أرشيف التصنيف: مقالات

«لو» تأنيس استيحاشات نكاح الرضيعة(3-3)

ما آليات (كيفيات) خطاب الشيخ محمد صنقور في إزالة استيحاشات حكم نكاح الرضيعة؟ وهل هي آليات تخص هذا الموضوع، أم هي آليات تشتغل في كل الموضوعات التي يتناولها الخطاب الديني الاجتماعي؟
يورد الشيخ محمد صنقور ستة مناشئ للاستيحاش من الحكم بجواز نكاح الصغيرة، وهو يوردها، ليس لتقريرها، أي تقرير حقيقتها، بل لتقرير وهمها، أي أنه يعتبرها استيحاشات وهمية، وهو يشغل تقنياته الحجاجية في إزالة هذه الاستيحاشات الوهمية، ليثبت أن هذا الحكم لا يتعارض حقيقة مع حساسية الذوق العصري أبداً، وذلك لو قدر لنا أن نتخلص من هذه الأوهام الاستيحاشية.
المناشئ الستة للاستيحاش، هي: [1].
المنشأ الأول: هو توهم أن جواز نكاح الصغيرة يساوق جواز وطئها.
المنشأ الثاني: أن تزويج الصغيرة منافٍ لمصلحتها غالباً، وذلك لأن تزويجها سيمنعها من الاستمتاع بطفولتها وهو واحد من حقوقها.
المنشأ الثالث: أن في تزويج الصغيرة تضييع لحق البنت في تقرير مصيرها بعد البلوغ، حيث أنها ستجد نفسها في عهدة رجلٍ قد لا يكون مقبولاً عندها.
المنشأ الرابع: أن في تزويجها مصادرة لحقها في اختيار شريكها، لأنَّها في زمن صباها لم تكن تُحسن تحديد مصلحتها.
المنشأ الخامس: أنه لا نتعقل تسليط الولي على توريط بنته بزواج قد لا يكون موفَّقاً في مستقبل الأيام، ومجرَّد إعفائها من مسؤولية الزواج في زمن الصبي لا يبرِّر ذلك.
المنشأ السادس: أن الفقهاء يفتون بجواز الاستمتاع بالصغيرة بما دون الوطء، بمعنى انه يجوز للزوج تقبيل الصغيرة ولمسها بشهوة، كما يجوز تفخيذها، وكلُّ ذلك مستبشع في حق الصغيرة.

