أرشيف التصنيف: مقالات

هل يعتذر تلفزيون البحرين؟

 

bahrain tv

 

ليس جديداً أن يضع النظام البحريني خصومه في موقف الإعتذار الإضطراري. فعلها مرراً، وبروح التشفي القبلي يفعلها كثيراً، وهو يرى في هذا النوع من الإعتذار شكلاً من الإخضاع والتأديب والشعور بالإنتصار.

جاء اضطرار اعتذار المدير العام لقناة «المنار» عبدالله قصير عن تغطية الاحتجاجات في المملكة بعد تهديد البحرين عبر «إتحاد إذاعات الدول العربية» بسحب عضوية «المجموعة اللبنانية للإعلام» (قناة المنار وإذاعة النور) منه، الأمر الذي يقود إلى منع بثها على قمري «عرب سات» و«نايل سات».

مادام الأمر يتعلق بالاعتذار، والمهنية والموضوعية والتلفزيون، فمن المفيد أن نسرد شيئاً من أرشيف الاعتذار وتلفزيون البحرين.

في 2011، في سعير قانون الطوارئ، أُجبرت الشاعرة آيات القرمزي، وهي في السجن، على الاعتذار أمام كاميرا تلفزيون البحرين،، بعدما «تفننت» المخابرات البحرينية (جهاز الأمن الوطني) في إذلالها وتعذيبها، وراحت القناة الرسمية تمعن في الاستخدام المهين وغير المهني وغير الأخلاقي لهذا الاعتذار. مع ذلك، لمتنكسر آيات، ومازال الناس يرددون قصيدتها، ويرفعون صورها، ويحتفلون بها في محافل الثورة وميادينها. صارت رمزاً رغم إذلال الاعتذار. وبقدرته الباهرة، حوّل جمهور الثورة آيات إلى رمز واعتبروا اعتذارها عاراً على الملك حمد بن عيسى آل خليفة وتلفزيونه.

في سياق قانون الطوارئ البحريني 2011، حاكم تلفزيون البحرين عبر برنامجه الرياضي «حدث خاص»، الرياضيين الذين شاركوا في مسيرات احتجاجية، وحقق معهم علناً ومباشرةً بشكل مذل ومهين، ووضع صوراً تُظهر مشاركاتهم، وأحاط وجوههم بدوائر حمراء مع كتابة أسمائهم، مطلقاً عليهم تهمة «الخيانة»، وواصفاً إيّاهم بأشبع النعوت. وطلب من الرياضيين تقديم الاعتذار الذي لن يقبل منهم، كما اعتقلوا بعد أقل من 48 ساعة من انتهاء البرنامج، ونكل بهم بشتى الوسائل.

ما زال تلفزيون البحرين أداة إذلال بيد السلطة. قبل عام، خيّرت الإستخبارات البحرينية موقوفي «سجن الحوض الجاف» (أحد سجون البحرين الشهيرة) بين تقديم اعتذار أمام الكاميرا للملك يناشدونه فيه بالإفراج عنهم أو سيتم ضربهم. وفي شهادتها قالت زينب الخواجه (مازالت سجينة رأي) إن السجناء الذين رفضوا تسجيل الاعتذار تم ضربهم بشدة وتم نقلهم للمستشفى وبعض الموقوفين الذين وافقوا تحت الضغط على الاعتذار، تم إخبارهم بأنه سيتم الإفراج عنهم إذا قالوا أمام الكاميرات إنهم يطالبون مسامحة الملك.

التلفزيون نفسه في العام 1999م، أجبر الراحل الشيخ عبد الأمير الجمري، وبشكل مفاجئ، على الاعتذار أمام الملك الذي كان يجلس على كرسي العرش باحثاً عن لحظة تشفي. أراد أن يجعل من الاعتذار أداة انكسار، غير أن الناس لم يمنحوا الملك ما أراد، بل تلقفوا الجمري وأجبروا كسيرته ليعبروا بها إلى حيث 14 شبط (فبراير)2011. وهو ما جعل السلطة نفسها تهدم قبره في 2011 إلى جانب ما يفوق 38 مسجداً شيعياً من دون أن تعتذر أمام أحد.

