أرشيف التصنيف: مقالات

اقتحام ابن عفيصان الدراز

في معمعة أحداث العشرينيات في البحرين، التي أسّست لشكل الدولة الحديث في 1923 بعد حراك سياسي، زار أمين الريحاني البحرين، ونقل لنا في كتابه، خطاب القائد الوهابي الذي استولى على البحرين بعدما استنجد به آل خليفة ليخلصهم من «الاحتلال العماني»: «أبشروا يا عتوب! هذا إبراهيم بن عفيصان أحد قواد ابن سعود الأباسل جاء بجيوشه يسترجع ملككم ــ يسترجعه يا بني عتبة ليضمه إلى ملك أهل التوحيد وابن سعود…وكان الكلام لابن عفيصان: البحارنة مشركون ولا يُصلح المشركين إلا أهل التوحيد».

ما حدث أمس من اقتحام لبيت أعلى مرجعية دينية في البحرين، هو جزء مما يحدث منذ اقتحام القوات السعودية البحرين في 2011. إنه خطاب ابن عفيصان يُدوّي في الفضاء العام، في الصحافة والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي ومنابر الجمعة والنيابة العامة والقضاء وكل منبر ينطق بلسان الحكومة وموالاتها.

عشرات من خطب الجمعة، وتصريحات الناطق الرسمي باسم الجيش والمقالات الصحافية، ظلت تردد جملة ابن عفيصان: «البحارنة مشركون ولا يُصلح المشركين إلا أهل التوحيد»، من غير رادع أخلاقي ولا قانوني ولا قضائي. خطاب كراهية وتكفير مكتمل العناصر والأركان، يتوسع ويأكل الأخضر واليابس من لحمة المجتمع البحريني.

إذا أردنا أمثلة، يكفي أن نسمع نموذجاً من خطاب ابن عفيصان على لسان النيابة العامة في مرافعتها التي قدّمتها في 27 شباط/فبراير 2017 ضد آية الله الشيخ عيسى قاسم. تقول المرافعة (المسجوعة): «وما أن توقع في يده الأموال حتى ينشب أظافره فيها فلا يعرف أحداً لها مال، فلا يثبتها في أوراق أو يظهرها كمصروفات، بل يخفيها ويغير من طبيعتها أو يجري عليها عمليات تغسلها فتجعلها تشبه الأموال النظيفة، رغم أن مصدرها حرام ومالها حرام وعنوانها الإجرام… ونسي الدعي ما كان بالأمس يدعو إليه، وعظهم ولكنه نسي نفسه فأبى أن ينال حظه من عظاته».

إنها ليست لغة دولة حديثة، ولا لغة نيابة عامة، ولا لغة قضاء عادل، إنها لغة «داعش» وحواضنها، وآبائها المؤسسين من نماذج ابن عفيصان. لم تجد في خطاب الشيخ ما يمكن أن يُجرم عليه أو يكفر به، فراحت للمربع الأول الذي انطلق منه قائد «ملك التوحيد»، مربع التكفير والاتهام بالشرك. راحت النيابة تتحدث بالنيابة عن «أهل التوحيد» والحكم مُجرِّمةً رأس الطائفة: ما تقوم به من جمع للأموال باسم الخمس ليس من الدين وما يُقره فقهك وعلماؤك لا نعترف به، لأننا لا نعترف بمذهبك ونعده شركاً، إنما هو غسل أموال، مصدرها حرام ومالها حرام وعنوانها الإجرام.

هكذا، يُخرّج القانون وتركب التهم ويُحكم بالقضاء وفق مقاس «لا يُصلح المشركين إلا أهل التوحيد» فلا حرمة لطائفة يراها «أهل التوحيد» كافرة، ولا اعتراف بأبنائها، ولا احترام لرموزها. كل شيء منتهك فيها، لكم أن تقتحموا البيت وإن كان فيه رأس الطائفة وشخصيته الاعتبارية.

