*زينب الطحان
تتمحور دراسات المؤرّخ الدكتور أنطوان الحكيّم حول تاريخ المشرق العربي عمومًا، ولبنان على وجه الخصوص، في ملفّات الأرشيف الفرنسي، وتحديدًا في القرنين التاسع عشر والعشرين. ساعده على التعمّق في هذا التخصّص وجوده لفترات طويلة في فرنسا، حيث نال أكثر من دكتوراه دولية في التاريخ والأدب الفرنسيين من جامعة السوربون، ودرّس في عددٍ من الجامعات الفرنسية.
لماذا اختار التخصّص في التاريخ المعاصر؟ لم يكن لهذا الاختيار سرّ محدّد، يقول الحكيّم. شجَّعه على دراسته تمكّنه من عدة لغات، اللاتينية واليونانية والسريانية والعبرية، إلى جانب اللغة الفرنسية، التي أضحت، بالنسبة إليه، بمثابة اللغة التوأم للعربيَّة.
في رأي الدكتور الحكيّم، إنَّ مجال البحث في التاريخ المعاصر واسع الآفاق، إذ إنَّ مصادره غنيَّة جدًا، وأرشيفه متوافر بكميّات هائلة، ولمّا يستثمر القسم الأكبر منه بعد، في حين أنَّ نصوص التاريخ القديم قليلة جدًا ونادرة، وعلينا الانتظار حتى تتوافر مخطوطات ووثائق جديدة، كي يُقبل المؤرخون على دراستها، فالنصوص المكتوبة مستثمَرَة، وعمل عليها الكثير من معظم المؤرخين والباحثين، ولا توجد إمكانية للتوسّع فيها إلا بشكل استثنائي.
مراكز الأرشيف في فرنسا
يقول الحكيّم: “عملت على جزءٍ من الأرشيف الفرنسي الموجود في مدينة نانت (Nantes) الفرنسية، وهو الأرشيف الذي كان محفوظًا في العاصمة بيروت. عندما فتحت أحد الصناديق، فوجئت بأنَّه لا يحمل رقمًا، ثم علمت أنه لمّا يخضع للتصنيف في جداول محدّدة بعد. عندها، عرفت أنّ ثمة صناديق لم تُفتح منذ العام 1920، فأي ثروة علميّة لا تزال مخبأة فيها!”.
بدأ أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية يتشكّل في العام 1793. قبل هذا التاريخ، كانت السفارات تابعة للبحريَّة، لأنَّ كلّ المراسلات كانت تجري عبر البحر، فلم يكن ثمة طائرات أو تلغراف، وكان هدف معظم القنصليات تجاريًا، كأن تفتتح قنصلية ما في إحدى المدن الناشطة تجاريًا. لذلك، كانت القنصليات ترتبط بالبحرية. وفي العام 1793، جرى فصل القنصليات عنها، مع وجود وزارة الخارجية، وبدأ الأرشيف يُحال إليها.
جزءٌ من الوثائق التي يعود تاريخها إلى ما قبل هذه المرحلة، تم نقلها من البحرية إلى الخارجية، لكونها تقارير عامة عن الأوضاع في الشرق الأوسط. يقول الدكتور الحكيّم في هذا المجال: “ما يهمنا هو أرشيف وزارة الخارجية. وإلى جانبه، يوجد قسم من الأرشيف ما زال موجودًا في السفارات والقنصليات، فقنصلية بيروت كانت تمتلك أرشيفًا، وكذلك قنصلية صيدا… هذا الأرشيف جُمع ووُضع في مركز نانت، بعد أن كان مركزًا عسكريًا قديمًا كبيرًا، وأُطلق عليه اسم “مركز الأرشيف الدبلوماسي”، ووُضع فيه أيضًا أرشيف البلاد التي كانت واقعةً تحت الانتداب أو الوصاية (الاحتلال)، أي تونس، المغرب، لبنان، وسوريا. أما أرشيف المستعمرات، كالجزائر وغيرها، فقد وُضع في مكان آخر، وكذلك أرشيف وزارة الخارجية”.