التلفزيون نفسه، حوّل إدانة تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية (تقرير بسيوني) إلى مناسبة احتفالية تسجل ضمن إنجازات الملك. وبدل الاعتذار عن الإنتهاكات التي سجلها التقرير الدولي، راحت الشاشة الرسمية تضاعفها وتعري الضحايا من كرامتهم.

في البحرين، الإعتذار عن الموقف والرأي والإحتجاج السياسي، لا يهدف إلى فتح صفحة جديدة، بل إلى إخضاع المحتج لبيت الطاعة والولاء. وهو لا يتم على قاعدة «عفا الله عما سلف»، بل على قاعدة التشفي والانتقاموالقصاص غير العادل.

نحن نعتذر عن واجب لم نقم به، أو خطأ وقعنا فيه، أو إساءة اقترفناها بحق أحدهم. لكن في البحرين المطلوب أن تعتذر عن رؤيتك السياسية التي لا تتفق مع تلفزيون البحرين وملكه. وهذا ما كان مطلوباً من «المجموعة اللبنانية للإعلام». فهل يجبر لها الشعب البحريني اعتذارها، كما جبر ضحايا تلفزيون البحرين؟

 

رابط الموضوع: https://www.al-akhbar.com/node/196654

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

مخطوطات مكتبة السيد المرعشي.. آغا (واسطي) المخطوطة الناطقة

أخيراً، وصلت مكتبة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي(1990-1897)العالمية، منذ 1988 وأنا أنتظرها، كنت قد حلمت بزيارته منذ قرأت عنها في كتاب فهمي هويدي (إيران من الداخل) في المرحلة الثانوية، وتخيلت عدد الكتب التي تضمها، ظللت أتحدث عنها بإعجاب دون أن أراها. محملاً بأفق الانتظار العجيب دخلتها، ولم تكسر أفقي، لكن كان هناك شيء آخر كسر هذا الأفق بشكل إيجابي ضاعف من جمالها في داخلي، إنه مسؤول قسم المخطوطات في المكتبة، الأستاذ واسطي.

يتحدث وكأنه مخطوطة من هذه المخطوطات، وذلك لفرط الحميمية التي يتحدت بها عن هذه المخطوطات وللحماسة التي كان يبديها في تعريفنا بالطريقة التي جمع بها السيد المرعشي هذه المخطوطات، كل ما فيه كان ينطق: عينه وصوته وحركات يده ونبرات حروفه وسكتاته وتنقلاته بين رفوف المكتبة. بدت المترجمة الشابة الأهوازية سحر، مأخوذة أيضا به، وهذا ما أعطى لترجمتها حرارة كانت تستمدها من حرارة روحه التي بها ينَطق ويُنطق كل شيء. بعد أن عرض لنا المخطوطات القرآنية التي تمتد من القرون الأولى الهجرية مروراً بفترة الحكم الصفوي بإيران وحتى العصر الحديث، وقف في نهاية الصف ينظر من آخر مخطوطة إلى أول مخطوطة، وهو يقول: هل رأيتم حرفاً تغير من مكانه؟ عجباً كيف يتهمنا بعضهم بتحريف القرآن، ونحن حافظنا على جمال حروفه وجلال معناه بكل هذا الحب؟ ثم يصمت، ليدهشك بمخطوطات مقدسة أخرى، مخطوطات لكتاب الزبور وكتب الأديان الشرقية، يتحدث عنها باحترام شديد، ثم يقف برهة، وكأنه يخطب فينا: هل تعرفون الشبه بين الإنسان والكتاب؟

يسأل بحماسة من يهيئك لجواب عجيب، راح يسرد وكأنه أحد تلامذة أفلوطين الذين يرون العالم إنسانا كبيرا. ليست المخطوطات أشياء عند (واسطي) بل هي كائنات، هي إنسان له ظاهر وباطن وعنوان وأسرار وشكل وعمر وأمراض وغموض ووضوح وتاريخ وأصل وفصل.