لو
يعتمد خطاب الشيخ صنقور في إزالة هذه الاستيحاشات أجوبةً، تستند إلى (لو) التبريرية، فهي تبرر كل استيحاش بجواب يحيل الاستيحاش استيناساً.
تفتح (لو) خصوبة التفكير، لكنها خصوبة مقرونة في إرثنا الديني بالشيطان، فلو تفتح عمل الشيطان، و(لو) في خطاب الشيخ صنقور تقتح منافذ للشيطان، شيطان الحيل الشرعية، فهي تتعلق هنا بحالة مستحيلة من منظور (لو) الشيخ صنقور ‘’فالحكم بالجواز أمر افتراضي محض’’ لكنها حالة شرعية، ويمكن لأي شخص غير سوي أن يبرر فعله غير السوي، لو فعلها مع الرضيعة، يمكنه أن يبرر ذلك بحالة الجواز الشرعية.
تتكرر (لو) في خطاب الشيخ صنقور، تكراراً أثيراً يصل إلى حد أن خطابه يكاد يكون قائماً على (لو)، وهي لا تحضر في خطابه من أجل فتح التفكير في حالات لا مفكر فيها، بل من أجل التبرير لحالات يصعب قبول التفكير فيها، ليس لمانع يتعلق بمصادرة حرية التفكير، بل لمانع يتعلق بأبعاد إنسانية وحقوقية وذوقية. وهو مانع يحاول خطاب (لو) أن يخفف منه بتبريرات تزيده استيحاشاً.
هذه عينة من جمل (لو) في خطاب الشيخ محمد صنقور، يمكننا أن نقرأ فيها وظائف عمل خطابية متعددة: [2].
‘’على أنه يمكن للولي أن يشترط على من يريد التزوُّج منها أن يبالغ في توفير أسباب الاستمتاع بالطفولة لها وحينئذٍ يكون على الرجل لو قبل بالشرط الالتزام بمقتضاه’’، ‘’والجواب عن ذلك أنَّه لو اتفق عدم قبولها بالرجل الذي اختاره وليُّها لها. فإن ثمة وسائل تتمكن بواسطتها من التخلُّص من عقد النكاح’’، ‘’فإذا افترضنا (لو) أن زوجها كان صالحاً سوَّياً فإنه لن يجبرها على البقاء عنده والمفترض أنه لم يعاشرها قبل البلوغ. على أنه لو اتفق أنه امتنع من ذلك فلها الحق شرعاً أن ترفع أمرها للقضاء ليفصل في قضيَّتها’’، ‘’والجواب عن ذلك أن الاستمتاع بالصغيرة خصوصاً لو كانت رضيعة أمر لا يكاد يتفق وقوعه، ذلك لأن الأسوياء من الناس لا يستثيرهم من الصغيرة شيء’’، ‘’فإذا افترضا (لو) حرص الولي على تزويج ابنته من رجل صالح سوي فإنه سيكون في مأمن من وقوع ذلك، فالحكم بالجواز أمر افتراضي محض’’، ‘’فليس في تقبيل الزوج لزوجته الصغيرة أو حتى تفخيدها ما يبَّرر الاستبشاع، إذ إن ذلك لن يُنتج إيذاءها لو خشي من أنه سيُنتج الإيذاء الجسدي أو حتى النفسي فإنه سيصبح حراماً بالإجماع’’، ‘’بمعنى أن الاستمتاع بالصغيرة جائز في حدِّ نفسه إذا لم يتعنون بعناوين أخرى طارئة أما لو طرأت عليه عناوين تُوجب وقوع المفسدة الشديدة من الاستمتاع فإنه سيصبح بذلك محرماً’’.
إن (لو) التي يقوم عليها خطاب الشيخ صنقور، ليست فقط آلية تبرير، بل صارت آلية تبرير وتهوين وتخفيف، فهي تبرر هذا التجويز وتهوّن من استيحاشاته، وتخفف من آثاره المحتملة، وبهذه الوظائف تحقق (لو) وظيفتها الأكبر والأخطر، وهي تغييب وقائع الواقع الذي ترصده الإحصاءات والدراسات والتقارير الدولية المتعلقة بالمرأة والطفولة والانتهاكات الجندرية والعنف والتمييز وقصور المحاكم الشرعية والمدنية عن إنصاف حق المرأة وحماية الطفولة. إن منطق خطاب (لو) في خطاب الشيخ صنقور، قد غيّب عن حججه الاستدلال بأي دراسة علمية عن واقع المرأة وقضاياها أو أي تقرير دولي، أو محلي.هناك غياب مطلق للأرقام والحالات وهو غياب يفسره الحضور المطلق لـ (لو) ومقتضياتها.
(لو) لا تحكم هنا موضوع جواز نكاح الرضيعة فقط، بل تحكم كل الموضوعات التي يتناولها الخطاب الفقهي، حتى حين يكون الموضوع هو الدولة.
(لو) بتبريراتها وتهويناتها وتخفيفاتها وتغييباتها، تخلص إلى اعتبار الاستيحاشات وهمية، لكنها لا تعتبر أن الاستئناس أيضا وهمي، وليس مجعولا شرعيا [3].. لذلك فخطاب الشيخ يلجأ إلى حجة الثقافة في تبرير الاستيحاشات، لكنه يلجأ إلى حكم الشرع والنص في تقرير الأحكام، ويهمل حجة الثقافة.
لا يلجأ إلى حجة الثقافة في تبرير فتوى الفقيه وحكمه. الرجوع إلى حجة الثقافة غدا اليوم ضرورة في تقرير الأحكام، وليس في تبريرها فقط، كما يفعل خطاب الشيخ محمد صنقور، وهذا يجعلني أوضح مسألة في غاية الأهمية، وهي تتعلق بمدخلي لقراءة خطاب الشيخ صنقور، فأنا لا أدخل عليه من باب المحاججات المذهبية ولا من باب البحث عن عورات مذهبية، ومن باب كشف المستورات التاريخية المحرجة التي لا يخلو منها مذهب ولا شخص ولا دين ولا حضارة، وليس من باب مناكفة التيار الديني. بل مدخلي هو محاولة لقراءة آليات الخطاب الديني الاجتماعي في قراءة النص الديني وطريقة تعاطيه من الفتاوى وطبيعة الحجج التي يبني بها خطابه ويمارس من خلالها حجاجه مع المختلفين معه. لذلك فموضوعي ليس نكاح الرضيعة، بل الآلية الحجاجية التي يدار بها هذا الموضوع، وهي آلية لا تحكم هذا الموضوع وحده، بل تحكم الخطاب الديني حين يدير أي موضوع آخر.
الفقيه بثقافة عصره يستوحش فيجعل، ويستحسن بثقافة عصره فيجعل أيضاً، وإذا كنا نظن أنه محكوم بنص لا يقبل التأويل المحكوم بالجعل، فسنكون قاصرين في فهم أفق فهم الفقيه.
مشكلة علم الأصول اليوم، أنه ما زال علم أصول النص بمعناه الحرفي الضيق، وتفريعاته التي أتخمته لم تفتحه على شق علم آخر من علوم الإنسان الحديثة، مع أنه علم مركب من مجموعة علوم، لكنه انغلق على العلوم القديمة التي يدين لها بنشأته.
لم تعد آليات علم أصول الفقه،على أهميتها قادرة اليوم وحدها على قراءة النص الديني، هي بحاجة إلى مقدمات خارجية، من خارج النص الديني نفسه، وهي المقدمات التي يشير إليها محمد مجتهد شبستري، بقوله ‘’الفقيه لا يستنبط الأحكام مستعينا بعلم الأصول فقط، وإنما تتدخل أيديولوجيا الفقيه ورؤيته لقضايا الإنسان والمجتمع والحق والعدالة والسياسة والاقتصاد والصناعة والعلوم والحضارة والقيم والأخلاق، في صياغة آرائه واستنباطاته الفقهية وعملية الاجتهاد والإفتاء تتحرك بتوجيه لازم من كل هذه المقدمات، وتسير في طريق معين لتتمخض عن نتائج خاصة’’[4].

