أرشيف التصنيف: مقالات

تجـــريم المــولــوتــوف

بعد مقتل الشرطي ماجد أصغر، قررت هيئة مكتب مجلس النواب بشكل عاجل إدراج مشروع قانون تجريم المولوتوف ضمن جدول أعمال جلسة مجلس النواب بعد أن أدخلت لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني بمجلس النواب بعض التعديلات البسيطة عليه. وقد تم في جلسة مجلس النواب إقرار قانون (تجريم المولوتوف). وينص القانون على أن يعاقب بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع عبوات قابلة للاشتعال أو الانفجار بقصد استخدامها لتعريض حياة الناس أو أموالهم للخطر أو حاز أو أحرز ما صنع منها بذات الغرض.
شخصياً، ليست لدي اعتراضات على القانون، ولا تحفظات بشأن إمكانية إساءة استغلاله، ولا حتى على الطريقة التي تمّ بها إقراره.
لكني، أأسف أن القانون لن يحمل ذاكرة وطنية ولا إنسانية، ليس لأن هذا القانون لن يحمي المجتمع من العنف، أو يحد منه، وليس لأن ماجد أصغر (رحمه الله)، لم يكن مواطناً بحرينياً، وليس لأنه لم يكن في مهمة وطنية، وليس لأن حادثة القتل نفسها ليست مستنكرة إنسانياً. 
بل، لأن السياق الذي جاء فيه القانون، يحمل خلفية اجتماعية وسياسية شديدة الاختلاف والتضارب والانقسام وتصفية الحسابات. نعم، هناك إجماع وطني على إدانة القتل، لكن ليس هناك إجماع وطني على تفسير القتل، ولا على حكايته، ولا على تداعياته، ولا على الموقف من إدارته، ولا على ما بعده، وربما ولا على ما بعد بعده.
القانون لا يستمد قوته من الشرعية الدستورية والمؤسسية فقط، ولا من إجماع القوى السياسية فقط، بل يستمد قوته أيضاً من المجتمع الذي يضعه، ومن التاريخ الذي يأتي في سياقه، ومن الحكاية التي تفسر من خلالها الناس غايته البعيدة. خصوصاً قوانين التجريم التي ترتبط بأوضاع خاصة وأحداث يمر بها المجتمع ويحتاج من خلالها إلى وضع قانون يحمي به نفسه ويحقق من خلاله العدالة.
علينا أن نفهم أن المجتمع أكبر من الجمعيات السياسية والقوى السياسة، مهما كانت درجة تمثيلها للمجتمع، وإذا كانت القوانين تقرّ أحياناً بسبب التسويات السياسية أو الصراعات السياسية، فإن ذلك لا يعني أنها تمثل إجماعاً وطنياً، يمكن أن نثق فيه ونعول عليه. ونطمئن أنفسنا بقدرة القانون المقر بهذه التسويات على أن يحمينا من العنف.
لقد وجّه رئيس تحرير جريدة أخبار الخليج أستاذ أنور عبدالرحمن يوم التصويت على قانون تجريم المولوتوف (رسالة عاجلة إلى حضرات نواب الأمة) في الصفحة الأولى من جريدته، يقول فيها: الإخوة الأفاضل.. السادة أعضاء مجلس النواب الموقرون، فلقد أراد الله أن تجيء هذه الكلمة مقياسا لأدائكم وإخلاصكم لوطنكم وموقفكم منه ومن قضاياه! يا أصحاب المقاعد الجليلة.. أسماؤكم اليوم ستكون في وجدان وميزان العمل الوطني.. تسلمونها إلى ذاكرة التاريخ التي لا تخطئ ولا تشيخ، كما تخلد هذه الكلمة في ضمير الأمة والوطن شاهدة عليكم بأنكم أبناء الوطن الذين أدانوا الإجرام في حق الوطن وتصدوا له.. أو باركوه!’’
يربط هذا، نداء هذه الرسالة القانون بالذاكرة والتاريخ والوطن، وهذا ما يؤكد أن القانون بحاجة دوماً إلى ذاكرة وتاريخ يستمد منهما قوته، لقد صوّت النواب على إقرار القانون، مع امتناع ثلاثة منهم عن التصويت، فهل ستكون أسماء النواب الذين أقروا القانون في وجدان وميزان العمل الوطني؟ أنا أشك في ذلك، ليس لأن هذا الإقرار لا يستحق أن يدخل ميزان العمل الوطني ووجدانه، بل لأن هذا الميزان لا يحتكم إلى معايير أحد ما، هو ميزان يحتكم إلى من يشكلون هويته الوطنية، وهم أمة المواطنين، وهؤلاء يكادون يحطمون هذا الميزان، لشدة اختلاف أوزانهم ومقاييسهم ومعاييرهم، بل منهم مطففون، وهناك فرق بين المطففين والطائفيين، فالطائفيون مطففون، ولكن المطففين قد يكونون غير طائفيين، لكنهم يلعبون بالميزان الاقتصادي لا العقائدي.
ميزان الذاكرة الوطنية، لا يحتكم إلى قانون، ولا يمكن لنداء أن يحكمه أو يحكم عليه، وهو لا يشتغل بالأمنيات، ولا باللعب بالمكاييل، ولا بالخطب العصماء، ولا بالتطمينات، ولا بزيارات القيادات السياسية العليا.
قد يكون القانون وطنياً، لكنه لا يحمل ذاكرة وطنية، فمسألة الذاكرة متروكة للزمن والتاريخ، ونحن لا نفعل أكثر من أن نتوقع ونتنبأ وفق السياق الاجتماعي الذي ينتج الأحداث والقوانين. لذلك حين أقول إن قانون تجريم المولوتوف لا يحمل ذاكرة وطنية، فأنا أقولها استناداً إلى ما أقرأه من احترابات خطابية في المجتمع، وليس استناداً إلى موقفي من القانون.
لذلك لا يمكن لقانون لم يهيأ له أن يحمل ذاكرة وطنية، كما هو قانون المولوتوف أن يسهم في تعزيز اللحمة الوطنية، كما يعوّل على ذلك الأستاذ على سيار مثلا ‘’قرار تجريم المولوتوف، لابدّ وأن يسهم في تعزيز اللحمة الوطنية وتقوية سلطة الأجهزة الأمنية المسؤولة عن الحفاظ على أمن المواطنين وسلامتهم، وسلامة ممتلكاتهم، وهو ما يطمح إليه ذلك المواطن الذي يعرف قيمة الانتماء إلى الوطن وقيمة المحافظة على أمنه’’.
كي يحقق القانون غايته البعيدة لا عقوباته القريبة، هو بحاجة إلى سياق يحفظ له ذاكرة تاريخية. وإذا كان هذا القانون سيمكن وزارة الداخلية من أن تمد ذراعها الأمني بشكل قانوني، حين يمور قاع المولوتوف، فإنه لن يمكنها من أن تمدّ ذراعها حتى بشكل ودي، كي توقف ما يمور في قاع المجتمع من احترابات وتجاذبات. فما يمور في قاع المجتمع يشبه ما يمور في قاع المولوتوف، ونحن بحاجة إلى قانون يحمينا مما يمور في قاع الأول، كي نضمن القاع الثاني.
لقد أحال الخطاب الإعلامي، كل ما ارتبط بالحادثة إلى ‘’الإجماع الوطني’’، وكمراقب للخطابات وكلماتها، أشك أن الإحالة كانت إلى الإجماع الوطني، فقد كان هذا الأخير حاوية كبيرة تتسع لا للمواطنين ولا إلى ما يجعل منهم مواطنين (من قوانين ومشاريع وإنجازات ودساتير وروابط مدنية) بقدر ما كانت هذه الحاوية في استخداماتها المبتذلة تتسع إلى من يحقق مكاسب سياسية لأطراف لديها خصومات سياسية.
أخشى أن يتحول تجريم المولوتوف إلى تجريف المولوتوف، حينها لن نكون أمام خطأ مطبعي بين تجريف وتجريم، بل أمام خطأ وطني.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6679

رابطة علماء الشريعة

أعلن حديثاً في البحرين، إشهار جمعية ”رابطة علماء الشريعة بدول مجلس التعاون الخليجي”. 
عبداللطيف الشيخ رئيس اللجنة التأسيسية، أوضح بأنها جمعية علمية إسلامية شرعية مستقلة تتكون من مجموعة من العلماء في العلوم الإسلامية من دول مجلس التعاون الخليجي. مشيراً إلى أن الجمعية تستهدف القيام بأنشطة دينية وثقافية واجتماعية وخيرية وتوعوية وعلمية، وتعمل على إيجاد التقارب بين علماء الشريعة في الساحة الخليجية، وتوحيد الآراء الفقهية والفكرية، والاهتمام بقضايا المسلمين العامة وتنبيههم إلى الأخطار التي تهدد هويتهم العقدية والثقافية، إضافة إلى الحوار مع التيارات والمذاهب الفكرية المتعددة، وإقامة الدورات الشرعية لتأهيل العلماء والدعاة، وإصدار النشرات الدورية حول القضايا الإسلامية، وعقد المؤتمر والندوات العلمية[1].
الرابطة الشرعية التي يقدم هذا التجمع هويته من خلالها، ويحدد وظائفه وأهدافه استناداً إليها، هي نفسها تشكل مشكلة تحول دون أن تكون الرابطة المدنية لمواطني دول الخليج على مستوى دولهم أو على مستوى تجمعهم الخليجي مرجعاً إليهم، فالدولة الخليجية ما زالت لم تستكمل بعد رابطتها المدنية المواطنية. وتعاني هذه الرابطة المدنية من مشكلات تتعلق بالتكوين القبلي والديني.
ما يتعلق بالتكوين الديني في شكله الطائفي خصوصاً، أصبح بعد غزو العراق مشكلة متفاقمة ومصدرا للانقسام، ولا يمكن معالجة هذه المشكلة بأدوية هي نفسها سبب في المشكلة. فالرابطة الشرعية التي صارت ملجأ للطوائف، بحاجة إلى دواء من خارجها. بمعنى أن إنشاء تنظيمات باسم الشريعة أو الدين على مستوى دول الخليج أو على مستوى كل دولة من دول الخليج كافة، يفاقم من هذه المشكلة. نحن بحاجة إلى تكوين مؤسسات أو تجمعات عابرة، والحل فيما أرى أن تكون هذه المؤسسات العابرة تحمل رسالة تعزيز الرابطة المدنية، وذلك إما بإنشاء روابط تنتمي للمجتمع المدني أو روابط فكرية تقدم قراءة جديدة للمكون الديني (الشرعي).
لو كانت رابطة علماء الشريعة تحمل في خلفيتها ما يشي بهذه المهمة، أي تقديم خطاب ديني جديد عابر للطوائف والمذاهب وأشكال التدين التقليدي أو الأيديولوجي أو الجهادي، لحققت بالفعل مهمة مدنية تعزز من تكوين الدولة غير المنجزة في المجتمعات الخليجية. لكن مع الأسف، ليس هناك على مستوى الأهداف التي تحملها هذه الرابطة ولا على مستوى التسمية، ولا على مستوى الأسماء البارزة في هذه الرابطة ما يشير إلى إمكان تقديم خطاب يتجاوز بالفعل المشكلة التي تعاني منها الرابطة المدنية أو المواطنية على مستوى الخليج.
فعلى مستوى التسمية (رابطة علماء الشريعة)، هناك إشكالية في استخدام عنوان الشريعة، وجل التنظيمات الإسلامية، تقدم نفسها بوصفها ممثلاً للشريعة وتقيم جميع احتراباتها واختلافاتها على أساس أنها الممثل الحقيقي أو الصحيح للشريعة.
وهذا ما يشير إليه رضوان السيد بقوله ”المسألة العقدية تتمثل في ذهاب سائر الإحيائيين (حتى المعتدل منهم) إلى أن أصل المشروعية في الإسلام يقوم على الشريعة، وليس على الجماعة. وقد رأى الفقهاء المسلمون قديما أن الجماعة المعصومة التي تحتضن الشريعة هي الأصل في المشروعية. فقد آمنت بدين الله، وهي تعيشه، ويعصهما إجماعها من الضلال، بل ومن الخطأ والخطل الكبيرين، من دون أن يشمل ذلك أفرادها طبعا. أما القول إن الشريعة هي أصل المشروعية، فهذا يعني وضعها خارج الجماعة، وارتهان جماعة المسلمين لحاكم أو قلة تزعم أن الشريعة بيدها[2]”.
وعلى مستوى الأهداف، ليس هناك ما يشير إلى تقديم خطاب جديد، وأعني بالجديد هنا، الخطاب الذي ينظر إلى واقعه وعالمه من منظور العلوم الإنسانية الحديثة المتجاوزة للتوظيفات الإيديولوجية أو السياسية أو السلطوية. وهي ما تعاني منه خطابات الإسلام الحركي بمختلف اتجاهاته، والإسلام الأصولي، والإسلام التقليدي والإحيائي والسلطوي، إلى آخر الأسماء التي تشير إلى إسلامات غير منتهية.
ليس في أهداف هذه الرابطة ما يشير إلى الصدور عن خطاب جديد. ولا ما يشير إلى مراجعة نقدية إلى خطاب الإسلام الحركي أو الإسلام التقليدي. وليس هناك، في هذه الأهداف، ما يبشر بقيم مدنية حديثة كالتعددية والانفتاح والتسامح وفهم الآخر. هناك ”توعية بالإسلام الصحيح، وتوحيد الآراء وأحكام الشريعة، والتنبيه إلى الأخطار التي تهدد هوية المسلمين العقدية والثقافية” المنظور الذي تصدر منه هذه الأهداف هو نفسه منظور خطاب الإسلام الحركي والإسلام الأصولي، وهو نفسه مصدر أزمتها.
وهذا المنظور ما لم يتم مراجعته نقدياً لن يفعل سوى إعادة إنتاج أزمة الخطاب الديني من جديد ولكن هذه المرة بتنظيم جديد وواجهة جديدة. وهذا يقودنا إلى القول إن كل تجمع باسم الإسلام أو باسم الشريعة أو باسم الدين، يهدف إلى خلق كيانات تنظيمية جديدة من غير خطاب جديد متجاوز لأزمة الخطاب الديني السائد، لن يكون أكثر من مشكلة أو أزمة جديدة كما هو شأن هيئة علماء المسلمين السنة بالعراق، وكما هو شأن المجلس العلمائي في البحرين، فهذه الكيانات التنظيمية وإن اتخذت لها وضعية قانونية مدنية، لن تكون أكثر من رابطة، أو جبهة، ناطقة بما يجعل منها سلطة ومرجعية لطائفة، أو لفهم لا يستوعب الرابطة المدنية العابرة للمذاهب والطوائف والقبائل والولاءات الطفيلية.
ستكون هذه الروابط، رابطة للون من الدين، الذي يتصالح مع جماعات دينية معينة أو سلطات سياسية معينة على تسويات برجماتية، لكنها لن تتصالح مع عصرها وقيمه الحديثة. وستتحول هذه الروابط إلى واجهات سياسية تستخدم بقصد أو بغير قصد الشريعة، لتكسب قوة اجتماعية تخولها أن تعالج الأمور المستجدة على الساحة بما يحقق مصالحها، لا بما يحقق مصالح الخلق، وتنطق بما تريده هي، لا بما تقصده الشريعة.
وعلى مستوى العلماء الذين يتصدرون رابطة الشريعة، مع احترامنا لمقاصدهم الخيرة، ومراميهم النبيلة، ومكانتهم الاجتماعية، ومرجعيتهم الدينية، فإنني لا أستطيع أن أصادق على خطابهم أو أعول عليه في معالجة أزمة الدولة الحديثة في مجتمعاتنا الخليجية. فهذا الخطاب الذي مازال مشغولاً بموضوعات من قبيل ”هل الوزارة ولاية عامة أو خاصة؟”، ”الحاجة قائمة وملحة لحماية العفة وصيانة الأعراض في منع الاختلاط والخلوات في أروقة العمل”، ”المجتمع الذي تموج فيه الفتن والانحلال الأخلاقي[3]”، كما هو شأن خطاب الدكتور عجيل النشمي الذي فاز أمس برئاسة الرابطة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6618

الهوامش

[1]انظر:جريدة الوقت العدد 782 السبت 12 أبريل/نيسان 2008 على الوصلة: http://www.alwaqt.com/art.php?aid=108299
[2] راجع: ”تجديد الخطاب الديني في الزمن الأميركي: العنف.. والإصلاح الديني” على موقع ”إسلام أونلاين” عبر الوصلة:
http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2004/02/article02c.shtml
[3] انظر الوصلتين:
http://www.alraimedia.com/Templates/frNewsPaperArticleDetail.aspx?npaId=20826
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperPublic/ArticlePage.aspx?ArticleID=

هل مازال يستحق الحلاج القتل؟

‘ ‘الحلاج يستحق القتل، نعم يستحق القتل، لأنه خالف حقيقة دينية” لم تكن تلك وجهة نظر فقهاء الخليفة المقتدر بالله الذي أمر بضرب الحلاج بألف سوط ثم قطع يديه ورجليه ثم صلبه على جسر بغداد سنة 309هـ. بل هي وجهة نظر أيضاً الأستاذة إيمان، المعلمة الأولى للتربية الإسلامية.
لقد باغتني جوابها، في ورشة تدريبية كنت أقدمها عن مفهوم الحقيقة والبحث من وجهة نظر البحث السردي. لقد طرحت 1207393450807115200ثلاثة أسئلة تنشيطية على المشاركين من المعلمين والمعلمات الأوائل. الأسئلة هي: ما الحقيقة؟ وما البحث؟ وما السرد؟
فهمنا للحقيقة والبحث والسرد، يحدد موقفنا من استحقاق القتل، ما الحقيقة التي تبرر القتل؟ وما البحث الذي يقودك إلى القتل؟ وما السرد الذي يؤرخ للقتل؟
الحقيقة التي تبرر القتل هي حقيقة العميان، والبحث الذي يقود إلى القتل هو البحث الذي لا يعتمد طريق العميان، والسرد الذي يؤرخ للقتل هو السرد الذي يرويه العميان عن الحقيقة.
وحكاية العميان الشهيرة التي ينقلها أبوحيان التوحيدي في (المقابسة الرابعة والستون: في أن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطاؤه في كل وجوهه)
”ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل وأخذ كل واحد منهم جارحة منه فجسها بيده ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه ونشره. فكل واحد منهم قد أدّى بعض ما أدرك، وكل ما يكذب صاحبه ويدعي عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل”
وهناك رواية حديثة تقول إن الأول أمسك أرجل الفيل فقال الفيل هو أربعة عمدان على الأرض!.والثاني أمسك الخرطوم وقال: الفيل يشبه الثعبان تماما!. والثالث أمسك الذيل وقال: الفيل يشبه المكنسة! وحين وجدوا أنهم مختلفون بدؤوا في الشجار وتمسك كل منهم برأيه وراحوا يتجادلون ويتهم كل منهم الآخر أنه كاذب ومدعٍ.
هل كانت الحقيقة التي شاجر فيها فقهاء الخليفة المقتدر الحلاج، تختلف عن الحقيقة التي تشاجر فيها العميان؟ إنهم يلتقون في طريقة تصورهم للحقيقة، على الرغم من الفرق بين كثافة الفيل الحسية ولطافة السماء الغيبية.
الحقيقة في تصورهم وتصور الأستاذة إيمان، هي اليقين والإيمان وما لا يمكن الشك فيه، وهي ضد الظن، وهي الحضور المطلق للأشياء، هي الشيء الذي لا يتطرق إليه الوهم والخيال، وهي ما لا يتعدد ويختلف.الحقيقة هي الواقع والصدق، هي ما يوجد خارجنا، هي ما يوضع خارج الذات وحدوده، لذلك يتصورون الحقيقة موضوعية وليست ذاتية. الحقيقة في تصورهم هي ما لا يمكن أن يقال بعده شيء.لذلك حين قال الحلاج شيئاً غير حقيقتهم، استحق القتل.
الحقيقة مضافة دوماً إلى وسيلتها وأداتها، هي منسوبة إلى الأداة التي نستخدمها، لذلك الحقيقة ليست ما نراه وننظر إليه بقدر ما هي ما به نرى أو ما منه ننظر.. الحقيقة هي ليست الأعمدة ولا المكنسة ولا الثعبان، الحقيقة كانت في أيديهم التي بها يلمسون، كانت أداتهم التي بها يرون. وهذه اليد تعادل عند الفقهاء أجهزة فهمهم وعلوم الفتوى لديهم وقواعد الأصول التي بها يستنبطون حقيقة النصوص. الحقيقة في الأداة، ما تكشفه لك الأداة وتريك إياه وكأنك تلمسه وتشمه وتتذوقه وتسمعه هو حقيقة أداتك لا الحقيقة. لذلك تبقى الحقيقة ليست مطلقة، مطلقة من أداة تنسب إليها.
البحث هو طريق أداتك، أي الطريق الذي تشقه وتفتحه أداتك، لذلك لكل بحث منهج مكون من أدوات معينة.كان طريق العميان للوصول إلى الحقيقة هو ما فتحته أيديهم ومواقع تلمسهم، وصلوا إلى جوانب الحقيقة التي شقتها أدواتهم.طرق البحث مخفورة بالضلال والمراوغة والظهور والخفاء والوعورة والسهولة.وتتفاوت الطرق بتفاوت الأنفاس التي تعمل على توسعة الوصول.كانت للفقهاء طرقهم وكان للحلاج طرقه، وكان لكل منهم ومنه موضعه من الحقيقة. تماماً كما كان للعميان مواضعهم من الفيل.وعلى الرغم من الاختلاف والتجهيل الشجار الذي مارسه العميان ضد بعضهم، لكن لم يكن لأي منهم الحق في قتل أعمى لم تريه يده وموضعها ما رأته يد الأعمى الآخر وموضعها.
الحقيقة متشظية ومختلفة ومفصلة وبقدر ما تستطيع أداتك من فتح طرق متشعبة للوصول إليها، تستطيع أن تسردها بقدر أكبر من الاتساع، فالسرد يقوم على حكي التفاصيل لا على تجريدها، لذلك هو الأكثر قدرة على حمل الحقيقة وتمثيلها في تفاصيله الكثيرة.من هنا فإنه بقدر ما يقول بحثك من تفاصيل، يتمكن من سرد الحقيقة بطرق متعددة.كان الحلاج يسرد الحقيقة عبر مشاهداته الكثيرة، كان يرها في كل الكائنات متحدة معها وحالة فيها، وكان الفقهاء يرونها في نصوصهم الظاهرة فقط.والظاهر لا يظهر أكثر من سطح طريق.
الحقيقة لا يملكها طريق، فتفاصيلها لا يستوعبها طريق واحد، لذلك تظل الحقيقة نسب وعلائق يكثر منها الإنسان ليتعلق بالحقيقة لا ليصلها، وهذا ما أدركه الحلاج، فراح يقول ”الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلق بالخليقة، الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق”.
الحلاج سارد لا جارد، فالسارد يفصل ويُكثّر، والجارد يجرد الحقيقة من العلائق التي يجعلها تحل وتتحد مع العالم وكائناته وخلائقه.
من هنا فالسارد يمتلئ بصور الألوهية المتعددة في العالم، فيَثمل بجمالها وجلالها، على النحو الذي تخبرنا به كؤوس السهروردي ”اللهم إنا في الثمالة كؤوس تمتلئ بك”.

http://alwaqt.com/blogprint.php?baid=6553

منطق الدولة

هل يمكن تعريف الدولة؟ هل للدولة منطق تعرف به؟

المعنى عرضة دوماً لإرادة المصلحة والمعرفة، حتى معنى الدولة، كل ما له معنى، فمعناه خاضع لهذه الإرادة، والدولة هي قبل كل شيء فكرة، أي معنى. هناك 145 معنى للدولة في الأدبيات الماركسية فقط، وهناك ربما أكثر F5776672-B38A-FC9A-EEE1A73E7ED39F57_1في الأدبيات الرأسمالية.

نعرف الدولة بالعرض لا بالجوهر، ليس لنا حيلة في تعريف الأشياء إلا بالعرض، وأقرب عرض لوعينا هو التجربة، ما نجربه هو الأقرب إلى فهمنا، السلطة تقع في نطاق تجربتنا، فنحن نسمع باسمها ونعرف أعوانها ونتعامل مع أجهزتها ونحفظ أسماء أعضائها ونعرف تواريخ أحداثها. لكن الدولة ليست هي السلطة، فالسلطة تزول وتتغير وتسقط والدولة باقية “كل الأنظمة زائلة لكن الدولة باقية” (تطور الدولة بالمغرب، محمد شقير،ص118)

الدولة فكرة مجردة، لكنها لا يمكن أن تتحقق وتوجد إلا في تجربة مجسدة في مصالح، الفكرة تتيح للتجربة أن تنمو وتتجاوز مآزقها وأخطاءها، والتجربة تتيح للفكرة أن تكون وتتحقق وتتجاوز أوهامها التنظيرية.

كان ابن خلدون يدرس تجارب الدولة المجسدة في سلطات العوائل والعصبيات والقبائل، كان يسميها دولاً، لكنها تسمية أقرب إلى المجاز، فالسلطة هي الأكثر تجسيداً للقوة والهيمنة والقدرة والإدارة، لذلك فهي الأكثر تجسيداً لفكرة الدولة، لكنها ليست الدولة بالمطلق، فهي جزء من الدولة أو جانب من جوانبها أو مكون من مكوناتها أو تجل من تجلياتها.

ما يتجسد ليس هو الدولة، فالدولة تبقى فكرة مجردة، تخضع إلى تجسدات مختلفة، وكل تجسد يمثل جانبا منها وتجربة فيها، لذلك نحتاج إلى استخدام التجريد.

إن ظهور الدولة في أي مجتمع سياسي لا يرتبط فقط بوجود العنصر المادي أو الحدود السياسية، بل يشترط أيضا وجود عنصر معنوي يتمثل على الخصوص في تبلور منطق للدولة. وبحسب هنري لوفيبر “الدولة تحكم وتسير، تحمي وتدافع، وتعاقب وتقال باسم منطق الدولة”. ويتمثل هذا المنطق في المصلحة العليا للدولة، وهي فوق كل مصلحة، وهي المصلحة الأسمى والأعلى.(شقير،ص131)

هناك فرق بين منطق الدولة ومنطق السلطة. بل قد يتعارض منطق السلطة ومنطق الدولة، فالسلطة تبقى في النهاية مجسدة في أشخاص أو عوائل أو عصبيات أو أحزاب أو جماعات. وهذه التجسيدات لها منطق مصلحة خاص بها، وكثيراً ما يتعارض مع فكرة الدولة، أو مع منطق مصلحتها.

وحين تلبس جماعات السلطة منطق مصلحتها بمنطق مصلحة الدولة، فإنها في هذه الحالة تختطف الدولة، وتتحدث باسمها بوصفها الممثلة الرسمية لشرعيتها. بل إنها تحتكر هذه الشرعية، لها وحدها. وكأن الدولة هي السلطة فقط، الدولة هي السلطة بأقسامها الثلاثة المستقلة، والمؤسسات الإدارية والمواطنين والجغرافيا والقوانين والدستور والعلاقات التي تحكم كل ذلك. الدولة هي جزء من سلطة الأفراد، لكنها فوق سلطتهم وفوق منطق مصلحتهم، هي منهم وأكثر.

منطق الأَثَرة والطفيليين

يقول جون لوك في كتابه الحكم المدني “فسلطة الدولة إذن لا تختلف في جوهرها عن السلطات (أو الصلاحيات) التي كانت للفرد في ظل المجتمع الطبيعي، وكل ما في الأمر أن الدولة (أو المجتمع المدني) تصلح المساوئ التي قد يتعرض لها المرء، بحكم أنانيته وأثرته”.

منطق مصلحة الدولة لا يستقيم ومنطق أنانية الفرد وأَثَرَته. ويصبح منطق الدولة مهدداً حين يتغلب منطق الأنانية الخاص على منطق الدولة العام. ويمكن أن نسميه بمنطق الطفيليين، وهو المنطق الذي تحكم من خلاله القوى الطفيلية، وهي بحسب تعريف عبدالإله بلقزيز: قوى لم تنشأ في بيئة الإنتاج والعمل الاقتصادي كفئات أو طبقات وراءها تاريخ من الاستثمار الخاص أو ذات سلطة اقتصادية حقيقية في المجتمع على نحو ما كان عليه دائماً أمر البرجوازيات في المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة، وإنما هي قوى وفئات حديثة عهد بالتملك والاستثمار لأنها نشأت في أحشاء الدولة وفي أحضان القطاع العام، ونمت مصالحها الفئوية داخل بيئة الفساد السياسي والإداري والمالي، مستفيدة من انعدام وجود مؤسسات الرقابة النيابية والإعلامية والشعبية أو من تعطيل سلطة الرقابة القضائية أو من غيابهما معاً.

تطابق هذه القوى الطفيلية منطق الدولة بمنطقها الطفيلي الخاص حيث مصلحتها الاقتصادية الخاصة، فتفقد الدولة جزءا من قوتها الاقتصادية التي من المفترض أن تصلح المساوئ التي قد يتعرض لها المرء، بحكم أنانيته وأثرته. إنها قوى تعمل ضد منطق الدولة.

منطق الولاء

هناك أيضاً قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي، فتنمي أشكالاً من الولاءات القبلية والشخصية والعائلية وتتمصلح من خلالها وتتقوى بها، وهي تحيل بهذه الممارسة الولاء من أن يكون ولاء عاماً مجرداً ليكون ولاء خاصا مشخصاً. وبهذا المنطق الطفيلي تفقد الدولة أيضاً جزءا من قوتها الولائية، التي يفترض أن تصلح بها انتماءات الفرد الأولية للدم والعائلة والقبيلة والدين، هكذا يتحول الولاء من قوة للدولة إلى قوة ضد الدولة.

هناك أيضا قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي والتمييز الطائفي، فتنمي جماعتها الطائفية وتقدم مصلحتهم الخاصة، على جماعة المواطنين العامة. وبهذا تفقد الدولة قوة الحياد التي تجعلها ملجأ آمناً لمختلف الجماعات المتنافسة أو المتصارعة.

بهذه الممارسات الطفيلية لا يعود للدولة منطق تقنع به الناس ليكونوا مواطنيها، الأمر الذي يفقدها حتى قدرتها على النطق والكلام، فلا تعود تملك حتى قوة خطاب يفصل في المواقف التي تتطلب فصل الخطاب. هكذا تعود الدولة نفسها قوة طفيلية تتغذى من هذه الطفيليات وتعيش عليها. فلا تعود الدولة قادرة على أن تحكم وتسير وتحمي وتدافع وتعاقب، لأنها فقدت منطقها، وفقدت منطق مصلحتها الأعلى، لمصلحة المصلحات الطفيلية الأدنى.

مادام معنى الدولة خاضعا لهذه القوى الطفيلية، فلا يمكن للدولة أن تعرف بمنطقها الخاص.

http://www.awan.com.kw/node/51388

الأول بين متساوين


يحلل فؤاد اسحاق الخوري، في كتابه “الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام” الحس اللاشعوري العربي الذي يثير الإنسان للتحرك والعمل بشكل عفوي (= الذهنية)، وهو حس يعمل من خلال أربع قواعد(1):
1. التصور اللاهرمي للكون والمجتمع.
2. الضعف يكمن في الانفراد أو الاستفراد.
3. القوة تكمن في الجماعة والتجمع، أو في الإجماع والاجتماع.
4. الأولية في التعامل والتفاعل بين البشر تعطي للتكتيك والقدرة على التحرك والمناورة.

تعمل هذه القواعد عبر استراتيجية يسميها الخوري (الأول بين متساوين) عبر هذا الاستراتيجية يهيمن الواحد. ما هي هذه الاستراتيجية؟ وكيف تعمل؟

تقوم هذه الاستراتيجية عل التفاعل مع العالم وكأنه مجموعة من الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناء العم. كلهم متساوون كحبات المسبحة وأسنان المشط وأحجار طاولة الزهر. تستعمل ألفاظ النسب والحسب لإقامة المساواة بين الناس. العالم عائلة واحدة، عالم الدولة، عالم الطائفة، عالم الملة، عالم الجماعة، عالم الإدارة، عالم الجمعية، عالم القرية، عالم المدينة، عالم الدائرة الانتخابية. وعالم العائلة الواحدة أو البيت الواحد هو عالم المساواة.
كيف يسعى المرء أن يكون الأول بين متساوين؟كيف يصبح إماماً أو أميراً أو باباً أو حاكماً في هذه العوالم؟

عليه أن يجعل من هذه العوالم عوالم جماعات، أفرادها أخوة متساوون، وهذه المساواة هي عينها التي يفترضها السعي لاحتلال المركز الأول بين متساوين. عليك أن تساوي الأفراد وتنزع خصوصيتهم وتمايزهم وتجعلهم صفاً واحدا، وعليك أن توهمهم بأنك تساويهم.

من يحاول أن يهيمن ليحتل المركز الأول بين قومه، يسعى أن يكون قريبا منهم متساويا معهم ويدافع عنهم ويحميهم، هو في آن معهم وضدهم وهذا مصدر القلق.

هذا المسعى المتناقض -كما يصفه خوري- أي أن يكون الأول بين متساوين، يفرض على المرء أن يكون لين العريكة يتأرجح بين هذا الموقع المهمين وذاك الموقع الأليف، وأن يساوي بين الناس ثم يسعى أن يكون أولهم.هو يساوي بين الناس بالتقرب منهم ومعاملتهم وكأنهم عائلة واحدة من الأنساب. التقرب من الناس طلباً للمساواة خطوة أولى للسعي وراء المركز الأول. والقوة والسلطة لا تستمد إلا عن طريق السيطرة على المتساوين.

المهم أن نحتل المركز الأول بين متساوين، نطلب المساواة سعياً وراء السيطرة والسلطة. عالم المساواة هو عالم القربى العائلة الواحدة الأمة الواحدة، كلما أردنا أن نسيطر ونهيمن ونتحكم في عالم أو في حقل من الحقول الاجتماعية، طابقناه بعالم العائلة. فهو العالم الذي تبدو فيه السلطة مبررة بـ”مقتضى الفطرة والهداية لا الفكرة والسياسة”( ) كما يقول ابن خلدون. هكذا تكون أعراف الحقول الاجتماعية والسياسية مبررة بمقتضيات الفطرة لا الفكرة والهداية الربانية لا السياسة الإنسانية.

عالم السياسة هو أكثر العوالم استخداماً لعالم العائلة، وذلك لأنه يقوم على الهيمنة، هيمنة الواحد الأول بين متساوين.كلما كثرت الإحالة في الخطاب السياسي والإعلامي إلى عالم العائلة توسعت أشكال حضور الهيمنة وتعددت مراوغاتها.

يقول خطاب العائلة ” أعتقد أن الغالبية تثق ثقة مطلقة في حكوماتها، وتثق في أنها ترفض أية ممارسات تضر بأوطانها من خلال التجاوزات أو استغلال المال العام، بالتالي فإننا نتمنى أن تكون الحكومات كرب الأسرة الذي يحاسب أعضاء أسرته إن أخطأوا ويعاقبهم عقابا شديدا لو كان الخطأ أحدث ضررا جسيما بحق الأسرة الواحدة”( )

عالم العائلة، عالم الثقة والمحافظة على مصالح الأخوة المتساويين في عقوبة الإضرار بأسرتهم أو استغلال مالها أو تجاوز مصالحها، وهو العالم الذي يحتاج إلى رب يعاقب المتساويين عقاباً شديدا كي يحمي عالم الأسرة من الخطأ، والرب محل الثقة فهو يعاقِب ويحاسب، ولا يُعاقَب ولا يتجاوز ولا يستغل مال الأسرة العام. هكذا تكون الأسرة عالم المساواة وعالم الربوبية وعالم الخطيئة وعالم العقاب، فمن أراد أن يكون رباً ويساوي الناس ويعاقبهم على خطيئتهم عقاباً شديداً فعليه أن يجعلهم عائلة واحدة.

ليس بين الرب والمتساويين في عالم الأسرة مناصب وتدرجات يتم على أساسها توزيع السلطة، فالرب في أسرته ومملكته لا يحتاج إلى سلطات تنازعه تفرده بالسلطة أو تحاسبه وتراقبه. إنه لا يحتاج إلى مناصب تقترب من تفرده بـ(الأول). لابدّ أن يتفرد هو وحده بالأول، أن يكون الأول بين متساوين.الذي يصلك مرتبة الأول هو العائلة، والذي يجعل من الآخرين متساوين في دنوهم من مرتبتك العالية هو العائلة، والذي يجعل من هيمنتك بَدهية لا تحتاج إلى مساءلة هو العائلة. العائلة هي أصل العالم، ولا جماعة تخرج على هذا الأصل، لذلك كلنا من عائلة آدم المبتلاة.العائلة هي الابتلاء، الابتلاء بالسلطة بالإرادة بالتحكم بالطاعة بالعصيان بالمساواة بالاختلاف.

كلما أردنا أن نقول الشيء وضده أحلنا الشيء وضده (الأول والمتساوين) إلى العائلة الأولى آدم وحواء.
يقول خطاب القبيلة الموالي للأول بين متساوين “وعبَّرت القبيلة عن استنكارها لكل ما يسيء بالمصلحة الوطنية أو يفرق بين مجتمع الأسرة الواحدة”( ).

ما يفضح حقيقة ما بين الأول والمتساوين، هو ما يهدد المصلحة الوطنية في منطق القبيلة، ومنطق القبيلة المدافع عن الأسرة الواحدة ، هو نفسه الذهنية العربية، وهو نفسه الحس اللاشعوري العربي، وهو نفسه ما يثير الإنسان العربي للتحرك والعمل، وهو نفسه منطق القواعد الأربع التي هي عينها: الأول بين متساوين.

وهو نفسه منطق الأخوة الذي يهدد الديموقراطية كما يحذرنا جاك دريدا في كتابه «مارقون»voyoucratie «لا خطر على الديموقراطية القادمة إلا من حيث يوجد الأخ، ليست بالضبط الأخوة كما نعرفها، ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، وتسود ديكتاتورية سياسية باسم الأخوة»( )

المصدر: جريدة الوقت

 (1) فؤاد اسحاق الخوري،الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام، ص8.