هناك 37 ألف مخطوطة في المكتبة، تحمل خطوط العلماء الذين كتبوها وعرقهم وآمالهم وتشوفاتهم وعصارة قلوبهم قبل عقولهم.يتوقف (واسطي) لحظات قبل أن يقول لنا، أرجوكم اسمعوا مني ما سأقوله، وستتمنون لو تكونوا مخطوطات مثل هذه المخطوطات التي ترون الآن ظاهرها.هل تعرفون كيف جمع السيد مرعشي هذه المخطوطات؟ قلت في نفسي أكيد من أموال الخمس التي توفرت لديه. خجلت من نفسي لهذا الجواب المتسرع.قال (واسطي): انظروا إلى البطاقات المكتوبة جنب المخطوطات.

تأملت في بطاقة مخطوط مكتوب عليها، كتاب (الطرائف) رضي الدين علي بن طاووس، مقابل ختم القرآن.

كان السيد المرعشي في بداية مشروع جمع المخطوطات لا يملك المال الذي يمكنه من شراء المخطوطات، فيقوم بأعمال عبادية بالنيابة عن آخرين(ختم قرآن، صلاة نيابة، صوم نيابة)مقابل مبلغ مالي يجمعه لشراء مخطوط ما. كان يسجل فوق كل مخطوط الطريقة التي دبر بها قيمته. تشكل هذه البطاقات تاريخ العلاقة الشخصية الحميمة بين السيد المرعشي ومخطوطاته. لقد تسرب هذا العشق الذي ترك آثاره السيد على المخطوطات، إلى أمين المخطوطات السيد واسطي، فأكسبه طاقة الحب الذي يتكلم من خلالها عن هذه المخطوطات.

عرفت من خلال أمين المخطوطات، أن السيد تنبه إلى أهمية المخطوطات، وأنها كنز ثمين، من خلال المستعمر البريطاني الذي كان يشتري هذه المخطوطات ويرسلها إلى مكتبة لندن، وهناك ترقد آلاف المخطوطات.

إحدى أكثر القصص المشهورة حول علاقة السيد مرعشي مع مخطوطاته، هي حكايته مع مخطوط كتاب (رياض العلماء وحياض الفضلاء). كنت قد قرأت عن هذه المخطوطة في كتاب كولون تيرنر (التشيع والتحول في العصر الصفوي) والكتاب عنوانه في الأصل (إسلام بدون الله. فقد رجع (تيرنر) إلى هذا الكتاب في الفصل الرابع المخصص للحديث عن (العلامة المجلسي: البراني الأمثل) لكني لم أعرف حكاية هذا المخطوط إلا في هذه الزيارة للمكتبة التي بفضلها تمكن السيد أحمد الحسيني المحقق الفذ من إخراجه في7 مجلدات.

يقول السيد مرعشي: في 1921 خرجت يوماً من مدرسة (قوام) التي كنت أسكن فيها، فالتقيت امرأة تريد أن تبيع كتاب (رياض العلماء) للعلامة الميرزا عبدالله أفندي بخمس روبيات فعرضت عليها مائة روبية. وإذ برجل يشتري الكتب القديمة للحاكم الانكليزي يزايدني عليه، لكن المرأة لم ترضَ أن تبيعه. عادت معي إلى المدرسة، فبعت بعض الأغراض واقترضت من زملائي وسددت المبلغ. وبعد ساعة جاء الرجل مع الشرطة يتهمني بسرقة الكتاب، فسجنت ليلة وفي اليوم التالي أجرى عالمان مباحثات مع الحاكم وانتهت إلى إخراجي من السجن بشرط تسليم الكتاب إلى الحاكم بعد شهر. عدت إلى المدرسة وطلبت من زملائي نسخ الكتاب وأنهوه قبل المدة. فذهبت إلى شيخ الشريعة وأخبرته عن أهمية الكتاب، وبقي عنده حتى تنتهي المدة. لكن الحاكم قتل بهجوم شعبي قبل انتهائها. وبعدها انتقل الكتاب إلى ورثته، أما النسخة التي عندي فقد استنسخ منها 12 نسخة.