هناك أيضًا أرشيف الحربية، وهو أرشيف البحرية والطيران والجيش البري. هذا الأرشيف وُضع في جنوب باريس في حصن قديم تم تحويله إلى مركز للأرشيف، فإذا كنا نريد أن نعرف معلومات وحقائق عن تاريخ لبنان خلال حقبة الانتداب، وعن الثورات التي حدثت، من مثل الثورة الدرزية، والمعارك التي شهدتها المنطقة، وغيرها من التفاصيل، فإننا نجده في مدينة فانسان (Vincennes). أمّا القضايا الدبلوماسيَّة، فإننا نجدها في وزارة الداخلية، في حين تتوافر المراسلات المحلية للزعماء المحليين أو الضباط الذين كانوا يتمركزون في حلب في مدينة نانت.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ أرشيف التاريخ القديم الذي يعود إلى القرن السادس والسابع عشر موجود في باريس في مركز الأرشيف الوطني. ويتوافر الأرشيف المعاصر، فضلًا عن الأرشيف الرسمي، في أرشيف غرف التجارة، وهو مهمّ، ولا سيما بالنسبة إلى لبنان، فمدينة ليون (Lyon) اهتمت بتجارة الحرير، وكانت مرسيليا (Marseille) تعيّن معظم القناصل بهدف تحسين التجارة بين فرنسا ودول المتوسّط، فالتجارة آنذاك لم تكن تختصّ بتجارة لبنان، بل أيضًا بالتجارة الداخلية من حلب، ومن إيران أحيانًا.
خصوصية الأرشيف الفرنسي
يرى الدكتور الحكيّم أن الأرشيف الفرنسي، من بين كل المحفوظات الأوروبية لتاريخ المشرق العربي/ الشرق الأوسط، هو الأهم، فمحفوظات بريطانيا أو ألمانيا أو بلجيكا وغيرها لا يمكنها منافسة هذا النوع من الأرشيف. ويضيف: “لم نكن نحتفظ بأرشيفنا حتى فترات طويلة، بينما كانت القنصليات الفرنسية تحفظه بشكل يوميّ”.
لماذا يضمّ الأرشيف الفرنسي هذا الكمّ الهائل من الوثائق المتعلّقة بتاريخ منطقتنا؟ بالوثائق، يؤكّد الدكتور أنطوان الحكيّم أنَّ فرنسا هي أوَّل دولة أقامت علاقات دائمة مع الإمبراطوريَّة العثمانيَّة منذ مطلع القرن السادس عشر في عهد فرنسوا الأوَّل (1494 – 1547م)، وذلك مع السلطان سليمان القانوني (1494 – 1566م)، فتبادلا السّفراء، وكان سفير فرنسا في إسطنبول متقدّمًا على نظرائه جميعًا.
يومها، وُقّعت عهود الأمان لرعايا القنصليَّة وغيرها من القنصليات، وهي ليست إلا امتيازات، يراها المؤرّخ “تنازلات” من السّلطنة. تعود أصول هذه الاتفاقيات إلى القرن الخامس عشر، ويسمّيه العرب العهد الأول بين السلطان وملك فرنسا، ولكنّ الدكتور أنطوان الحكيّم يؤكّد أنَّ هذا الأمر الشّائع مخالف للحقيقة التي تثبتها الوثائق، إذ لا يمكن للسّلطان أن يقبل به، لأنه يعظّم ملك فرنسا ويعطيه مشروع دولة، فالعهد الأول هو مشروع أنجزه الصدر الأوّل في العام 1535 ولم يُنفّذ، ولكن النص الأصلي بقي موجودًا في السفارة في إسطنبول. وعندما وُجد، أُطلق عليه اسم “العهد الأول”، بينما جاء العهد الأساسي في أواخر القرن السادس عشر، وأعطى فيه السلطان امتيازات للفرنسيين بالإبحار والتجارة وزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين.. وإذا حدثت خلافات بينهم، يقوم القنصل الفرنسي بحلّها.
