للوهلة الأولى حين هاتفني الصديق محمد فاضل، يخبرني عن البيان الذي الذي أصدره مثقفون شيعة. قلت له كيف مثقفون وشيعة؟ المثقف لا صفة دينية له. قلت ربما هو التبسيط الذي يجعل من استخدامنا للصفات استخداماً متخففاً من العمق والجدية.
القراءة الأولى للبيان جعلتني أستحضر صفة التبسيط التي ظهر فيها بيان الليبراليين العرب الجدد الذي أصدره شاكر النابلسي في يوينو/ حزيران 2004 تحت عنوان ”من هم الليبراليون العرب الجدد، وما هو خطابهم؟”.
في يونيو/ تموز 2005 أصدر مجموعة من المثقفين الليبراليين العرب ”غير الجدد” بياناً عنوانه ”ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط” كانت ديباجة البيان ”ما نحاوله نحن الموقّعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا.. نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض”.
وهذه هي مؤاخذتي الرئيسة على بيان المثقفين الشيعة الذي اقترن في تلقيه بصفة الجرأة، والجرأة لا تقترن بالعمق والجدية، بقدر ما تتصل بالخفة والتبسيط. لكنها لا تلازمها دوما، فهناك جرأة تقترن بالعمق في الفهم، وهذا ما أشك فيه بالنسبة لهذا البيان، لذلك أقرن هذا البيان بالتبسيط لا بالجرأة.
علينا أن نلاحظ أن البيان في العادة يصدر في سياق عام، وهو يخاطب جمهوراً عاماً مُبيناً موقفا عاماً، وهو يحاكم في نقده وقراءته من قبل متلقيه بالحاظ هذا البعد. أي أن البيان وهو نوع أقرب إلى حقل السياسة، على خلاف المقال، يحاسب في ضوء قدرته على التعبير عن موقف عام مبني على قراءة الواقع العام قراء تفصّل التباساته. وهو يحاول ألا يتورط في إصدار أحكام إدانة ضد طرف من الأطراف المتصارعة في صياغة الواقع إذا ما كان هدفه إخراج الأطراف المتصارعة من دوامة الاقتتال والاحتراب.
مقدمة بيان المثقفين الشيعة الجدد لا ترفع التباساً بقدر ما تصدر حكم إدانة ”إن المتتبع لنشاط الطائفة الشيعية الكريمة في معظم أنحاء العالم وبالخصوص في الخليج العربي يلاحظ انشغالها شبه التام بالقضايا الطائفية والصراعات المذهبية ومناوشاتها التي لا تنقضي مع أختها الطائفة السنية الكريمة”.
البيان يصدر في موقفه من هذه الإدانة المستفزِة، ليس للعقل ولا للواقع، بل للمشاعر والمواقف. تحمّل جملة الإدانة التي يقوم عليها البيان، الطائفة الشيعية ما يحدث لأختها الطائفة السنية، وكأن هناك أختين إحداهما مشاكسة ومستفزة وتسبب المشاكل، وهناك أخت طيبة مسكينة تعاني من مناوشات أختها. وتبدو الأخت المناوشة لا همّ لها إلا استفزاز مشاعر أختها. هذا التبسيط المخل للواقع الذي تصوغه الأختان يجعل من البيان مبنياً على صورة مجازية لا تبين الواقع بقدر ما تزيده التباسا وغمامة، بل إنها صورة فقيرة ولا خيال خلاّق فيها يمكننا من رؤية الواقع المشحون بالصراعات رؤية نستبين فيها مواضع الخلل.