جريدة الأخبار

سَعُّود بنت حجي عبدالرضا

بعد صراع مع المرض الذي أقعدها خمس سنوات في فراشها، توفيت يوم 18/1/2017صديقة جدتي سلامة سلوم، عرفناها باسمها المدلل (سَعُّود) وهي (الحاجة سعدة عبدالرضا أحمد يوسف الديري) والدها الملا الحاج عبدالرضا، من أعلام قرية الدير مؤسس حملة (الديري) للحج والزيارات.

أحفظ أسماء صديقات جدتي وتورايخ وفياتهن، فهن جزءاً ليس من ذاكرتي فقط بل من سيرتي، كنت صديقهم بقدر ما كانوا صديقات جدتي، كُنّ يسألن عنها ويتفقدنها، ولأني جزءا من سيرتها وعالمها، فكان السؤال والتفقد والحب يشملني، تحضرني الآن من الأسماء وأكتبها على النحو الذي كنا ننطقها نطق تدليع: زهيرة، مريوم، شروف، صفوي، عصوم، سَعُّود، نصرة، فضة.

كانت أم علي (سَعّود) صديقة جدتي صديقات طفولة من دون أن تكون بينهم جيرة أو قرابة نسبية، بينهما حب فائض، تنادي كل واحدة منهما الأخرى (خيوه). لا أحد يعرف كيف نسجوا هذه العلاقة، أمي صباح ترجح أن العلاقة بدأت من (المعلم) عند الحاجة شريفة بنت يوسف، مع هذا الترجيح يبقى هناك سرّ أظنه ذهب مع رحيلهم، فهذا الحب العميق من أسرار الأرواح التي تأتلف بقدرة ربانية يصعب تفسيرها. لا تمل جدتي من الحكي عن متانة هذه العلاقة، وتظل تحكي قصة الخلاف الذي وقع فيه أهل الدير في الستينيات وانقسم فيه أهلها قسمين متشاحنين، على رأس هذا الخلاف تقع عائلة سلامة جدتي من جهة وعائلة سعّود من جهة أخرى، وصل التهديد لكلتيهما أن يقطعا العلاقة، فكان أول امتحان قاس لصداقتهما، ولأن الحب يتغدى بالمنع والحظر، فراحت كل واحدة منهما تحتال على قوانين الحظر، فتبتكر لها طريقة للتواصل مع الأخرى، غالبا ما كانتا تتخفيان تحت جنح الظلام، ليلتقيا تحت جناح نور المحبة التي جمعتهما.

فيما بعد نسي الناس خلافاتهم، لكنهما لم تنسيا قصة المقاومة من أجل الحب والصداقة، وظلت كل واحدة ترويها للأخرى وللآخرين حتى صارت جزءا من تاريخ هذه العلاقة.

تروي أختي الصغرى (زينب) الحفاوة التي تعطيها كل واحدة منهما للأخرى حتى آخر نفس فيهما: كنت في الثامنة من عمري رسولة (سلامة) ومرافقتها إليها، بل كنت أنتزع هذه المهمة انتزاعا، لا أسمح لأي أحد أن يتولاها، فهناك ينتظرني كيس مشحون بالحلويات وآيسكريم الأميرة والكاكو والمينو وتشكيلة مما لذّ وطاب، والويل لمن يقترب منه.

في كل المناسبات لا تنسى (سلامة) صديقة روحها، مع هلال محرم تجهز لها كسوة السواد من الثياب، من بضاعة متجرها الذي كان هو نفسه مجلسها النسائي بالبيت، وخلال أيام عاشوراء ترسل لها بين يوم ويوم قدرها المخصص لها، هي تعرف أن مأتم عائلة صديقتها النسائي يطبخ كل يوم لكن مكانة (سَعّود) في قلبها توجب عليها أن تخصها بشيء من بركة مأتمها.

حين تشتد بسلامة آلام الظهر وتجد صعوبة في حركة القيام والجلوس، كانت تطلب أن تأخذها السيارة إلى حيث بيت رفيقة عمرها، فتخرج (سعّود) لها وتحضنها وهي جالسة في السيارة، تتزودان من بعضهما ما هو فائض فيهما، فتمنح كل واحدة منهما الأخرى طاقة حب تعينها على تحمل آلام المرض وقسوة الزمن وتناقص الصديقات.