أسَّس الفرنسيون أرشيفهم بشكل متسلسل، فكلّ تقرير يتّخذ طابعًا سياسيًا يتمّ وضعه ضمن سلسلة معينة، وبحسب الترتيب الزمني. ومن ثم تأتي المراسلات القديمة، وهي سلسلة المراسلات التجارية، ذلك أنّ كلّ ما يتعلق بالبيع والشراء وغيره كان يقع ضمن سلسلة قديمًا… ثم تغيَّر هذا النظام، وأصبح تصنيف هذه المراسلات يجري بحسب الدول. إذًا، كان المعنيّون يعتمدون نظامًا معينًا في كلِّ فترة، وجاءت الحرب العالمية الأولى لتفرض تسلسلًا خاصًا بها.
ومما يلاحظ أيضًا، وجود سلسلة خاصة بالانتداب أو الاحتلال، كما أن جزءًا من وثائق الانتداب موجود في باريس بين المفوض السامي ووزارة الخارجية. أما الأرشيف الأهم، فهو الذي احتفظ به المفوض السامي هناك، لأن تقاريره اعتمدت على تقارير داخلية لم يكن يرسلها إلى باريس، فكان يقوم بتلخيصها ويرسلها إلى العاصمة. لذلك، فإن أرشيف المفوضية الذي كان في بيروت ونقل إلى مدينة نانت، مهم جدًا وغني بالتفاصيل مقارنة بالأرشيف الموجود في باريس.
يقول الدكتور الحكيّم: “يوجد في نانت وثائق من فترة الانتداب، أي من العام 1918 حتى العام 1939، وهي تتراوح بين 5500 و6000 صندوق. مثلًا، هناك سلسلة باسم المكتب السياسي موجودة في صناديق من الرقم 362 إلى الرقم 1250. كانت كليكيا (Cilicia) تابعة لفرنسا. وبسبب حروب مصطفى كمال (1881 – 1938م)، تم التخلي عنها. يوجد 233 صندوقًا عنها، ويوجد حول الشؤون الإدارية 28 صندوقًا، المكتب الدبلوماسي 582 صندوقًا، الأمانة العامة للمفوضية 120 صندوقًا، الأمن العام 125 صندوقًا، والمخابرات 436 صندوقًا”.
يعدّد الدكتور الحكيّم هذه الصناديق، ويضيف: “نحن نتحدَّث فقط عن الشرق الأوسط. وهناك أيضًا أفريقيا الشمالية والمغرب العربي، فالجزائر كانت مستعمرة، وأرشيفها موجود في مدينة إكس أبروفانس (Aix-en-Provence) بالأطنان. المغرب وتونس كانتا محميّتين. أرشيف المغرب وتونس موجود في نانت، لأنّ المحميات وبلاد الانتداب موجودة فيها. أما المستعمرات، فهي فقط في “إكس أبروفانس”، إضافةً إلى أرشيف وزارة الداخلية وأرشيف البحرية وأرشيف الجيش البري.
ويخلص الحكيّم إلى أن من الصعب حكمًا على أي باحث أو مؤرخ كتابة أي أمر عن تاريخ لبنان أو العهد العثماني من دون الرجوع إلى الأرشيف الفرنسي. وإذا أردنا الحديث بشيء من التفصيل علميًا، فإننا نرى أن أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية المتعلق بتاريخ لبنان في القرنين التاسع عشر والعشرين يقع على قسمين. الأول كان محفوظًا لدى الوزارة في (quai d’Orsay) في باريس، ثم نُقل قبل أعوام إلى مدينة (Lacourneuve) شمال العاصمة، والآخر موجود لدى مركز الأرشيف الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية في مدينة نانت.