هل بالفعل الطائفة الشيعية في الخليج مشغولة انشغالا شبه تام بمناوشة أختها الطائفة السنية؟ أين نضع انشغالاتها واشتغالاتها السياسية الوطنية المطالبة بحياة ديمقراطية تقوم على المواطنة والحرية السياسية وتداول السلطة وعودة الحياة البرلمانية، وتجربة الإصلاح السياسي في البحرين، هي ثمرة من ثمرات هذه الاشتغالات والانشغالات السياسية، حتى قيل مسموح لكم أن تنشغلوا بالسياسة، لا أن تشتغلوا بها. مهما كانت نضالات الإسلام الحركي الشيعي مؤطرة بمنطلقات تصدر من تراث الطائفة السياسي والفقهي، فإننا لا يمكن أن نصادر على وطنيتها، ومهما كان اختلافنا السياسي ومهما كان اختلافنا الفكري أيضا. ولعل هذا الإقرار بوطنية المعارضة الشيعية، هو ما يجعل من تحالفاتها مع التيارات الوطنية أمرا واقعا ومقبولاً.
وهذا التحالف هو ما أزعج سياسات التشطير العمودي الذي مازال هو السياسة الفاعلة في نظام حكم الدولة، وهي السياسة نفسها التي تجعل المناوشات بين الأختين لا تنقضي دوما. لكن البيان لا ينص على هذه السياسة التي تمثل معطى موضوعيا يشكل ساحة الصراع السياسي والاجتماعي، هناك واقع موضوعي يشكله من يملك القوة، وعلى البيان أن يوضحه ويكشف دوره في صياغة شكل الصراع.
يبدو أن البيان يريد أن يتصالح مع هذه السياسية أكثر مما يتصالح مع فكرة الدولة وما تتطلبه من إصلاح ديني، فالبيان يدعو إلى التخلص من نظام التقليد والمرجعية في الفقرة 2 من البيان ”نعتقد بأن نظام التقليد والمرجعية الحالي لم يظهر إلا في المائتين عاما الأخيرة فقط ، وكان الناس قبلا يرجعون لأي رجل دين في مسائلهم الفقهية العبادية التقليدية من دون تخصيص ”لكنه يدعو في الفقرة 18 إلى إنشاء مرجعيات وطنية ”نطالب الشيعة العرب بالعمل الجاد لإنشاء مرجعيات دينية وطنية في كل البلدان العربية التي يتواجد فيها الشيعة”، كأنه يريد أن يجعل من المرجعية الدينية نظاماً بوحدة ضبط وطني (بمعنى محلي وليس بمعنى حقوقي دستوري) يسهل لهذه السياسة التي تقوم على التشطيرات العمودية التحكم فيها وإدارتها وتوجيهها بالطريقة التي تريدها.
من المعروف أن أنظمتنا (الوطنية) تريد هي وحدها أن تتحكم في استخدام الدين بما يحقق مصلحتها ويحفظ سلطتها ويسهل إدارتها للناس، وهي لا تريد مرجعيات دينية خارج نطاق نفوذ تحكمها، هذا ما تريده، لكن ليس هذا ما تريده حركة الإصلاح.
فالإصلاح لا يتحقق بجعل نظام المرجعية الدينية وطنيا محليا، بل بجعل المرجعية الدينية خارج لعبة الاستخدام والتوظيف من قبل السلطة السياسية التي مازالت دون فكرة الدولة بمعناها الحديث، ومن قبل التيارات السياسية والجماعات المتصارعة. أي لتكن الدولة خارج لعبة (طاعة ولاة الأمر) وخارج لعبة (ولي الأمر الفقيه).
إن هذا البيان قد وقع فيما وقع فيه بيان الليبراليين الجدد من تبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا، كما تقول صرخة بيان المثقفين الليبراليين غير الجدد، كعناوين: (انسجام الشيعة مع أوطانهم وأخوانهم في الدين والوطن) و(السقطة الحضارية المهولة التي تعيشها الأمة العربية) و(ولاؤنا فقط لأوطاننا وشعوبنا وأمتنا) و(عدم الانشغال بمناقشة القضايا التاريخية، ونطالبهم بالتفاعل مع قضايا أمتهم وواقعهم المعاصر ومستقبلها).
