أرشيف التصنيف: مقالات

البيت الحاكم

http://www.awan.com.kw/node/46542

يقول “نوبوأكي نوتوهارا” أستاذ الأدب العربي في جامعة طوكيو ومترجم الكثير من الأعمال الأدبية العربية إلى لغته الأم اليابانية، في كتابه “العرب وجهة نظر يابانية”: “إن الحاكم العربي يخاطب الشعب بكلمة، يا أبنائي وبناتي.

عندنا نعتبر هذه الكلمة إهانة بالغة إذا استعملها مسؤول مهما كان كبيراً، نحن لا نقبل بهذه الصيغة، نحن نقول لرئيس الوزراء أنت حر في بيتك، ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك. نحن نعرف أن مكانة الأب شبه مقدسة في البلدان العربية داخل الأسرة استناداً إلى الدين والأعراف والأوضاع الاجتماعية التقليدية، ولذلك فالأب خارج البيت رجل آخر”.

مجاز البيت والأب والأسرة يحيل إلى التدبير المنزلي، وتلك سياسة الخاص، أما سياسة العام فتحيل إلى تدبير المدينة والمجتمع والدولة. والسياسة بمعناها العام هي ممارسة العام، العام الذي يقع خارج الأسرة والبيت والدم والأبوة والبنوة. هل نحن نمارس العام؟

السياسة لدينا هي ممارسة الخاص. هذا ما تقوله وجهة نظر “نوتوهارا” اليابانية، وهذا ما تفضحه مجازات واستعارات وتشبيهات الخطاب السياسي الحاكم. وهنا أنا أستخدم الخطاب السياسي الحاكم، وليس الخطاب السياسي للحاكم. ما الفرق بينهما؟

الأول يشير إلى عموم الخطاب الذي يحكم السياسية العربية، والثاني يشير إلى الخطاب الخاص للحاكم العربي، ورؤية “نوتوهارا” تشير إلى الثاني، وأنا أعمم إشارته إلى ما يتجاوز خطاب الحاكم العربي، بل إن خطاب هذا الحاكم هو جزء من هذا الخطاب العام، وإذا كانت الحكمة العربية تقول “كيفما تكونوا يولَ عليكم” فإننا يمكننا أن نقول كما يكون خطابكم يكون خطاب من يتولى عليكم . فخطاب اليابانيين يقول للحاكم أنت لست في بيتك ولا نسمح لك أن تخاطبنا بخطاب البيت والأسرة والأبناء. فيكون خطاب من يتولى عليهم وفق إرادة خطابهم. ونحن نقول للحاكم، الوطن بيتكم ونحن أسرتك ونسمح لك أن تخاطبنا بخطاب الأبناء والبيت المفتوحة أبوابه.

هذه عينة مما نقوله في صحافتنا اليومية “أعتقد أن الغالبية تثق ثقة مطلقة في حكوماتها، وتثق في أنها ترفض أية ممارسات تضر بأوطانها من خلال التجاوزات أو استغلال المال العام، بالتالي فإننا نتمنى أن تكون الحكومات كرب الأسرة الذي يحاسب أعضاء أسرته إن أخطؤوا، ويعاقبهم عقابا شديدا لو كان الخطأ أحدث ضررا جسيما بحق الأسرة الواحدة”.

حين يتولى علينا هذا الخطاب، ينغلق العموم، ويصير فضاء السياسة مغلقاً في حدود البيت. فيكفّ الخطاب عن ممارسة العموم، لممارسة الخصوص. فيكون الخطاب السياسي خطابا عائليا وتكون ممارسته ممارسة عائلية، فتضيق ساحة تداوله، ويضيق مجتمعه، لأن المجتمع يتسع باتساع ساحة التداول العامة.

الخطاب السياسي العائلي لا يُنشئ ساحة تداول عامة، وليس فيه مجال حر مشترك لمختلف المواطنين، ولا فضاء عمومي، فكل ما فيه يحيل إلى الغرف، إلى غرف البيت التي لا تتسع إلا إلى المجتمع الخاص.