الوثائق اللبنانية في الأرشيف الفرنسي
معظم الوثائق المتعلقة بتاريخ لبنان، والمحفوظة في باريس، تندرج في تسعة أبواب رئيسية. الأول هو مراسلات السفارة السياسية في إسطنبول: مجلداتها 563، منها 362 تحتوي وثائق القرن التاسع عشر، وهي ذات طابع عام، وتتطرق إلى قضايا تهم فرنسا وأوروبا في علاقاتهما مع السلطنة، ويعالج قسم منها المسألة اللبنانية من جوانبها كافة. الباب الثاني هو سلسلة مراسلات القناصل السياسية (Correspondance politique des consusuls)، التي تتضمن تقارير القناصل إلى الوزارة في باريس ومسودات أجوبة وتوجيهات كانوا يتلقونها، وهي تتناول شؤونًا سياسية داخلية وخارجية، يعالج قسم منها المسألة اللبنانية وتشعباتها، وخصوصًا أزمات الجبل في القرن التاسع عشر، والعلاقات بين الطوائف والشؤون الدينية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. هذه التقارير تتوقّف عند العام 1896.
السلسلة الثالثة هي المراسلات القنصليّة والتجاريّة (Correspondance consulaire et commerciale)، وفيها معلومات اقتصادية تتعلق بحركة المرافئ وأنشطة التجار الأوروبيين والصادرات والواردات والإنتاج الزراعي وحركة النقل والمواصلات والأوصاع الصحية والأمنية.
أما الرابعة، فهي سلسلة المذكّرات والوثائق (Memoires et Documents)، وهي على نوعين: تقارير ومراسلات عادية لا تتعدى بضع صفحات متنوعة المصادر والموضوعات، ودراسات مطوّلة أعدتها شخصيات مطّلعة على أوضاع السلطنة ولبنان بشكل خاصّ، وهناك عدد كبير منها مكرّس للأقليات والكنائس الشرقية بشكل عام، وللموارنة بشكل خاص.
القسم الخامس هو السلسلة الجديدة (1897 – 1914م)(Nouvelle Serie) . تضمّ هذه السلسلة 404 مجلدات مكرسة للسلطنة العثمانية، بينها 35 مجلدًا للبنان وسوريا وفلسطين، جمعت فيها المراسلات السياسية والتجارية.
أما السادس، فهو سلسلة الحرب (1914-1918)، التي تضم 170 مجلدًا مكرسًا للسلطنة العثمانية، من بينها 67 مجلدًا لسوريا ولبنان وفلسطين والحجاز.
وكانت سلسلة المشرق، سوريا ولبنان (1918 – 1939) (E-Levant, Syrie – Liban) تضمّ وثائق عما سمي بالانتداب، وهي القسم السابع.
ويتمحور الجزء الثامن حول وثائق الحرب العالمية الثانية في ثلاث مجموعات، سلسلة فيشي – المشرق (Vichy – Levant)، سلسلة لندن (Londres)، وسلسلة الجزائر (Alger). وأخيرًا، كان القسم التاسع، وهو وثائق أفريقيا والمشرق (Afrique-Levant)، ويضم وثائق حديثة لما بعد الحرب العالمية الثانية.
مصادر لكتابة التاريخ اللبناني
أما الوثائق المحفوظة في نانت، فهناك ثلاث مجموعات منها تتعلّق بموضوعنا. الأولى محفوظات السفارة الفرنسية في إسطنبول، وهي مجموعة ضخمة من 2200 مجلد، تغطّي الحقبة 1528 – 1914، وهي تعدّ من أغنى المصادر لكتابة تاريخ السلطنة بعد الأرشيف العثماني، وفيها مراسلات السفراء مع وزارة الخارجية في باريس والباب العالي ومراسلاتهم مع مختلف القنصليات المتواجدة على الأراضي العثمانية، من بينها قنصليات صيدا وبيروت وطرابلس. والثانية أرشيف قنصليات طرابلس وصيدا وبيروت.