تحرص كل واحدة منهما على ترسيخ تقاليد محبة خاصة بها، ف(سعّود) ظلت ترسل عيديتها (10 دنانير) وكأنها تناغي إحدى حفيداتها، بإدخال الفرحة عليها في يوم العيد.

لقد قلت إن شيئا من سيرتي يتعلق بصديقات جدتي، ليس السيرة فقط، بل حتى وجودي البيولوجي يتعلق بهم، فقد عانت والدتي من مشكلة إجهاض الحمل عدة مرات، فكانت تبوح جدتي لصديقتها (سعّود) بمشكلة ابنتها، فأرشدتها ل(مريم جان) الحاجة المحاطة بالأوراد والأدعية والأضحيات والبخور والطقوس، خضعت والدتي، لوصفة من وصفاتها، فجاءت ولادتي عليها، وظلت الوصفة نفسها تُتُبع بحذافيرها مع 13 ابناً، كنت أنا أولهم، جئت محاطاً بالنذور والقراطيس والأسرار والأحراز، وكانت جدتي المشرفة على تطبيق تفاصيل الوصفة ومتطلباتها فيما تتولى (مريم جان) قراءة الأوراد على الأضحية، ولعل أصعبها كان البحث عن تيس (طمطم) أسود، ظلت جدتي تكلف الضرير السيد عيسى أخ السيد حميد جارنا للبحث عن هذا الطمطم مع كل حمل لوالدتي، يظل معها بالبيت طوال فترة حملها وتتولى هي بيدها إطعامه، ويذبح مع الولادة، ويكفن ويوضع معه كيلو دهن أخضر وست بيضات وكيلو سكر، ويدفن في مقبرة الدير، كل ذلك إرضاءً لما كانت تسميه أمي وجدتي و(سّعود) ومريم جان (التابعة).

أضحيتي تنام هناك في مقبرة الدير، وجدتي تنام هناك أيضا وصديقاتها يجاورنها واليوم تتبعهم (سّعود). لكني في هذه اللحظة من لحظات احتضار كل شيء في وطني لا أعرف إن كنت سأتبعها حين تأتي ساعة اليقين.

من هي هذه (التابعة) وكيف تحضر في المنام لوالدتي وماذا تطلب منها وكيف تتدخل في حملها وتهددها بقتلي إن حاولت أن تقوم بأي عملية (ربط) عن الإنجاب، تلك قصة تطول.

رحم الله (أم علي) وأسكنها مع جدتي فسيح جناته

لقد فعلوها جعلوا الحكاية كلها هم

لا نعرف حكاية الساعات الأخيرة من حكاية عباس السميع ورفيقيه سامي مشيمع وعلي السنكيس، ف”المحكوم بالإعدام لا حكاية له” كما يخبرنا الأديب الروسي دوستويفسكي (1821- 1881) الذي حُكم عليه بالإعدام بسبب أفكاره السياسية، لكن في اللحظات الأخيرة من تنفيذ الحكم، تم تحويلها إلى عقوبة أخف، فعاد ليحكي لنا حكاية المحكوم بالإعدام في روايته (الأبله) يقول “أما في حالة الإعدام فهم يحرمونك تماما من تلك البقية الباقية من الأمل التي تخفف وقع الموت على نفسك عشرات المرات فاليقين عن أنك لن تفلت من حكم الإعدام هو ذاته العذاب الذي ليس بعده عذاب”.

لم يتوفر الملك الذي صادق على قرار إعدام عباس وسامي وعلي، على مناقبية، لتحيي فيهم شيئا من أمل العفو أو التخفيف أو الإيقاف، كان أدنى من ذلك، وكانوا أعلى فصعدوا بحكايتهم.