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5370

الهوامش
[1]، [2]، انظر خطاب شيخ محمد صنقور على الموقع التالي:
http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID= 186
[3] انظر، مناقشتنا لقاعدة ‘’الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة’’، في الحلقة الثانية من قراءتنا لخطاب شيخ محمد صنقور.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5293
[4]علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، تحرير عبدالجبار الرفاعي، ص346

مكتبة الأستاذ

فاجأ الصديق أحمد يوسف الديري مدير منتدى الدير، ذاكرتي القروية المشبعة بالحنين، حين نقل لي خبر نقل الأستاذ إبراهيم حسن إبراهيم مكتبته الشخصية إلى صندوق الدير الخير، لتكون مشروع نواة لتأسيس مكتبة عامة في القرية. لدى ذاكرتي تاريخ طويل مع هذه المكتبة، مع أني لم أرها أبداً، لم يسبق لي أن قرأت شيئاً من مقتنياتها ولا لامست شيئاً من رفوفها، ولا تصفحت أوراق كتبها الكثيرة. كيف يكون لذاكرتك هذا ال تاريخ الطويل مع شيء لم تلامسه؟

الذاكرة لا تحتفظ بالأشياء بل بظلالها، وذاكرتي عامرة بظلال هذه المكتبة، والأمر في ذلك يعود إلى شخصية صاحبها الأستاذ إبراهيم وعائلته وما مثلته من حضور رمزي في القرية.

أشعرني تحول هذه المكتبة إلى نواة مكتبة عامة، للوهلة الأولى بحسرة ناستالوجية، فالحضور الرمزي لهذه المكتبة في ذاكرتي يرافقه غياب للتاريخ، فأنا لا أحمل في سيرتي شيئاً من تاريخها، لم أدخلها ولم أكن من رواد مجلس صاحبها، ولم أكن من طلابه أو حوارييه أو المترددين على مجلسه.

هناك جيل من قرية الدير تربى بين كتب هذه المكتبة وتتلمذ على دروس أستاذ إبراهيم الدينية والثقافية وتذوق أطعم مشروبات مجلسه الساخنة بمختلف أشكالها ومذاقاتها.

شعرت بحسرة فادحة، لأني أحسست أن تاريخ هذه المكتبة قد تجاوزني، وأني لا أحمل من هذا التاريخ ما يجعلني أفخر بأني واحد من أبناء القرية الذين تربوا فيها ورأوا العالم من خلالها، ربما الكتابة الآن عنها تعوض شيئاً من فداحة هذه الحسرة.

