أرشيف التصنيف: مقالات

خارج الدوار/ داخل الطائفة

 

خارج الطائفة

 

كتبت على صفحة حسابي في «تويتر» يوم السبت 12 آذار (مارس) الماضي: «اليوم تسلمت 37 نسخة من كتابي «خارج الطائفة» بطريقة درامية. أنا ممنوع من دخول البحرين، فكيف أتسلّم منه نسخ كتابي التي جاءت من معرض الرياض عبر «دار مدارك»؟ وقفنا عند الحدود، طاولني الكتب، وطاولته الشكر، ورجعنا إلى داخل الحدود التي هي أقل من أوطان». أعلنت للأصدقاء، مقابل النخلة 6 في «دوار اللؤلؤة» عند خيمة وعد العلمانية: «سأوقع كتابي الاثنين 14 آذار (مارس)».

تتطور الأحداث الأمنية تجاه التصعيد، تحتقن الأجواء، يصير كتابي خارج الدوّار. في لحظة الدوّار، كان الزمن زمناً «خارج الطائفة». كان الدوار تجربة ميدانية في الخروج من الطائفة، والدخول في المدينة المتعدِّدة والمتنوعة.
صار كتابي خارج الزمن في اللحظة التي بدأت فيها السلطة ما سمّته مشروع تطوير دوّار مجلس التعاون، أي «إزالة دوار اللؤلؤة». بدأ المشروع بطائرات الأباتشي والمدرعات، ودخان أبيض قيل إنّه أكثر من مسيّلات الدموع، وأقلّ من غازات الموت.
في اليوم التالي لـ«مشروع التطوير»، وفيما كانت آلات التكسير تفتك بأعمدة اللؤلؤة، أعلن الجيش في بيانه الرقم 6 إنهاء تطهير الدوّار. أرسلت للأصدقاء الاعتذار التالي: «أعتذر لكم أيها الأصدقاء. توقيع كتابي «خارج الطائفة»، سنؤجله قليلاً. فالنخلة لم تعد في الدوّار، واللؤلؤة ليست في مركز الدوّار، وخيمة وعد فقدت نقطتها في محيط دائرة الدوّار. الدوّار اختطفته القبيلة، رأت فيه خروجها. الدوّار الآن خارج الجغرافيا، لكنّه داخل التاريخ».
أيقنت أن مشروع السلطة العسكري قد أحرق كتابي، وجعل فكرة الخروج من الطائفة خارج الإمكان المعرفي والسياسي والفكري والاجتماعي. كنا داخل الدوار خارج الطائفة، اليوم نحن خارج الدوار وداخل الطائفة.
كان الدوّار تجربة في الخروج إذاً، لكنّه كان خروجاً مكلفاً. مكلف للقبيلة التي تجد توازنها في عزل خصمها داخل الطائفة، ومكلف للتوازنات الإقليمية التي ترى في الخروج إعصاراً يشبه الإعصار الذي تسببه حركة الفراشة.
قال لي أستاذ الاجتماع باقر النجار، وهو بالمناسبة من كتب مقدمة الكتاب: «صدر في وقته». كدت أقول له: «لكنه منذ أمس صار خارج وقته». مشروع الدولة وقت الحاضر والمستقبل، والطائفة تاريخ ماض، خارج الوقت. وكلما حققنا وقت الدولة صرنا خارج الطائفة.
في الدوار كنّا منخرطين في الحلم بلحظة الدولة، دولة مدنية تؤمن بأن الديموقراطية هي حاضنة الحداثة، والمبشرة بولادة الفرد المواطن الذي لا يحتاج إلى حماية طائفته. لم تجد السلطة جداراً تحتمي به غير القبيلة، فاستعانت بجيوش القبائل، لتحميها من مشروع الدولة.
ولتواري ذلك، لصقت بطاقة الطائفية لتبطش بكل شيء، بالطائفة والدولة والمواطنة والشعب والمجتمع واللؤلؤة. في لحظة سديمية، بدا كلّ شيء مشروع تدمير من أجل الاحتفاظ بالسلطة فقط.

 

رابط الموضوع: http://www.al-akhbar.com/node/9038

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

المشي مع أركون

الموت أعدل الأشياء بين البشر وأفدحها وأوقحها، لا ينتظر حتى اللحظة المناسبة، ولا يسمح لنا حتى باختيار اللحظة المناسبة لإيصال خبر وقعه. هذا ما خطر لي لحظة تلقي خبر رحيل الصديق المفكر محمد أركون، وأنا على أعتاب أيام من مناقشة أطروحتي للدكتوراه حول تشكيل المجازات للخطاب الفلسفي والصوفي.

لقد قلت الصديق أركون لا لأحيل إلى علاقتي الشخصية معه، بل لأشير إلى الصداقة بوصفها مفهوماً يجمع المشتغلين بحب الحقيقة والبحث عنها والتنقيب عن آثارها بين ركام التاريخ وأحداثه السياسية والاجتماعية والدينية.وقد كان أركون في مقدمة هؤلاء المنقبين والمحتفين بالصداقة من خلال إحالاته الأثيرة إلى الخطاب الفلسفي اليوناني الذي بلور هذا المفهوم واشتق منه مفهوم الفلسفة(الفيليا(philia، ومن خلال إحالاته الحميمية إلى صديقه أبوحيان التوحيد الذي أنجز أطروحته للدكتوراه حوله وحول جيل الإنسانة الذي جاء في سياقه. حين قدمته في زيارته الثانية للبحرين قلت: سألني بعضهم ما الفرق بين علاقتك بالفقيه سابقاً وعلاقتك بأركون حاليا؟ قلت: علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.

أن تفقد صديقاً في لحظة حميمة تود أن يفرح فيها معك، ليس لأنك أنجزت شهادة أكاديمية، بل لأنك أنجزت بتأثيره تنقيباً في خطاب من خطابات تراثنا الغزير الملتبس علينا قبل غيرنا. أعرف صداقتي مع أركون لن يحققها التقائي به بل يحققها هذا التنقيب، فالصداقة في المجتمع الفلسفي تتحقق بالمشاركة في البحث عن المفهوم والحقيقة التي تتبدى في أشكال مفهومية لا حدّ لها.

الصداقة تقتضي الحميمة، وهذه تجعل الباحث عن الحقيقة ومفاهيمها في خطاب المجتمع، منخرط في الواقع وتشابكاته، بحرارة ومسؤولية، بعيداً عن برودة الرطانة الأكاديمية، لذلك شغل أركون مقاعد الجامعات وأرصفة الشوارع.

يمكنني أن أقول بدافع الوفاء لهذه الصداقة أن اللحظة الأولى التي شكّلت منعطفي نحو موضوع أطروحة الدكتوراه هي لحظة أركونية بامتياز. وهي تعود إلى قراءتي لكتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي) حين أشار إلى أن المجاز في الأدبيات الخاصة بالإعجاز قد درس كثيراً بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب في القرآن وتجميله، ولكنه لم يُدرس أبدا في بعده الأبستمولوجي بصفته محلاً ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التي تصيب الواقع. وفي كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) أشار إلى هذا النقص الذي نعاني منه في دراسة المجاز بهذا المنظور، وهو غير منظور الجرجاني والباقلاني وفخر الدين الرازي والسكاكي وكل تلك الأدبيات الهائلة التي كتبت عن الإعجاز.

ذهبت إلى مجازات إخوان الصفاء وابن عربي، بمنظور أركوني، وبروح صداقته مع التوحيدي، فصار ابن عربي صديقي الحميم الذي أحمل معه حيرته الإنسانية كلما فكّر في الكون والإله والإنسان. وصار إخوان الصفاء أصدقائي الذين أتأّله معهم كلما فكرّت في الفلسفة باعتبارها طاقة الإنسان في التشّبه بالمطلق.

http://www.alwasatnews.com/2939/news/read/475928/1.html

البنكي صديق المفهوم

 

*كلمة في حفل تأبين الصديق الراحل محمد البنكي في جامعة البحرين 26مايو2010

فيليا philia التي جاءت منها الفلسفة، تعني الحب والصداقة معا. الفلسفة صداقة المفاهيم وحبها .تتكون الصداقات تحت مظلة المفاهيم، حب المفهوم هو ما كان يجمعنا و(البنكي)، المفهوم هو عشيق الفلسفة، ما كان يجمع سقراط وأفلاطون وأرسطو هو حبهم للمفاهيم، كانت صداقتهم تمليها محبتهم لمفاهيم الخير والفضيلة والعقل والعدل والألوهية واللوجوس والصداقة والحب والجمهورية.

لقد التقيت والبنكي في لحظة حميمة من لحظات الفلسفة، كنا نبحث في هذه اللحظة عن شيء نحبه معاً، شيء بإمكانه أن يجعل ما نعيشه في لحظتنا مفهوماً، لم يكن هناك غير الفلسفة المفتوحة على الأدب واللغة وعلوم الإنسان، هي وحدها القادرة على أن تحركنا نحو بعضنا، لخلق فضاء محبة مشترك.

كان (البنكي) كعادته سبّاقاً في فتح فضاء هذه المحبة، كان قادراً بعشقه للمفاهيم أن يحرك حبنا الخجول والمتواري والمتردد. والحب حركة، حركة اقتراب وحلول ومحايثة ومعايشة ومعية، وهو في الوقت نفسه حركة مغادرة وابتعاد وتجاوز ومفارقة وضياع في متاهات لا نهاية لها. بين الحركتين تنشأ العلاقة، لقد تولدت صداقتنا بين أطراف هذا الحب، وكنا نمتحن قوتها بقدرتها على جمع المتناقضات والمتضادات، مستلهمين روح فلاسفة ما بعد الحداثة الذين ابتلانا (محمد) بمحبتهم وعشق مفاهيمهم التي لا يمكن فهمها بعقل بارد، فهي من الإطلاق والحركة والتقلب ما يجعل من القلب والروح والجسد أماكن استيعاب لها. كنا نحلم أن نعشق حركة واقعنا وما تموج فيه من مخاضات وتحولات بهذه المفاهيم.لم نكن مفتونين بإحداث قطيعات معه، لكنا كنا مهمومين بإحداث قطيعات مع أشكال فهمه.كنا مولعين بجمع أطرافه المتناقضة لا بتقطيعها، مولعين بأن نكون وسطاً بين تخومه.

لقد قلت (التخوم) وكأني ما زلت أستحضر زهرة فمه وهو لا يمل من تكرار إعادتها في سياقات مختلفة. (التخوم) من المفاهيم التي تعلمتها في معية هذه الصداقة، أحببتها ووجدت ذاتي في مسافة ما تقترحه التخوم كبداية لنهاية أو كناهية لبداية وشيكة. لقد غدت المفاهيم التي عشقناها معاً خرائط لمقتراحات تموضع لا تنتهي، حتى ربما ضللنا في بعض مواقع اقتراحاتها.

صارت حتى هوية كتابتنا مترحلة مع هذه المفاهيم، فقدنا هويتنا الأدبية في معية هذه الصداقة، لكنا لم نفقد صلتنا بالأدب، وفقدنا هويتنا الدينية، لكنا لم نفقد صلتنا بالدين، وفقدنا هويتنا النقدية، لكنا لم نفقد صلتنا بالنقد.

كنا معاً في في حركة حب المفاهيم، وكان (البنكي) ملهم هذه الحركة والدافع بها نحو تخوم التورط فيها، كانت حركةَ تورط حقيقية، فجأة تخرج من الدرس الجامعي بحد أدنى من معرفة مدرسية لا تسعفك على أن تَعرف نفسك فضلا عن أن تُعرّفها، تجد نفسك وسط جماعة ثقافية يحركها حب مجنون نحو معرفة لا تؤمن بالتخصص بمعناه المغلق، ولا بالحدود بمعناها المقفل، ولا بالنهايات بمعناها المنتهي، تدفعك بحبها لتكون مسؤولا عن قراءة فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة والتراث وعلماء اللسانيات والهرمونيطيقا واتجاهات البنيوية وما بعد البنيوية والعلوم الإنسانية وتفرعاتها، والموضات الثقافية وصراعاتها.

كلما أردت أن تهدأ تأخذك حركة حب مفاهيم هذه العلوم نحو فتوحاتها، ليست فتوحاتها النظرية فقط، بل فتوحاتها التطبيقة في قراءة ظواهر الثقافة، كان (البنكي) بارعاً في تنزيل هذه المفاهيم في سياق ظواهر ثقافتنا المحلية وفي سياق الصحافة الثقافية، لقد شغلها بمعارك الداخل إلى حقل جديد يستنفر المقيمين في الحقل بحركته العابثة في سكنهم، وشغلها بمسميات المفاهيم الجديدة في هذا الحقل المفتوح على كل شيء.

كنت واحدا ممن تفتح أفقهم على هذا الحقل الجديد، وواحدا ممن أخذوا بوجد هذا الحقل، وصار جزءا من حركة جذبه، أو لأقل كنت مأخوذا بحركة البنكي فيه، حركته وهو يدير مفاهيم التفكيك والقراءة والتأويل يسبر بها خطابات الثفاقة المحلية ويدخلها إلى مختبره ويشتق منها مفاهيم جديدة على حساسية النقد والنقاد، كنت مأخوذا بأسئلته وهو يشقق الحوارات مع ألمع الرموز الثقافية، ومأخذوا برشاقة جمله الصعبة على الذائقة التقليدية وهي تحبر صفحات الجرائد وأرى فيها تحدياً حقيقيا، لكن تحد لم يثر يوما الغيرة أو التشاحن فقد كان البنكي قادرا بحركة عشقة للمفاهيم أن يأخذك معه ويجعلك عاشقا تتبادل معه أعناق جيادها.وهذه ميزة ربما تفرد بها وجعلته قادرا على أن يقود فرق عمل طليعية ومجاميع ثقافية وجماعات نقدية.

(الثقافة هي ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء) وما سيبقى من البنكي فيّ هو هذه الحركة العاشقة للمفاهيم، الهائمة بها هيمان الصوفي بحب ما يتجلى عنه.

إجماع الخمرة

«السياسيون أجهل الناس بما يتولون من أمر، وأن عظماءهم قوم يسايرون الحوادث ويحسبون أنهم يُسيُّرونها، ويخضعون للعامة ويحسبون أنهم الأعلون»[1] (قيافا) حكيم بني إسرائيل ومفتيها في رواية قرية ظالمة.
حين يُجمع السياسيون باسم الشرع على قضية ما، هي أصلاً خلافية، فلابد من الشك، والبحث عن حقيقة ضائعة. قد تختلف الموضوعات (حظر الخمر، صلب المسيح، سحل 32101210هيباتيا)، لكن لا يختلف الأمر بالنسبة إلى الحقيقة الضائعة وسط زحام الإجماع، سواء كان هذا الإجماع على قتل أو منع أو تحريم أو تجريم.
أعادني إجماع مجلس النواب وشبه إجماع الناس الذين اختاروا هؤلاء النواب ممثلين عن ضميرهم، إلى رواية «قرية ظالمة» مرة أخرى[2]، هناك في القرية الظالمة حصل إجماع على أن السيد المسيح خالف شريعة بني إسرائيل ويجب صلبه، والأصوات الفردية التي استيقظ ضميرها الخاص وراحت تفكر في ظلمها الذي ستتحمله، لم تستطع أن تُسمع الآخرين صوت ضميرها، فصوت الضجيج الذي كان يردد كلمة الرب ويحتجُّ باسمه أعلى من صوت الضمير الذي كان يشكك في ما أجمع عليه هذا الضجيج.
كان ضجيج قاعة النواب وهم يسايرون الحوادث ويحسبون أنهم يُسيُّرونها، يزبد بجمل كأنها تنطق عن الله «المسألة مؤصلة في كتاب الله ولا داعي لطرح الموضوع أساساً»، «سيكونون مسؤولين أمام الله»، «لا يمكن السكوت عن المنكرات ومخالفة شرع الله»، «لا نريد استفتاء على شرع الله»[3].
كان ضجيج النواب وهم يسوقون مسلماتهم وبدهياتهم لإقرار قانون حظر بيع وتداول الخمور، يكرر حجج بني إسرائيل حين أرادوا تبرير صلبهم للمسيح، كلها حجج دينية حرفيّة، الحجج الدينية لا تصلح وحدها للتشريع للدولة، فالعقل الفقهي الذي يُشرِّع للفرد لا يصلح أن يكون هو نفسه الذي يُشرَّع للدولة، فالدولة مجال عام لا خاص، عام لجميع المختلفين في المعاصي والطاعات والديانات والطوائف ومرتكبي الصغائر والكبائر.
جزء كبير من الجدل الذي مازال يجري في إيران منذ قيام الثورة وحتى اليوم يدور حول محاولة جعل الدولة تتوافق تماماً مع «الفقه»، وهذا ما عبّر عنه رجل الدولة والدين عطاء الله مهاجراني في مقالته أمس بمناسبة عيد النيروز في صيغة تساؤل سمّاه التساؤل الملح: هل ينبغي أن تتوافق جميع التقاليد الثقافية والاجتماعية مع الفقه؟ بمعنى إذا لم نجد مبرراً في الفقه لمهرجانات مثل مهرجان النار، فهل يصبح لزاماً علينا رفضها؟[4].
مع الأسف أن الساحة المحلية هنا في البحرين، قد خنقت تساؤلات بوادر حركة الإصلاح الديني، وأعانها على ذلك الاختناقات السياسية والمساومات على الملفات الحساسة، وأصبح هناك إجماع داخل الجماعات الدينية أدى إلى موت الضمير الفردي والعقل الفردي، فكثرت المسلمات والثوابت والشعارات والشعائر.
يقول «قيافا» الفقيه والحكيم والفيلسوف ملخصاً حكمته الفردية التي لم يستطع أن ينطق بها إلا إلى ضميره الخاص وعقله الفردي «إن بين أمر الله وأمر السياسة ما بين الأخلاق والحياة، تنافراً وتباعدًا واختلافاً، ليس أصلها التناقض وإنما مرجعها إلى صعوبة ترجمة أوامر الله إلى أعمال السياسة كما تصعب ترجمة مبادئ الأخلاق إلى أعمال الحياة»[5].
وما يفعله نواب أوامر الله هو أنهم يزيدون حياتنا صعوبة بسبب إصرارهم على هذه الترجمة المستحيلة في الحياة، وأقول مستحيلة لأنك حتى لو نجحت في تطبيقها بقانون القوة أو بقوة القانون المستمد من الجماعة في لحظة شحنها وتصلبها، فإنك ستفاقم من تناقضات الحياة وتناقضات الجماعة، وستزيد التناقضات الجماعية والفردية وفي هذه التناقضات انحطاط الأخلاق. فالمنع العام يخلق سوق سوداء في الاقتصاد وسوق مزايدات في الأخلاق وبضائع كذب ونفاق يروجها سياسيون يسايرون وهم يحسبون أنهم يُسيّرون.
إن خطاب رئيس كتلة الوفاق النائب علي سلمان يضعنا على محك هذه الصعوبة حين يبرر دفاعه المستميت عن قانون المنع «دستورنا وجميع وثائقنا تشير إلى أننا بلد مسلم عربي له تاريخه الطويل الذي ينتمي للإسلام، ولكن في كثير من تطبيقاتنا هناك مخالفات كثيرة تناقض ما جاء في الدستور والمواثيق وممارسة المحرمات ومن ضمنها الخمر يتناقض مع هذه الركائز»[6].
ولنا تاريخنا الطويل في التعدد والتسامح والتنوع والحرية الفردية في اختيار ما يتعلق بنمط الحياة الشخصية، وهو تاريخ لا يتعارض مع الانتماء إلى الإسلام، فالإسلام قابل للتأويل مع الزمان والمكان وأشكال تنظيم السلطة والدولة غير قابلة للتأويل، الدولة نص والإسلام تأويل، من هنا حيويته وتعدد تمثيله وأشكال تجسّداته.
حيوية الانتماء إلى الإسلام تكتسب فاعليتها من التنوع في طبيعة هذا الانتماء، وتفقد هذه الفاعلية حيويتها بمجرد حكر هذا الانتماء في نمط تدين الجماعات الدينية المسيّسة. مهمة الدستور أن يكفل الحرية الشخصية للفرد في المجال العام، والحريات الفردية جزء أصيل لا يجوز الانتقاص منه بحجج تجعل أعمال الحياة صعبة، أعمال الحياة التي تضج اليوم بطوائف من ديانات مختلفة وعمّال من جنسيات مختلفة واقتصاد من موارد متعددة. لندع هذا الانتماء حياً ليكون جامعا لاختلافاتنا في أشكال تمثيل الإسلام.
أنا لست مع هذا القانون، لأني أريد أن يبقى المجال العام ساحة للحرية الشخصية الفردية التي يقرر فيها الناس خياراتهم من غير وصاية، ومن غير صعوبة، ولأني أريد لنص لدولة أن يُوسّع المجال العام للحريات الفردية.
إن ماء الذهب الذي يريد أحد النواب أن يكتب فيه مداخلات النواب في جلسة حظر الخمور ويتركه صدقة جارية، ليته يكتب إلى جانبه بماء الخمرة مداخلاتهم في الدفاع عن غاسلي الأموال ومديري اللعب بالتركيب الديمغرافي للبحرين. وليته يكتب إلى جانبه بماء المسكرات مداخلاتهم في إجهاض الملفات الوطنية.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12937

الهوامش
[1]، [5] محمد حسين كامل، قرية ظالمة، دار الشروق، ط,2009 ,3 ص.55
[2] انظر مقالي، خارج ضمير الجماعة على وصلة صحيفة الوقت
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12787
[3]، [6] انظر تغطية صحيفة الوقت لجلسة مجلس النواب البحريني
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=201677&hi
[4] عطاء الله مهاجراني، مهرجان النار، صحيفة الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=562115&issueno=11438

غـضــب فــؤاد زكــريـا

 

حين عرفت بوفاة المفكر العربي فؤاد زكريا، كنت ثملاً بقراءة ترجمته للتساعية الرابعة من تاسوعيات أفلوطين، والتي نشرها في 1970 مع مقدمة ودراسة مطولة قيمة.
قرأت نص التاسوعيات في ترجمة فريد جبر، وقد بذل فيها عشرين عاماً من حياته. وطبعها بعناية بالغة، لكني وجدت صعوبة في الدخول على 2تاسوعيات أفلوطين عبر هذه الترجمة التي لا أشك في دقتها وجودتها وأعلمية صاحبها التي ترجم لنا كذلك منطق أرسطو عن اللغة اليونانية مباشرة. لكن الدقة والجودة والترجمة عن النص الأصلي ليست شرطاً للدخول على النص.
فرحت كثيراً حين عثرت على ترجمة فؤاد زكريا، مع أنه لم يترجم غير التاسوعية الرابعة، لكنه على عادته في الاحتفاء بالنص المترجم وحرصه على تمكين القارئ من الدخول عليه بحميمية، فقد قدم للترجمة بمقدمة ودراسة مطولة. شعرت أني أدخل قلب النص عبر عتبة رفيعة.
النص المكتوب في القرن الثاني الميلادي مازال ينبض بحيوية أفلوطين الذي كتبه في سياق إعادة الاعتبار للفلسفة اليونانية عبر استعادة أفلاطون (347 ق.م) وروحانيته التي وجد فيها أفلوطين رداً على المسيحية التي أخذت تبسط نفوذها على الساحة العامة «أجورا» بعد أن كانت ساحة للفلاسفة اليونان.
المهمة التي انتدب أفلوطين نفسه لها في سياق عصره، هي المهمة التي انتدب فؤاد زكريا نفسه لها، وهي إزالة الغموض عما يحجب العقل، العقل الذي وجده أفلوطين مهدداً بالعقائد المسيحية التي تدعو إلى التسليم والطاعة والامتثال والخضوع للنص والأمر.
لقد انتدب فؤاد زكريا نفسه لإعادة الاعتبار للفلسفة في الثقافة العربية عبر الترجمة والتأليف والتدريس، بعد أن ضاقت بها الساحة العامة. لقد كانت الثقافة العربية الإسلامية قد ترجمت ملخصاً لتاسوعيات أفلوطين ونسبته إلى أرسطو تحت تسمية «أثولوجيا أرسطو»، وذلك لشدة افتتانها بأرسطو، وهذا ما جعل مناخها العام الثقافي منفتحاً على الفلسفة، ووجدت فيها مصدراً لبناء خطابها عن الربوبية «أثولوجيا» بناءً عقلياً نقدياً.
كان أفلوطين يعبر عن مفهومه الفلسفي للربوبية بقوله «فحاذر من حد الإلوهية بموجود واحد، فعندما نراها، كما يظهرها لنا الله نفسه، متعددة، نكون قد عرفنا قدرة الله.. أن تكاثر من الآلهة التي إليه رباطها وبه وجودها ومنه مصدرها».
إن قدرة الله في أن يكاثر من الآلهة لا تعني الشرك ولا تعني وجود أكثر من الله، بل تعني تعدد تجلي صورة الله، وهذا ما أبرزه خطاب المتصوفة في حضارتنا، وعلى رأسهم ابن عربي الذي اتسع قلبه لكل صور الألوهية، وصار كاهناً للعالم وفق مقولة الفيلسوف الأفلوطيني بروقلس «على الفيلسوف أن يكرم آلهة الأمم جميعاً، وبذلك يصير كاهنا للعالم كله».
كان فؤاد زكريا مناضلاً ضد كل ما يحجب العقل ويحول دون ممارسته لدوره الفعّال النقدي في الساحة العامة. كان ضد تحويل الفلسفة إلى خطاب ملغز أو خطاب يبرر للسلطة ممارسة استبدادها وتضليلها.
وقد جسّد ذلك في مواقفه العملية، وعلاقاته الشخصية، ففي بداية الستينات أرسل لمطاع صفدي قبل أن تطبق شهرته الآفاق، رسالة تضمنت إعادة صوغ لموضوع كتبه صفدي كتابة معقدة يصعب فهمها ونشرها في مجلة الآداب البيروتية. أعاد كتابة الصفحة الأولى من الموضوع كتابة واضحة ومبسطة وأرسلها للكاتب فرد عليه بلطف أنه يقدر وجهة نظره ويستوعبها جيداً. لقد استعاد هذه القصة في نهاية التسعينيات في مقال له تحت عنوان «الغموض والوضوح في الكتابة»[1] نشرها في مجلة الفلسفة والعصر.
يقول عن صفدي «يبدو لي بعد ما يقرب من أربعين سنة لم يستوعب وجهة نظري بالقدر الكافي» ويستدل على ذلك بمقال نشر له بعد ثلاثين سنة وفيه يصف صدام حسين بالقائد التاريخي والقائد الضرورة في سياق جمل معقدة من نوع «إن المايحدث لا يقتصر على المعرفي، بل هنا المعرفي متحد ومعارض للقوى في ذات الوقت».
إن هذا النمط من التعقيد يحجب الفهم ويصفّد العقل، ولا يسمح للخطاب الفلسفي الذي تخصص فيه مطاع صفدي أن يمارس نقده في كشف التضليل الذي يمارسه المستبدون.
وهذا ما جعل فؤاد زكريا محارباً فذًّا ضد أي خطاب يحجب الحقيقية ويعطل فاعلية النقد، كما في موقفه النقدي من سلطة خطاب محمد حسنين هيكل في كتابه «كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربي»[2] وفيه أوضح أن خريف الغضب يتجاوز فترة السادات ويشملها ويمتد إلى حيث تمتد أزمة العقل العربي مع الحرية المصادرة من قبل أنظمة الحكم السياسية وحيث تمتد أزمة العقل العرب مع التفكير العلمي المصادر من قبل الخطاب الديني، وقد واجه بمفرده خطاب القرضاوي والغزالي والشعراوي. الغضب ليس من حكم واحد ولا من حقبة واحدة ولا من جهة واحدة، إنه الغضب من هذا الكل المركب الذي صنع أزمة العقل.
لقد رحل فؤاد زكريا، لكن لا ندري كم به من غضب الآن؟
[1] هكذا تكلم فؤاد زكريا، كتيب صادر مع الملف المخصص للاحتفاء بفؤاد زكريا، في مجلة إبداع، العدد .2009 ,12
[2] فؤاد زكريا، كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربي، ط ,2 دار القاهرة .1984

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12884