حوار جريدة الوطن السعودية مع الناقد علي أحمد الديري: المثقف الخليجي يُجمّل طائفيته السياسية بأكاذيب غير إنسانية

كتاب يضم حوارات فكرية أجرتها الشاعرة هدى الدغفق مع مجموعة من المثقفين
كتاب يضم حوارات فكرية أجرتها الشاعرة هدى الدغفق مع مجموعة من المثقفين

أجرت الحوار/ هدي الدغفق

– نشأت في بيئة دينية شيعية، فما الذي دعاك إلى الخروج من دائرة نصوصها ومنهجيتها لتبحث في أصول الفقه؟

خرجت عن دائرة النصوص المؤسسة لمذهبي، لأني أرى النصوص غير صالحة لكل زمان ومكان، ولأن الدائرة تستحيل سجناً إذا لم نفتح مركزها، ولأني أرى نفسي خارج الطائفة منذ اللحظة التي أدركت فيها أن لي ذاتاً غير نصية. وهذا ما أوضحته في كتابي (خارج الطائفة).

ذهابي لكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) الذي هو من أمهات كتب أصول الفقه، كان هدفه التعرف على الطريقة التي يقرأ بها الفقيه النصوص الدينية، وأصول الفقه هو جهاز قراءة، وبعض أدواته تنتمي إلى علم تحليل الخطاب.لم أتعامل مع هذه الأصول كقواعد نهائية، بل أدوات قاصرة أصلا ومغلقة وهي بحاجة إلى أدوات أخرى تتيح لها توسيع أفق النص الديني. كنت أريد أنزع هذه الهالة التقديسية التي تقوم على تجهيل القارئ غير المتخصص دينياً قبال تهويل علم الفقيه، وتهويل تفقّهه  بالنص الديني، وكأن التخصص في هذا النص حكراً على المؤسسة الدينية التي تروّض طلابها قبل أن تمكّنهم من أدواتها، وبهذا تضمن أن عقلهم سيبقى عبداً للنص ودليله يدور معه حيث ما دار، وأعني هنا حيث ما دار دليل النص، لا حيث ما دار الدليل بشكل مطلق كما توحي بذلك عبارتهم الأثيرة “نحن أبناء الدليل حيث ما مال نميل”.

ولحسن الحظ أن ظاهرية ابن حزم تمنحك هذه الفرصة، فهي وإن كانت تستخدم كلمة الدليل بشكل مففرط، إلا أنها لا تؤمن بالتقليد، وتذهب إلى أن النص الديني ليس فيه أسرار تحول دون فهمه وبإمكان أي قارئ يبذل مجهودا أن يفهمه ويفهم أوامره ونواهيه.

باختصار، ذهبت أنا إلى أصول الفقه لأكون خارجها، خارج دليلها، ونظام معرفتها، وآليات تحليلها للخطاب، وخارج أفقها.

– من ناحية ثانية ، في كتابك (خارج الطائفة) كأنك تساوي الانتماء إلى الطائفة بالطائفية ذاتها. كيف؟

لا أساوي الانتماء للطائفة بالطائفية، لكني لا أبرئ الطائفة من الطائفية، هي مصد من مصادرها، وتتغدى عبرها، والصراعات السياسية كما تشهد على ذلك منطقتنا، لا تجد أفضل من تكوين الطائفة لتوتير المشهد وبعث جنون الطائفية. لن تسعفنا حيل تجريم الطائفية وتطهير الطائفة، ولا تجريم القبائلية وتطهير القبيلة، ولا تجريم البعثية وتطهير البعث. الطوائف إذا كانت هي حقائق اجتماعية وسياسية اليوم في مشهد العالم العربي، فهي لم تكن إلا تكوينات سياسية وأنا غير ملزم بالبقاء في حزب تكون قبل أربعة عشر قرناً ثم صار مذهباً دينيا.

مع ذلك لا أريد أن أبدو مثالياً في نقدي للطائفة، وأساوي بين أشكال متباينة من أشكال الطائفية، هناك طائفية دينية تتعلق بتمسك جماعة بعقائدها الدينية وإخراج عقائدها وشعائرها إلى الفضاء العام المشترك، وهناك طائفية سياسية تتعلق بموقعك في السلطة ومصالحك معها وحربك معها باسم هذه الطائفة أو تلك الطائفة، ومع الأسف المثقف الخليجي يُجمّل طائفيته السياسية بأكاذيب غير إنسانية.

– كيف امتلكت الجرأة لمعارضة فكر التشيع والخروج عن الطائفة كمسألة أيديولوجية؟

لا أجد في المسألة جرأة كبيرة، هي تحرر كبير، لكنها ليست جرأة كبيرة، والدليل أني لم أتعرض لتهديد أو حرب أو تشهير. نعم هناك نبذ، وتوجس، ولا تعود تمثل الابن البار ضمن نطاق جماعة طائفتك. أجد الجرأة تتمثل في الخروج من دوائر القوة والنفوذ والمصلحة، بمعنى أكثر وضوحاً، الخروج من الطائفية السياسية، حيث مغريات المال السياسي والوظيفة والقنوات الإعلامية والمناصب والنفوذ.

– ذكرت في  كتابك (خارج الطائفة) أن  الوجود خارج الطائفة يجعلك تلقائياً داخل فضاء المدينة وداخل فعلها الحر. على هذا النحو هل الإيديولوجيا مسألة مضادة للحرية الإنسانية وإلى أي حد ترى ذلك؟وهل يمكن أن نعد هذا الأمر محاولة من على الديري للفكاك من الإيديولوجيا، حيث اعتبرتها عائقاً عن التفكير الحر.

هي كذلك، وأزيد، فضاء المدينة الحر تحققه الدولة المدنية، لا الدولة الدينية ولا لدولة القبلية ولا الدولة القبائلية، ولا الدولة الطائفة، ولا الدولة الطائفية. وفضاء المدينة الحر، هي ساحات الاحتجاج السياسي الذي يمارس فيه الناس حراكهم السياسي، وساحات الإعلام الحر من الإكراهات والمنع، وساحات الحريات الفردية التي يشرب فيها الناس ما يريدون ومع من يريدون. فضاء المدينة الحر هو الساحات التي تقرر فيها أنت ما تريده، هي ساحات الخروج من قصورك الذاتي، والجرأة في استخدام العقل، هي ساحات اللؤلؤة والتحرير والإرادة والشهداء.

– هذا اللجوء الواضح لديك إلى مابعد الحداثة فكراً وحواراً وتفكيكاً هل هو الملاذ برأيك؟

أنا أبحث عن ملاذ آمن لي من سلطة سياسية أو فكرية تغلق علي أو أنغلق عليها، وأنا مفتوح على الحداثة وما بعدها وعلى تراثي وما قبله. ما بعد الحداثة، على المستوى النظري، تحررني من المعاني النهائية للأشياء، وتمنحني القدرة على اللعب بالنصوص وعلاماتها، وتمكنني من جعل تراثي معاصراً لي، يعيش معي لا أعيش فيه. وهي تجنبني الوقوع في أوهام العقل والإنسان والتقدم والتطور، فهذه المفاهيم في الممارسة الخطابية والواقعية تنتج متضاداتها.

قد تبدو إجابتي مثالية أو صوفية، في واقع يرشح منه الدم وتمارس فيه أبشع أنواع الانتهاكات الإنسانية التي لا أستطيع حتى أن أسميها هنا، لكني هكذا كما يقول ابن الفارض (أطوف حول ذاتي بكاسات خمرتي) وخمرتي هي فكري، وأنا أمارس عملي وطوفاني حول ذاتي عبر التكلم في مجتمعي،

يقول تودوروف”عملية التكلم ليست فقط تعبيرا عن الفكر، إنها في الوقت ذاته عمل وتحتل موقعا في الفضاء الاجتماعي” هكذا أفهم علاقتي بالمدارس الفكرية والنقدية، تتيح لي أن أتكلم بمهارة الحاذق أن كلامه يسهم في تشكيل الفضاء الاجتماعي والسياسي، وأنا أحدد موقعي في هذا الفضاء مقابلاً للسلطة دوماً، السلطة السياسية والدينية ومقابلا لكل ما يريد أن يهيمن ويخضع الآخرين له.

– أكدت عدم استطاعة علماء الدين من الفريقين (سنة وشيعة) تجاوز مذهبه وعصبيته بعد عقود طويلة على فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية استناداً إلى السجال الذي فجره القرضاوي ورد السيد فضل الله عليه، وهما بحسبك أكثر تمثيلاً لمنهج التقريب وأكثر اعتدالا من غيرهما، ورأيت أن يعلن الفريقان ضرورة اتخاذ منهج التعايش والمجتمع المدني بديلاً عن التقارب بين المذاهب الإسلامية. لماذا برايك؟ وكيف؟

أكثر من نصف قرن ولم يقترب مذهب من مذهب، المذاهب تملك قوة التجاذب لا الجذب، الواقع مختبر للأفكار، والفكرة التي لا تملك فاعليتها في الواقع، نجرب غيرها، طبعا لدي أسبابي النظرية في  تفسير فشل مؤتمرات التقريب، وهي لا علاقة لها بالجدية وصدق النية والرغبة، بل لها علاقة بطبيعة المذاهب الدينية ومفهومها لتكوينها التاريخي، هي لا تريد أن تقترب من حقيقة تكونها التاريخي وحقيقة تشكيل مدوناتها وفقهها وأحاديثها وحقائقها، فكيف ستقترب من الآخر الذي يخالفها في هذا التشكيل. ربما تصل السماحة الشخصية عند البعض ويتحقق التعايش والقبول، لكن بمجرد أن يستدعي أحد شيئا من هذا التاريخ، ستنفجر هذه السماحة، وتنشط ساحة الاحتراب.المذاهب بيوتها من زجاج، ويقترب أصحاب كل مذهب من بيت المذهب المناوئ له بحجر. يقترب لا ليقول من كان منكم بلا خطيئة تاريخية فليرمنا بحجر، بل ليقول حجراً بحجر.

– ذكرت في إحدى حواراتك إنك تعول على حقلي الفلسفة والتصوف في استعادة هدوء العالم المستعر بتوترات الهويات الدينية والقومية والعرقية والمذهبية؟ كيف ترى الأمر بالنسبة إلى الفلسفة والتصوف؟ وهل تخلو الفلسفة كمنطق والتصوف كمذهب من أية ايدلوجيا أو تعصب؟

نعم، أعول عليهما، لأنهما يهدفنا إلى تحرير الإنسان من الانعلاق والتعصب، لكن هذا لا يعني أن مشاكل الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم، ممكن أن نحله ببرنامج فلسفي وصوفي.ولكن ونحن ننضال من أجل تغيير هذا الواقع، في مؤسساته وأشخاصه وأحزابه الحاكمة وقوانينه وعصبياته الدينية والقبلية، أعول على حقلي الفلسفة والتصوف. الفلسفة تعلمك المساءلة وبناء المفاهيم بشكل جديد دوماً، وتحررك من سطة الأرض، لأنها تنشد الحرية دوماً، والتصوف يعلمك تأويل الصفات الإلهية تأويلا إنسانياً، يعلمك كيف تكون وسيطا بين السماء والأرض، وتخلصك من سلطة الوسائط التي تقدم نفسها أبوابا للإله، فتتحرر من سلطة السماء.هكذا تتعلم من الفلسفة عشق المفاهيم والحرية، تتعلم من التصوف عشق الألوهية التي تتسع للإنسان باختلافه، فتتلخص من صورة الإله الغاضب الذي يتهدد الإنسان بالعقاب.

– برايك ما الدور الإنساني الاجتماعي الذي يمكن أن  تقوم به الفلسفة؟ وكيف يمكن إيجاد صيغ مناسبة ومتقبلة لها في المجتمعات الخليجية المعاصرة بما هي عليه من محافظة؟

أعتقد في هذه المجتمعات لابد أن يموت شيء، لست أدري، هل هو: حُكّامها، مثقفوها، ثقافتها، عاداتها وتقاليدها، قبائلها، طوائفها، نفطها.

– وفق مذهبه الظاهري الذي أسسه كما ذكرت؛ درست ابن حزم في كتابك (طوق الخطاب) فماذا وجدت في هذا المدخل؟

وجدت أن الظاهرية، حالها حال أي اتجاه في تحليل الخطاب، لديه رؤية ما وأفق تاريخي ما وأدوات تحليل، وهي في الحد الأدنى:دليل الخطاب، الخصوص والعموم، المستثنى والمستثنى منه، تعارض النصوص، الأمر والنهي، المفهوم والملفوظ… إلخ. لم أنظر إلى الظاهرية كمذهب فقهي أو معتقد كلامي. وجدت في جملة ابن حزم (النص يعطيك ما فيه) خلاصة مركزة لمفهومه للنص والقراءة وتحليل الخطاب. أعتقد لو أننا نقرأ المذاهب الفقهية من هذه الزاوية أي باعتبارها مناهج قراءة للنصوص مختلفة الأدوات، سنخفف من حدة الاختلافات الفقهية والعقائدية.

– من خلال دراستك لأصول الفقه عنده هل يمكن إخبارنا فيم تتحدد هوية الخطاب لدى ابن حزم؟

الخطاب عند ابن حزم كلام الله، وكلماته نصوص معانيها موقوفة على أسمائها، لا يمكنك أن تتصرف وتحرك المعنى أو الاسم.مع ذلك فالنطق الذي يميز الإنسان هو عند ابن حزم تصرف، كما الصناعات تصرف، والإنسان كائن ناطق بقدر ما يتصرف في العلوم والصناعات والكلام، لكن تصرفه عند ابن حزم محدود بخطاب الله الذي هو أمر إلهي للإنسان، لا يقبل التأويل وتعدد المعنى.

جهد الإنسان وتصرفه يتمثل في استخدام المنطق الأرسطي لفهم هذا الخطاب(الأمر).هوية الخطاب ثابتة ونهائية وصافية ومغلقة.ليس في الخطاب أسرار وليس له باطن، ولا يخفي شيئا، هو ظاهر، ومن هنا جاءت تسمية مدرسة ابن حزم بالظاهرية، والظاهرية ليست هنا السطحية، بل هي ما يمكن أن يظهر للعقل من معنى الخطاب بواسطة الجهد الإنساني، وهذا الجهد صاغه ابن حزم في مفهوم (الدليل) في صوره السبع، وهو مفهوم مبني بناء أرسطيا منطقيا.

– على أن لغة ابن حزم لغة حاسمة بما تتضمن من يقينية بينما خطاب المجاز بعيد عن ذلك .كيف التقى ابن حزم مع خطاب المجاز ولغته بتلك المنطقية التي ربما لاتقبل تأويلا؟

صحيح، خطاب ابن حزم يقوم على مقدمات يقنية صارمة، وهذا يبدو واضحا من خلال لغة ابن حزم الحادة ومزاجه المتطرف وحجاجه الصارم، والمنطق الأرسطي منحه أداة قوية للاستدلال على يقينه. لا مكان للمجاز عند ابن حزم، وكل مجاز يرده لحقيقته التي تدل عليه وتقترن به، ليس هناك مسافة نضيع فيها أو نعبث فيها بين المجاز والحقيقة. الخطاب هو مجموعة حقائق لا مجازات.

كي تستوعبي اشتغالي على ابن حزم وظاهريته واشتغالي على المجاز، فعليك أن تضعي في اعتبارك أنني لا أفهم المجاز مقابلا للحقيقة، أنا أفهمه باعتباره منظاراً للحقيقة، أرى به حقائق الأشياء. اختصاصي في المجاز بهذا المنظور، جعلني أفهم الطريقة التي ترى بها خطابات الناس والسياسيين الواقع عبر مجازاتهم.أنا مهتم بالخطابات التي تحيل على الواقع والعالم، كخطابات السياسيين والفلاسفة ورجال الدين، ولست مهتما كثيرا بخطابات الشعراء والأدباء الذين يخلقون أحياناً عوالم متخيلة، وإن كانت تحيل إلى الواقع والعالم الحقيقي. أنا لا أنسى العالم، لكني لا يمكن أن أراه من غير استخدام اللغة استخداماً مجازيا، وهذا ما كان خارج تفكير ابن حزم، فهو يعتقد أن الخطاب يطابق الواقع دوما.

المجاز منظار الخطاب في رؤية العالم، كما التلسكوب منظار عالم الفلك في رؤية الكون. أنا أشتغل في الخطاب، وأهتم بالطرق التي يحيل بها على العالم، والمجاز طريق من هذه الطرق، والمنطق الأرسطي طريق أيضاً، وتتقاطع الطرق.

– لم يتصالح ابن حزم مع السلطات السياسية في عصره ولاريب أنه  كان شاهدا على حكم الطوائف.كباحث ودارس ومتأمل ماوجه الشبه بين عصره وعصرنا؟

لسنا خارج عصر الطوائف، ما نعيشه هو مناخ العصر نفسه، استخدام النصوص الدينية في الصراعات السياسية، وكل ملك وحاكم يقدم نفسه خادماً ومدافعا عن الدين والرسول وسنته وأهل بيته. والجمهور يستثار بهذه الخطابات.وعلماء الدين في بلاطات هؤلاء الملوك والحكام يوظفون الشرعية الدينية التي يحتاجها الحاكم، والتراث جثة حية ثقيلة في ألسنتهم وهم يقدمون أنفسهم امتدادا لفقهاء التراث، بل هم لا يرونه تراثا بل شيئا ما زال معاصرا ومستمرا وجاريا عبرهم، يتكلمون عبرهم. تصوري لو أن علماء الفيزياء والأحياء والفلسفة ما زالوا يتكلمون عبر أرسطو، ويقدمون أنفسهم متدادا لا نهائيا له. ليست هناك معرفة لا نهائية، هناك معرفة تموت وينقطع نسلها، ونعيد خلقها بصورة جديدة، هذا لم يحدث بعد عندنا، وهذا ما يجعل صفحات التاريخ وصفحات الفقه والعقائد، ألغاماً قابلة للانفجار في أي لحظة.

ما زالت جغرافيا الصراعات مذهبية ودينية، وتستخدم الاختلافات المذهبية تهماً وأوصافا تشنيعية (روافض، نواصب، أبناء متعة، بنو أمية، صفويون). هكذا حال واقعنا السياسي، وكذلك واقعنا المعرفي. ما نحن فيه خارج التاريخ، لا يمكن أن نتصور في القرن الواحد والعشرين، أن هناك أمة  بحكامها وسياسييها وعلمائها وأكاديميها، تتصارع سياسياً ومعرفياً وفق انتماءاتها المذهبية التي تشكلت قبل العصر الحديث.

خارج الدوار/ داخل الطائفة

 

خارج الطائفة

 

كتبت على صفحة حسابي في «تويتر» يوم السبت 12 آذار (مارس) الماضي: «اليوم تسلمت 37 نسخة من كتابي «خارج الطائفة» بطريقة درامية. أنا ممنوع من دخول البحرين، فكيف أتسلّم منه نسخ كتابي التي جاءت من معرض الرياض عبر «دار مدارك»؟ وقفنا عند الحدود، طاولني الكتب، وطاولته الشكر، ورجعنا إلى داخل الحدود التي هي أقل من أوطان». أعلنت للأصدقاء، مقابل النخلة 6 في «دوار اللؤلؤة» عند خيمة وعد العلمانية: «سأوقع كتابي الاثنين 14 آذار (مارس)».

تتطور الأحداث الأمنية تجاه التصعيد، تحتقن الأجواء، يصير كتابي خارج الدوّار. في لحظة الدوّار، كان الزمن زمناً «خارج الطائفة». كان الدوار تجربة ميدانية في الخروج من الطائفة، والدخول في المدينة المتعدِّدة والمتنوعة.
صار كتابي خارج الزمن في اللحظة التي بدأت فيها السلطة ما سمّته مشروع تطوير دوّار مجلس التعاون، أي «إزالة دوار اللؤلؤة». بدأ المشروع بطائرات الأباتشي والمدرعات، ودخان أبيض قيل إنّه أكثر من مسيّلات الدموع، وأقلّ من غازات الموت.
في اليوم التالي لـ«مشروع التطوير»، وفيما كانت آلات التكسير تفتك بأعمدة اللؤلؤة، أعلن الجيش في بيانه الرقم 6 إنهاء تطهير الدوّار. أرسلت للأصدقاء الاعتذار التالي: «أعتذر لكم أيها الأصدقاء. توقيع كتابي «خارج الطائفة»، سنؤجله قليلاً. فالنخلة لم تعد في الدوّار، واللؤلؤة ليست في مركز الدوّار، وخيمة وعد فقدت نقطتها في محيط دائرة الدوّار. الدوّار اختطفته القبيلة، رأت فيه خروجها. الدوّار الآن خارج الجغرافيا، لكنّه داخل التاريخ».
أيقنت أن مشروع السلطة العسكري قد أحرق كتابي، وجعل فكرة الخروج من الطائفة خارج الإمكان المعرفي والسياسي والفكري والاجتماعي. كنا داخل الدوار خارج الطائفة، اليوم نحن خارج الدوار وداخل الطائفة.
كان الدوّار تجربة في الخروج إذاً، لكنّه كان خروجاً مكلفاً. مكلف للقبيلة التي تجد توازنها في عزل خصمها داخل الطائفة، ومكلف للتوازنات الإقليمية التي ترى في الخروج إعصاراً يشبه الإعصار الذي تسببه حركة الفراشة.
قال لي أستاذ الاجتماع باقر النجار، وهو بالمناسبة من كتب مقدمة الكتاب: «صدر في وقته». كدت أقول له: «لكنه منذ أمس صار خارج وقته». مشروع الدولة وقت الحاضر والمستقبل، والطائفة تاريخ ماض، خارج الوقت. وكلما حققنا وقت الدولة صرنا خارج الطائفة.
في الدوار كنّا منخرطين في الحلم بلحظة الدولة، دولة مدنية تؤمن بأن الديموقراطية هي حاضنة الحداثة، والمبشرة بولادة الفرد المواطن الذي لا يحتاج إلى حماية طائفته. لم تجد السلطة جداراً تحتمي به غير القبيلة، فاستعانت بجيوش القبائل، لتحميها من مشروع الدولة.
ولتواري ذلك، لصقت بطاقة الطائفية لتبطش بكل شيء، بالطائفة والدولة والمواطنة والشعب والمجتمع واللؤلؤة. في لحظة سديمية، بدا كلّ شيء مشروع تدمير من أجل الاحتفاظ بالسلطة فقط.

 

رابط الموضوع: http://www.al-akhbar.com/node/9038

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

لؤلؤة الميدان… الشهيد علي المؤمن

في الخامسة والنصف تقريباً خط علي أحمد المؤمن مشاركته الأخيرة في صفحة «الفيسبوك» وقال: «دمي فداء لوطني» وقد تحولت بعد ساعات قليلة إلى واقع وحقيقة صعقت أباه وأمه وأخوته الستة، حينما تلقوا خبر استشهاده.
علي يدرس في سنته الأخيرة هندسة بجامعة البحرين.
علي كان مع أحد أخوته في ميدان اللؤلؤ مسالماً نائماً وعاد سالماً بعد أن هجمت قوات الأمن على المتظاهرين وسجل في الخامسة والنصف مشاركته الأخيرة في «الفيسبوك» (دمي فداء لوطني) ليعود للميدان مجدداً مع أخيه حسين ويستقبل جسمه الطلقات المطاطية ورصاص الشوزن المحرم دوليا، ليموت متأثراً بجراحه وحاملا آماله معه
علم أبوه وإخوته بإصابته عن طريق إحدى القنوات الفضائية بيد أنهم لم يتعرفوا في بادئ الأمر عليه لتغير ملامحه جراء ما ألم به.

1

كان الخميس ١٧فبراير يومان لا يوم واحد، يوم ما قبل الثالثة صباحا ويوم ما بعد الثالثة، يفصل بينهما رصاص الجيش، لقد نجح الجيش في مهمته المستحيلة، جعل لنا يوماً آخر لا ينُسى في يوم كان يمكن أن يُنسى، ما أعظمك أيها الجيش خلّاق في مهماتك المستحيلة، جعلت نهارنا طويلاً طويلاً.
بفضلك أيها الجيش دخلتُ أنا – أنا الذي اعتدت رائحة الأوراق والكتب لا رائحة القتلى – في اليوم الثاني من اليوم نفسه مشرحة الموتى، إنها المرة الأولى التي أدخل فيها غرفة الموتى، دخلت كي أصدق أنك قمت فعلا بمهمتك المستحيلة، رأيت إنجازك العظيم مكتوباً على أجساد الشهداء، ورأيت أكثر مما رأته آلتك العمياء، رأيت كم أنك عارٍ من الوطن وعارٌ على الوطن.
في مساء اليوم الثاني من اليوم نفسه، أتحت لي أيها الجيش الثقيل أن أرى وجه الشهيد الشاب المهندس علي المؤمن (22سنة)معلقاً فوق جدار الشهادة الافتراضي حين فتحت صفحته على الفيسبوك. لم أره لحظة أن ذهبت ظهراً للمشرحة، فقد استعصت ندوبه على خيوط الجراحين، بقوا ينسجونها ويرقعونها حتى المساء ودماؤه تتأبّى على التوقف. ربما كان أكبر من أن أراه هناك في مشرحة الموتى.

2

فتحت جدار صفحته في الفيسبوك، لم أكن أعرفه، لكن ضوء صورته اخترق كل حواسي كما لم تفعل وجوه الأجساد في المشرحة، بقيت متسمراً أمام صورته، وجدت هناك في عمقها شيئا يناديني لأكتبه.
في محاولة عبثية طلبت منك يا علي إضافتي على صفحتك، وفي محاولة أكثر عبثاً رحت أنتظر أن تقبلني، وأعيد تنشيط الصفحة وأقول لعله فعلها، أو لعل شيئا خارقا يفعلها، كنت أريد أن أقول لك: أريد أن أكتب عن ضوئك الخاص الذي شدني إليك، امنحني شيئا من سيرتك لأفتح به كتابتي، لمّا تمنعت عن أن تجيبني، أرسلت لصديقك على هاشم الذي اكتشفت أنه في قائمتي أن يرسل لي ما يفتح حيرة تعلق مخيلتي بصورتك. فضولي لم يحتمل أن أنتظر، فرحت أبحث عنك في هذه الشبكة العنكبوتية التي صارت مقبرة لمن يظنون أنهم يمسكون كلّ الخيوط، ويظنون أنهم خالدون في أعشاش كراسيهم. وجدتك في (YOUTUBE) وجدتك حياً مفعماً بالحركة، تقدم ورشة لأناسك البسطاء الطيبين من أهل منطقتك بسترة. سمعت أسئلة ورشتك التي هي أسئلتي: كيف نختلف؟ كيف أختلف مع من يشاركني وطني، قريتي، عائلتي، ديني؟ تحسستُ أفق اختلافك الرحب الذي تؤمن به، ووجدت الآيات التي تتلوها لتأكيد قيم احترام الآخر، متسعة لوطن يحتفي بالمختلفين، ويكبر بشراكتهم، ويزهو بتعدد أشكالهم.
كنت في ورشتك، تصقل مهارة الإلقاء والتقديم ضمن برنامج (أنا أتطور) . هل كنت تعي كيف سيؤول تطورك؟
لم تكن تعرف أنك ستدخل في ورشة أكبر، ورشة بحجم الوطن، ستقودها بهؤلاء الناس البسطاء الذين يحلمون بكرامة المواطنة لا كرامة المكارم، بهؤلاء الناس الذين حملوا يوما ما زائرا كان يرسل إليهم من يحمل أبناءهم إلى الظلام، ويعدهم بالأيام التي لم يعيشوها بعد، كان يوم جنازتك منها.

3

في الموكب المهيب الذي حملتنا أنت إليه يوم عرس جنازتك، كان علم الوطن يلف جسدك الغض الطري، وكان الشبيبة المحيطين بتابوتك يُلوّحون بأعلام الوطن، يضمدون بها جروحك وجروح الآلف التي حملت أكفُها روحك، ما أجملهم وأبهاهم، حناجرهم الغاضبة من عناكب الوطن لم تفقد لحظة ثقتها في الوطن، كانوا يتلحفون به، ويلوّحون به، ويقودون به، ويفتحون الميادين به، ويموتون دونه.كانت موجعة تلك اللحظة التي توقّف فيها موكبك، ليلبي مطلب والدتك المفجوعة بزهرتك، كان مطلبها أن ننشد “يمة ذكريني من تمر زفة شباب.. من العرس محروم وحنتي دم المصاب شمعة شبابي من يطفوها..حنتي دمي والكفن دار التراب”

4

هل تعرف يا علي أننا هذا المساء في اليوم الثالث من زهرتك لم نكسر فاتحتك بل كسرنا طوق الميدان، وهناك في المكان الذي اغتالتك فيه جيوش الغدر، قرأنا لروحك الفاتحة، لتكون فاتحة عودتنا للميدان. بك يا علي وسّعنا ميدان اللؤلؤة، صار أكبر من ذلك المساء الذي وقفت فيه عارياً تحميه من غدر السلطة. لقد وسعناه بدمك الحر، صار غالياً وثمنه ليس دمك فقط بل حلمك أيضا، ألم تكن تحلم في ذلك الفجر الغادر أن شمسا جديدة ستشرق على هذا الميدان، ألم تكن تتطلع إلى أفق يأتي لنا بمستقبل جديد، لقد فاجأك رصاص العسكر، اغتالتك أرتالهم، لكن اطمئن لم يغتالوا حلمك بميدان الحرية، بقيت اللؤلؤة في قلوبنا، نحنو عليها من آلات العسكر، لقد زرعوا في قلبك رصاصة لكنها لم تصل للؤلؤة التي كنت تخبئها، ولم يكونوا يدركون أنك ستغدو بكلك لؤلؤة للميدان.
نحن في الليلة الأولى الآن من عودتنا للميدان الذي لم تغادره أنت، عدنا لك، وعدنا بك. عدنا لك لأنك صرت جوهرة الميدان، وعدنا بك لأنك تلاحقنا في أحلامنا، تدفعنا نحو الميدان، باؤك قوتنا الدافعة، في كل شاب وجدتك، لقد اشتقوا من اسمك أيها المؤمن إيمانهم بأنهم سيعودون. الكبار لم يكونوا يمؤمنون، لقد زرعت أنت ورفقاؤك فيهم هذا الإيمان، فأعدتهم إلى دين الحرية.

5

لم تهدِنا دمك وحده، بل أهديتنا جوهرة نفسك في صدفة وطنية(نفسي فدا وطني). تركتها على الفيسبوك، معلقة هناك كوصية على جدار، جدار صارت كل الثورات تكتب حريتها عليه، أمست وصيتك شعاراً نعلّق عليه مستقبلنا، كان ثوار التسعينيات يكتبون شعاراتهم على الجدارن العتيقة، ويأتي في الصباح من يمحوها كي لا تشعل ثورة. جدارك الافتراضي اليوم عصي على المحو، عصي على الحجب، عصي على الجغرافيا والتاريخ، إنه عابر لكل الأشياء، جدارك يا علي وطننا الذي فديته بحق.
صار شعارك أغنية الميدان، وقد رقصت أجساد الشباب العارية في اليوم التالي لرقصة جسدك، رقصوا أمام مدرعات الجيش وعلى مقربة من التراب الذي تقدّس بأنفاسك الأخيرة، رقصوا فداء وهم يقرأون نوتة الشهادة (نفسي فدا وطني) التي علّقتها على جدارك، صفّق لهم الرصاص الحي، صفّق في أجسادهم المنتشية طرباً، واختار الرصاص المواضع الأكثر فرحاً في أجسادهم، أحدهم اختار الرأس منه لأنه كان يهتف بالحرية، واختار القدم من أحدهم لأنه كان يشق طريقاً للؤلؤة، لؤلؤة الحرية البيضاء المعلقة في الميدان، وتحيّر في البقية، كيف يهزمها وهي تحمل شعارك وشعورك؟ فانهزم أمامها.

6

رحت أتعقبك في سيرة جنة أصدقائك، لعلي أعرف سرّ غرامي بك، في رواية أصدقائه استطعت أن أفسر شيئا من هذا الغرام الذي جعلني أدخل صورتك، وجدت في صورتك صورتي في أوائل التسعينيات، فتى مثالي يريد تغيير العالم، ومؤمن بألا مسافة بين ما يقرأ وما يعيش.
يقول صديقه حسين الحواج: علي شخصية استثنائية وإلهامية وشفافة، مفتوح على المختلفين وتشبكه علاقات تتعالى على الجروح والفروق مع الطوائف الأخرى، يقرأ بشغف كبير لعلي شريعتي ومرتضى مطهري، يجمع أطراف مختلفة الأمزجة من الأصداقاء يوحدهم في قلبه، ويمنحهم من دفئه.
صديقه علي البناء، رافقه في رحلة الميدان، كان يحدثه عن فقه الشهادة قبل أن يمنحه درساً تطبيقيا في اليوم التالي. يقول علي لقد فهمت درس الشهادة تماماً، فهمت كيف تكون مهيأ له وكيف تجعله قصة مشوقة، هذا ما فعله علي، لقد وصل إلى مستشفى السلمانية سالماً بعد أن تمكن من النجاة من المجزرة الأولى، لكن نداء الشهادة كان يشتغل في داخله ويدفعه نحو الميدان، عاد إلى الميدان في السابعة صباحاً، كانت حركته لافتة ومستبسلة للشهادة، وهذا ما أثار حنق القتلة، ليمعنوا في تشويه جسده الغض برصاص الشوزن والمطاط، لقد تهتك جسده، لكني أجزم أن قلبه لو عاد سيكون قادرا على أن يغفر لهاتيكه، فداء للوطن.
وجدت في صوت أخيك وصديقك حسين المؤمن براءة صوتك، قال لي إنه يصغرك بعامين، ويكبر أترابه بعامين، لقد أضفت له من عامَيك ما جعله أكبر، عاش في عمرك يقول، وحين سألته عن رواية شهادتك، قال لي: إيمان علي بالشهادة من أجل الحرية يفوق إيماني، تعلم من علي شريعتي أن الشهادة حياة الحرية، وحين كتب جملته (روحي فدا وطني) في الخامسة والنصف صباحاً، قال لي إن الأرض التي دنّستها آلات العسكر في هذا الفجر، لن يطهرها غير دمي العاري من من آلات الفتك.
لبس ما يليق بالحياة وخرجنا معاً، شكّلنا صفاً ملتحماً من الشباب، أخذنا نتقدم في وجه آلة الحرب، وحين هزمتنا الآلة كان علي قد انتصر عليها بدمه، وأمنيته التي رددتها معه في لحظاتنا الأخيرة (سر الانتصار تمني الشهادة). تشرّبت الأرض بكل دمه حتى آخر صبابة فيه، كان جرحه عميقاً، كما أراد لترتوي هذه الأرض بالطهارة. لم يتمكن الأطباء من شحن جسده بالدم، فجسده كان وفياً لإرادته، ظل ينزف كل قطرة تدخل فيه.

نشر في جريدة النهار بيروت

حوار جريدة البلاد مع علي الديري بمناسبة يوم الفلسفة العالمي: وجودنا في أي شكل من الأشكال هو قضية تستحق التفكير

حوار جريدة البلاد ، أجرت الحوار هدير البقالي

منذ العام 2002، اعتمدت اليونسكو الخميس الثالث من شهر نوفمبر كل عام، باعتباره يوماً عالمياً للفلسفة. في البحرين، بادر عدد من المثقفين من محبي الفلسفة وأصدقائها بالاحتفال بيوم الفلسفة العالمي هذا العام، وافق الثامن عشر من نوفمبر الماضي. حرص هؤلاء على تنظيم برنامج احتفاء فلسفي خاص، طلق في الفضاءات المفتوحة، كما اهتموا بتنويع الفعاليات التي تربط الفلسفة بكل من الأدب والسينما والرسم والموسيقى. شارك في الفعاليات جمع من محبي الفلسفة الذين أثروها بالنقاش والحوار.

وبمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، تجري البلاد الحوار التالي مع الدكتور علي أحمد الديري، المهتم بالقضايا والموضوعات الفلسفية، وتفتح معه بعض الإشكالات المتعلقة بالفلسفة في واقعنا المعاصر.

هل المناهج الدراسية التي أخذت حقها في الفلسفة أم أنها مازالت حالها لم تتطور؟

في الثانوية العامة كنت في القسم العلمي شغوفا بالمواد العلمية لم أكن اجد التفكير خارج المعادلات الرياضية والتجارب المختبرية لم أتعرف حينها على مادة الفلسفة ولا المنطق. بدا لي العلم هو كل شيء، ومنطقة التحدي تكمن فيه.حين دخلت جامعة البحرين في تخصص اللغة العربية لأسباب دينية، واجهت أزمة كبيرة في التعاطي مع المواد الأدبية والتربوية، تعلقت بالنحو والصرف والعروض، فقواعدها مقننة وشبه مغلقة ويمكنني آن أثبت تفوقي من خلالها.حتى لحظة تخرجي لم أعرف في مناهجي الدراسية شيئا اسمه الفلسفة. لكني عرفت المنطق عبر محيطي في السياق الديني وعرفته باعتباره مجموعة قواعد مدرسية تعصم الفكر من الخطأ. وهنا يكمن المقتل، مقتل تربيتي خارج مناهج الفلسفة، فالمنطق والعلوم بقواعدها الصارمة، تقتل فيك إمكان تعدد الحقيقة وتنوع الآراء، وتريك كل ما هو خارجها هراء وكلاماً ملقى في الطريق. غياب روح الفلسفة عن مناهجي الدراسية التي هي مناهجنا العامة، هو مقتل تربيتنا، وتربيتي نموذج لذلك.

العلوم من غير فلسفة يقين يقتل العقل، لأنه يحرمه من الشك والظن والبحث عن إمكانات جديدة. لذلك لا يمكن التعويل على العلوم من غير الفلسفة. كذلك لن نتمكن من فهم علوم اللغة وعلوم الدين من غير درس الفلسفة.

ألم تجد شيئا في الجامعة قريبا من الفلسفة؟

أذكر بقوة مقرر أصول التربية في جامعة البحرين، في هذا المقرر تعرفت لأول مرة على أن هناك مدراس فلسفية ولكل فلسفة منها أصولها التربوية المختلفة، ووفق هذه الأصول تختلف تربية الإنسان العقلية. لكن هذا المقرر، كان من غير أصول فلسفية، وأذكر أنني في لحظة تذمر معرفية خرجت وسط إحدى محاضرات هذا المقرر بل وسط كلام المحاضر، فقد كنت أشاغب المحاضر بأسئلتي التي تعبر عن عدم فهمي وفي الوقت نفسه تحتج ضمنيا على عدم فهم المحاضر لما يقول لأنه أساسا بلا أصول فلسفية. خروجي كان يحمل دلالة ضمنية تقول إنكم لم تقدموا لنا الفلسفة وتربتنا لم تكن يوماً تتضمن شيئا عن هذه المادة الغريبة على تفكيرنا، فكيف تريدوننا أن نفهم علاقة المدارس الفلسفية بالتربية؟!!!

الطالب عموماً قد لا يستفيد من التطعيم بالفلسفة أثناء الدراسة لكثرة

التلقين المباشر عوضا عن التأمل بما تحمله الفلسفة من فكر، فماذا تقول؟

الفلسفة تطعيم ضد تعطل آلة الفكر الإنساني، حين أغلق الإمبراطور “جستنيان” مدارس أثينا الفلسفية سنة 529م معتبرا إياها معاهد للفكر الوثني، عطّل العصور الوسطى فصارات عصور تلقين لا عصور تأمل تنتج فكرا جديدا. لقد خرج طلاب المدارس الأثينية وطلاب مدراس الإسكندية هائمين على جوههم، لم تعد هناك أكاديمية أفلاطون التي وضعت شعارا على مدرستها “من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا” ولا مدرسة أرسطو (الليسيوم) ولا حلقة الفيلسوفة (هيباتيا) التي سُحلت وسُحلت معها مكتبة الإسكندية الفلسفية، فسحلت معهما آلة التفكير الفلسفي.

ولماذا بعض الدول العربية تحرم دراسة الفلسفة؟

لأنها تحرّم تداول السلطة والسلطة التي لا تتغير تستند إلى معنى ثابت لا يتغير، معنى للدين والإنسان والحكم والعالم والألوهية. الفلسفة مهمتها تغيير معنى هذه المفاهيم وإبداع مفاهيم جديدة لها. المشكلة لا تمكن في أنها لا تدرس الفلسفة فقط، بل تعرض لها في مناهجها عرضاً هامشيا يوحي بأنها شيء قديم قد انتهى أو كأنها علم جدلي فارغ لاعلاقة له بحاضر الإنسان وقضاياه المعاصرة.

الفلسفة تعتبر كثورة لبناء العقل الذهني و سبر لأغوار النفس البشرية

خاصة، فألا تعتبر أن الفيلسوف جاء نتيجة تراكمات مضطهدة له من المجتمع

والبيئة التي تخرج منها ؟

تبدأ الفلسفة من الذهن كثورة من الأسئلة المتجهة نحو الواقع. الواقع في الأرض أو الواقع في السماء. تحاول أن تهز الفهم الإنساني كي يدرك سماءه أو أرضه إدراكاً يمكنه من تغيير خارطة السماء أو الأرض. تتجاوز الثورة منطقة العقل فتكون ثورة في الأرض على المفاهيم وعلى الموسسات وعلى السلطة، فيشتبك الفيلسوف بأصحاب السلطة، وأصحاب النفوس في الأرض، الذين يريدون للأشياء أن تبقى مستقرة من غير ثورة. وهم يستعينون بالسماء لكي يثبتوا سلطتهم من ثورة أسئلة الفيلسوف. ولنأخذ على سبيل المثال سقراط، أسئلته الثائرة في عقله أرعشت سكان أثينا، فحكمت السلطة السياسية عليه بالقتل مسموماً، لأنه كان يرعش معتقدات الناس في آلهة أثينا. ولنأخذ هيباتيا، فقد كانت أسئلتها في مكتبة الاسكندرية ثورة لاستخدام العقل ضد الخضوع والاستسلام للإجابات التي كان الحاكم الروماني يتوافق فيها مع المعتقدات المسيحية الجديدة فحكمت على هيباتيا بالسحل لأن ثورة أسئلتها تحرك الواقع المستقر تحت سلطة السماء المتجسدة في شخصية الإمبراطور الروماني. تاريخ الفلسفة تاريخ ثورات، لذلك هو تاريخ اضطهاد أيضاً.

– برأيك ما دور الفلسفة في نقد  قضايا المجتمع؟

وجودنا في أي شكل من الأشكال هو قضية، وهو قضية إشكالية دوماً. وجودنا في شكل طوائف وقبائل وديانات، وجودنا في مجتمع متعدد الأعراق، وجودنا في شكل دولة غير منجزة، في شكل دولة غير دستورية، في شكل دولة مدنية، في شكل دولة دينية، في شكل مجتمع ذكوري، كل هذه الوجودات تشكل قضايا وتطرح أسئلة على معيشتنا. كيف يمكن أن نعيش في هذه الأشكال، وما الذي يواجهنا فيها وكيف نخرج من مآزقها، وما الذي يتحقق من انسانيتنا فيها، وما الذي يغيب. هذه أسئلة فلسفية. والإنسان لا يوجد إلا في شكل من هذه الأشكال، ومتى كفّ عن أن يثير أسئلته الإشكالية على هذه الأشكال، فقد قدرته على تطويعها وتطويرها وتغيير أنماطها.  تطور شكل الديمقراطية الحديث جاءبفضل أسئلة هوبز وروسو ومونتيسكوي وغيرهم من فلاسفة عصر النهضة الأوروبية الذين شغلهم شكل وجود الإنسان في مؤسسة السلطة أو الدولة التي يحكمها ملوك باسم الله.

هل يمكن تطبيق الفلسفة الغربية البعيدة المدى على  أرض الواقع العربي؟

أرض اللغات والثقافات والحضارات متعددة وهي تثري الأرض الكونية بالاختلافات، كل فيلسوف الحق يحفر في أرضه المفهومية عبر لغته وإشكالاتها الحضارية والثقافية في لحظة تاريخية ما، وكلنا لنا الحق في إثراء أرض واقعنا بهذه الحفريات.ربما من المفيد أن نستفيد من مفهوم طه عبدالرحمن للتأثيل في مشروعه فقه الفلسفة، مع توسيع أو تغيير حدود الرؤية التي ينطلق منها هو.

– برأيك هل الفلاسفة اتفقوا على مسلمة واحدة، أو قضية واحدة، وما مدى

تطورها في دراسة الفلسفة؟

الفلاسفة لا يقلقهم اختلافهم، بل يقلقهم اتفاقهم. ربما علماء الكلام واللاهوت يقلقهم اختلافهم حول صفات الألوهية، لأنه اختلاف يحدد الجنة لمن والنار لمن، والحرب ضد من والسلم مع من، والكفار من هم والمؤمنون من هم.اختلافات الفلسفة تكثّر معاني العالم واختلافات المتكلمين واللاهوتيين تصفي العالم.

– ألا تعتبر الفلسفة تحدي للقدسية الإلهية؟

هي تحدٍ لكل ما يشكل طاغية، والطاغية ليس شخصية سياسية بالضرورة، قد يكون مفهوماً، كالعقل مثلا، فتأليه العقل وتقديسه والثقة المطلقة فيه وفي قدرته على تحقيق الخير والسعادة والسلام للإنسانية حوّله إلى طاغية كما هو حاله في عصر الحداثة وانتهى بالبشرية إلى حربين مدمرتين، كذلك الألوهية حين تجسدت في خلفاء وملوك يحكمون باعتبارهم ظل الإله وخليفته ونوابه صارت طاغية تتحداه الفلسفة بأسئلتها التي تقاوم كل سلطة تحد من حرية الإنسان وقدرته على أن يشكل مجاله الحيوي في التفكير.

ليس هناك مفهوم واحد للألوهية، والمجامع المسكونية الكنسية (مجمع نيقية325م، مجمع إفسوس 431l مجمع خلقيدونية 451م ) التي عقدت في التاريخ كانت مهمتها حسم الصراعات التي تنشئ حول مفهوم الألوهية وهي صراعات سياسية أساسا ، وتستهدف في الأساس تثبيت السلطة السياسية للأمبراطوروتدور من خلال بحث ألوهية المسيح، وغالبا ما تتعارض هذه مع الفلسفة، لأن ليست من مهمة الفلسفة إضفاء المشروعية على السلطة السياسية، فهذه مهمة الدين غالبا والدين في هذا الاستخدام يتعارض مع الفلسفة. بل تصبح مهمة الفلسفة في هذه اللحظة كشف حقيقة هذا الاستخدام غير المشروع للسلطة وللحقيقة.

ما هي الألوهية، هي مجموعة من الصفات. والصراع بين علماء الكلام أو علماء اللاهوت وحتى الفلسفة هو صراع أو اختلاف حول هذه الصفات. والاتهامات بالهرطقة والكفر والبدعة كلها تتعلق بإثبات صفة ما أو إنكار صفة ما. بل المذاهب الكلامية واللاهوتية تتمايز بهذه الصفات وتعرف بها. على أن خلافات علماء الكلام واللاهوت تنتج مذاهب عقائدية متحاربة( المجسمة والمنزهة والمعطلة) ، واختلافات الفلاسفة تنتج تصورات مختلفة لمفهوم الواحد وواجب الوجود والمحرك الذي لا يتحرك.

لقد استفاد علماء الكلام الإسلامي وعلماء اللاهوت المسيحي من تصورات الفلاسفة لمفهوم الواحد، ومباحثهم في الميتافيزيقا والعلل في بلورة تصوراتهم لمفهوم اللالوهية والاستدلال عليها. كما أن الفلاسفة في المحيط الإسلامي والمسيحي وفقوا بين الفلسفة والدين ولو أخذنا إخوان الصفاء فسنجدهم يعرّفون الفلسفة بأنها التشبّه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية، أي بقد طاقة الإنسان على التشبه بصفات الكمال الإلهي.

أغلبية الفلاسفة وصفوا بالملحدين، كذلك منهم من أقدم على الانتحار،

ومنهم من أعدم، ومنهم من مات يائسا، أيعتبر ذلك نوعا من الخلود لهم؟

التفكير في الخلود جاء من تأمل الأشياء الزائلة والفلسفة كانت تبحث عن الأشياء الخالدة وتجد فيها العلل الأولى التي تفسّر خلق العالم والإنسان، حتى صارت مهمتها معرفة هذه العلل، وصات هذه المعرفة طريقاً للخروج من جسد هذا العالم إلى حيث الآلهة الخالدة، الفلاسفة هم من يصعدون في هذا الطريق ولذتهم تتحقق بهذا الصعود إلى الأعلى، لذلك كان سقراط في محاورة فيدون أو محاورة الخلود، يرفض الهرب من السجن ويعبر عن سعادته بلحظة اقتراب صعوده، ويتمثل سلوك البجعة حين تعبر بالغناء عن فرحتها بلحظة اقتراب موتها “إنني أبدو آمامكم أقل قدرة على التنبؤ من البجع. وهي التي حينما تشعر بدنو أجلها تغني أطول وأجمل ما غنت أثناء حياتها السابقة، فرحة بأنها على وشك الرحيل إلى الإله الذي هي في خدمته. لكن البشر بسبب خشيتهم الموت، يتهمون البجع زوراً، ويقولون إنها تنتحب أمام الموت وتغني بسبب حزنها، وهم لا يدركون أن أي طائر لا يغني وهو على جوع أو وهو يشعر بالبرد أو وهو يشكو من أي مصدر آخر للألم… وأنني لست أقل منها شجاعة أمام مغادرة الحياة”

ألا تعتقد أن النظريات الفلسفية  تجعل من أدمغتنا مادة خصبة للتجرد من

الجسد والانفصام عن شخصيتنا للاتصال بالعالم الغير محسوس؟

الفيلسوف يفكر في الجزئيات والحالات والتجارب والأشخاص ويجرّد منها مفاهيما، لكي يفهم العالم والإنسان لكنه لا يتجرد من الحياة ولا تتجرد مفاهيمه من الحياة ولا من الحس. لدينا على سبيل المثال الفيلسوف ابن سيناء الذي يعد فيلسوفا لللنفس كما كان أرسطو قبله بثلاثة عشر قرنا فيلسوفا للعقل. كان ابن سيناء يجد لذته الحسية في الشرب والجنس مقترنة بلذته العقلية في الدرس والكتابة والتفلسف والتطبيب ومقترنة بلذته الروحية في الصلاة والحب. وكذلك كان الخيام.

بل إن الفلاسفة يتحولون بسلوكهم وحياتهم إلى مفاهيم فلسفية. نخطئ حين نعتقد أن ألفاظ الفلاسفة لا علاقة لها بالمعاني الحسية التي نستخدمها فيها، بل هي شديدة العلاقة، لكن يتميز الفيلسوف بأنه يجرد لفظه من أن يكون مرتبطا بشيء واحد أو حالة واحدة ويجعلها تشمل أكثر من شيء وأكثر من حالة فيجعلها تشمل معاني أشياء متعددة، فمفهوم الفيض في الفلسفة محكوم بمعنى الفيض الحسي المتعلق بفيض الماء في الكأس مثلا، ومفهوم النور الإلهي والنور العقلي لهما ارتباط بمفهوم النور كتجربة حسية نشاهدها، ومفهوم النظر له علاقة بنظرنا الحسي، وهكذا المفاهيم الفلسفية لا تقطع علاقتها بالحس ولا تتجرد مطلقا منه.وهذا هو موضوع أطروحتي في الدكتوراه.

– وما مدى ارتباط الوعي بماهية الإدراك الباطني للعقل الفلسفي؟

ما مهمة الفلسفة؟

مهمة الفلسفة تكمن في النقد. لكن تختلف من مرحلة إلى أخرى. طبيعة القضايا التي تنقدها، ولو استعدنا جيل دولوز سنقول أنها كانت تجد في كل مرحلة من مراحلها موضوعاً لنقدها فمرة تكون مهمتها نقد الأخطاء، ولعل المنطق الأرسطي، هي أعظم آلة جبارة وضعتها الفلسفة لنقد الأخطاء، وأن كانت هذه الالة قد أعاقت أيضاً الفكر البشري عن ابتكار حقائق صحيحة، كانت هذه الآلة تظنها خطأً، وهنا أشير إلى منطق فرانسيس بيكون الذي حرر المنطق من سطوة منطق أرسطو الصوري وجعله أكثر مرونة واستيعاباً للواقع. لذلك كان المنطق يعرف بأنه آلة تعصم الفكر من الخطأ. في مرحلة تالية صارت مهمة الفلسفة هي نقد الأوهام التي أوقعتنا فيها الإيدلوجيات الكبرى على أنواعها القومية والدينية والشوفينية وغيرها. فقضايا العرق الأفضل والأمة الأفضل والحضارة الأسمى، تولت الفلسفة نقد أوهامها، وفي مرحلة تالية صارت مهمة الفلسفة نقد ما يسميه جيل دولوز الترهات واللا معقول.

الصديق عادل مرزوق

يوم أمس فقط، تحصل الناقد البحريني علي الديري على درجة الدكتوراه، ولكن هل يجوز أن أفرد أو أخصص هذه المساحة لتهنئة صديق؟! الإجابة لا، فهذه السطور ليست تهنئة، لكنها أشبه ما تكون بمحاولة بسيطة للتبشير والتذكير بأكاديمي ومثقف بحريني بارز، لفت الأنظار خلال السنوات الماضية بما قدمه كباحث وناقد بحريني مميز، استطاع الخروج على متاريس الثقافات المحلية ليطلق لعقله وكتابته العنان، دون حدود.

لم يكن (الدكتور) علي الديري – وليسمح لي أن أكون أول من كتب لقبه الجديد أمام اسمه – محتاجاً يوم أمس للجنة مناقشة في القاهرة ليتحصل على لقب “دكتور”، فتفاصيل قصته كإنسان، ومجموع ما أنتجه من كتب ومحاضرات ومقالات أهلته منذ مدة ليكون أحد أبرز الأسماء في الساحة الثقافية البحرينية. وهو قبل هذا وذاك، مثال الإنسان بكل ما تحمله الإنسانية من معانٍ جميلة ورقيقة.

سأبشر البحرينيين بقامة جديدة تضاف لطاقم الأكاديميين البحرينيين الذين نفخر بهم، وسأدعو المعنيين ممن يمسكون بملف الثقافة في البحرين إلى الالتفات لهذا الشاب القادم بقوة، نحو المزيد من الإبداع والعطاء والتألق.

adel

http://www.albiladpress.com/column_inner.php?wid=40&colid=5587

مدونة الباحث د.علي الديري