لكن لماذا لم أدخل هذه المكتبة؟

تحمل هذه الذاكرة مع الحسرة شيئاً من العتب، وهو عتب أسرده بمحبة لجماعة التعليم الديني التي تولت صياغتنا الدينية وفق رؤيتها التي كانت تختلف مع رؤية الأستاذ إبراهيم المنفتحة ومكتبته المتعددة. في منتصف الثمانينيات، وكنت حينها في المرحلة الإعدادية، وجّه الأستاذ إبراهيم عبر أحد مريديه دعوة لي ولثلاثة من أصدقائي، للالتحاق بدرسه الذي يقيمه في مجلسه، تسلمنا الدعوة بفرح واعتداد، وقرأنا فيها أن الأستاذ يرى فينا صفوة تستحق أن يضيفها إلى تلامذته، لكننا توقفنا عند (لحية) الأستاذ المحلوقة، وما سمعناه عن درسه من خروج عن خط مرجعية الفقهاء الحرفي، كنا في الحقيقة نردد ما نسمعه من كلام أساتذتنا في التعليم الديني الذي صار ينتظم في برنامج يومي بالمآتم وفق خطة تربوية وإدارية.

كان رأي أساتذتنا ألا نستجيب، فاعتذرنا لمريد الأستاذ ولم نكشف له الأشخاص الذين نصحونا أو أمرونا حينها بالرفض، لكنه بحكم معرفته بصراعات حقل الدروس الدينية عرف الجهة التي تقف وراء رفضنا، خمّن الأسماء وراح يذيعها على طريقته الإعلانية. مستعيناً بملكاته المشهورة بظرفها، وقوة أرشيفها الفوتوغرافي الذي يحوي في ألبومه وجوه أموات القرية من الرجال والنساء.

ظلت هذه الحادثة محفورة في ذاكرتي، لأني منذ لحظتها انتابني شعور عميق بأني أضعت فرصة ثمينة لأكون من رواد مجلس الأستاذ ومقربيه، وظلت الرغبة في الدخول إلى هذا المجلس تلحّ عليّ، لكن الإحساس الخجل والظهور بشخصية الغريب داخل هذا المجلس حالت دون دخولي. دخلته فيما بعد مرتين لكن شعور الغريب لازمني، فالغربة في هذا المجلس لا يزيلها إلا الدرس أو المكتبة، وأنا كنت غريباً على الموردين.

لقد كانت شخصية أستاذ إبراهيم متفردة وظاهرة في مجلسه وفي درسه وفي طلابه وفي مكتبته، حتى (استايله) المفعم بالأناقة كان لافتاً، وغير مألوف لحسنا الديني، وربما كان له تأثير في مضاعفة شق المسافة بيننا وبين مجلسه، ذلك أن مسبحة الأستاذ الأنيقة وثوبه التي لا تعرف الثنيات، أوحت لنا بأنه بعيد عن ركائز أخلاقيات التدين الحقة التي كانت نماذجها نراها في أساتذتنا في المأتم بثيابهم البيضاء البسيطة حتى من رائحة العطر، وأشمغتهم التي لم تعرف العقال.

الدير ليست مدينة لأستاذ إبراهيم ومكتبته ومجلسه فقط، فهي مدينة لعائلته الأصيلة، فهي من أشهر العائلات البحرية ومازالت علاقتها بالبحر ضاربة في تقاليدها، وهي المتصدرة دوماً للدفاع عن حق البحر والبحارة وقضاياهم، وقد تركت هذه العلاقة في نفس الأستاذ إبراهيم أثرها العميق، حتى إنه قد عزّ عليه أن يهب كتب البحر فاستثناها من مشروع الإهداء، واحتفظ بها لذاكرته البحرية، كما أن عميد هذه العائلة الحاج حسن بن إبراهيم، كانت يده تجمع بين خشونة البحر ومرهم الشفاء، فقد كان مرّاخ الدير الأشهر، وأخته (المراخة) الحاجة بنت إبراهيم، كانت يدها إكسير كسور المصابين، تضع يدها على الجسد المكسور فيتمثال للجبر، كانت جابرة وجبّارة، تقصدها البحرين كلها، تضع الزيت بيدها وتجلب الشفاء باليد الأخرى. يبكي بين يديها الرجال الكبار والأطفال الصغار، وهي تدير يديها بهدوء الواثق بالشفاء.

