أرشيف التصنيف: مقالات

سعادة السفير و(حاجي واشنطن) الظريف

في كتاب السيرة الذاتية لمحمد جواد ظريف (سعادة السفير) الذي صدرت ترجمته هذا الأسبوع، عن مركز أوال للدراسات والتوثيق،  تتكرر كلمة (العلاقات الدولية) أكثر من سبعين مرة، وفي كل هذه التكرارات، دوما تأتي في سياق الإشكالات والسؤال والنقد والبحث عن بديل. تُحدثنا هذه السيرة عن مراجعة تاريخية طويلة لممارسة العلاقات الدولية في السياسة الإيرانية منذ زمن (حاجي واشنطن) حتى زمن الثورة، وصولاً إلى مرحلة مخاضات الاتفاق النووي.

(حاجي واشنطن) تعبير مجازي ساخر وظريف يحيل إليه (ظريف) في سيرته كثيراً. يروي فيلم “حاجي واشنطن” الممنوع لسنوات طويلة في إيران، قصة سفر أول مندوب سياسيّ [1888-1889 م] لإيران في العصر القاجاري إلى الولايات المتحدة الأميركية. وصل السفير حاجي واشنطن إلى منصبه في ظلّ عدم وجود أي إيراني في واشنطن مع مترجم لأنّه لا يتقن اللغة الإنجليزيّة. يلتقي حاجي واشنطن برئيس أميركا المعزول في حفل كبير. ونظرًا إلى جهله بالأحداث، يدعوه ظنًا منه أنّه لا يزال الرئيس، ويقوم بترتيب ضيافة من الأطعمة الإيرانية له، بعد أن فصل كل خدم السفارة لعدم وجود مراجعين، وللاقتصاد في التكاليف. يصل الرئيس السابق في ملابس غير رسمية، بنيّة أخذ حفنة من الفستق.

تحكي نهاية القصّة وحدة حاجي واشنطن ومحادثته لنفسه بالهموم والشجون، بما فيه من عتاب لتخلّف النظام القاجاري، وينتهي الفيلم برجوعه المهين من هذه المهمة الشاقة بشكل مأساوي، وهو يحمل خسارته السياسية.

بحس نقدي عال يعلق (ظريف) على نموذج سفير العلاقات الدولية هذا بقوله: سيرة حاجي واشنطن شبيهة بسيرة الكثير من دبلوماسيينا، ويبقى الفارق أنّ الدبلوماسيين بعد الثورة كانوا يمتلكون غرورًا خاصًا لم يكن حاجي واشنطن يمتلكه.

أراد (ظريف) أن يشكل نموذجاً ثورياً في العلاقات الدولية، ليس بالمزايدة على رجالات الثورة، بل بالثورة ضد نموذج (حاجي واشنطن) لذلك ظل تعريف العلاقات الدولية يثير قلقه، كلما حاول أن يضع له مفهوما أو يمارس من خلاله دورًا. لقد بدأ حياته بدراسة هذا التخصص أكاديميا، وحمل مسؤوليته كمهمة عامة، لا كمهنة خاصة “هذا التخصص حَمَّلَني مسؤولية ثقيلة. وأفكر كثيرًا أنّ الأخطاء التي ارتكبتها أو ارتكبها أمثالي في مجال السياسة الخارجية، يحمل ثقلها سبعون مليون إيراني، حتّى إنّني أقلق”.

حين أصبح ظريف في العام 1992م معاونًا لوزير الخارجية الطبيب علي أكبر ولايتي، كان هو الشخص الوحيد الذي درس العلاقات الدولية في مجلس المعاونين، فقد كان جميعهم مهندسين، هكذا ظلت علاقته بتخصصه إشكالية دوما مع نفسه ومع وسطه، وكأنه يتكلم لغة خاصة ويجد صعوبة في التفاهم من خلالها مع الآخرين.