تكملة قصة هذا الكتاب الموسوعة، سنجدها عند السيد أحمد الحسيني الذي حققها وفهرس مكتبة السيد مرعشي، وكان محل ثقته.

مدينة «يسقط حمد»

 

graffity 2 (1 of 1)

 

الجدران تريد الاعتراف، الاعتراف بحق كل المواطنين في أن يكونوا ما يريدون ويقولوا ما يريدون ويقيلوا من لا يريدون، من دون أن ينال أحد من كرامتهم. يتطلب ذلك مواطنة كاملة تتخلى فيها السلطة عن شرعية الفتح التي تحتكم إليها في ممارسة الحكم القائم على التمييز والإقصاء، والاستناد إلى شرعية الشعب الكامل الصلاحيات والحقوق. الاعتراف بأنّ تاريخ الفتح (1783) ليس تاريخ البحرين، بل هو تاريخ آل خليفة، وهو تاريخ الإذلال أو التبعية (الولاء القبلي) لمن هم خارج العائلة. في افتتاح المتحف العسكري في 5 شباط (فبراير) 2013 التابع لقوة دفاع البحرين، يقف الملك أمام جدارية كبيرة تشير إلى هذا التاريخ. تلخّص صورة الملك وهو ينظر إلى هذه اللوحة القصة الكاملة لتاريخ أزمة البحرين، كيف يرى الملك وعائلته هذه اللوحة؟ وكيف يرى الشعب هذه اللوحة؟ لو وضعنا جدار المتحف العسكري، قبالة جدران شارع البديع والمنامة وسترة وجدران، بلدات مثلث الصمود وبقية مناطق الاحتجاجات الملتهبة بالشعارات التي تحاكي مشاعر الناس الحقيقية، فسنرى أزمة البحرين العميقة من خلال جدرانها. جدار المتحف يذكر بأمجاد القبيلة (الفاتحة) وجدران المناطق الملتهبة، تذكر بالظلم الذي وقع وما زال يقع عليها من تاريخ هذا الفتح. ليس في جدار المتحف ما يشير إلى تاريخ مشترك، معركة وطنية مثلاً أو بطولات خاضها السكان ضد عدو خارجي. فيها ما يذكر السكان السابقين لمجيء آل خليفة بالإخضاع والسيطرة والقوة الغالبة عليهم. يقف الملك أمام هذه اللوحة بزهو، لكن في المقابل، لو يمم وجهه تجاه الجدران الحقيقية خارج قصره ومتحفه العسكري، فماذا سيرى؟ لن يرى ما يبعث على الزهو، سيرى جدران «يسقط حمد». سيجد نفسه مضطراً إلى الإذعان لحقيقة أنه الحاكم الأكثر إهانة من قبل شعبه. هكذا ترد الجدران على الإذلال الممنهج لساكنيها، بإهانة الرأس الممنهج للإذلال، فتحقق قدراً من الاعتراف. الاعتراف أمام نفسها بأنها قادرة على الرد وإعادة الاعتبار إلى ذاتها المذلة. وهذا ما يختصره شعار «هيهات منا الذلة» المقرون دوماً بشعار «يسقط حمد» على الجدران. المدينة هي المكان الذي يتحقق فيه قدر معقول من الاعتراف، الاعتراف بحق المواطنين في التعبير عن حقهم في القول والكتابة والكلام. رسالة الجدران تهدف إلى تحقيق هذه المدينة. الذل يتصل بالغزو والحكم الغاصب وأشكال الاستعباد والاسترقاق، وهو التاريخ الذي تتمثله هذه اللوحة فوق الجدار العسكري الخاص بتاريخ القبيلة، ولنتذكر أنّ السخرة وضريبة الرقبة لم تقبل قبيلة آل خليفة أن توقف العمل بهما إلا بعدما فرضت بريطانيا إصلاحاتها الإدارية في مايو 1923. هذه المعاني المتصلة بالذل هي ما تسميه نظرية الاعتراف بالتجارب الأخلاقية السلبية أو تجارب الإذلال والمهانة والإقصاء (انظر: كتاب الاعتراف، الزواوي بغورة). السبب الرئيس لأشكال المهانة والإذلال والانتهاك يعود إلى غياب النماذج الثلاثة في الاعتراف التي تحدث عنها أكسل هونث تلميذ الفيلسوف هابرماس، وهي: الحب والقانون والتضامن. وبهذا الغياب يحدث الصراع في المجتمع بين جدران الناس وجدارن متحف الملك. «العودة إلى دستور عقدي. رحيل آل خليفة، يسقط حمد، لا حوار مع القتلة، تقرير المصير» شعارات غرافيتية مطبوعة على جدران البحرين. تشترك في أنها تريد أن تزيح جداراً سميكاً مكتوب عليه تاريخ الإذلال والإخضاع بالقوة.