(حكاية الإعدام) تلك هي المهمة التي يريدنا عباس ورفيقاه أن ننجزها، أن نحكي القصة، أن نروي ما كان يعتمل في أرواحهم ومخيلتهم، أن نُنُزل إلى الأرض القصة التي صعدوا بها إلى السماء، أن نتخيل كيف أخذوهم؟ وكيف أوقفوهم؟ وكيف وجهوا أسلحة الموت إلى وجوههم؟ وماذا أذاقوهم من ذل الانتقام؟ وكيف تلقت قلوبهم الرهيفة رصاصات الحقد؟ كيف نطقوا آخر كلماتهم؟ كيف وجهوا نظرهم إلى القاضي الذي حضر قتلهم؟ كيف أدار رجل الدين خجله وهو يعظهم؟  وكيف حضرت صور أمهاتهم في مخيلتهم الأخيرة؟ وهل كانوا مطمئنين إلى أننا مؤتمنون على رسالة دمهم؟

لقد تركوا لنا من سيرهم وقصصهم ورسائلهم ما يساعدنا لبناء الحكاية التي لم تصلنا، لنكمل فراغات حكايتهم الأسطورية، هكذا يُلهم البطل حكاية إعدامه، وكأنه يُنزلها من السماء في قلوب من يؤمنون برسالته. وتلك إحدى مفارقات الشهيد، هو قادر أن يُوحي بحكايته حتى لو لم تُتح له فرصة السرد، ذلك لأنه يُوهب حياة ولا يُعدم حياة حتى لو قضى بالإعدام.

لقد منحتهم هذه الشهادة حياة أخرى وحكاية استثنائية، ولكأن (الإعدام) السياسي في سياق الحراك البحريني كرامة تُدخر لحظتها لأصحاب قادرين على أن يجعلوا منها تاريخا وطنيا لا يُنسى، لقد تأخرت هذه اللحظة عشرين عاما، وعلى الرغم من قسوة الأحداث منذ 14 فبراير2011، فإنها لم تأت، وبقيت مدخرة ومضنوناً بها، حتى نزلت وكأنها هبة ربانية على ثلاثة شبان، صنعوا من خلالها أسطورة ينقصها شيء من الواقع لا شيء من الخيال، لكأنها طقس فداء، والمفدى وطن.

لسان حال كل شهيد للقناص الذي كان يطلق باسم الملك:”سأصير يوما فكرة لا سيف يحملها”(محمود درويش). لقد صاروا فكرة وحكاية وأمثولة، بقوة قضيتهم وبخطابات أمهاتهم التي أجادت تمثيل شهادة الأبناء والنطق باسم هذه الشهادة بقوة خارقة.

لقد غدوا حكاية لا يمكن لكل أجهزة إعلام السلطة أن تزوّرها، بكل هذه الحشود الشعبية التي اصطفت في طوابير لا نهاية لها وهي تقدم العزاء لأهالي الشهداء، لقد فهموا الفكرة، وعرفوا أنهم يقفون ليثبّتوا الحكاية في التاريخ، إنهم بوقوفهم يثبتون ما تريد السلطة أن تدمره، ويكسرون ما تريد السلطة أن تفرضه.

لقد فعلوها، جعلوا الحكاية كلها هم، أولئك المحكومون بالحياة الأبدية.

#عباس_السميع #علي_السنكيس #سامي_مشيمع

رابط الموضوع

وهم الحدود ويقين الموت

يضعنا مراسل الحرب محمد محسن في كتابه (وهم الحدود معركة القصير، دار الآداب 2017) على تخوم الموت الخاطف الذي لا يعرف الوهم بقدر ما يعرف اليقين، يروي لحظاته المتوترة مرة وهو يراوغ  رصاصة من عيار 33 ملم، ومرة وهو يخوض لحظة جنون لم يجد غير رفيقه حمزة الحاج حسن يشاركه فيه، ومرة وهو يحتمي تحت دشمة ويمد رجله بسرعة، ليركل حمزة أيضا، فيسقطه على الأرض، ليؤجل موته الوشيك.