ظل يطور مفهوم العلاقات الدولية وممارسة عمله الدبلوماسي الخارجي من خلال العمل على نموذج مضاد لـ(حاجي واشنطن): كيف يمكننا أن نطور دبلوماسيتنا الخارجية، لتكون قادرة على المستوى الدولي: أن تفهم لغة العالم، وتفوز وسط الصراعات الحرجة، وتحتفظ بكبريائها وسط ممارسات الإذلال العالمي؟

يكرر ظريف في سيرته الدرس الذي تعلمه من عمله مع الرئيس (خاتمي) وهو وجوب تغيير نموذج العلاقات الدولية، لتكون نموذجًا للحوار عوضًا عن الإلغاء. فلا يمكنك أن تفرض عدم الأمن على الآخرين لتصل إلى الأمن، أو أن تفرض التخلف على الآخرين لتحصل على رفاه شعبك وتطوره، إن كلّ نجاح على حساب الآخر هو نجاح غير مستقرّ.

تفضل الدول المتغطرسة في العلاقات الدولية، نموذج (حاجي واشنطن) وما يشبهه، وهو رجل السياسة الذي لا يملك ندية التفاوض، ولا مؤهلات الحوار، ولا قاعدة المعرفة ولا قوة القدرة أو ما يسميه ظريف نموذج (عمود القدرة) في العلاقات الدولية. يمثل (حاجي واشنطن) نموذج الإذلال في العلاقات الدولية الذي يحدثنا عنه (برتران بديع) في كتابه الحديث (زمن المذلولين.. باثولوجيا العلاقات الدولية).

إنها علاقة مرضية، تعاني من حالة باثولوجية، تفهم الانتصار من  خلال الإخضاع والإذلال الذي هو “فعل قوة تختار الدفع بالآخر إلى موقع أدنى من ذاك الذي كان يتوقعه” كما يقول خبير زمن المذلولين في العلاقات الدولية.

في مقابل خيبة (حاجي واشنطن) الذي عاد من أمريكا يجر أذيال إذلال هيبة الدبلوماسية الفارسية، أطل (ظريف) بابتسامة، من علو على العالم، خلال الساعات القليلة قبيل الاتفاق في 14يوليو/تموز 2015. أطل من شرفة فندق كوبورغ في العاصمة النمساوية (فيينا) ليخبر الصحفيين المُشرئِبة أعناقهم إليه: لقد توصلنا إلى اتفاق نووي شامل مع مجموعة 5+1.

إنها، حكاية سعادة السفير، تَستحق أن تُروى، من شرفة السيرة الذاتية، ففيها خلفيات الابتسامة التاريخية التي استقبلها العالم بارتياح وإعجاب كبيرين.

رابط المصدر في جريدة السفير

الهروب من الوحش

باسمة القصاب*
أعترف أني شعرت بنوع من التثاقل، قبل البدء بقراءة كتاب الصديق علي الديري، الصادر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق «إله التوحش.. التكفير والسياسة الوهابية» رغم إدراكي أهمية هذا الكتاب والعمق الذي يحويه. أقول تثاقلت، لأن التوحش الذي نغرق فيه، يجعلني -مثل غيري- نبحث عن كتاب نهرب به عن هذا الواقع الكريه، إلى نصّ أنيس، لعلّه يعيد لنا شيئاً من إنسانيتنا المفقودة، أو ينعش فينا حرارة الحب التي غابت عن قلوبنا وجوارحنا. وربما لأني أعتقد أن الخروج على الوجه القبيح للعالم يبدأ من إشاعة الحب، لا من إعادة نبش هذه النصوص القبيحة، كان داخلي يقول: قراءة نصوص هؤلاء المتوحشين، توحش آخر.

لكن ما إن دخلت، حتى وجدتني انزلق في قراءة سلسلة، ما يشبه رواية تاريخية مشوّقة ومتعمّقة، وإن كانت موجعة، رواية تعرض سيرة رجل وسيرة دولة، تمر عبر اتفاق تاريخي مفصلي، وقع شفاهة بين رجلين: رجل ملّة ورجل دولة. كان الأول بحاجة إلى قوة السلاح لينشر دعوته، والثاني بحاجة إلى العزّ والتمكين. هكذا أطلق رجل الدولة القوّة في يد رجل الملّة، مقابل ما وعده به الأخير “وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين”. كان ذلك اتفاق الدرعية في العام 1744م، بين الشيخ محمد عبد الوهاب، والأمير عبد العزيز بن سعود.

هذا التناول، صيغ بحسّ نقدي عميق، حسّ لا كراهية فيه، تناولٌ يتمنى تقديم مراجعة نقدية تؤسس لاستئصال هذه النصوص، التي لا ترينا غير صورة إله متوحش غريب، ودين روحه الكراهية والتقتيل.