 

رابط الموضوع: https://www.al-akhbar.com/node/177513

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

نذير الماجد: ليل الخليج ألا انجلِ

 

دوار اللؤلؤة

 

الاحتجاج في الساحة العامة دفاعاً عن الحقيقة، هو مهمّة المثقّف الحديثة. ليست الحقيقة المطلقة من الإنسان، بل الحقيقة المتلبّسة بالإنسان وحقوقه وما يتعرّض له فرداً وجماعة من ظلم وتعسّف واستلاب لحريّته. هذه المهمّة هي التي ما زال المثقّف الخليجي عاجزاً عن القيام بها. فالقيام بهذه المهمّة عقبها تجريده من مكرمات السلطة التي اعتاد على أبوّتها وعطاياها. لم تكن صرخة نذير الماجد «أنا أحتج» غير ممارسة احتجاجية ضدّ سلطة لا تعترف بالإنسان وحقّه في الاحتجاج. الاحتجاج هو فعل ضدّ الهراء، الهراء الذي جعل بورديو مقاومته مهمّة من مهمات المثقّف. إنه هراء السلطة سواء السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، كل منها تعمل على منع احتجاج كل خطاب لا يتطابق مع هرائها. كان نذير يمارس احتجاجه بالكلمات، ضدّ هذه السلطات الثلاث، يحاول أن يوسّع حريّة القول الذي تضيّقه هذه السلطات. حين كان محقّق السلطة يريد أن يُرجعه لطائفته، كي يحوّل تشيُّعه إلى تهمة، كان نذير يُرجعه إلى انتمائه الإنساني العابر لكل الطوائف والأديان.