في الغرف المغلقة

المجتمع العام لا يمارس حقه في الغرف المغلقة التي هي غرف البيت، هو يمارس حقه واحتجاجه واختلافه في ساحات الحرية العامة، وغرف البيت حتى لو صارت بلاطات قصور كبيرة، فإنها لا يمكنها أن تكون ساحات لممارسة العموم، حتى لو كانت مساحة جغرافيتها ضعف مساحة جغرافيا ساحات المدينة العامة.

على هذا النحو تستحيل الممارسة السياسية، ممارسة مقدسة، لأنها تستحضر أعراف الأب المقدس في الثقافة العربية، ولعل هذا ما عناه “نوتوهارا”: “نحن نعرف أن مكانة الأب شبه مقدسة في البلدان العربية داخل الأسرة استناداً إلى الدين والأعراف والأوضاع الاجتماعية التقليدية، ولذلك فالأب خارج البيت رجل آخر”، فهو قد تجوَّل أربعين عاماً في هذه الثقافة، وخبر مكانة الأب شبه المقدسة، أو لنقل مكانة الأب السماوية، كما أنه خبر الأرض العربية بتضاريسها المختلفة.

استعارات العائلة

إن الخطاب السياسي للحاكم أو للمعارضة أو للناشطين في الحقل المدني، حين يبني ممارسته الخطابية على استعارات الأب والأخ والعائلة، فإنه يحيل ممارسته الدنيوية إلى ممارسة شبه غيبية، لا تحكمها قوانين الأرض، بقدر ما تحكمها أعراف السماء. هنا تضيق الأرض وتتسع السماء، فيضيق فضاء التحرك الحر للمواطن الذي ينتمي إلى الأرض لا إلى السماء. بقدر ما يكون الخطاب ينتمي إلى الأرض، فإنه يقترب من موطن الإنسان، لأن موطن الإنسان الأرض المكدسة بالأخطاء لا السماء المقدسة بالفضائل.

ليس خطاب الدين وحده من يحيل ممارسة السياسية إلى السماء، بل حتى خطاب العائلة والقبيلة والحزب، يفعل ذلك، لأن السماء المقصودة هنا ليست هي السماء المرصعة بالنجوم، بل المرصعة بالتقديس. البيت بالنسبة للأب العربي، هو سماء أخرى، لأن البيت حاضنه المقدس.

سقوط من السماء

وحين يقع الأب العربي خارج البيت، يكون كأنه قد سقط من السماء. وصار يمشي في الأرض من غير هالة تقديس.

وهذا ما يعنيه (نوتوهارا) بقوله “فالأب خارج البيت رجل آخر”. ممارس الخطاب السياسي لا يريد أن يمارس سياسته خارج البيت، كي لا يكون هذا الرجل الآخر الذي يفقد قدسيته. لذلك يظل يحيل إلى هذه السماء (البيت والعائلة) كي تمنحه مكانته المقدسة التي فيها يجد شرعيته. أما خارج البيت فلا شرعية له. يكون سَقْطاً.

بهذا الاحتواء

“نحن نقول لرئيس الوزراء، أنت حر في بيتك ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك” في البيت لا يجد الأب من يقول له: لا نسمح لك. لا مكان في البيت للمعارضة، فالمكانة كل المكانة للتقديس. لذلك يريد الرئيس أن يأخذ معه البيت إلى الخارج، وهو هنا لا يأخذ البيت بمعناه الفيزيائي، بل يأخذه بمعناه المجازي، أي يأخذ مكانته المقدسة فيه، ويأخذ موقعه الآمر فيه، ويأخذ تفرده فيه، تفرده الذي لا يقبل الاعتراض عليه.

إنه يأخذ كل ذلك كي يحتوي به العام الذي هو مكان ممارسة السياسية، فيصير هذا العام بيتاً آخر وسماء أخرى ومكانة مقدسة.

بهذا الاحتواء، نصبح نحن في بيته وسمائه ومكانته، فنفقد أرضنا ومواطنتنا التي تسمح لنا أن نقول له: لا نسمح لك. يصبح هو في بيته، ليقول لنا: لا أسمح لكم. إنه يقول ذلك باسم البيت الحاكم. حينئذ لا يكون أمامنا إلا الطاعة، الطاعة الخاصة لرب البيت، لا الطاعة العامة للقانون العام الذي يحكم خارج البيت.