لا يحمل هذا النقد مناكفة من ابن طائفة لطائفة أخرى، فعلي الديري الذي عُرف بمناكفته الثقافية اللاذعة لطائفته الاجتماعية ونقدها، لا يتناول في كتابه هذا طائفة تكفّر طائفة أخرى، بل (عقيدة) تكفّر المختلف وتستبيح دمه وماله وحلاله، مهما كان هذا الآخر مشتركاً معها في الطائفة نفسها، أو مختلفاً عنها في المذهب أو الدين. إنها عقيدة متطرفة عنيفة مبنية على البراءة والكفر، فمن لا يؤمن بـ(لا إله إلا الله) على طريقتها في التوحيد يُكفّر.

يأتي هذا الكتاب متقاطعاً ومتكاملاً مع كتابه «نصوص متوحشة» الذي صدر في 2015، فالديري مشغول بمحاولة فهم جذور التوحش الذي نعيشه اليوم، أو الوحش الذي سرق وجوهنا. وهو ينطلق من فرضية تقول أن خلف كل صراع عقائدي تقتيلي وتكفيري، أصل سياسي: “فتش في كل خلاف حول التوحيد وما يتصل به من صفات الألوهية عن السياق السياسي، لتفهم هذا الخلاف، وكذلك إذا أردت أن تفهم صراعات الفرق العقائدية والكلامية، فتش عن السياق السياسي”. ليس هناك أقوى من أن تضرب خصمك السياسي في عقيدته لتخرجه من الإسلام، فتشرعن قتله وتبيح التخلص منه.

يتتبع الديري في كتابه الأخير، كيف تحول كتاب دعوة هو «كتاب التوحيد»، إلى وثيقة حركة سياسية ودينية، ودستور دولة لاحقاً. وكيف صارت تلك (الدعوة) عقيدة حرب واختصام توسّع باب الشرك، وتفتح باب الكفر. كيف جُرّد مفهوم التوحيد من كل معاني الوحدة والإيمان ولم يعد يمثّل غير الخصومة والتبرؤ والتكفير والمحاربة فقط. وكيف جُرّد مفهوم الإسلام من كل معاني السلام، حتى أصبحت رسالته محصورة في الجهاد فقط. وكيف جرّد جميع المسلمين ممن هم خارج هذه (العقيدة) من الإسلام، حتى صار الاستثناء من الإسلام هو الأصل.

إنه ليس نبشاً للتاريخ، فالنبش يقتضي أن يكون المنبوش ميتاً أو منتهياً، لكننا هنا أمام حاضر له امتداد تاريخي. أمام نصوص معاشة وحيّة تعمل على تشكيل أتباعها وصياغة عقيدتهم وتوجيه تكوينهم وعلاقتهم بالآخر. نصوص لم يتم تجاوزها كتاريخ، بل ما زالت تدرس في المدارس وتنشر وتترجم وتعاد طباعتها وتوزيعها والتبشير بها والدعوة إليها في الداخل والخارج.

إنه الوجه الحقيقي الذي يلاحقني في حياتي ولا أستطيع الهروب منه مهما ذهبت إلى نصوص السلام والحب ونمت محتضنة إياها لعلها تراودني في أحلامي على هيئة حمامات سلام بيضاء.  ومهما هربت، عندما أستيقظ صباحاً، لن أرى غير جرائم الوحش وهي تزلزل أسى العالم!

*كاتبة من البحرين
رابط الموضوع

رواية من سجن (جو) المركزي بالبحرين

“أنا شاب بحريني، أحببت وطني كما أحب أمي، وكنت أظنهما شيئاً واحداً، فالوطن هو حيث يكون المرء في خير كما يقال، وأنا أكون بخير طالما أنا في حضن أمي” جهاد