ويشير الحكيّم إلى أنّ أرشيف قنصلية طرابلس فُقِدَ، ما عدا ملفات ضُمت إلى أرشيف بيروت، ونُقل أرشيف صيدا إلى فرنسا في العام 1932، وهو مؤلف من 37 مجلدًا تغطي السنوات 1585 – 1826. ويبقى الأهم هو أرشيف قنصلية بيروت، وقد نقل إلى نانت في العام 1969.
ويتابع: “استولى الأتراك على قسم منه خلال الحرب العالمية الأولى، وهو مؤلّف من 404 مجلدات بين 1639 و1948، وفيه مراسلات مع الوزارة في باريس والسفارة في إسطنبول ومختلف القنصليات الفرنسية المنتشرة في الجوار وقنصليات الدول الأوروبية الأخرى، وفيه آلاف الوثائق المتعلقة مباشرة بتاريخ لبنان، يعالج بعضها المواضيع السياسية، والبعض الآخر المواضيع الاقتصادية والمالية والديموغرافية والاجتماعية والتربوية، وفيه ملفات عن سكك الحديد والمرافئ وشركات المياه والمصارف ومكاتب البريد والآثار والمدارس والجامعات..
أمّا الثالث، فهو أرشيف الانتداب، وهو مشترك بين لبنان وسوريا، وقد نقل من بيروت إلى نانت في العام 1968، ويتكون من نحو 4500 صندوق يتضمَّن كلّ منها عددًا من الملفات التي تعالج مسائل لها علاقة بتاريخ البلدين سياسيًا، عسكريًا، أمنيًا، اقتصاديًا، ماليًا، ثقافيًا، ودينيًا… وهو مصدر أساس لكتابة تاريخ لبنان في النصف الأول من القرن العشرين.
حقائق يكشفها الأرشيف!
لا تزال في كتاباتنا التاريخية مسائل غامضة وأخطاء شائعة، يتحدَّث المؤرخ عن مسألتين منها، وثّقها الأرشيف الفرنسيّ. المسألة الأولى هي حماية فرنسا لمسيحيّي الشرق، فهل كانت مطلقة؟ في بعض كتب التاريخ اللبنانيّة أو العربيّة، ثمة انطباع بأنَّ الدول الأوروبية كانت تهبُّ، لأدنى سبب، لنصرة الطوائف المسيحيّة داخل السّلطنة، وأنها حمت بعض أبناء هذه الطوائف لإخراجهم من سلطة الدول العثمانية.
يقول الالحكيّم: “ولكن الحقيقة غير ذلك، فقد كان للحماية الدينية نوعان؛ أولهما حدَّده العثمانيون، بحيث لا يسمح السلطان للدول الأجنبية بحماية رعاياه من أهل الذمّة، والآخر رسمته الدول الحامية، ففرنسا لم تقبل الانجرار خلف مطالب مسيحيّي السلطنة، بل كانت تتصرَّف وفق مصالحها الخاصة، وبناء على نظرتها إلى الأمور، وهذا ما فعلته في العام 1840، حين ثاروا على إبراهيم باشا المصري، وظنّ القنصل الفرنسي في بيروت بورييه Bouree أنَّ عليه تبنّي مطالبهم ومساندتهم، فكتب بذلك إلى حكومته، ما أثار غضب تيير (Thiers)، رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة، إذ كان يستعد لخوض حرب ضد أوروبا مجتمعة، دفاعًا عن محمد علي وعن مركز فرنسا في الشرق، فكتب إلى بورييه رسالة تأنيب، بأن ما يقوم به لا يتّفق وخيارات الحكومة الفرنسية، وأنه يعالج الأمور من وجهة نظر ضيقة، لأن المُلِحّ ليس تأمين مستقبل الموارنة، بل معالجة المسألة الشرقية كاملة، وضمان المصالح الفرنسية العليا، فاستدعى تيير القنصل بوريه إلى باريس، وعيَّن مكانه ملواز (Meloizes)”.
