقول الفيلسوف الألماني جوتلو- فريجة: " إن مرجع اسم علم هو الشيء ذاته مما نشير إليه بهذا الاسم،، أما التمثل الذي نربطه به، فهو ذاتي خالص، وبين الشيء والتمثل، وعلى حدودهما يكمن المعنى الذي هو ليس ذاتيا كالحال مع التمثل، وأيضا ليس هو الشيء ذاته"[14] ، فبيننا وبين الشيء تمثّل هو أمر ذاتي، ومعنى هو بين الذاتية والموضوعية، وخطورة نظرية ابن حزم تتمثل في تطويق الخطاب القرآني والنبوي بزعم إمكانية القبض على معنى واحد صحيح مرة واحدة وإلى الأبد، وهو تسطيح وتحكّم تكذبه نظريات اللغة والقراءة والتأويل الحديثة، ولهذا المذهب تعلق بمفهوم الحقيقة كما تصورها ابن حزم: حقيقة واحدة مكتملة وموجودة، وما على العقل البشري إلا اكتشافها، ويمثل هذا الاعتقاد بداية كل إرهاب وتسلّط.
الفصل الثالث:الظاهرية ومشكلة الفهم.
عرض الباحث في هذا القسم إشكالية الفهم، فبين ما تطرحه من ثنائيات كالجوهر والجسم والظاهر والخفي والقراءة الصحيحة و القراءة الباطلة، ومفهوم الدليل الخالص والعقل الخالص منتهيا بقراءة نقدية لكل ذلك في ضوء مفهوم انصهار الآفاق عند جادامير، وما يمكن التفكير فيه، وما لا يمكن التفكير فيه عند محمد أركون والحجاج والبرهان عند طه عبد الرحمان واضعا قراءة ابن حزم في إطارها التاريخي الذي حاولت الإيهام بتجاوزه، وإعلان الحقيقة المطلقة، فبيّن الباحث انشداد قراءة ابن حزم إلى الشرط التاريخي والحضاري واللغوي الذي أنتجت فيه، وتفاعلها مع قراءات أخرى مضمرة مثّلت بالنسبة إليها آفاقا ساهمت في تشكلها بطريقة أو بأخرى، إلاّ أن ذلك كان بشكل موجز جدّا، وقد رأينا آنفا أن هذا الفصل يلحق إشكاليا ومنهجيا وبمباحث الفصل الأول الموصولة بإشكالية المعرفة.
الفصل الرابع: قوانين الظهور ( قوانين تفسير الخطاب)
يستهل المؤلف هذا الفصل بالتذكير بالأداة المعرفية التي توصل إليها الخطاب الظاهري وهي "الدليل"،وكان قد بسط القول فيه في الفصل الثاني[15]، وأعاد التذكير في هذا الفصل بأهميته وكيفيته اشتغاله وعلاقته بالنص المقدس بشقّيه: الإلهي والنبوي، مبينا أن هذا النص نفسه دليل، وأن دلالاته تظهر عبر آليات الخصوص والعموم والاستثناء والتخصيص والنسخ، وهي آليات تتجاوز حدود علم النحو إلى علم الخطاب.ككل ذلك في إطار رؤية تنظر إلى النص باعتباره بناء منسجما كآية واحدة،وإن فُرّقِت في التلاوة والقراءة، دليله فيه لا في خارجه، ولا يمكن فهم ما فيه إلا وفق ما يعرضه هو، وما يبدو لنا تعارضا ينبغي أن يعالج " داخليا"بين أجزاء النص وفق الآليات التي عرضها كالنسخ والخصوص والعموم والانطواء الخ…
ويشير المؤلف إلى أن موضوع الخطاب الأصولي الذي عمل ابن حزم على إظهاره من العمق إلى السطح هو (الأمر)، وبذلك فالخطاب " بالنسبة له مجموعة من الأوامر التي يجب فهمها استنادا إلى مرجعية نظرية "[16]
ويسترسل الأستاذ الديري في هذا القسم الإجرائي التطبيقي في ضوء ما بينه من خطوط نظرية عند ابن حزم، فيستعرض وظائف الدليل في (الأمر) وصيغ الأمر وعلاقة الفعل بالأمر وصفة الأمر الخ… وهو لا يتناولها من وجهة نظر نحوية أوبلاغية بل خطابية متلبسة بقضايا لاهوتية على نحو ما فعل في التمييز بين الفعل والأمر، قال:" يرد الأمر في صيغة خطاب يفرض فرضا، أما الفعل فهو يقوم به النبي مجردا من خطاب الأمر[…] إذ أن المعصية التي حذر منها الرسول (ص) في قوله "من من عصاني فقد أبى"إنما هي مخالفة الأمر، لا ترك محاكاة الفعل وما فهم قطّ من اللغة أن يسمى تارك محاكاة الفعل عاصيا إلا بعد أن يؤمر بمحاكاته "[17] وبهذا يكون أمر الشارع لا فعله هو منشئ فعل المكلفين.