حين تتحول هذه العناوين إلى مقدمات لا تتوافر على حساسية مرهفة في قراءة الواقع والتباساته، فإنها تعجز عن بيانه لأنها تعجز عن رؤيته، فتزيده التباسا، وتكون عرضة للاستخدام والتوظيف من قبل الأطراف المتصارعة، كما بدا الأمر من خلال بعض الجهات التي تلقفت خفة البيان بخفة في التوظيف.
البيان صادر عن سياق سياسي غير معلن، يرى في المحور الإيراني الشر كله، والمشكلة في مكمنها، وكأن أزمة الشيعة والعرب ستحل بمجرد انفكاكهم من المرجعية الإيرانية، وهذا ما تشي به عبارات البيان التي تكثر من استخدام كلمات الشيعة العرب وأوطانهم المحلية ودولهم الوطنية وولاؤهم لأوطانهم. وهذه نبرة قادمة من سياق سياسي، وليس من سياق ثقافي ولا اجتماعي ولا إصلاحي، والسياق السياسي محكوم بمصالح القوى المتصارعة لا برغباتها الإصلاحية. وهذا السياق يتخذ من التشكيك في الوطنية والولاء ذريعة لمهاجة خصومه السياسيين، تماما كما يستخدم المتدينون الكفر ذريعة لمحاربة خصومهم. ولا يليق ببيان إصلاح ديني يقع ضحية استخدام سياسي لا يعيه، وهذا بسبب التبسيط المخل أيضا.
في التبسيط أنت لست ضد الفكرة في ذاتها، لكن ضد أفقها وضد استخدامها وتوظيفاتها وضد نتائجها وضد ما تؤول إليه من تقريرات فجة. مثلا أنت مع فكرة إصلاح ديني ومع فكرة قراءة التكوين الداخلي التاريخي والعقائدي للطوائف، ومع فكرة تفكيك فكرة النيابة، ومع فكرة الحل العلماني، ومع فكرة تحرير السياسة من الدين. لكنك لست مع فكرة توظيف كل ذلك توظيفا سياسيا من قبل قوى متصارعة، ولست مع تبسيط كل ذلك بقراءته خارج سياقات الوضع السياسي والحضاري الملتبس في العالم العربي، ولست مع فكرة توظيف ذلك كإعلان حسن سيرة وسلوك أمام الآخرين، ولست مع فكرة تلفيق خطاب إصلاحي مفصل على وضع سياسي فاسد ومستبد ويعيد إنتاج الأزمات الدينية بأشكال مختلفة.
وهذا البيان بتبسيطيته الشديدة تجاه عناوينا الأهم في حياتنا، ينتج أزمة أكثر مما هو يوضح أزمة، وإحدى جوانب هذه الأزمة أنه جعل من خطابه برسم خدمة ورضاء السلطة السياسية من حيث يقصد أو لا يقصد، وأنه جعل من خطابه الإصلاحي خطاب تشهير وإدانة وإصدار أحكام تستثير ردود فعل مستفزة المشاعر. فعلى سبيل المثال قائمة الأحكام الشرعية التي يقول البيان ”لا نعمل ببعض الأحكام الشرعية التي يقول بها الفقهاء والتي ثبت أنها تخالف كرامة الإنسان وحقوقه الأولية، وهي كثيرة منها ما يلي: جواز الرق وملك اليمين واستعباد البشر .وغزو الشعوب والبلدان الأخرى بعنوان الدعوة إلى الإسلام، جواز الزواج من الطفلة الرضيعة والتمتع بها سائر الاستمتاعات وإرغامها بعد بلوغها على الجماع مع عدم أحقيتها في فسخ العقد”.
معظم الأحكام التي ذكرها البيان، هي جزء من تاريخ الفقه، وتعتبر هامشية وغير معمول فيها. وإبرازها في البيان، سيقرأ كنوع من التشهير وسيستثر الطرف المُشهّر به لوضع قائمة أخرى بالأحكام الفقهية التي تشهر الطرف الآخر وتحرجه.
http://alwaqt.com/blog_art.php?baid=8786