كما نحن مدينون كذلك لأخ الأستاذ إبراهيم وهو الأستاذ محمد حسن إبراهيم (أبوهشام) كان يتمتع بجاذبية أخّاذة في دروسه الدينية، ومازالت ذاكرتي تحتفظ بأول درس أخذته عنه في المسجد الوسطي بقرية الدير في النصف الثاني من الثمانينيات، كان يحدثنا عن التربية الأخلاقية والمجتمع الفاضل، ولأول مرة كنت قد سمعت باسم مرض (الإيدز).

لاحقاً في سنتي الجامعية الثالثة تسلمت منه إحدى مجموعات التي كان يدرسها بطريقته المحببة في مسجد السيد بردان، وكانت المهمة صعبة، فكيف يمكنني أن أدير درساً يتوفر على الحد الأدنى من جاذبيته، ولا حقا أيضا، حين بدأ شراعي تتقاذفه تيارات ما بعد التدين، أخذني بطريقته الأبوية لينقل لي احتجاج بعض الطلبة على تطاول أفكاري، لكني كنت مأخوذا بعزة الموج، فلم أستطيع أن أجاري ذوق موجته الهادئة، فذهبت حيث موجتي الصاخبة أحمل مديونية درسه وثقته فيّ وشيئاً من (قتل الأب).

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=86804

لماذا «الأخبارية»؟

لوحة من ملف الأصولية والأخبارية

ملف الأصولية والأخبارية في جريدة الوقت 2007 pdf

كانت البحرين منذ عصر الشيخ يوسف البحراني (1695-1772) وحتى عصر الثورة في السبعينات أخبارية، تعتمد إضافة إلى القرآن كتب الأحاديث الأربعة مصدراً خبرياً قطعي اليقين ليس فقط للتشريع الفقهي، بل للفهم القطعي للعقائد والمعاملات اليومية والمواقف السياسية، وإدارة العلاقة مع أصحاب المذاهب الأخرى. الكتب الأربعة المعتمدة عند هذه المدرسة هي، (الكافي) للشيخ الكليني المتوفى 328 هـ، وعدد أحاديثه 16199 حديثاً، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) لابن بابويه القمي، المتوفى 381 هـ، وضمَّنه 5998 حديثاً، وكتاب (تهذيب الأحكام) للطوسي، المتوفى 460 هـ، وعدد أحاديثه 13590 حديثاً . وكتاب (الاستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار) للطوسي أيضا، وعدد أحاديثه 5511 حديثاً .
شكلت هذه المدونة الأخبارية المصدر الثاني للتشريع عند الأخباريين، بعد أن رفضوا اعتماد العقل والإجماع الذي أضافه الأصوليون، مصدراً للتشريع.
هل يمكن لمدرسة فقهية أن تتسيّد مدة أكثر من قرنين بلداً ما، من دون أن تترك آثارها في صياغة ثقافته وسياسته ورؤيته وصراعاته السياسية ونمط تدينه؟
طبعاً لا يمكن ذلك، فتماماً كما تركت المالكية آثارها في نمط التدين المغربي، وتركت الشافعية كذلك آثارها في التدين المصري، كما ترك المذهب الحنفي آثاره في التدين العراقي، وكما صاغت الوهابية نمط تدين شبه الجزيرة العربية، كذلك الأخبارية صاغت تدين البحرين.
هذا ما أفترضه، وأحاول في هذا البروفايل المخصص لـ (الأخبارية والأصولية) أن أفهمه. وأفهم آثاره الحالية في نمط تديننا. لا يمكن أن يكون تديننا مطابقاً للتدين الذي جاءت به الثورة الإسلامية في إيران، هناك أثر واضح وقوي لحدث الثورة في انتشار التدين السياسي، لكن هناك تديناً آخر أعاد تمثيل التدين السياسي الذي جاءت به الثورة، وهو مازال يشتغل فينا، ويعطي لتديننا سماته المتعلقة بدرجة التسامح أو التعصب والانفتاح أو الانغلاق والقبول بالآخر أو رفضه، وعلاقته بالدولة والمرأة.
والدليل على ذلك أن الكتب التي أنتجتها هذه المدرسة منذ أكثر من قرنين، مازالت تطبع ويرجع إليها ويحتفى بها، ويفاخر بغزارتها، وتدرس في الحوزات والمدارس الدينية البحرينية، كما أن قصص تأليفها وتاريخه، مازالت تحكى وتحدث فعلها في متخيل الجماعات.
كما أن جامعة الشيخ حسين العلامة، وهو أحد أكبر زعامتين دينيتين ومرجعيتين على الطريقة الأخبارية، ستكون قريباً إحدى الجامعات البحرينية الأكاديمية. كيف سنفهم حدث تأسيس هذه الجامعة إذا لم نفتح ملف (الأخبارية والأصولية)؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5342