على تخوم الهرمل والقصير ليس هناك حدود، هناك حياة مشتركة ومختلطة، وتكاد تكون الجنسية والأوراق الرسمية لا تعني شيئا، هناك (اقتصاد الظل) غير المحكوم بقوانين الدولة وضرائب التجارة وموازنات الخطط ، وهناك الجغرافيا تخضع لمنطق ظل الله “فالجغرافيا ظل الله على الأرض” والتاريخ يخضع لمنطق ظل حزب الله “فالتاريخ ظل الإنسان على الطبيعة”. الحدود وهم وفق هذين المنطقين إذا ما أردنا أن نأول عنوان الكتاب.

في الحوار والجدل حين نختلف نذهب إلى الحدود(التعريفات)، لنعيد تعريف الكلمات والمفاهيم، وفي الحرب وهي نهاية الاختلاف وبداية الخلاف ونهاية الخصام وبداية العداوة، نذهب أيضا إلى الحدود، حدود جغرافيا الاشتباك، لنفهم منطق الحرب.

حين لا نفهم منطق الجغرافيا والتاريخ، نضل فهم الحدود، ونتوه في الوهم، كثيرون تاهوا في الوهم لأنهم، لم يعرفوا منطق الحدود التي بين سوريا ولبنان.

لقد واجه (ابن الجنوب) يقين الموت، ليكسر وهم الحدود الذي ثبّته إعلام يجهل أو يتجاهل الحقائق التاريخية والجغرافية والديموغرافية، لا ينسى وهو يحدثنا عن الموت الذي كان يُحدِّق به من كل جهة على الحدود، أن يقدم في كل لحظة موت وشيك شهادة عن حمزة الحاج حسن رفيق دربه وحلمه الجامعي والإعلامي “ابتليت بحزني الأكبر عندما استشهد رفيق عمري حمزة”، ولا ينسى وهو يحدثنا عن حزنه النبيل على هذا الفقد، أن يحكي عن لحظاتهم المفعمة بالضحك والسخرية وسط الموت، وتبادلهما زوايا بث الرسائل المباشرة التي هي زوايا موت يوشك دوماً أن يقع.

يكتب عن ذروة الموت، عن الحدود القصوى التي تقترب فيها الحياة من النهاية لحظاته، يكتب وقائع الحرب بصوته وقلمه وقلبه “لا أحب التاريخ الذي يكتبه المنتصر أي منتصر، أكتب هنا ما رأيته وما عرفته..” لا يريد أن يكتب هذا التاريخ أي منتصر، بقدر ما يريد أن يرويه هو، وتلك معركة كبرى في معركة أكبر. المرة التي لم يستطع فيها أن يكون شاهدا على صفحات كتاب هذه الحرب، هي يوم انطلاق تحرير مدينة القصير 19أيار/مايو2013 والسبب في ذلك يعود إلى سفر إخوته وعدم قدرة أمه على تحمل فراغ البيت من ثلاثة أبناء مسافرين، أحدهم ذاهب نحو موت محتمل.

الموت حاضر أيضا في إهداء الكتاب، حاضر بشكل مكثف في جملة واحدة “إلى حمزة حاج حسن” هي علي المستوى النحوي جملة واحد فعلا، لكنها على المستوى البلاغي، حكاية مشحونة بالمعنى، فحمزة واحد من الذين أرادوا أن يكتبوا التاريخ من الميدان لا من الديوان. الكتاب بهذا الإهداء شهادة وفاء وتقدير لما أراد حمزة أن يبقيه من رسالة، ويكتبه من تاريخ، ويشهد به من حقيقة، ويحطمه من أوهام إعلام يفجر في الخصومة، ويفحش في العداوة.

في يوم ما كنت على تخوم هذه الحدود، تجولت في ريف القصير، وأكلت من مشمش بساتينها، وتبضّعت في سوق المسيحيين بربلة، وصليت في مسجد المسلمين (المجتبى) واستمعت إلى رواية عائلة لبنانية تسكن هناك، وسقطت سيارتي في ترعة من فروع نهر العاصي بحوش سيد علي. لقد منحتني هذه التجربة فهما حياً ومباشراً لفكرة الحدود، وكنت أصرخ “من لا تسقط سيارته هنا ويمشي على قدميه بين هذه الحدود لن يفهم نطاق الحرب ومنطق الحزب هنا”.