وإذا كنا كلنا محكومين بهذا البيت، فإننا لن نستطيع أن نقول له: لا نسمح لك أن تكون أباً. فأنت “أبانا” الذي تقدس في السماء.

وجوه مستطيرة

مقدمة لكتيب معرض الفنان التشكيلي جبار الغضبان 2008

في زيارتي الأولى لمرسم عشتار، كتبت على جداره المعتق بالفن: الفن إنما ينحو جوهرياً إلى أن يضع الناس في علاقة مع بعضهم البعض، مشكلاً فيما بينهم رابطة خبرات مباشرة مشتركة. وهذا ما يظهر الفن بصفته الوسيلة الوحيدة التي تمكن الناس من الإفلات من فرديتـــهم"جون ديوي

العمل ضمن تخصص واحد هو نوع من الفردية التي لا يمكنك الإفلات منها إلا بتشكيل خبرات مشتركة مع تخصص آخر، وحين يقدر لك أن تفتح خبرتك الفردية على خبرة الفن الذي هو بمثابة أم الخبرات المشتركة، فإنك تكون قد مكّنت خبرتك من أن تكون في قلب ما يضع الناس في علاقة مع بعضهم بعضاً.

عشتار ورشة هذا القلب، يضعك فنها فيما يتجاوز فرديتك، يضعك فيما ينتهي إليه الجسم، وفيما يوافق البصر من سيلان الأشكال، وهذا ما كثّقه سقراط في محاورته التي عرّف فيها اللون بأنه سيلان الأشكال "إذ أنا أقول بأنّ الشّكل هو ما ينتهي إليه الجسم، أو بعبارة أشدّ اختصاراً، الشّكل هو نهاية الجسم.اللّون هو سيلان الأشكال سيلانا محسوسا موافقا للبصر"

منذ صيف 2007كنت أرقب بشكل يومي،  سيلان أشكال كائنات جبار الغضبان، أستمتع بخبرة تحضير اللوحة حيث الرطوبة تهيئ أرض سيلان اللون، وأرقب بشغف وضعها على منصة البصر حيث حامل اللوحة يسند اللون ليُمكّن الأشكال من السيلان فوق بياضها المُهيّّأ لجسدٍ في طريقه إلى النهايات من الجمال الأقصى. كل ما انتهى جبار من سيلان موافق لطور من أطوار البصر، حركت ملليمتر كاميراتي لتحفظ ما تشكل من محسوسها، هكذا تأخذ  الأشكال أطوار بصرها وآخذ أنا أطوار تَبَصُّري، فأخرج من فرديتي وأدخل في خبرة الألوان والأشكال والأجسام والسيلان، وكأني في خبرة الخلق.

أقول لجبار، لماذا وجوه نسائك مستطيلة؟ فيقول لي: اللون في فرشاتي لا يسيل إلا موافقاً لجمال مستطيل، فالوجه المستطيل أقرب إلى المستطير، واللون تستفزّه الاستطارة، بما تحيل إليه من معاني الطيران والانتشار والتحرك والذيوع والذعر، وكلها تدخل في معاني السيلان، إذ السيلان حركة تشكيل تعطي للأجسام نهاياتها من الجمال المستطير.

السيلان في تجربة جبار، جهة لوجوه لا يستقرّ تبصُّر جمالها.. وجوه تستطيل بما يتدفق ويجري.. وجوه تسيل بالكثرة. وجوه تسيل بما يتناها ولا ينتهي.

كنت طوال أشهر الصيف وما تبعها من أشهر عدة الشتاء، تستطيل خبرتي بوجوه نساء جبار، فأخرج من وحدانيتي الذكورية إلى شراكتي الأنثوية، فأتكثر به وبوجوه استطالاته واستطاراته.