استيحاشات نكاح الرضيعة2

يورد الشيخ محمد صنقور ستة مناشئ للاستيحاش من الحكم بجواز نكاح الصغيرة، وهو يوردها، ليس لتقريرها، أي تقرير حقيقتها، بل لتقرير وهمها، أي أنه يعتبرها استيحاشات وهمية، وهو يشغل تقنياته الحجاجية في إزالة هذه الاستيحاشات الوهمية، ليثبت أن هذا الحكم لا يتعارض حقيقة مع حساسية الذوق العصري أبداً، وذلك لو قدر لنا أن نتخلص من هذه الأوهام الاستيحاشية.

كنت قد وعدت أن أخصص هذه المقالة لتحليل آليات الشيخ محمد صنقور في إزالة استيحاشات حكم نكاح الرضيعة، باعتبارها أوهاماً، لكني مضطر لتأجيلها لمقالة ثالثة، وربما رابعة، وذلك كي أفهم أولاً كيف يثبت خطاب الشيخ محمد صنقور- المدعوم بترسانة علم الأصول الذي تضخم حدّ أن عدد صفحات المعجم الذي كتبه الشيخ صنقور وصل إلى 1000صفحة- أن هذه IMG_03152الاستيحاشات أوهام لا ينبغي الاستناد إليها في تقرير صحة الحكم الشرعي؟

يستند خطاب الشيخ في إثبات ذلك إلى قاعدة أصولية أثيرة التداول، وهي تنص على أن”الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة، فمتى اتفق تحقق الموضوع ترتب عليه الحكم ومتى لم يتفق وقوع الموضوع ولو كان ذلك للأبد فإن الحكم المذكور سيظل منتفياً”[1]

يطبق خطاب الشيخ هذه القاعدة لتفنيد الاستيحاش الذي يتذرع بحجة “أن تزويج الصغيرة منافٍ لمصلحتها غالباً، وذلك لأن تزويجها سيمنعها من الاستمتاع بطفولتها وهو واحد من حقوقها”

ما علاقة هذه الحجة، بقاعدة “الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة” يجيبنا الشيخ، “بأن المصلحة من تزويج الصغيرة قد تتفق ولو في حالات نادرة كما لو افتُرض أن الولي كان عاجزاً عن تدبير شئون الصغيرة ولم يجد من أحدٍ يرعاها وهو يخشى أن يموت فتضيع ابنته وفي ذات الوقت وجد رجلاً في مقتبل العمر صالحاً سويَّاً قادراً على رعايتها وهو يرغب في الزواج منها مع إحراز أنه لن يعاشرها ما لم تبلغ السن المناسب لذلك، فحينئذٍ أي محذور عقلائي يمنع من تزويجها منه”[2]

الحكم الشرعي بجواز زواج الرضيعة، مبني هنا على تحقق مصلحة الرضيعة بالزواج بافتراض (وجد الولي العاجز، رجلاً في مقتبل العمر صالحاً سويَّاً قادراً)، حالة الولي العاجز والرجل الصالح السوي، هي هنا الموضوع المفترض.

الحكم الشرعي بجواز زواج الرضيعة ثابت وواقع (مجعول)، مبني على هذا الافتراض. إن هذا الافتراض من خطاب سماحة الشيخ، يغفل إن الرجل الصالح السوي لا يمكنه، ليس فقط أن يقبل بهذا العقد بل لا يمكنه أن يرى نفسه إلا مستغلاً لحاجة، ولا يمكن لرجل أن يحتفظ بصفة الصلاح، وهو يستغل حاجة رجل وطفلته لرعاية.