أما المسألة الثانية، فهي تتعلَّق بالملك حسين، إذ يقال إنه كان يجهل مضمون اتفاق سايكس – بيكو قبل أن ينشر البولشفيك نصّه الكامل، فهل هذا صحيح؟ تؤكد الكتب التاريخية العربية أن اتفاق سايكس – بيكو ظلّ سريًّا، ولم يطّلع عليه زعماء العرب إلا بعدما نشر البولشفيك نصّه، لكن وثائق الأرشيف الفرنسي تقدم رواية مختلفة تمامًا، فتقول إن الإنكليز والفرنسيين في مطلع العام 1917 كلّفوا موقّعي الاتفاق المتعلق بالولايات العربية العثمانية، مارك سايكس (Mark Sykes) وفرنسوا جورج بيكو (François Georges-Picot) السفر إلى الحجاز، لإطلاع الملك حسين وأبنائه على مضمون الاتفاق. وقد وصلا إلى جدّة في 18 أيار/ مايو 1917، واجتمعا مرارًا بالملك حسين وأبنائه، وأبرق كل من جانبه رسالة إلى رئيس بلاده يعلمه فيه بتبليغ الملك بمشروع الاتفاق، وبأنه لم يظهر رد فعل يُخشى منها، كما اعتقدا.
ويؤكد الدكتور أنطوان الحكيّم أنَّ قوانين الاطّلاع على الأرشيف الفرنسي تقف عند محظورات محددة، فهناك وثائق يمنع أن تمسّ قبل 120 سنة، من مثل الوثائق المتعلّقة بحكومتي فيشي وديغول، والتي تثير الحساسية، وهي تخصّ الشعب الفرنسي، فيخشى المعنيّون أن تُثار البلبة مجددًا على خلفيتها.
ويختم قائلًا: “الوثائق التي نطَّلع عليها، تخضع لإشراف أشخاص متخصّصين بالأرشفة، فيطّلعون عليها أولًا، ويضعونها في الملفات. كما أنّ القانون يمنح صاحب كلّ وثيقة الحق في إزالة ما يريده منها، ما لم توضع بعد في متناول الجميع. يبدأ العمل في تبويب أولي يجري في القنصليات والسفارات، ويرسل بعدها إلى الأرشيف العام. وهناك يجري فرزها. الرسائل التي ترسل مباشرة من السفير إلى وزارة الخارجية، تمتلك السفارة نسخة عنها، والمحقق هنا عليه أن يطّلع على النسختين”.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: أرشيف الانتداب مصدر أساسي لكتابة تاريخ لبنان في القرن العشرين
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
*زينب الطّحان: أستاذة جامعيّة وكاتبة وصحافيّة لبنانية. تخصّصت في النّقد الأدبي والسّرد الروائيّ، وأعدَّت أطروحة الدكتوراه حول الهجرة والهوية في رواية “بدايات” لأمين معلوف. صدر لها كتابان حول آداب ما بعد الكولونيالية.
للتّواصل عبر الإيميل: riza_zein@hotmail.com
اقرأ أيضًا:
- الأرشيف الألماني يوثّق حقائق تاريخيّة عن لبنان لم تُكشف سابقًا
- جدليات تاريخية بنظرة مغايرة
- من الأرشيف المحلي إلى العالم.. وثائق تاريخيّة تُنشر للمرة الأولى
- ابن الحكاية الدرزية المتأصّلة منذ أيام الفاطميين
- حصاد الهجرة وأشتات الذاكرة
- المؤرخ حسن نصر الله.. من أعمدة بعلبك
- التّأريخ الّلبناني معظمه مختلف
- دار حفظ التراث البحراني..
- التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة”
- الشيخ الدكتور “جعفر المهاجر”
- العرائض السياسية البحرانية المفقودة في أرشيف الوكالة البريطانية
- القانون الفرنسي يمنع إتاحة الوثائق قبل مرور ستين سنة على تاريخها!