وحين لم يجد في جوابه ما يثبت به تهمته، اتخذ من اسم أمّه (خاتون) دليلاً دامغاً على تشيُّعه وولائه لإيران. كانت أدلّة الإدانة: اسم الأم، قضاء شهر العسل في شمال إيران، مقالات نقدية ضدّ الهراء، شهادة عيان لـ«رويترز» عن احتجاجات الناس في الشارع العام.
لقد دفع نذير ثمن احتجاجه (أنا أحتج) وستغدو هذه المقالة جزءاً من تاريخ الحرية والاحتجاج ضد هراء تعلّق المثقفين البارد واستبداد السلطة السياسية التي يدورون في فلك مصلحتها «لذلك، سأقول متجاسراً وعيني على الشارع بأنّ المطلب الأساسي الأول في كل دولة متسلطة هو ترسيخ ثقافة التظاهر، وإشاعة ثقافة «المخاطرة» في اللحظات الخاطفة التي نسمّيها أزمات، وكل أزمة هي لحظة ضبابية، لحظة منعشة لحسِّ المغامرة، لحظة مواتية لكسر الرتابة السياسية والولوج في المجهول، لحظة غامضة، لا». إنّها الجسارة، جسارة المعرفة وجسارة الموقف، وقد جمعهما نذير معاً في قلبه، وراح يبحث عن لحظة ضوء في جدار الدكتاتورية التي هي خصم عنيد لأي ضوء يأتي من خارجها.
في لحظة الربيع العربي، كان الخصم واضحاً. الخصم الذي يخنق الاحتجاج والقول. إنّها الدكتاتورية في شيخوختها العنيدة، وجد فيها نذير ما تجده الفراشة في الضوء، الجسارة على الاقتراب من الضوء المميت حيث الشارع وشمسه الحارقة الكاشفة لا المخابئ السرية ولا الكلمات المواربة المغلفة بالتعقّل والهدوء.
المثقّف في الخليج (المثقفون العرب)، لا المثقّف الخليجي فقط، يخاف جسارة الاقتراب من الضوء، يتحدّث عن التنوير، لكن كلماته تبقى في الظلام، ظلام الخوف والمواربة حيث ظلُّ السلطان. لم يفتح مثقّف في الخليج ساحة عامّة، ولم يوسّع ميداناً عاماً مشتركاً لقولٍ حر ضدّ السلطة. ظلّ هذا المثقف أداة السلطة لتضييق الساحات العامّة وخنق فعل الاحتجاج فيها. سنعجز عن تعداد أسماء المثقفين الخليجيين الذين برّروا للسلطة هدم ميدان اللؤلؤة. وسنعجز عن أرشفة خطاباتهم ضدّ فعل الاحتجاج في هذا الميدان الذي صنعته أشواق الناس للحرية والكرامة والمساواة. كان قلب نذير معلّقاً بهذا الميدان، وهو يكتب (أنا أحتج) كان مأخوذاً بفعل الاحتجاج في هذا الميدان، ويجده فاتحة حريّة لميادين أخرى في الخليج.
لم يتوقّف نذير وهو بالسجن عن فعل «الاحتجاج» وتذكير ذاته الثقافية بالقيام بهذه المهمّة، كتب مستخدماً ورق القصدير قلماً، وفلّين الطعام صفحة، كتب شعار عالمه الذي يعيشه في قلبه وعقله «أنا عالم والآخرون هراء».
الآخرون بالنسبة إلى نذير هم هذه السلطات التي تحبس الحرية، فهمت السلطة السياسية أنّها «الهراء» المقصود، فضاعفت سجنه الانفرادي من شهرين ونصف لتصبح خمسة أشهر. وجدت أن تحدّي نذير لهرائها، جرأة تنذر بذهاب هيبتها، فنكّلت به. ظلّ نذير يمارس احتجاجه بالكلمات، لكنها ليست الكلمات المعمّدة بالمغمّات التي تجد فيها السلطة منجاتها. إنها كلمات الاحتجاج التي توسّع ميادين الحرية وتضيّق مساحات الهيمنة والدكتاتورية.
أُخذ نذير من مكان عمله في 13 نيسان (أبريل) 2011، وصودرت أجهزته الإلكترونية، وتعرّض للضرب والركل والتوقيف لساعاتٍ طويلة، والحطّ من كرامته الإنسانية، وظل في الحبس الانفرادي خمسة أشهر قبل أن يُنقَل إلى زنازين تجّار المخدّرات والأسلحة. لم تتمكّن زوجته من رؤيته إلا في كانون الثاني (يناير) الماضي.
هذا الكتاب هو صحيفة اتهام نذير، وهذا هو خطابه الاحتجاجي. هو هناك في قبضة الدكتاتورية، يكسر صمت سجنه بما يكتبه بقلم القصدير في أوراق الفلّين، ويُغالب الوقت بإرجاع الأشياء إلى بساطتها الأولى (يُرجع ورق الشاي إلى مكوّناته الأولى ويصنع منها أشياء جديدة)، كي يفهم هذا الهراء المركّب من عقد السلطة. تنتظره زوجته خديجة وهي تتحدث للمنظمات الحقوقية العالمية بجرأة الواثق من احتجاج زوجها، وينتظره هاشم، الابن الذي سيجد في سيرة أبيه ما يحكيه للعالم عن هراء السلطة، وورد التي لم تتعرّف إلى ملامح أبيها في سجنه.
الحرية لك يا صديقي
بيروت ـــ 28 أيار (مايو) 2011

 

رابط الموضوع: http://www.al-akhbar.com/node/111234

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

لن أخون وطني!