ليس المهم هو هنا ما يغفله افتراض خطاب الشيخ، بل ما يغفله هذا الحكم. فالحكم المجعول حين نضعه في سياق عصرنا، ونبرر له اليوم باعتباره حكماً صالحا ونافذاً، وله افتراضات تحقق المصلحة، وتنفي عقلائياً أي محذور(فحينئذٍ أي محذور عقلائي يمنع من تزويجها منه)، حكم يغفل التشريعات الدولية التي وضعتها المنظمات الحقوقية التي تدافع عن مصلحة الطفولة، هذا الحكم لا يمكنه أن يرى من الأفق الذي وضعته هذه التشريعات.

ومن يبرر لهذا الحكم بحجة “الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة” يضع هذه القاعدة في سياق يهزّ قوة بنيتها الأصولية، بل ويفتح الباب على التشكيك في صحتها وصلاحيتها للتبرير أو لنقل في جدوائتها بحسب التعبير الأصولي. وهذا يدعونا إلى أن نتساءل بقلق هل يمكن التعويل على أصول الفقه وحده في الوصول إلى حكم شرعي يحفظ مصلحة الإنسان؟

إن هذه القاعدة الأصولية تتناسى أن الأحكام الشرعية، تخضع مرة إلى حساسية الثقافة، ومرة هي تُخضع الثقافة لحساسيتها، إنها قاعدة تتناسى أن ما نسميه أحكاماً شرعية، لن نقول إنها أساساً خاضعة لتقاليد الجماعات والمجتمعات التي وجدت فيها أو أوجدتها، بل سنقول إن هذه الأحكام مدخولة بهذه التقاليد وحساسيتها. أو لنقل هي مكيفة وفقها، لو لنقل هي تراعي ذوقها وحساسيتها، ” ترتبط الحساسية برؤية ما، وبموضوع الذوق بكل دلالاته الاجتماعية والحضارية، وبكل ارتباطاته بالثقافة والقدرة على الحكم والتميز”[3]

وكي لا نصدم أفق معجم (1000صفحة) لن نجادل في صحة هذه القاعدة الأصولية (ليس من باب التسليم بصحتها) لكن سأجادل في محذورات تطبيقها، وأول هذه المحذورات، هو أنها تجعل الأحكام ثابتة ومقدمة على موضوعات مفترضة، لا موضوعات واقعة، وهذا ما يجعل الواقع لا يزحزح الحكم، بل يصير الحكم ضابطاً ومسيطراً ومهيمناً على الواقع، وهذا ما يشلّ من حركة الواقع، من يملك الحكم هو الفقيه ومن يحرك الواقع هو عقل الإنسان الذي لا يكف عن ابتكار وقائع جديدة تغير العالم وتعيد قراءته. إن الموضوعات التي هي العالم المتغير الوقائع الذي يبتكره الإنسان باستمرار، لا يمكن أن تكون مستوعبة ضمن الموضوعات المفترضة، التي يفترضها الحكم الشرعي، أو لنقل التي يفترضها عقل الفقيه الذي يستنبط الحكم الشرعي، ويجعله في حكم.

الأحكام لا يمكنها أن تستوعب الموضوعات (وقائع العالم المتجددة) ولا يمكنها أن تحاكمها ولا أن تحكم عليها. بل إن الموضوعات تفرض أحكامها، وقد تلغي أحكاماً، كما ألغى العالم الحديث أحكام الرق. لست أدري ما الذي سيؤثر في بيضة الإسلام لو اعتبارنا حكم جواز نكاح الرضيعة عند السنة والشيعة جزءاً من تاريخ الفقه القديم، وليس جزءاً من الفقه، كما هو حال أحكام فقه الرق؟

لن نحتاج إلى لعبة العنوان الثانوي، كي نلغي حكماً”أن الاستمتاع بالصغيرة جائز في حدِّ نفسه إذا لم يتعنون بعناوين أخرى طارئة أما لو طرأت عليه عناوين تُوجب وقوع المفسدة الشديدة من الاستمتاع فإنه سيصبح بذلك محرماً”[4]، أي لا نحتاج إلى أن تترتب مفسدة على نكاح الرضيعة، كي نلغي هذا الحكم، بل يكفي أن وقائع العالم تستوحش هذا الحكم، وهذا ليس من باب تعدد الثقافات واختلافها وحساسيتها تجاه المرأة والطفلة، بل من باب إن عالم المرأة الحديث قد أصبح خارج كل إمكانات وافتراضات هذا الحكم، صار هذا العالم يفرض أحكاما جديدة، وجزء من هذه الأحكام أنه يلغي هذا الحكم. فهو حكم مجعول، مجعول ليس من قبل الله، بل مجعول من قبل الإنسان الفقيه وفهمه وحساسيته وثقافته وأفقه ونقصه.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5293