وخلاصة القول في هذا الفصل أن قوانين الظهور تعمل في مجمل الخطاب المقدس " فقانون الاستثناء يعمل بوصفه تخصيصا لظهور العموم، وقانون النقل والتأويل يعمل بوصفه تحويلا أو نقلا للظهور، وقانون النسخ يعمل بوصفه تعفية (إلغاء) لظهور مراد طوال مدة يظهر آخر، وقانون تعارض النصوص يعمل بوصفه حلا لمشكلة ما يبدو أنه تعارض بين ظواهر النصوص "[18]. كل هذا على اعتبار أن النص واضح منسجم مكتف بذاته ولا يحتاج إلى سياق أيا كان نوعه، وقد كان للأستاذ الديري إمكانية خصبة للنقد لو شاء، سواء بعرض آراء ابن حزم على اجتهادات عصره، أو على ما توصلت إليه علوم اللسان وفلسفة اللغة والنقد الأدبي الحديث متمثّلا في نظريات القراءة والتأويل، ولكن يبدو أنه أختار العرض والتحليل دون النقد، وهو ما حرم القارئ من إمكانية تبيّن قيمة ما أنتجه ابن حزم والمذهب الظاهري عموما.
خاتمـــــــة
وصفوة القول فقد تمكن الباحث خلال هذه الدراسة أن يعيد تركيب البناء النظري الظاهري من خلال كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم، فانطلق من المهاد الفلسفي إلى الرؤية المنهجية وصولا إلى قوانين تفسير الخطاب، فبيّن أن طلب المقدمات اليقينية قد أسلم ابن حزم إلى تبنّي عقلانية برهانية لا ترى في النص غير ما فيه، وأن ما عداه موقوف على دليل يثبته، وإلاّ بطل أن يكون معرفة، وفي ضوئه – أي في ضوء الدليل- صيغت القوانين الإجرائية لفهم الخطاب المقدّس، هذا الخطاب الذي رأى ابن حزم أن موضوعه الأمر، وقد لاحظنا في حينه أنه كان بإمكان المؤلّف أن يبيّن حدود هذا البناء النظري، فما يدعى بعقلانية برهانية هو طوق آخر يحذّ من طاقة اللغة، ويحرم النّص من إمكانيات التأويل والاستقراء وغيرها، وهي منافذ محدودة أصلا لأن العقل هو عقل النصّ، إي خضوع له ووقوع حتميّ في التّبرير والتّوقّف،أي ،باختصار،أن المشروع الظاهري هو تطويق للمطوَّق أصلا، على خلاف العقل الذي يكون موضوعه الوجود والطبيعة والصناعات: مغامر ورائد ومنفتح.
إن ما أشرنا إليه من افتقار الدراسة إلى البعد النقدي لا ينال من قيمتها العلمية والأكاديمية في إغناء المكتبة العربية بمثل هذه المؤلف القيّم الذي يسلّط الضوء على جانب من تراثنا الثقافي والديني، وقد اختار المؤلّف ألاّ يكون من أهدافه تقويم فكر ابن حزم، وهو اختيار لا تثريب
عليه فيه، وحسبنا أنه أتاح لنا هذا الحوار الخصب مع قراءته ومع المدوّنة نفسها.
[1] – علي أحمد الديري، طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2007.ص13
[2] – نفسه ص143، وما بعدها وخاصة ص158
[3] – نفسه، ص 30
[4] – نفسه، ص ص31إلى 34 .
[5] – عبد الله العروي، مفهوم العقل (مقالة في المفارقات) ط3. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي،ص358
[6] – طوق الحمامة، مصدر سابق،ص.164
[7] – انظر في هذا المعنى: محمد القاضي،الخبر في الأدب العربي(دراسة في السردية العربية)،ط1، بيروت/ تونس، دار الغرب الإسلامي،كلية الآداب بمنوبة، 1998.حيث يقول في معرض تعريفه للخبر:نستهدي بما ضبطه أوقست فيشر(August Fisher) من مبادئ لاستجلاء المراحل التاريخية التي قطعتها الكلمة، والحاصل من هذه المبادئ أنّ الدارس لتطور معاني الكلمة يحسن به أن يرتب تلك المعاني من العام لإلى الخاص، ومن الحسّي إلى العقلي، ومن الحقيقي إلى المجازي ص46
[8] – ابن منظور، لسان العرب، مادة: (ع.ق.ل)
[9] – الموسوعة الفلسفية العربية، مجلد1، ط1، بيروت، معهد الإنماء العربي، ص600 ومابعدها
[10] – طوق الخطاب، مصدر سابق،ص102 وما بعدها
[11] – نفسه ،ص109- 110
[12] – نفسه، ص115
[13] – نفسه، صص 131- 132
[14] – نقلا عن مجموعة مؤلفين من ضمنهم المؤلف، المرجع والدلالة في الفكر اللساني الحديث، ترجمة عبد القادر قنيني، بيروت، أفريقيا الشرق 2000، ص132
[15] – طوق الخطاب، مصدر سابق،ص108
[16] – نفسه،ص179
[17] – نفسه، 188
[18] – نفسه، ص227