 

مي آل خليفة

 

بمَ يمكن أن يشهد مثقف خارج طائفته، وخارج نظامها السياسي الحاكم عليها بالموت؟ أتحدث عن المنامة هنا بما هي واجهة للسلطة السياسية التي أسندت إليها مهمة الاحتفال بعاصمة الثقافة العربية. أنا مثقف معارض لهذا النظام السياسي، ومعارض برسالتي الثقافية التي أجدها تتمثل في توسيع مساحة الحرية: حرية الفرد والجماعات والتجمّعات السياسية. أنا ضد أن يكون هذا النظام السياسي واجهةً للاحتفال بالمنامة عاصمة الثقافة العربية.

أنا لستُ ضد مي آل خليفة صاحبة مشاريع البيوت الثقافية، لكنّي ضد شيخة مي ممثِلةً النظام السياسي في الاحتفال بالمنامة عاصمة الثقافة العربية. لقد عملتُ مع (مي) صاحبة البيوت الثقافية، كتبتُ عن بيوتها ورحّبت بضيوف هذه البيوت من مثقفين ومفكرين وصحافيين، وحاورت أهمهم، وعرّفت بهذه البيوت واعتبرتها واجهة جميلة للثقافة. لكني اليوم ضد شيخة مي آل خليفة التي تريد أن تستثمر المنامة الثقافية للتغطية على المنامة المكارثية، منامة النظام السياسي.
لا يمكن أن تكون المنامة عاصمة لثقافة يَفتتح أولى فعالياتها أقدم رئيس وزراء في العالم (40 عاماً رئيس حكومة منذ الاستقلال).
لا يمكن المنامة أن تكون عاصمة للثقافة، لأنّ سلطتها السياسيّة لم تتح لكبار مبدعيها مجالاً للمعارضة والاستقلال. أسكتت بعضهم، وماهت بعضاً آخر مع خطابها، وخوّفت آخرين، وهددت أرزاقهم، وحاكمتهم، وعرّضت ضمائرهم لاختبار أخلاقي خطير.
إصرار النظام على استثمار الثقافة للتغطية على انتهاكاته اليومية لشروط المواطنة التي تؤهله ليكون ممثلاً شرعياً للناس، هو إصرار يستكمل به حلقته الشمولية التي أظهرها بفجاجة منذ اعتماده قانون السلامة الوطنية (الطورائ) في 15 آذار (مارس) 2011. مهمتي الآن كمثقف تمزيق هذا الغطاء الثقافي الذي يحاول عبره النظام الشمولي الأحادي القبلي أن يغطي به فظائع انتهاكاته. المنامة اليوم هي عاصمة الدخان والظلام والقتل، ومكان غير آمن للجمال الذي تنشده الثقافة.
أنا شاهد على هذا الدمار الذي يمارسه النظام السياسي على عاصمة بلادي. شاهد على الموت الحقيقي الذي يتذوّقه أبناء قريتي، شاهد على التمييز الكريه الذي تتعرّض له أهم كفاءات وطني. شاهد على الأطفال الذين فجّر مرتزقة النظام زهراتهم. شاهد على أطنان الغازات التي تخنق حناجر مصرّة على أن تُسمع العالم صوت حريتها. شاهد على الفساد والسرقات. شاهد على الموت الذي يأخذنا إليه هذا النظام. شاهد على هذا الملك الذي فقد إرادته السياسية وفقد وقاره الشعبي وصار نكتة (يسقط حمد) تتفنن ثقافة شعبي في إبداعها في صور لانهائية. المثقف حين يخون شهادته، يخون وطنه، وأنا لست بخائن.

 

رابط الموضوع: http://al-akhbar.com/node/34859

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية