أرشيف التصنيف: مقالات

إصلاح الولاية

في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية الاثنين 3-8-,2009 توقف رئيس مجلس الشورى علي لارجاني، طويلا عند ذكرى مرور مئة عام على ثورة المشروطة (1906)، كان يشيد بنجاحها في إقرار دستور يلزم الشاه بالرجوع إلى الشعب.

تعجبت من أني لم أسمع منه إشارة إلى (النائيني) ولا إلى كتابه المهم (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) والنائيني هو مفكر المشروطة (الحركة الدستورية) وكتابه هو الأثر الفكري الأهم لها بل والباقي منها.

لقد أشار المفكر العراقي فالح عبدالجبار مرات عدة ، إلى غياب محمد النائيني مؤسس فكرة المشروطة، من الذاكرة الرسمية، وعوضاً عن ذلك هناك طوابع بريدية تحمل صورة أكبر خصوم ثورة المشروطة، الذي انتهى إلى المشنقة لشدة دفاعه عن الشاه المستبد، وهو الشيخ فضل الله النوري.

لقد بحثت في (google) عن (خيبان نائيني) فلم أجد شيئاً، وبحثت عن0b1089fad16d604c9e7d198c4c44723a (خيبان فضل الله النوري) فوجدت شارعا باسمه وميدانا باسمه، فقد أشاد به الإمام الخميني لاحقاً وأعاد الاعتبار إليه.

لقد احتفت الشهر الماضي مجلة الحكمة التي تصدر عن مكتب سماحة الشيخ حسين نجاتي، بـ (الذكرى السنوية (102) لشهادة آية الله العظمى الشيخ فضل الله النوري ”ره”) وقد جاء في هذا الاحتفاء الإشادة بموقفه المضاد للمشروطة ”كان لخطابات الشيخ النوري التوعوية وكتاباته للزعماء والرؤساء تأثير بالغ في منع الأمة التصويت على ما عرف بـ (المشروطة)”[1].. لم يرد في هذا الاحتفاء أية إشارة إلى آية الله المحقق النائيني الذي وقف ضده النوري.

أشاد (لارجاني) بحيوية الشعب الإيراني ومكانة الدستور في تاريخه وحياته السياسية. وكأنه يشير إلى أن تنصيب نجاد اليوم وفق قواعد صلاحية الدستور، هو إحدى ثمار هذه الحركة الدستورية بتاريخها العميق في نفوس الإيرانيين.

الحركة الدستورية التي كانت محل خلاف بين فقهاء ومراجع كبار، هي اليوم تراث وتاريخ قومي وديني ومذهبي، هي محل فخر واحتفاء وإن لم تكن محل إجماع بالمفهوم الذي قدمه النائيني للمشروطة. لكن الحديث عن الحركة الدستورية بشكل عام دون الحديث عن كتاب النائيني بشكل خاص، يجعل من استعادة هذه الحركة، نوعا من الاحتفاء لا نوعا من المراجعة النقدية. وأشدد هنا على المراجعة النقدية نظراً للمأزق الذي فيه اليوم نظام ولاية الفقيه.

ما الفرق بين كتاب النائيني (تنبيه الأمة) وكتاب الإمام الخميني(الحكومة الإسلامية)؟ ما الفرق بين مفهوم الولاية فيهما؟ وما الفرق بين سلطة الفقهاء فيهما؟ وكيف يرى كلاهما الدستور؟

هذه الأسئلة أثيرها من أجل فهم موقف الثورة ثورة الولاية (ولاية الفقيه) من حركة المشروطة ممثلة في كتاب النائيني؟

يمكن أن نجمل الفرق بين الاثنين في أفق الحل الذي كان يتحرك من خلاله كلاهما، كان النائيني يتحرك من أفق (الدستور هو الحل)، وكان الإمام الخميني يتحرك من أفق (الفقيه هو الحل). الأول راح ينظّر للدستور ويؤصل لشرعيته، والثاني راح ينظّر لنيابة الفقيه ويؤصل لولايته المطلقة. فقيه الإمام هو الذي سيضع الدستور من مدونته الفقهية وهو الذي سيقيم الدولة وستكون سلطته قاهرة في الدولة، وفقيه النائيني سيكون مرجعاً للتأكد من عدم معارضة الدستور للشريعة. لن يكون الدستور من الشريعة، ولن يكون معارضا لها. في حين سيكون الدستور في السلطة القاهرة من الشريعة.

في كتاب الحكومة الإسلامية يحدد الإمام الخميني مفهومه للولاية بأنها سلطة تنفيذية مباشرة”يجب إقامة الحكومة والسلطة التنفيذية والإدارية. إن الاعتقاد بضرورة تأسيس الحكومة وإقامة السلطة التنفيذية والإدارية جزء من الولاية”[2]..

هي جزء من ولاية الفقيه، سيكون الفقيه ليس فقطاً منفذاً ومالكاً بولايته للسلطة التنفيذية بل هو أيضاً القانوني المشرع الذي يملك السلطة التشريعية ”بما أن حكومة الإسلام هي حكومة القانون، فيجب أن يكون علماء القانون، بل والأهم علماء الدين ـ أي الفقهاء ـ هم القائمون بها، والمراقبون لجميع الأمور التنفيذية والإدارية، وإدارة التخطيط في البلاد. الفقهاء أمناء في إجراء الأحكام الإلهية، وأمناء في استلام الضرائب، وحفظ الثغور، وإقامة الحدود. فيجب ألا يتركوا قوانين الإسلام معطَّلة”[3].

تتحدد هوية الحكومة الإسلامية وفقا مفهومها للمشروطة (الدستور) فالدستور في هذه الحكومة لا يخضع للعبة الديمقراطية بل لشروط الكتاب والسنة والقانون الإلهي الحاكم للناس”الحكومة الإسلامية لا هي استبدادية ولا مطلقة، وإنما هي مشروطة. وبالطبع ليست مشروطة بالمعنى المتعارف لها هذه الأيام، حيث يكون وضع القوانين تابعاً لآراء الأشخاص والأكثرية. وإنما مشروطة من ناحية أن الحكام يكونون مقيدين في التنفيذ والإدارة بمجموعة من الشروط التي حددها القرآن الكريم والسنَّة الشريفة للرسول الأكرم (ص). ومجموعة الشروط هي تلك الأحكام والقوانين نفسها الإسلامية التي يجب أن تُراعى وتنفذ. ومن هنا فالحكومة الإسلامية هي (حكومة القانون الإلهي على الناس)” [4]..

هذا الفهم للولاية التي مرجعها الفقيه ومنفذها الفقيه ومشرّعها الفقيه، يجعل من الولاية ولاية قاهرة، تملك جميع الأدوات بيدها، وتقدم نفسها بصفتها تمثيلا لحكومة القانون الإلهي على الناس، لا قانون الناس الدنيوي. في مقابل هذا الأفق المشغول بأسلمة كل سلطات الدولة لتكون وفق الضمانة الإلهية. نجد فهم النائيني للولاية لا يتجاوز غاية رفع الظلم والاستبداد عن الناس، ”أما الدستورية (المشروطة) فهي تعني فيما تعنيه استرداد الحرية من الغاصبين”[5].

المشروطة محددة برفع الظلم والجور والاستبداد، هي مجموعة من القوانين التي تحد من اغتصاب حرية الناس، لم يكن مشغولاً بأسلمة القوانين ولم يكن يعنيه من أين تأتي، كان يعنيه ألا تتعارض مع أحكام الشريعة، لم تكن تشغله فكرة أن الشريعة تغطي الدولة وفيها كل أحكامها، ”الدستور المقترح في باب السياسة والنظام بمثابة الرسالة العملية للمقلدين في أبواب العبادات والمعاملات… يكفي لصحته ومشروعيته عدم مخالفة فصوله للقوانين الشرعية. ولا يعتبر أي شرط آخر في صحته ومشروعيته”[6].

لم يكن يشغله أسلمة القوانين، بل وضع قوانين تلزم وتلجم المستبد ”وأما مع عدم إسباغ الصفة الشرعية والإلهية وعدم نسبة الحكم إلى الشارع المقدس، فإن أي لون من الإلزام والالتزام سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي لا يعد بدعة ولا تشريعا. مثل النوم والاستيقاظ والأكل في ساعات محددة أو كأن يلتزم أفراد الأسرة أو القرية بتنظيم أمورهم على وجه خاص وطراز خاص”[7].

ليس للفقيه ولاية تلزم في الأحكام غير الأحكام المنسوبة للشارع المقدس، هي أمور تنظيمية لا تنتظر مطابقتها مع القانون الإلهي. الإمام الخميني كان يرى كل الأمور تحتاج إلى إلزام الشارع المقدس، ومن ثم فهي تحتاج إلى ولاية الفقيه المطلقة في كل الأمور.

هكذا، إذن ثمة فرق أو تعارض بين ولاية الفقهاء التي لا تتجاوز التأكد من عدم معارضة بنود الدستور للشريعة، كما هو الأمر مع النائيني، وبين ولاية الفقهاء التي تتجاوز مطلق الأمور.

لن تجد الثورة في المفكر والفقيه النائيني ما يعزز من مفهومها للولاية المطلقة، بل ستجد تعارضا معه، فهو لم يكن مشغولا بقضايا الحيض والنفاس في زوايا النجف كما كان يشير الإمام الخميني إلى هذا الصنف من الفقهاء، ولم يكن بعيداً عن الانشغال بالقضايا السياسية والمعارضة كما هو الأمر مع الفقهاء الذين عارضوا الإمام الخميني وانخراطه في القضايا السياسية.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11372

هوامش

[1]مجلة الحكمة، العدد8 ,220/7/.2009

[2]، [3]، [4] الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية.

[5]، [6]، [7] تنبيه الأمة وتنزيه الملّة، المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص,155ص,106 ص164

عزازيل الوفاق والتحرك الجديد

الأهم فيما يحدث من خلافات بين التحرك الجديد والوفاق، هو الخطاب الذي يبرر به كل طرف مواقفه ويشرعن به أفعاله، يستند الطرفان إلى مرجعية دينية واحدة تقريبا في أفقها، وإلى مرجعية حركية مختلفة في تشخيصها، لكن كليهما يستخدمان النصوص الدينية نفسها في تقرير حجية سياستهم.

حادثة قرية الدير [1] التي منع فيها أحد قيادي التحرك الجديد -الشيخ عبدالجليل المقداد- من الخطابة فيها استندت إلى مجموعة من التبريرات الشرعية المتعارضة في تشخيصها للواقع، وقد بدأت الحادثة بخطاب ديني يحمل سياقا سياسيا، وهو خطاب الشيخ حمزة الديري النائب البرلماني وأحد أهم الآباء المؤسسين للحركة الدينية في القرية منذ نهاية السبعينات، وأحد أعضاء مكتب أئمة الجماعة بالقرية، وهي تسمية جديدة لم تكن معروفة.

DSC_1111 يقول في خطاب صلاة الجماعة «نحن في مكتب أئمة الجماعة ومن منطلق المسؤولية الشرعية لا نملك الحق في اختيار إمام للصلاة بالناس من يحمل فكراً منحرفاً عن الإسلام كأهل البدع أو أهل الملل والنحل الأخرى، ولا من لا نتيقن عدالته، وكذلك من يعمل على فصل الأمة عن مراجعها وقياداتها الدينية، سواء بقصد أو غير قصد ولا من يؤدي اختياره إلى حدوث فتنة في المجتمع وخلاف وشقاق… من ينال رموزنا وقياداتنا وأعني سماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم وسماحة السيد عبدالله الغريفي بالتوهين والتشكيك ويعتبرهما قادة خط المسايرة وهو نعت يحمل الكثير من التخوين لا يسمح لنا التزامنا الديني بتقديمه للصلاة».[2]

هو ناطق هنا باسم (المسؤولية الشرعية) الدينية، لا المسؤولية الشرعية السياسية باعتباره ممثلا برلمانيا، وباسمها يمكنه أن يحكم بالمنع على كل من: من يحمل فكراً منحرفاً، من لا نتيقن عدالته، من يعمل على فصل الأمة عن مراجعها وقياداتها الدينية، من يؤدي اختياره إلى حدوث فتنة في المجتمع وخلاف وشقاق، من ينال من رموزنا وقياداتنا.

إنه فصل الخطاب، النطق باسم هذه المسؤولية لا يتيح مكاناً للتداول، بل للفصل في المسائل، في حين يتيح النطق باسم المسؤولية الشرعية السياسية، مجالا للتداول وإدارة الخلاف والتوصل إلى تسويات.

لم يستخدم الشيخ، مرجعيته السياسية باعتباره ممثلاً شرعياً للمجتمع الذي يخطب فيه، وذلك لأن هذا التمثيل لا يمنحه القوة التي يمنحها له تمثيله للشرعية الدينية، وتلك هي إحدى معضلات الخطاب الديني السياسي، لا يُعمّق من أدوات السياسة وتداولها في المجتمع، بقدر ما يُغرق المجتمع في خلافات دينية تشتغل فيها الفتاوى والنصوص الدينية والأحداث التاريخية. وهو يكثّر من الناطقين باسم الدين، ويقلل من الناطقين باسم السياسة. لو نطق النائب فيه (في الشيخ حمزة) وسكت الشيخ، لأتاح لجمهوره درساً بليغاً في ممارسة حقه السياسي في اختيار الحجج التي على أساسها يحاكم الخطابات السياسية واختلافات توجهاتها وشخصياتها. وتلك مهمة على الوفاق أن تعيها جيدا، أن تتيح للناس أن يمارسوا السياسية ويختلفوا في تقديراتهم للمواقف، لا أن يلجأوا للنصوص الدينية لإسكات بعضهم وإثارة الفتنة بين بعضهم.

استخدام النصوص الدينية والحجج الشرعية في الساحة السياسة فتنة، هذا الاستخدام في حد ذاته فتنة، وقد وقعت الأطراف المتخاصمة فيها، ولن تكف عن الوقوع فيه.

الزميل لبيب الشهابي في مقالته الناقدة أمس للشيخ حمزة[3]، لم يجنبا الفتنة، بل أوقعنا فيها، لأنه أحال إلى حجج شرعية أيضا في الرد على حجج الشيخ حمزة الشرعية، بل هو قربنا من الفتنة أكثر بإحالته إلى خطاب الشيخ عيسى الذي وظفه الآخر للرد على التحرك الجديد، وكأن الشيخ نفسه أصبح حجة يستخدمها المتخاصمون، وذلك لما لاسمه من قوة في إسكات الأطراف المحتربة، استند الزميل لبيب إلى خطبة الشيخ التي يقول فيها: «والمساجد للانتفاع العبادي للمسلمين وفي مقدمته الصلاة ولتبليغ الدين الحق وعلمه وتعليمه والتمكين له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تملكه الحكومات ولا الأحزاب والفئات، ومن منع وظيفة من وظائف المسجد فقد عطل المسجد وحارب الله ورسوله وأرصد للدين وأضر به وهو منكر شديد يجب أن يحارب».[4]

مشكلة الخطاب الديني أنه يستخدم العموميات، والسياسة تتطلب الخصوصيات، أي هي إدارة وقائع خاصة مشخصة، وحين نبرر فهمنا الخاص المشخص لحالة معينة بالاستناد إلى قاعدة عامة دينية قد لا تنطبق عليه، ندخل في الفتنة، كما هو الأمر مع تشخيص النائب الوفاقي الشيخ حمزة بأن خطاب الشيخ المقداد يخلق فتنة وانشقاقا «إذا كان الشيخ الديري قد اتخذ هذا الموقف من منطلق تكليف شرعي، وأن التحرك الجديد يمثل خطرا على الدين لا بأس أن يقف في وجهنا».[5]

ولأن هذا التشخيص (تشخيص شيخ حمزة) لا يملك حججاً سياسية وعقلية واجتماعية كافية، فهو يحيل إلى قاعدة شرعية عامة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن ممارسة المنكر في مساجد الله، وهو بهذه الممارسة خلق فتنة مازالت تبعاتها تتالى.

ويمكن بالاستناد إلى خطاب الشيخ عيسى قاسم، أن يقول أي شخص من أطراف التحرك الجديد: إن منع الشيخ المقداد من الانتفاع بمساجد قرية الدير، من أجل نهي الحكومة عن المنكر وأمر الناس بالمعروف وفق تشخيص التحرك الجديد، هو منع وظيفة من وظائف المسجد وهو بهذا المنع قد عطل المسجد وحارب الله ورسوله وأرصد للدين وأضر به وهو منكر شديد يجب أن يحارب.

كيف يمكن أن نخرج من فتنة المسؤولية الشرعية ونصوصها الشرعية وتوظيفاتها السياسية؟ لا يمكن ذلك إلا بتحرير السياسة وميدانها العام المشترك من النطق باسم هذه المسؤولية «ما عبرت عنه نابع من تكليفي الشرعي»[6]، من أجل النطق باسمنا وتقديرنا وتشخيصنا، ومرجعيتنا في العمل السياسي وأدواته.

ليس بالإحالة إلى خطاب الأخوة الإيمانية يمكن أن تحل هذه الفتن التي لم تتوقف يوماً، كما يحيلنا خطاب الشيخ علي الهويدي «لا يجوز أن أمنع إنسانا إذا كان إنسانا مؤمنا سيصلي في مكان أو يحاضر في مكان لا يجوز لأي إنسان مؤمن أن يمنع هذا الإنسان المؤمن، مادام هو إنسان مؤمن حتى لو اختلف معه». [7]

الطرد والمنع واللعن والحرمان أحكام دينية غليظة، ميدانها ليس السياسة، والحكم على الخلافات السياسية بهذه الأحكام الغليظة، يخرج السياسة من دائرة الدنيا ويدخلها في دائرة الآخرة.

سيبقى عزازيل (الشيطان) يشتغل بين الوفاق والتحرك الجديد، مادام الدين يدخل في دائرة تفاصيل السياسة، وعزازيل يكمن في التفاصيل والدين يكمن في العموميات.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11322

الهوامش

[1]، [2] انظر جريدة الوقت:

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=174355

[3] انظر مقالة الزميل لبيب الشهابي، بالوقت:

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11312

[4] خطبة الجمعة للشيخ عيسى قاسم 23 يناير 2009م

[5] انظر تصريح الشيخ المقداد لجريدة الوسط.

http://www.alwasatnews.com/2521/news/read/190308/1.html

[6] انظر تصريح الشيخ حمزة الديري لجريدة الوسط.

http://www.alwasatnews.com/2521/news/read/190308/1.html

[7]انظر منتديات قرية الدير:

http://www.aldair.net/forum/showthread.php?t=81811

هل كان «هيبا» مثقفاً أم راهباً؟

على خلفية جدل بشأن شخصية المثقف وعلاقته بسلطة الجماعة السياسية والعقائدية، انتفاعاً وانتماء، قالت لي الصديقة سماح: بالأمس وأنا أقرأ عزازيل كنت أفكر أن هذا الراهب يشبه الكثير من مثقفينا. تفكيرها جعلني أعيد قراءة شخصية(هيبا) طارحا السؤال التالي: هل كان (هيبا) في رواية عزازيل راهباً؟
نعم في شخصيته الظاهرة كان راهباً، لكنه في شخصيته الباطنة كان يحمل مشروع Hypatia_%28Charles_William_Mitchell%29 ولادة مثقف. لقد وجدت في الصراع الدرامي الذي تكوّنت منه شخصية (هيبا) الروائية، تضاداً بين شخصيته الرهبانية وشخصيته الثقافية، كان هيبا راهباً قبطياً مصرياً يقصد المراكز الكبرى (الإسكندرية، أورشليم، القسطنطينية، حلب..) للكنيسة بغرض التعمق في فهم اللاهوت والتخصص في صناعة الطب ”كنت أحضر دروس الطب واللاهوت بانتظام”[1]. لكنه في رحلة البحث يصل إلى ما لم يكن يقصده. إلام يصل؟
يصل إلى ما يخرجه من رهبنته، ويقينه المطلق. في فضاء الخروج هذا، تتولد شخصية المثقف بمعناها الحديث الذي يتضمن اللايقين، والاحتجاج، والنقد، والخروج من سلطة الجماعة ومطلقاتها. ما الذي في شخصية هيبا من هذا المعنى للمثقف؟
فيه معنى الارتحال. الارتحال في الجغرافيا، في جغرافيا الأرض وجغرافيا الأفكار. فهو بدأ رحلته من أخميم في مطلع شبابه الباكر ومنها إلى ليكوبولس ثم إلى الإسكندرية ومنها إلى القدس، ليستقر به المطاف في (الدير السماوي) شمال حلب. إنها رحلة شاقة على مستوى جغرافيا الأرض، وشاقة حدّ الحيرة على مستوى جغرافيا الأفكار. لم يستقر هيبا في أي من هذه الجغرافيات على معنى يقيني ”نعم لقد تابعت سيري شرقاً، مسلوب الروح، كنت مسرعاً نحو غاية لا أعرفها، في لحظة ما أدركت أنني لا أعرفني… أنا آخر، غير هذا الذي كان، ثم بان”[2]
كان يملأ روحه القلق، والقلق إحدى حالات المثقف. هيبا لم يكن متيقناً على معتقد واحد عن المسيح وطبيعته وسلطته في الأرض والسماء. هل هو الإله أم الإنسان؟ وهل أمه أمُّ الإله (ثيو توكوس) أم أمُّ الإنسان؟ وهل الأقانيم الثلاثة هي تجليات لذات واحدة أم هي تجسدات لذوات مختلفة؟ هذا على مستوى اللاهوت. وعلى مستوى الناسوت، في علاقته بعزازيل وعلاقته بالفضيلة وعلاقته بجسده وبالأنوثة، كان يعيش توترات حادة لم يحسمها يقين الرهبانية لديه. كان يسترجع كلام الراهب (خريطون) حول اليقين، بشك المثقف ”إن اليقين لن يكون إلا بإخماد الشكوك، ولن يخمد الشك إلا بتفويض الأمر إلى الرب، وتفويض الأمر إليه لن يكون إلا بمعرفة معجزاته في الكون، ومعرفة المعجزات لن تكون بالإقرار بتجسد الله وظهوره في المسيح”[3]. ويواجه يقين المعجزة بتأويل معناها، وذلك حين يسترجع كلام الراهب نسطور له: ”لا ينبغي لنا العيش في المعجزة ذاتها، وإنما في الطريق الذي رسمته، وإلا فقدت معناها”[4]
لم يعش هيبا ليقينه على مستوى التجربة الذهنية فقط. بل عاشها كمثقف على مستوى سلوكه اليومي وحياته الشخصية وعلاقاته بمراكز القوة التي كانت تمثلها سلطات الكنائس الكبرى، وهنا سنعثر على جنبة أخرى من جنبات المثقف في شخصية هيبا. هي جنبة الاستقلال. فهو لم يكن تابعاً، لأي سلطة من السلطات المتصارعة حول معنى اللاهوت. وهو وإن كان قريباً بفكره من لاهوت النسطورية التي تؤمن أن العذراء ليست أماً للإله بل أم يسوع المسيح، إلا أنه قرب كانت تمليه عليه قناعته العقلية، وليست مصلحته الشخصية، أو يقينه العقائدي، أو تحزباته الدينية أو قرارات المجامع الكنسية.
ولعل اسم (هيبا)، يجمع في معنى حكايته، جوهر معنى استقلالية المثقف واحتجاجه، يقول بعد أن مزّق ثوب الرهبنة الذي شهد به مقتل الفيلسوفة هيباتيا ”عمّدت نفسي بنفسي، وأعطيت لنفسي في لحظة الإشراق المفاجئ هذه، اسما جديدا. هو الاسم الذي أعرف به الآن.. هيبا.. وما هو إلاّ النصف الأوّل من اسمها”[5].
اتخاذه لاسم (هيبا) كان احتجاجاً على كنيسة الإسكندرية التي سحلت جسد (هيباتيا) في شوارعها العامة. كان القتل على العقيدة يمارس حضوره العلني في ساحة المدينة العامة، ولم يجد هيبا طريقة للاحتجاج على هذه الممارسة سوى أن يتخذ من اسم (هيباتيا) إعلان ولادة جديدة وتعميد جديد يطهره من هذه الممارسة تطهيراً يجعله مستقلاً عن إثم سلطتها الدينية التي كان يمارسها رئيس الكنيسة (كيُرلُّس).
وسيعضد من قوة هذا الاحتجاج والخروج على هذه السلطة بخروجه على/ من هذه المدينة التي دخلها يوماً باحثاً عن لاهوت يسكّن روحه وطب يدله على إكسير يداوي به جراح الفقراء، وإذا بالمدينة تجرح إنسانيته جرحاً يجعله يهيم خارجها بحثاً عن دواء لروحه القلقة. أليست سيرة الخروج هذه هي سيرة كل المثقفين الخارجين من/على مدنهم الخائنة للإنسان؟!
”أفقت من ذهولي، على حيرتي في مقصدي: هل أعود للكنيسة المرقصية.. فأشارك الأخوة هناك احتفالهم بنشوة الظفر والانتصار.. أم ألقي بنفسي على الجمر الباقي حول جسد هيباتيا، فأحتضنه، علني أدرك بقية من النار التي احترقت بها، فأموت معها متطهراً”[6]
لم يعد هيبا، خرج من المدينة وعلى كنيستها، يحمل قلق التناقضات ”الواقعة بين ديانتنا القائمة على الفداء والمحبة وتلك الأفعال التي تجري باسم المسيح في الإسكندرية”[7]
كان اتخاذ اسم هيبا، إعلان ولادة جديدة، ”أنا المولود مرتين”[8] تحمل في داخلها شهادة على عصره المضطرب. والمثقف يشهد على تحولات عصره بأسمائه وسيرته التي تحكي ما يجري في مدنه. من هنا كان هيبا بسيرتها حكاية وشهادة، سيفصل شهادته في حكاية يسردها في ثلاثين رقاً.
لن تروي هذه الرقوق مقدسات السماء، بل ستكون رواية لمدنسات الأرض وهي تنطق باسم السماء. الراهب يسرد نصوص المقدس ويدفع الناس كي يحتربوا حول الحقيقة المخبأة فيها حسب ظنه، والمثقف يسرد للناس وقائع المقدس في التاريخ واحترابات الناس حوله، ليبصرنا بما يعميه المقدس وسروداته. كان هيبا مثقفاً بروايته التي جعلتنا نرى القرن الخامس الميلادي ببصيرة دنيوية نافذة وناقدة.
بصيرة نافذة ونقادة، تتيح لنا رؤية عمى صاحب القداسة البابا (كيُرلُّس) أسقف الأسكندرية، وهو يخاطب هيبا، كي يبتعد عن علوم اليونان وفلسفتهم: ”هي أيها الراهب، خزعبلات المهرطقين، وأوهام المشتغلين بالفلك والرياضيات والسحر، فاعرف ذلك وابتعد عنه، لتقترب من سبل الرب وطرق الخلاص. إن كنت تريد تاريخاً؟ إليك التوراة وسفر الملوك. أو تريد بلاغة؟ إليك سفر الأنبياء. أو تريد شعراً؟ إليك المزامير. وإن أردت الفلك والقانون والأخلاق، فإليك قانون الرب المجيد”[9]. فيما كان البابا يخاطب رهبانيته، كان عزازيل يخاطب شقه المثقف ”اكتب ولا تجبن، فالذي رأيته بعينك لم يكتبه أحد غيرك، ولن يعرفه أحد لو أخفيته.. اكتبه اليوم كاملاً، اكتبه الآن كله”[10] .

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11261

هوامش
[1]، [2]، [3]، [4]، [5]، [6]، [7]، [8]، [9]، [10]،يوسف زيدان، راوية عزازيل، ص,150 ص,164 ص,182 ص,183 ص ,165 ص,160 ص,184 ص ,164 ص,250 ص.155

إصلاح المرجعية القاهرة

عن دار الساقي صدر حديثا كتاب "روافض ونواصب" وقد حرره حازم صاغية، وهو يضم مجموعة من الدارسات التي أعدها مجموعة من الباحثين، تتناول الصراع الطائفي في مجموعة من البلدان العربية.

يلفت عالم الاجتماع فالح عبدالجبار في دراسته المنشورة114610_nawseb_small ضمن الكتاب نفسه والمعنونة بـ "الصعود الشيعي والتصادم الطائفي في السياسة والاجتماع العراقيين" إلى الفرق بين السلطة المرجعية والسلطة القاهرة، فهو يقول "يملك السيد السيستاني السلطة المرجعية Authority وليس السلطة القاهرة. فالسلطة هي قوة من أدوات القهر والإلزام، والسلطة القاهرة هي سلطة ترتبط بأدوات القهر"[1].

أعتقد أن هذا التمييز بين السلطة المرجعية والسلطة القاهرة، يتيح لنا فهماً أفضل لعمل المرجعية الشيعية في التاريخ والحاضر وعلاقتها بالسياسة وجماعة المؤمنين وعلاقتها بجماعة المواطنين. على أن صفة القاهرة هنا لا تعني الديكتاتورية، بل تعني امتلاك القوة المادية، كما هو الأمر مع الدولة، فالدولة سلطة قاهرة وهي الوحيدة التي يحق لها امتلاك وسائل العنف. وقد يؤدي هذا الامتلاك لأن تتحول السلطة القاهرة إلى سلطة دكتاتورية وقد لا يؤدي إلى ذلك، لذلك نجد دول دكتاتورية ودول غير دكتاتورية.

لكن علينا ألا ننسى الفرق، ففي الدولة، السلطة القاهرة ليست بيد شخص، بل بيد مجموعة من السلطات هي في مجموعها تشكل القهر. وسبب هذا التوزيع والفصل للسلطات يتحقق قدر أكبر من العدالة وقدر أقل من التسلط.

يرتبط التصور الشيعي لمرجعية الفقيه، بتصوره لمرجعية الإمام، فالفقيه الجامع للشرائط، نائب عن الإمام، لكن مفهوم هذه النيابة ووظيفتها وحدودها يختلف بحسب تعدد المدراس الفقيه والكلامية عند الشيعة، وباختلاف السياقات التاريخية التي عاشوها.

السلطة المرجعية، هي أقرب إلى السلطة الروحية وليس هناك عقد قانوني ينظمها، فهي أقرب إلى العرف والرمزية وتتعلق غالبا بالشؤون الدينية. ويتم أحيانا الرجوع إليها لتحكيمها أو الاستئناس برأيها في أمر خلافي بين الجماعة المؤمنين بها.وهي لا تتدخل إلا في القضايا العامة الكبرى بغرض التوجيه والنصح أو دفع ظلم فادح.

أما السلطة القاهرة، فيجسدها نموذج الولي الفقيه حسب مفهوم الولاية المطلقة، وهي تجد نموذجها في ما ينص عليه الدستور الإيراني، ففي المادة العاشرة بعد المائة، يتم تحديد وظائف القائد وصلاحياته (الولي الفقيه):"تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام. الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام.إصدار الأمر بالاستفتاء العام. القيادة ‌العامة للقوات المسلحة. إعلان الحرب والسلام والنفير العام. حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاث. حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام.عزل رئيس الجمهورية.نصب وعزل وقبول استقالة: فقهاء ‌مجلس صيانة الدستور.أعلى مسؤول في السلطة القضائية. رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية. رئيس أركان القيادة المشتركة. هـ – القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية. والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي"[1].

هذه الصلاحيات التي هي في قبضة يد الولي الفقيه، هي ما تجعل من سلطته سلطة قاهرة، فهي أدواته في الإلزام والقهر. والدولة في نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران، تجد معناها متحققاً بقبضة هذه اليد، ينقبض معناها وينبسط بقدر حركة هذه اليد.

يعود هذا التمركز للقوة في يد واحدة إلى التصور الشيعي لفكرة نيابة الفقيه عن الإمام، فالإمام المعصوم هو الذي بيده كل شيء، ويتحقق العدل والأمن بعصمة يده، وفي حال غيابه، تنتقل الصلاحية إلى الفقيه فتكون له الولاية التي كانت للإمام. الدستور الإيراني هو صياغة معاصرة لهذه الفكرة، وهي صياغة حديثة وجديدة وفيها قدر كبير من الاجتهاد والمرونة التي لا تعجبني، وهي مرونة مستمدة من طبيعة الاجتهاد الشيعي في الفقه، وهذا ما يمكن التعويل عليه في أن تجدد الجمهورية الإسلامية الإيرانية معناها من خلاله، لتتيح حيوية للإصلاح من خلال النظام. فكارثة العراق وشبحها الجاثم لا يمكن لعاقل أن يتمنى حدوثه في مكان آخر.

السلطة القاهرة لابد أن تتحول إلى الدولة لا إلى الولي الفقيه، وأحد قصورات الفقه الشيعي، تكمن في أنه يتصور الدولة طبقا لتصوره لفكرة الإمامة، وكأن الدولة في معناها الحديث هي الإمامة, وقد جاءت تجربة صياغة النظام الجمهوري الإسلامي الذي وافق عليه 98%من الشعب الإيراني آنذاك، طبقا لمفهوم الإمامة. مع تكييفها إدارياً لتناسب شكل الدولة الحديثة. هذا ليس انتقاصا من التجربة، لكنه مراجعة لها.

لقد تحولت الدولة إلى إمام قاهر، وما يحدث الآن هو محاولة لإصلاح هذه السلطة القاهرة، وأعتقد أنه حان لفكرة الإمامة في شكلها الفقهي أن تتحول إلى مرجعية من غير سلطة قهر وإلا ستستمر الأزمة أو تعيد نفسها في أشكال مختلفة.

كان المرجع النائيني[3]، في كتابه تنبيه الأمة، قد نبه في سياق دعمه للحركة المشروطة (الدستورية) إلى أن العصمة في مفهومها تهدف إلى تحقيق العدالة لا إلى تمركز السلطة والقهر والتسلط، من هنا فدعمه للدستور هو تحقيق إلى ما تبتغيه العدالة وأول الشروط التي تبتغيها تحقيق قدر عادل من توزيع السلطة في الدولة، ومنع استئثار شخص بأدواتها، وتحقيق قدر من حرية الاختيار الذي يحفظ العدل لا النظام، بمعنى فكرة الولي الفقيه في صورتها الحالية بما تتوفر عليه من قهر وإلزام، لا تحقق فكرة العصمة ولا فكرة العدالة ولا فكرة الدولة. وهي بحاجة إلى مراجعة نقدية من داخل الاجتهاد الشيعي نفسه، من أجل إصلاح سلطتها القاهرة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11208

هوامش:

[1] نواصب وروافض، تحرير حازم صاغية، 2009، انظر دراسة "الصعود الشيعي والتصادم الطائفي في السياسة و الاجتماع العراقيين " افالح عبد الجبار، ص90.

[2] انظر: نصوص الدستور الإيراني على موقع:

http://www.alalam.ir/site/iranElection/2.htm

[3] انظر: علي الديري، تحرير العصمة.. مشروطية النائيني، جريدة الوقت،

العدد 610 – الثلاثاء 23 أكتوبر 2007.

http://209.51.158.162/blog_art.php?baid=4965

عزازيل الأديان

”وقتل الناس باسم الدين لا يجعله دينا”[1]

بل يجعله تاريخاً قابلا للدارية والنقد لا للرواية (الرواية وفق معنى علم الحديث). التاريخ المسيحي والتاريخ الإسلامي والتاريخ اليهودي، وتواريخ كل الديانات هي في جزء كبير منها تواريخ قتل، وهذا الجزء يحق لأي كان روايته (بالمعنى الحديث للرواية) أي جعله موضوعاً للسرد وفق رؤية ما.

الدين ليس مطلقا من التاريخ، وليس مطلقا من العنف، ولا من الأرض ولا من الدنيا ولا من الإنسان ولا من الشيطان، الدين هو تجربة الإنسان في التاريخ، وهي تجربة يكون فيها للدين معنى من خلال الإنسان وطبائعه.

(عزازيل) تسرد وقائع تاريخية عبر قصة متخيلة أو عبر قصة شخص متخيل، وهو الراهب (هيبا). هيبا هو الشخصية المتخيلة التي تعيننا على قراءة هذه الوقائع، وبدونها تفقد هذه الوقائع معناها وتفقد الرواية اعتبارها بالتاريخ، فالتاريخ موضوع للاعتبار، ولا يمكنك أن تعتبر بوقائعه إذا لم تتمكن من عبورها، وذلك بعبور زمنها الماضي ومعناها الديني أو السياسي لاستخلاص زمن جديد ومعنى جديد.أي أن تعبر موتها الماضي وسكوتها، بإحيائها واستنطاقها في الحاضر.

تجربة الدين في التاريخ، بحاجة إلى رواية دوماً، والرواية بمعناها الحديث هي الدراية، وليس بالمعنى القديم أي النقل، فالرواية تقدم معرفة حية تجعلك تدري وتفهم وتفسِّر وتؤوِّل.

الخطايا ترجعها الأديان دوما لعزازيل، لكن الرواية يمكنها بدرايتها أن تعيد علاقة عزازيل بالإنسان بشكل آخر، ففي هذه الرواية جعلت من عزازيل المحرك الأول لاعترافات الإنسان والمحرض له على كتابة اعترافاته في ثلاثين رقاً. عزازيل دفع هيبا للكتابة ليذكر البشرية بخطايا الدين والإنسان في التاريخ، يخاطب هيبا:

”يا هيبا قلت لك مرارا أنا لا أجيء ولا أذهب.أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. فأنا آت إليك منك، وبك، وفيك، إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمدّ بساط خيالك، أو أقلّب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك، أنا الذي لا غنى لك عنه، ولا غنى لغيرك”[2].

الأديان مادامت ليست مطلقة من التاريخ، فهي ليست مطلقة من عزازيل (الشيطان)، فهي تجيء به وتذهب به، وعزازيل يسكن في تفاصيل التاريخ.

الدين المطلق من التاريخ، هو مطلق من الإنسان، والدين من غير إنسان لا معنى له. لا معنى لدين معلّق في السماء، كي ينطق هذا الدين، فعليه أن ينزل إلى الإنسان والإنسان حيث التاريخ.

الذين سحلوا الفيلسوفة الرياضية (هيباتا) وجردوها من ملابسها وأحرقوها، في مدينة الإسكندرية في 415م كانوا قد خرجوا يسحبونها من شعرها تحت شعار يسوع الذي كان يردده البابا كيرُلُّس ”ما جئت لألقي في الأرض سلاما بل سيفا”[3] وكانوا يرددون ”بعون السماء سوف نطهر أرض الرب..اليوم نطهر أرض الرب…جئناك يا عاهرة ياعدوة الرب”[4].

سحلوها حين نزل عليهم الدين، حين صار منسوبا إليهم لا مطلقا منهم، حين ينزل الدين يحتاج إلى رواية، لسنا بحاجة اليوم إلى روايات أحاديث بل بحاجة إلى رويات رؤى، رويات ترينا تاريخ الأديان، وهي تأخذ معانيها في شكل سلطات وطوائف ومذاهب ودول وأمبراطوريات وممالك ومؤسسات.

لذلك على الأديان أن تعتذر وتعترف بأخطائها في التاريخ، فليس الفرد وحده صاحب الخطيئة، بل الأفراد حين تصير جماعات تزداد خطاياهم، وهي غالبا لا تصير جماعات إلا بالدين.

الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، في محاضرته الشهيرة (لماذا لست مسيحيا؟) يقول ”توجد حقيقة عجيبة أن الوحشية تزداد وأن الوضع العام يسوء كلما قوي الدين، وكلما اشتدت العقيدة الدينية. في ما يُسمى بعهود الإيمان، عندما كان الإيمان بالدين المسيحي أقوى ما يمكن، كانت محاكم التفتيش موجودة بتعذيبها وتم حرق ملايين النساء بتهمة السحر وباسم الدين تمت ممارسة كل أنواع الفظاعة الممكنة”.[5]

يجرِّدون الدين ويجعلونه مطلقا، هم من يقومون بذلك، حين يزعمون أنهم يحرقون ويسحلون ويعذبون باسم الدين مطلقا، الدين مطلقا بحسب زعمهم من مصالحهم ووجهات نظرهم واختلافاتهم وزمانهم.

كانت الراهب (هيبا) شاهداً على هذه الفظاعات، وخلال رحلته التي امتدت من جنوب مصر إلى الإسكندرية إلى أورشليم إلى حلب إلى أنطاكية، كان يروي هذه الفظاعات الدينية. نحن فعلا بحاجة إلى راهب يروي لا راهب يحدّث. لأن من يروي يرينا الدين في التاريخ كي نحيا على نحو مختلف، ومن يحدّث يرجعنا إلى ميتين كي يرضوا عنا ”لا تكن مثل ميت ينطق عن ميتين ليرضي ميتين”.

رواية (عزازيل) لا تنطق عن ميتين، بل تستنطق ميتين، كي لا يكون هناك مشاريع أموات يقدمون حياتهم ليرضوا تاريخ أموات. الرواية بهذا المعنى شهادة حياة، لذلك قال له عزازيل ليجنبه الموت: ”تحيا يا هيبا لتكتب، فتظل حيا حتى حين تموت في الموعد، وأظل حيا في كتاباتك..اكتب يا هيبا فمن يكتب لن يموت”.

من يريدون الدين للموت، ليصنعوا مشاريع أموات جدد أو لينطقوا عن ميتين، لا يريدون للكتابة أن تروي، يريدونها أن تتحدث. لا يريدونها أن تروي فظائعهم بل أن تتحدث عن أمجادهم.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11139

هوامش

[1]،[2]،[3]،[4] يوسف زيدان، رواية عزازيل، دار الشروق،ص185.100.152.155

[5] موقع الحوار المتمدن:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=177055