هامش:

غالبا ما تقرن الاستطارة بالتشاؤم، لكن في المعجم  معاني تداولية كثيرة تتجاوز هذا المعنى، فمستطيرة مأخوذة من الفعل طير، والطَّائِرُ: عمل الإِنْسَانِ الَّذِي قُلِّدَهُ خَيْره وشَرّه، وشَقَاوَتُه وسَعادَتُه، والصُّبْح المستطير، أي المنتشرُ الضوءِ، وتَطَايرَ الشْيءُ: طالَ وتَفرّق. ويقال اسْتَطارَتْ، إذا أَرادَت الفَحْلَ.

هكذا تكون الوجوه المستطيرة مليئة بحركة الحياة ورغبة ممارسة الحب وانتشار اللون وحركة سيلانه.

 

Tall Fluttering Faces

By: Ali Aldairy

Translation: Mohamed Al Mubarak

When I first visited "Ishtar" studio, where Jabbar Al Ghadban produces his artwork, I wrote on one of it’s mellowed-out-with-art walls:

"Art essentially puts people in relation with each other, forming between them a bond of shared experiences. This shows art as the only way that enables individuals to escape their individuality" – John Dewey

Working with a particular domain is a kind of individuality you cannot escape except by forming common experiences with other domains. And when you get to open up your individual experience to the experience of art, which to me is the mother of common experiences, then you have allowed your experience to be at the heart of what bonds people together.

"Ishtar" is a workshop for such bonds. Its art takes you to where the individuality is transcended, to which the body ends, and to what the sight confronts of the flowing form. This is what Socrates concentrated in his dialogue with "Meno":

"Well then, you are now in a condition to understand my definition of figure. I define figure to be that in which the solid ends; or, more concisely, the limit of solid… Colour is an effluence of form, commensurate with sight, and palpable to sense."

Since the summer of 2007, I watched, day in and day out, the flow of Jabbar’s figures. I enjoyed witnessing the canvas being prepped to make it moist enough for the upcoming run of colour. I watched, fascinated, when it was mounted up to the level of view, when the stand holds up the colours to allow the figures to flux on the white background of the canvas, a white background that is just as ready to receive a figure on its way to the limits of beauty.

As Jabbar finishes each stage of his painting, a new vista emerges on the canvas, and I move my camera lens a millimetre further to capture what ha s formed. The figures gradually become palpable to the sense, and I gradually progress through my percipience of it. I escape my individuality and enter the experience of colours, figures, bodies, and flux… I feel like I am going through the experience of creation.

I ask Jabbar: Why are all your women longheaded? And he answers: the colour of my brush does not flow but along tall beauty, the tall face flutters with a good omen, the colour is excited by the flutter, and by the varied meanings it refers to: flying, spreading, moving, and panicking. All these meanings are relevant to the meaning of the flux of figures as they form, as the flux is what takes the figures to the limits of their fluttering beauty.

The flux in Jabbar’s experiment is a place for faces gleaming with endless insights of aestheticism, stretching with endless runs of colours, and flowing with endless forms of multiplicity.

Throughout the summer months and some of the winter months that followed, my experience has stretched along the faces of Jabbar’s women, and they have managed to take me out of my masculine individuality and deliver me into a commonality with femininity.

With this experiment I have experienced multiplicity through Jabbar’s work, faces, stretches and flutters…

إخوان الصفاء والبحث عن مدينة الإنسان

 

كان العام 2007 بالنسبة إلي عام أخوان الصفاء، عكفت على قراءة رسائلهم باستمتاع معمق، كنت أبحث من خلال رسائلهم عن الإنسان، الإنسان في صلته بالعالم، كيف يبدو الإنسان والعالم؟ العالم الذي تحت القمر والعالم الذي فوق القمر. كيف ينسجم ما فوق القمر مع ما تحت القمر؟ كيف يرتفع الإنسان فوق نفسه بالفلسفة؟

كانت رسائلهم إلى الإنسان وعالمه، حتى رسائلهم عن الحيوان والمعدن والنبات، كان مركزها الإنسان، همومه وقضاياه وطبائعه وحقيقته وروحه وعقله وجسده. لقد كتبت كل رسالة على مثال الإنسان. تمثل كل رسالة فصلاً من فصول الكون الذي هو إنسان كبير، رسالة الحيوان هي فصل من فصول الكون، ورسالة النبات هي فصل من فصول الكون، ورسالة المعدن هي فصل من فصول الكون. كيف تنسجم هذه الفصول لتشكل كتاب العالم؟

إنها تنسجم بنسبتها الشريفة من الواحد. النسبة هي هارموني الانسجام بين الحيوان والنبات والإنسان والمعدن وكل ما هو تحت القمر، وبين الغيب والملائكة والكواكب والسماIMG_2291ء والأبراج وكل ما هو فوق القمر. والواحد هو رقم رياضي يدخل في تكوين كل الأعداد، وفي الوقت نفسه الواحد ربّ خالق في كل مخلوق من مخلوقاته تجلّ منه.

الموسيقى المثال الأبين للنسبة الشريفة عند إخوان الصفاء، وقد جعلوا منها مثالاً لفهم النسبة الشريفة في الإنسان والعالم وكائناته. واستعانوا في فهمهم لهذه النسبة بعلوم الرياضيات والهندسة. بقدر ما يتحقق فيك من نسبة الموسيقى تتأله وتعلو إلى رتبة ما فوق القمر.

النسبة هي علاقة بين الأشياء، هي ليست شيئاً، لكنها تحكم كون الأشياء في العالم، يرى إخوان الصفا أن العالم مؤلف ومركب وفق هذه النسبة. والإنسان يصل إلى مرتبة التألّه بتحقيق هذه النسبة فيه، والتفلسف محاولة لتحقيق هذه النسبة في الإنسان.

يكتمل الإنسان بتحقيق هذه النسبة فيه، أي بقدر ما تحضر فيه الموسيقى بنسبتها المثالية في الانسجام، يمكنه أن يتفلسف ويكتمل، وكان إخوان الصفاء يرون في آلة العود الموسيقية وتركيبه مثالاً مكتملاً للانسجام في الموسيقى، هكذا سيكون جسم العود بأوتاره الأربعة الأنموذج الذي يحاكيه الإنسان، للوصول للأنموذج الأعلى للنسبة الشريفة (النسبة الموسيقية) التي تجد منتهاها في موسيقى حركة الأفلاك التي فوق القمر. بقدر ما تُحقق فيك من النسبة الشريفة، يتحقق فيك الكلام، وتكون متكلماً وفيلسوفا ومُتجاوزا. تجعل هذه النسبة كائنات العالم، تتكلم وتقول وتريد وتعشق وتحب وتتضاد وتتشابه وتأتلف وتختلف. العالم واحد بهذا الانسجام المختلف، العالم متصافٍ بهذا الانسجام المختلف.

كنت أصغي إليهم وهم يصوغون قوانين الطبيعة بمفاهيم الحب والعشق والأنس والألفة ومضاداتها “إن طبيعةً تألف طبيعةً، وطبيعةً تناسب طبيعة أخرى، وطبيعةً تلصق بطبيعة، وطبيعة تأنس بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة، وطبيعة تقوى على طبيعة، وطبيعة تضعف عن طبيعة، وطبيعة تلهب طبيعة، وطبيعة تحب طبيعة، وطبيعة تطيب مع طبيعة، وطبيعة تفسد مع طبيعة، وطبيعة تُبيّض طبيعة، وطبيعة تًحمّر طبيعة، وطبيعة تهرب من طبيعة، وطبيعة تبغض طبيعة، وطبيعة تمازج طبيعة” رسائل إخوان الصفاء،ج2،ص104

طبيعة العالم مكونة من هذه الطبائع، والعالم منتظم النسبة بهذه الطبائع، فعليك أن تبحث عن طبيعتك التي تأتلف معها، وتتناسب وفقها، وتأنس لها وتتقوى بها، وتتمازج فيها. هكذا يتوازن العالم وفق نسب هذه الطبائع، وهكذا تتوازن أنت باكتشافك لطبائعك التي تلهبك وتقويك وتبيضّك.

النسبة الشريفة تتحقق بتأليف هذه الطبائع المتنافرة، ومشروع إخوان الصفا هو تأليف العالم وفق هذه النسبة، باكتشافها فيه، أو بصناعتها فيه. والتأليف لا يعني إلغاء التنافر، فالتنافر في بعض العالم، يحقق انسجاماً في كل العالم.

يفهم إخوان الصفاء العالم وكائناته من خلال الإنسان وطبائعه، فالحجر مثلا كائن من كائنات العالم، وتخضع طبعته لطبائع الإنسان في الألفة والاشتياق. وكي تعرف أنت أيها الإنسان هذه الألفة والاشتياق، على طبيعتك أن تَرُقَّ، حينها تستطيع أن تستمع إلى لطائف الكثائف، أي حينها تستطيع أن تنفذ إلى روح الأجسام التي لا تتكلم.

الإنسان كي ينسجم مع العالم ويتآلف معه، أي كي يُكوّن هو والعالم طبيعة متآلفة، فإنهم جعلوا من الإنسان عالماً صغيراً، وجعلوا من العالم الكبير إنساناً صغيرا، هكذا صرنا نرى العالم من خلال الإنسان، صرنا نفهم المدينة من خلال الإنسان ونفهم الإنسان من خلال المدينة، جسد الإنسان مخلوق على مثال المدينة، والمدينة مُصمّمة على مثال معمار الإنسان. وقد خصَّص إخوان الصفاء فصلا من رسالة (في تركيب الجسد) لمجاز الإنسان/المدينة.

حين تفقد المدينة تركيبها الحضاري المجعول على نسبة معمار الإنسان، تفقد المدينة إنسانيتها، لا تعود مدينة، تصبح أقل من مدينة فتتوحش. في الإنسان سوق يختلف عالم الإنسان فيه، وفي المدينة سوق يختلف العالم إليه. لقد خلق الإنسان السوق على مثاله، ومتى فقدت السوق مضاهاتها لجسد الإنسان، فقدت إنسانيتها وصارت متوحشة، يأكل فيها الكبير الصغير، وتقهر فيها طبيعة الكبير طبيعة الصغير. تعمر السوق ليس ببضائعها فقط، بل بمضاهاتها للإنسان، وذلك بأن تكون صورة من الإنسان.السوق إنسان كبير، كما الإنسان سوق صغيرة.

هل تشبه مدننا اليوم إنسان إخوان الصفاء؟ هل فيها شيء من نسبته الشريفة؟ هل طبيعتها تألف طبيعة الإنسان، أم أنها تنافر طبيعة الإنسان وتقهرها وتستقوي عليها؟

كنت أقرأ إخوان الصفاء بحثاً عن مدينتي غير الفاضلة، كنت أريد أن أقرأ مدينتي الحاضرة المُزيّفة أو المتوحشة من خلال مدينتهم التي استوعبت تراث العالم الحضاري لحظتها. سوق مدينتي ليس عامراً بظلال الإنسان، هو قاحل بخواء التوحش.

جريدة أوان الكويتية

http://www.awan.com.kw/node/39372

تطهـــير المخيلــة

لم نكن في الثمانينات نعي أن منطق الثورة، قد جعل من مطهري الدعم الثقافي للثورة الإسلامية بما كان يقدمه للثورة من صيغة إسلامية يرون فيها نقاء خالصًا مستمدًّا من كتاب الله وسنة نبيه وتعاليم الأئمة دون تحريف أو تعديل أو تصحيف. وأن هذا المنطق نفسه وجد في مطهري الذي اغتيل في 1980 صيغة آمنة من اختراق قيم الثقافة الغربية التي كان يحمل روحها علي شريعتي في ثقافته الإسلامية. مطهري ثقافة خالصة وشريعتي ثقافة مشوبة، والثورات لا تعرف غير مشتقات (خ ل ص) والتي منها: التخلص والإخلاص والخلوص والخالص والخلاص والخلاصة. لقد تخلصت الثورة من شريعتي لأنه غير خالص الثقافة الإسلامية، ومن ثم فثقافته لا تصلح لأن تكون خلاصاً للشعب الذي عانى من التغريب، ولا يمكن تقديم حتى خلاصة أفكاره. لقد تعزز حضور الشهيد مطهري في ثقافتنا الدينية ووجداننا الثوري، طوال الثمانينيات، لذلك حين جاء كتابه ‘’الملحمة الحسينية’’ باللغة العربية في 1990 يحمل نقداً لبكائيات كربلاء ورواياتها المشهورة التي استقرت في الوجدان الشيعي، لم يواجه هذا النقد بأي اعتراض، على رغم عنف لغته وتعارضه مع مسلمات كربلائية مستقرة اجتماعياً، وذلك يعود للمكانة التي كان يمثلها مطهري. كنت قد قرأت الكتاب في عام صدوره، وتحمست له، وشكل موقفي الفكري والسلوكي مما أسميه ‘’المخيلة الكربلائية’’ كما هي مجسدة في كثير من المجالس التقليدية الحسينية الرجالية وكما هي مكرسة في كل المآتم النسائية. في العام 1997كتبت ورقة لملتقى ثقافي خاص عنوانها ‘’المتخيل والتاريخ: كربلاء نموذجا’’ رجعت فيها موقفي من كتاب مطهري، ووجدته على رغم السجال الفكري الذي أثاره، يعاني من مشكلتين، الأولى هي أنه لا يتوفر على معرفة نقدية حديثة بعلوم الإنسان التي تتفهم عمل المتخيل الاجتماعي وحضوره الثقافي والديني، والمشكلة الثانية أنه لا يتوفر كذلك على معرفة بـ(الفللوجيا) المختصة بمنهجية تحقيق وتدقيق النصوص ومقارعتها ببعضها البعض ودراستها على الطريقة التاريخية الحديثة.
لا شك أن مطهري، مثقف موسوعي كبير، ومصلح اجتماعي حاذق، ولديه تكوين فلسفي وحوزوي وعقائدي وكلامي، ولديه سعة أفق معاصرة، و هذا ما يجعل من الساحة الإيرانية الثقافية تتحدث اليوم عن حاجة الرجوع إلى مطهري، لكن هذا لا ينفي قصور منهجه في معالجة موضوع (الملحمة الحسينية). وربما يكون استخدامه لمصطلح (التحريف) مشحوناً بشحنة دينية وثورية ايديولوجية تفوق شحنته المعرفية، الأكثر دلالة على هذا القصور، وهذا ما جعله يعتبر التحريف، منكراً، والمنكر حكم فقهي وليس مفهوماً إجتماعياً، لذلك تأتي دعوته إلى النهي عن المنكر الذي يتمثل في ما يقال على المنابر من كذب وافتراء، ويقرر أن من يعلم ذلك فواجبه ألا يجلس في مثل هذه المجالس، لأنه عمل حرام والواجب يتطلب منه مقاومة هذا الكذب وفضحه.(الملحمة الحسينية،ص14). كان الحس الأيديولوجي يغلب الحس المعرفي في نقد مطهري، وهو حس مبرر بلحاظ السياق السياسي والاجتماعي للتاريخ الذي كان يتحرك فيه، إلا أننا اليوم في سياق آخر، يسمح لنا بنقد خطابه، وهو نقد مبني على إعادة الاعتبار للمخيلة الكربلائية، فالمخيلة هي ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء، بما فيه كتاب مطهري وسياقه السياسي والثوري والأيديولوجي، في هذا لبروفايل نعيد الاعتبار لهذه المخيلة، مؤمنين بأنه إذا كانت الأيديولوجيا تزيّف الواقع، فالمخيلة تجعل الواقع ممكناً، والأيديولوجيا وهي تجعل الواقع مزيّفاً، همها إلغاء الأشياء، أما المخيلة فهمها ابتكار الأشياء. الأيديولوجيا تستبعد، وتضيّق وتفرض وتجعل الأشياء أحادية. والمخيلة تكثّر، وتتسع، وتقترح، وتُعدد. المخيلة تقدّس الأشياء لتبتكرها، والأيديولوجيا تقدّس الأشياء لتحتكرها. الأيديولوجيا هي ما يذهب مع الأشياء والمخيلة هي ما يبقى بعد ذهاب الأشياء. الأيديولوجيا تُطهّر (من التطهير وليس من مطهري) بمنطق الحق والباطل، والمخيلة تُحي بمنطق الممكن والمحتمل.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5816

هل أنت علماني أخباري؟

من ملف االأصولية والأخبارية

ملف الأصولية والأخبارية في جريدة الوقت 2007 pdf

في الصيف الماضي أصدر Robert Gleave (روبرت غليف) كتابه ”إسلام النص: تاريخ المدرسة الأخبارية الشيعية وعقائدها” باللغة الإنجليزية، وهو لمّا يترجم بعد. هل زُقمُّْ اٌمفًّم قد قرأ بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول

عن الإسلام، وصار مسلماً على الطريقة الأخبارية الشيعية، أي صار مستبصراً أخبارياً؟
لا، طبعاً. وهذا السؤال لا يعدو أن يكون مزحة. لكن السؤال نفسه سألني إياه كثيرون، بصيغ مختلفة، الصديق حسين مرهون، سألني مستنكراً ومستهزئاً في الوقت نفسه: هل أنت علماني أخباري أم علماني أصولي؟ يبدو أن نهايتك ستكون كبدايتك أصولي ديني متزمت. على الجبهة المضادة، هناك سؤال مصاغ بحس تشكيكي مرتاب، ما هدف علي الديري من طرح موضوع (الأصولية والأخبارية)؟، وهناك سؤال مصاغ بحس من يعتذر عنك ويشفق عليك ويبدي تفهمه لورطتك، هل يمكن لعلي الديري أن يتخلص من تربيته الدينية؟
قلت للصديق مرهون الأصولية والأخبارية موضوع أشتغل عليه بمسافة علمية وعلمانية، وهي مسافة أمان، تُؤمّن لي عدم التماهي مع موضوعي. الاهتمام بموضوع ما ،لا ينفصل عن الانهمام به، وهو انهمام قد يوقعك أحياناً في تحيزات تجعلك متماهياً مع موضوعك، لكن هذه التخوفات لا ترتبط بموضوع (الأصولية والأخبارية) أو أي موضوع ديني ما، بل ترتبط بكل موضوع يدخل في حيز اهتمام أي باحث. أن تكتب عن موضوع يعني أنك ستتهم بأنك متبنيه حد التماهي أو أنك تعاديه حد التعالي، أنت متهم به، ولا يمكن أن تكون باحثا عن فهم لهذا الموضوع، فهماً يعينك على معرفة اشتغاله في حاضرك.
بين (روبرت غليف) وتهمة أن يكون علمانيا أخبارياً أو أصولياً أو أن يكون مستبصراً قد هداه الله إلى التشيع، مسافة ليست ناتجة عن الجغرافيا والتاريخ والحضارة، بل مسافة في أذهاننا، تعطي للآخر القدرة على أن يكون منفصلا عن موضوعه، وتسلبها من الذات، أي لا يمكن للباحث هنا أن يقيم مسافة نقدية عن موضوعه، ويمكن للباحث هناك أن يقيمها. لقد ظل أركون لفترة طويلة يحاول أن يقنع الآخرين بأن عمله في مجال التراث الإسلامي، لا يعني أنه مفكر إسلامي ولا أنه إسلامي ولا أنه أصولي ولا أنه محافظ رجعي غير قادر على أن يخرج على ماضويته.
في الصيف الماضي، كنت والصديق محمد المبارك مع الباحث الانثروبولوجي الدينماركي توماس الذي يعد أطروحة دكتوراه حول الكيفية التي يشكل الناس بها تاريخهم الاجتماعي من خلال المكان الحوادث. وقد اتخذ من منطقة الحد وقلالي وسماهيج والدير مكاناً لمعرفة هذه الكيفية معرفة تطبيقية. قلت له: إن الشيخ إبراهيم المبارك قد شكّل بأخباريته في الخمسينات والستينات وحتى قبل الثورة الإيرانية في السبعينات، ثقافة الناس في قرية الدير، وله حضور في تاريخهم الاجتماعي. لقد التقط مصطلح (الأخبارية) بحس باحث يقظ، وراح يتقصاها ويتقصى حضورها في تشكيل ثقافة هذا المكان. ومع ذلك لن يسأله أحد مستنكراً، هل أنت انثروبولوجي أخباري أو أصولي؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5420