ماذا يريد السجين السياسي؟
يريد كسر إرادة إذلاله، هذا ما أراده (جهاد) معتقل سجن (جو) المركزي في البحرين، لقد كتب روايته عن أحداث 10مارس/آذار 2016، بقصد كسر الإذلال الذي تفنن في تجريعهم إياه الدرك الأردني وقوات الشغب والأمن والمخابرات من البلوش والباكستانية واليمنيين والبحرينيين.
أراد أن يداوي جرح كرامته وكرامة 1004 من سجناء (جو) بهذه الرواية. كتب (جهاد) من السجن ذاته الذي ما زال فيه، أول كلمة في هذه الرواية في 10/فبراير/شباط/2016م، وكتب آخر كلمة منها في اليوم العالمي لحرية الصحافة والإعلام في 3/مايو/أيار/2016م.
وسط حالة الترقب والترصد والبحث عن مكان موارب وسط ضجيج السجناء واكتظاظهم، ظل (جهاد) طوال 84 يوماً يكتب روايته، ويهربها أوراقًا متناثرة، استهلك 10 أقلام حصل عليها بشكل متقطع، وبصعوبة شديدة، وأما الأوراق والدفاتر فكانت نادرة الوجود، ولا تتوافر في دكانة السجن دائماً، الأمر الذي يتطلب الانتظار. في المحصلة احتاج إلى 5 دفاتر، ليكتب هذه الرواية التي صدرت هذا الأسبوع عن مرآة البحرين في 352 صفحة.
في رواية اليوم الأول من أحداث 10مارس الشهيرة، يروي لنا أحد مشاهد الإمعان في الإذلال، ففي منتصف الليل، يتقدم الوكيل يوسف إلى منتصف ساحة السجن الخارجية، قائلاً: الآن أريد أن أسمع منكم صوتاً يهزُّ المكان بترديد شعار “عاش عاش بو سلمان[ملك البحرين]” عاش عاش من؟! ردَّ بعض الذين كانوا قربه بصوت منخفض: بو سلمان. صرخ الوكيل: ما هذا الصوت! أريد أن أسمع الجميع يُردِّد، وإلَّا سألقنه درساً لن ينساه.
ضجَّ الناس خوفاً من إرهابه بترديد الشعار، وهو يصرخ فيهم: أعلى أعلى! هم أرادوا من ترديد الشعار كسر عزيمة المعتقلين السياسيين وإذلالهم لمعارضتهم النظام والملك، ولكن الشعار تحول إلى مناسبة للسخرية والضحك، فبعض السجناء كانوا يقولون بصوت منخفض جداً: مات.. مات. وثم يرفعون صوتهم بقول: بو سلمان. والبعض الآخر كان يقول: عاش عاش علي سلمان. قاصدين بذلك زعيم المعارضة وأمين عام جمعية الوفاق.كانت هذه الأصوات لا تُسمع مختلفة عن الآخرى بسبب الصوت العالي والمساحة الكبيرة والصدى، وقد تعمَّد السجناء فعل ذلك، لأنَّه لابُدَّ أن تردّد شيئاً أو تحرك شفتيك.
كان هذا أحد أشكال المقاومة ومحاولة كسر إرادة الإذلال، لكن موجة العنف كانت أبشع من أن تتمكن أجساد السجناء من تحمله، خفتت أصواتهم مع تعاقب نوبات التعذيب عليهم طوال ثلاثة شهور ليلَ نهارَ، وظلت أرواحهم تغالب الانكسار وتشد بعضها بعضا.
في نهاية الأسبوع الثاني من أحداث 10 مارس، أوقف الوكيل الأردني السجناء في برد الليل القارص عراة إلا من سراويلهم، يرافقهم وكيل أردني آخر، يحمل خرطوم ماء أخضر نزعه من أحد الحمامات، وراح يلوح به في الهواء: الكل يشلح أواعيه.
كان أفراد من الدرك الأردني واقفين عند حنفية ماء الشرب البارد، يملأ أحدهم دلواً من الماء. لحظات وصرخ على سجين نصف عار: على بطنك على الإسفلت البارد، ثم قام بسكب دلو ماء بارد على جسد السجين العاري، فانتفض وارتجف مثل سمكة تحتضر أُخرجت للتوّ من الماء! بعد ذلك أمره بالتدحرج على الإسفلت والوحل مسافة 10 أمتار تقريباً إلى زاوية الخيمة، ثم أمره بسكب الماء على زملائه السجناء، جاعلاً أحد أفراد الدرك الأردني حرساً على رأسه، هكذا استمرت الحفلة.
كان (جهاد) في هذه اللحظات يسأل نفسه مقهوراً: لماذا نستجيب له؟ لماذا لا نعصي أوامره؟ فباغته الوكيل بخرطومه الأخضر على جسده العاري، صار يتلقاه بصمت، فالبرد أفقده الإحساس بالألم وبالماء البارد.
يخبرنا (برتران بديع) في كتابه الصادر حديثا (زمن المذلولين..باثولوجيا العلاقات الدولية) أن الإذلال يقوض العلاقات بين الدول وبين الدولة ومواطنيها، وهو يعبر عن حالة تحتاج تشخيص مرضي (باثولوجيا).
طاقم المعذبين الذين يستعينون بشعارت الطاغية لذل المواطنين، يعبرون عن سلطة مريضة نفسيًا، تعاني من حالة باثولوجية، فتُنَفس عن مرضها بإذلال مواطنيها، ويتحولون إلى ضحايا، منهم من تذلهم بالتمييز ومنهم من تذلهم بما تمن به عليهم من مكرمات ومنهم من تذلهم بالاستجداء، ومنهم من تذلهم بتحويلهم إلى موالاة عمياء، ومنهم من تُفقدهم الحياة الكريمة، فيموتون أحياء.
جهاد ليس في خير، فوطنه ليس في خير، وأمه ما زالت تنتظر أن يأتي الخير في صورة وطن يجمعها على ابنها، لتلملم جروحه الكثيرة.

#رواية_جو 

خولة مطر رسولة الحرب والسلام

“أعشق الرومي كما ابن عربي.. كنت في دمشق ليوم ونصف!! كل أيام دمشق تعيشني بالقرب منه ومن طوق ياسمينه.. كأنني أعيش ذلك الزمن” خولة مطر، سوق الجنة (شذرات من السيرة).

ما الفرق بين الزيارة التي قامت بها البحرينية خولة مطر لسوريا، واستحقت عليها جائزة أمين عام الأمم المتحدة الشجاعة، والزيارة التي قام بها 4 نواب بحرينيين لسوريا في 2012؟

لقد ذهبت خولة التي تشغل نائب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا لمعرفة أوضاع الناس المتضررة جراء الحرب القاصمة، التي تنهش أوصال سوريا منذ ستة أعوام، ونقل هذه الأوضاع إلى الأمم المتحدة لتقديم المساعدات اللازمة لهم، كما التقت بالفصائل المسلّحة لتبحث معهم عن حلّ يمكن أن يأتي بالسلام إلى سوريا، ذهبت رسولة حرب، لتبشر بالسلام بعد أن قضت سنوات من عمرها مراسلة حرب. لم يكن الأمر سهلاً، فقد دخلت خولة إلى مناطق محاصرة وخطرة لا تسيطر عليها الحكومة السورية، لهذا هي استحقت جائزة الشجاعة، ولم تكن هي المرة الأولى التي تغطي فيها خولة أوضاع مناطق خطرة تشهد حروباً وحصارات، فقد غطّت قبلها الحرب العراقية الإيرانية وحرب اليمن الجنوبي والحرب الأهلية في لبنان والحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006 وحرب البوسنة.  

أما النواب الأربعة (عادل المعاودة وعبد الحليم مراد وحمد المهندي وفيصل الغرير)، فقد قاموا بزيارة سوريا في 2012 ضمن حملة “تجهيز غازي” التي أطلقتها جمعية “الأصالة” السلفية، وحدّدت لها وظيفةً واحدة هي تجهيز المقاتلين للمشاركة في المعارك بسوريا. وفي تغريداته التي نشرها عقب التقائهم بفصائل مسلّحة من جماعتي “صقور الشام” و”لواء أبو داوود” المتشددتين، عبّر عبد الحليم مراد حينها متفاخراً “تعمدنا الدخول بأنفسنا لتوصيل مساعدات أهل البحرين باليد لتجهيز المجاهدين من إخواننا بالجيش الحر”، كما نشر هؤلاء – بنشوة كبيرة- صورهم ومقاطع الفيديو مع (الغزاة) آنذاك.

وأعلن عضو “الأصالة” الشيخ فيصل الغرير إن “تعداد المقاتلين الذين تكفلت الحملة بتجهيزهم على مدى أربعة أشهر بلغ 1640 مقاتلاً”. كما تفاخر في تصريح آخر 28 أغسطس/ آب 2012 بأن “هذه الأموال حققت انتصارات عظيمة في أرض الشام، أسقطت الطائرات وأموراً كثيرة لا نستطيع أن نفصح عنها” .

لقد غامرت خولة بالذهاب إلى مناطق الخطر، كي تبحث عن طريق يمكن أن تفتح أفقاً للسلام، وينهي الحرب الدموية التي فتكت بالجميع، ويحمي سوريا من الهلاك والدمار الذي آلت إليه، والشعب من الضياع والزوال والتشرد الذي صار فيه، فيما ذهب النواب الأربعة ليؤججوا الحرب ويشعلوا الدمار والقتل والتدمير، وليزايدوا على الخراب والتوحش، ويوغلوا في حرق البلاد بالطائفية والكراهية والأحقاد التاريخية. لقد ذهبت خولة بقلب يحترق على الإنسان، وذهب أولئك ليحرقوا الإنسان، ذهبت خولة من أجل خلاص سوريا، وذهب هؤلاء النواب من أجل التضحية بسوريا، التضحية بها باسم “التوحيد الخالص”، وباسم “أهل السنة والجماعة”، وباسم “ثغر الإسلام”، وهو ما أوجزه النائب المعاودة في مخيم رمضاني راوياً تجربته مع الجيش الحر: “أقول لكل مسلم… من أجل الإسلام لا سوريا”، فسوريا ليست سوى ثغر، ومن أجل الثغر، فلتحترق كل سوريا.

ذهبت خولة بتربيتها التي لخصتها أمها  يوما ما في وصية مكثفة ” اذهبي وساعدي الآخرين” وذهب أولئك النواب بتربية نصوص التوحش الغارقة في الكراهية والتكفير والقتل والتحريض.

تقول خولة إنها كانت تقوم بواجبها في سوريا، وإنها لم تتوقع جائزة (الشجاعة) على واجب تقوم به. يفتخر كل البحرينيين اليوم بخولة، ويرفعون رأسهم عالياً بها، يفخرون بزيارتها لسوريا والتقائها بالسوريين وحتى الفصائل المسلّحة منها، ويضيفون ذلك إلى سجل إنجازاتها المشرفة، ويتمنون لو يقرأون تجربتها تلك كما قرأوا لها يوميات الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006 في صحيفة الوقت البحرينية.

لكن ماذا عن النواب الأربعة اليوم؟ إنهم لا يمتلكون (الشجاعة) ليتحدثوا عن واجبهم الذي كانوا يقومون به هناك، لأنه واجب ليس يمنحهم سوى جائزة العار، إنهم يغمغمون الحديث عن زيارتهم المخجلة تلك، وعن ما قاموا به هناك مع الفصائل المسلّحة المتشددة من “أمور لا يستطيعون أن يفصحوا عنها”، إنهم الآن، يخفون أمر تجهيزهم للغزاة وضخهم للأسلحة والأموال لحرق البلاد، إنه تاريخ أسود يضاف إلى سجلات إرهابهم وطائفيتهم، ويكفي أنه بعد أن فُضح إرهابهم، مسحوا كل تلك التغريدات والصور من حساباتهم، ولو استطاعوا لمحوها من ذاكرة التاريخ بالكامل، لكن التاريخ لا ينسى، ولا الناس.

نحن نفخر بخولة، ولهم أن يخجلوا من عارهم أبداً.

 

ناهض حتّر المقتول على قصور العدالة

كانت عيني الكندية للتو تفتح على مشهد الشرق الأوسط بفارق سبع ساعات. كانت الرسالة الأولى من بلاد الاغتيالات والكتب: «شفت شو صار بناهض حتّر، بتعرف خيفانة عليك، معقول اسم الكتاب ينفهم غلط». كان السؤال الذي انقدح في ذهني لحظتها، هل ينبغي أن أخاف من عنوان كتابي الجديد «إله التوحش… التكفير والسياسة الوهابية»؟

للحظة فكرت في أنها نهاية تليق بكاتب، بل هي ليست نهاية، فهي كتابة له لكن بحبر أحمر. لقد غدا ناهض حتّر أسطورة. لن يفكر أحد في مساحات الاختلاف معه، ولن يفكر أحد في الأطراف التي كان يقف ناهض على أقصى حدودها. سنخجل جميعاً من أن نتحدث عن صغائر الاختلاف معه، وسيصبح العنوان الكاتب المقتول، كما أصبح عنوان فيلسوف الإشراق السهروردي المقتول، أو حسب تعبير ابن تيمية «المقتول على الزندقة» أو المقتول في حلب.

الدم أبلغ من الحبر في اللحظات العدمية الكبرى، كاللحظة التي نعيشها، يكاد الحبر يفقد بلاغته في التعبير عن أزمتنا أو اقتراح مخارج لها أو توصيف حالتها أو تفكيك بنيتها. تصبح اللحظة أكثر إغراءً للكتابة بالأحمر، ليس رغبة في الشهادة ولا حتى رغبة في تقديم درس في التضحية أو خوض معركة تستحق أن نموت من أجلها، ليس من أجل ذلك كله ولا بعضه، بل من أجل أن نعيش على نحو استثنائي في ما يمكن أن نسميه المشهد الثقافي العام. أقولها بصراحة: هذا ما يدفعني لأن أظل متمسكاً بعنوان كتابي، وليذهب المستميتون في التوحش باسم الدفاع عن الذات الإلهية إلى جحيم الحور العين.

لقد قلت «الذات الإلهية» وفي ذهني هلوسات محمد بن عبد الوهاب وهو يردّد عشرات المرات عبارته الأثيرة «إن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه». هو يعني توحيد الذات الإلهية وتنزيهها والدفاع عنها والنطق باسمها والحرب من أجلها والخصومة فيها، تلك هي العبادة. كان قاتل ناهض حتّر يمارس عبادته وهو يطلق رصاصته في منتهك الذات الإلهية.

ناهض حتّر هو أحد ضحايا هذه الخصومة، وأستطيع أن أقول من خلال تقليب مئات الصفحات من نصوص التوحش في تراثنا إن هذه الخصومة ظاهرها عقائدي وباطنها سياسي، وبطن السلطة أو الدولة أو الخلافة يزداد تكرّشاً وترهّلاً كلما استخدمت التوحيد أداة خصومة سياسية، كما فعلت تجربة الخلافة الإسلامية في تاريخنا، وكما فعلت الدولة السعودية الأولى (1744 ــ 1818) وما زالت تفعل، ولن تتوب عن أن تفعل.

التوحيد هو موضوع الخصومة وهو موضوع السياسة في الوقت نفسه. فالجماعات والفرق تختصم حين تختلف في السياسة، وحين تريد أن توجد مشروعية لخلافها السياسي تلجأ إلى العقيدة. وليس هناك أقوى من أن تضرب خصمك في عقيدته (التوحيد) فتخرجه من الإسلام، وذلك هو ما حصل طوال فترات الصراع السياسي في تاريخنا.

افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. هي نار السياسية وليست نار الآخرة. والافتراق هو الخصومة في التوحيد، فكل فرقة تدّعي أنها توحد الله وتعطي الإله ما تستحقه ذاته من صفات التنزيه، في حين أنها تنزه نظامها السياسي ضد شرك الاعتراض والاحتجاج والمطالبات.

من هي الفرقة الناجية اليوم؟ الفرقة الواحدة الناجية اليوم التي تجد نفسها خارج الاثنتين والسبعين ليست غير الوهابية. فهي التي تخاصم الجميع في توحيدهم خصاماً دونه التكفير والتقتيل والتفجير والشقاق والكراهيات المنفلتة من الإنسانية.

لقد وضعت الحكومة الأردنية نفسها في الموضع الذي وضع فيه محمد بن عبد الوهاب الدولة السعودية. فقد جعلها تختصم مع الناس في التوحيد الذي جاء هو به وفرضه شعاراً للدولة. كان ناهض حتّر ضحية هذه الخصومة، خصومة الدولة التي صارت فرقة تبحث عن نجاتها بقتل الفرق التي تختصم معها بدل أن تصير دولة توحد جميع الخصوم تحت مرجعيتها الجامعة والحافظة للمختصمين.

هكذا يعمل «إله التوحش»، يُوَهْبِن الدولة ويحوّلها إلى خصم عقائدي يسفك دماء المعارضين لها على أعتاب قصور عدالتها المزيفة.

الرابط الأصلي