بعد أن قرأت هذا الكتاب، ازداد يقيني وتوسع فهمي، وصرت أدرك أن الحد ليس نهاية دولة بل بداية دولة، إن سقطت الأخيرة انتهت الأولى.

رواية (سماهوي) التاريخ الذي أبحث عنه

أستعيد هنا حديثا جرى بيني وبين (باسل الديري) في إحدى ليالي المهجر الكندي، في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، من هذا العام الذي يوشك أن ينتهي، كان لتوه انتهى من قراءة رواية (سماهوي) وأنا كنت حينها في الصفحة 35 منها، لم أضف شيئا على ما قاله سوى كتابة المقطع الأخير المقتبس من نص الرواية:

تمهلت في قراءتها يومين، لأكملها في يوم ميلادي الثامن عشر، أردتها أن تشكل تاريخا لا ينسىى، فهي قد شكلت حدثا هزّ كياني، طوال سنوات دراستي بالبحرين من صف الأول ابتدائي للصف الثاني ثانوي، قرأت قصائد وسمعت أغاني وخطب عن البحرين، لكنها لم تترك في شيئا يستحق التذكر، سماهوي على العكس من ذلك، زلزلت كل شيء فيّ. شعرت أنها (أنا) تتحدث عني، عن تاريخي، عن معاناتي، عن هجرتي التي صرت فيها، لأول مرة أجد نفسي مدفوعاً للقراءة عن تاريخ هذه الجزيرة الصغيرة، أريد أن أقرأ الآن كتاب (القبيلة والدولة). لم يرد اسم البحرين في هذه الرواية ولا مرة واحدة، لكنه حاضر فيها بشكل تشمه في كلماتها وشخصياتها وأحداثها وذاكرتها وجغرافيا البحر والزرع.

لقد نطق بلسان حال بطل الرواية عيسى بن غانم نطقا اقشعر معه شعر بدني، حين قال“هذا هو وجه المنفى: أنت وحدك، وما يحدث لك خاص جداً ولا تعرف ماذا تريد؟” أذهلني، كأنه يتحدث عني بالضبط، لا أعرف في هذه اللحظة من منفاي، ماذا أريد؟ أشعر بوحدته التي جعلته على أطراف مدينة (لنجة) حيث البحر، ولا يريد أن يدخل عمق المدينة، وكلما تحرك قليلا إلى الداخل، شَخَصَ ببصره إلى الميناء كي لا يغيب عنه.

كلانا أنا وعيسى بن غانم، لا نعرف ماذا نريد، ونعيش نوعاً من العزلة القلقة، ونحمل مخاوف الموت في الغربة “المنفيون يمقتون الموت في المنفى”ص146، ولا نعرف أين سندفن، يقلقني أن أدفن في المنفى، ويقلقني أكثر رجوع عيسى بن غانم إلى قريته، حيث نسي طرقها التي تغيرت، ولم يتعرف عليه أحد، هل رجوعي سيقهرني، أكثر مما تقهرني الغربة الآن؟

(سماهوي) تمثل حالة المئات من البحارنة المشتتين في المنافي والمهاجر، وتمثل حالة آبائهم وأجدادهم الذين يخرجون من أراضيهم على خوف مع (سلوم الشمس) وهي تروي تاريخهم مع الأرض التي ارتبطوا بها ارتباطا أسطوريا، كما ظهر في علاقة عيسى بن غانم ببستانه، وهو يقول:

“نحن فلاحون وبحارون ندخل البساتين قبل شروق الشمس ونغادرها بعد الغروب، أوّل ما نراه النخيل وآخر ما نراه أيضاً، وما بينهما للبحر، لا وقت لدينا لشيء غير الأرض، لا نرى بيوتنا إلاّ في الظلام، نعرف مواعيد زراعة الخضروات بأنوفنا لا بمجيء الشهور وتقلّب الأيام، لكلّ موعد زرع رائحة نعرفها، ولدنا في هذه الأرض على رائحة طلع النخيل، نحن لا نذهب إليهم، هم الذين يأتون.هم الذين جاؤوا إلينا…”