الهوامش

[1]، [2]،[4] http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID=186

[3] علي الديري، التربية ومؤسسات البرمجة الرمزية، ص95، نقلاً عن دراسة صبري حافظ “جماليات الحساسية والتغير الثقافي” في مجلة فصول العدد 4/1986م

الأخبارية والأصولية

لوحة ملف الأصولية والأخبارية

ملف الأصولية والأخبارية في جريدة الوقت 2007 pdf

ليس تاريخ الدول والملوك والحضارات والفتوحات والاستيلاءات وحده الجدير بالعبرة، وليس وحده ميدان اختلافات، وليس وحده موضوعا تحفّه المحذورات والتحذيرات وسلطات المنع، فتاريخ المعرفة كذلك. في الأسابيع الماضي حين كتبت مقالة (إعراب ذاكرة الفعل فتح) ومقالة (درس التاريخ) اشتغلت آليات التحذير والتشكيك والسؤال عن جدوى فتح التاريخ ولمصلحة من، وتحت أي ضمانة.
الآليات نفسها اشتغلت حين بدأت العمل على ملف (الأخبارية والأصولية)، بل إن كثيراً من الأصدقاء اعتذر عن المشاركة متذرعاً بالآليات نفسها.
الصديق عباس ميرزا، قال لي، الموضوع جدير بالاهتمام ولدي ما أقوله فيه، لكن السياق السياسي والاجتماعي المشحون بالتوجس لا يسمح لي بذلك، ولا تنسَ أن هناك توصية وردت في تقرير مثير تنص على ‘’إثارة مشكلة أخباري وأصولي في كل الأبعاد والأماكن’’.
الشيخ محسن العصفور، قال لي، هناك جريدة قبلكم طلبت مني فتح هذا الملف، لكني أفضل أن أتعامل مع جريدتكم في هذا الملف بالذات، كي لا يساء استغلاله، وأرجو ألا تكون لديك أجندة حداثية توجه من خلالها الملف، وإلا سأنسحب.
الشيخ موسى العريبي، بمجرد أن أعلن الشيخ حميد المبارك في مجلسه الأسبوعي، أنني قادم من أجل فتح هذه القضية، قال ببديهة خاطر ومرح حاضر ‘’بل بل ما صدقنا افتكينا منها’’.
الدكتور ناصر المبارك، الذي نُشِّأ في الخصام المبين في مدرسة الشيخ سليمان المدني الأخبارية، حين طلبت منه أن يكتب تجربته الأخبارية، ما سجته ‘’أريدك أن تكتب تجربتك الأخبارية كما عشتها وقرأتها وأظهرتها وتمثَّلتها واحتربتها.. اكتب طوقها فيك وشقها في جنبك وتشجّرها في حسك وصياغتها لوجودك وتشققها في معرفتك’’. قال لي: لا أريد أن أثير شق فتنة.
لا يمكنك أن تقول ببراءة أو سذاجة إنك تفتح ملفات تاريخ المعرفة أو تاريخ السياسة، من أجل قضايا معرفية بحتة، أو أنها خطرت في ذهنك صدفة ذات حلم أو صباح، فأنت مطالب أن تسوق تبريرات وحججا. فما حجتك التي تبرر بها هذا الفتح؟
يكفيني حجةً، بروفايل، فبروفايل منذ أن بدأ وحتى هذه اللحظة التي يوشك فيها أن يختم تجربته الثرية، هو دوماً يبحث عن شق في المجتمع يرى من خلاله تحولات الجماعات والأفراد والأفكار ويفهم انتقالاتها وتجسداتها. فالأصولية والأخبارية، لا يمكن اختصارها في قضية خلاف ديني داخل مذهب ما، بل هي موقف من فهم العالم والدين والنص والغيب واليقين والظن والرواية والدراية والمعرفة والعقل والإنسان والزمان والدولة، وموقف الفهم هذا لم يكن يوماً محصورا في بطون الكتب، بل هو منتعش في حياة الناس وتجاربهم الاجتماعية والدينية. والبحرين واحدة من أهم الحواضر التي عاشت هذه التجربة، وتجربة الإنسان هي ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5271