حي النعيم.. حسراتٌ في نفوس كرام
يثير الحديث عن “حي النعيم” في النفس الكثير من الذكريات الممزوجة بكمٍّ من الألم والحسرة. عرفت الحيّ مذ كنت طفلاً صغيراً في أواخر خمسينات القرن الماضي، حين قام جدي المرحوم الحاج حماد بن أحمد بن حماد بن علي بن سلطان بن حماد (المتوفى سنة 58م)، وهو أحد نواخذة الغوص المشهورين في قرية الدير، بالاتفاق مع أحد صناع السفن، على صناعة سفينة صغيرة “لنج” لصيد الأسماك.
كنت أرافق خالي كلّ فترة لزيارة موقع السفينة والاطلاع على سير العمل فيها. وكنت أشاهد عشرات الورش “العماير” لصناعة السفن، وأستمع إلى ضرب المطارق على المسامير بطريقة أقرب إلى عزف فرقة موسيقية. تطورت هذه العلاقة مع شرائهم سفينة أخرى أكبر حجماً، بعد بيع الأولى في منتصف ستينات القرن الماضي. وفي العام 1973م، قاموا بشراء سفينة أكبر، أطلقوا عليها اسم “الجامبو”، لأنها كانت أكبر سفينة في القرية.
لا زلت أذكر القلاليف الذين تعامل معهم جدي لصناعة السفن الثلاث؛ فالمرحوم الحاج أحمد بن عبد العزيز صنع السفينة الأولى في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، بينما تولّى المرحوم “أبو علي” صنع السفينة الثانية في ستينات القرن الماضي. وكانت السفينة الثالثة، من صنع المرحوم الحاج أحمد بن عبد العزيز.
ومن ذاكرة التاريخ، أنهم اشتروا من النعيم، في العام 1915م تقريباً، سفينة للغوص “جالبوت”، أطلقوا عليها اسم “الموتر”، نظراً إلى سرعتها، كما اتفقوا مع أحد صناع السفن، على صناعة “بوم” لصيد الأسماك في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، استمرّ العمل به إلى أواخر الخمسينات من القرن الماضي، ثم جرى تجديفه على الساحل بعد أن دخلت الآلات في سوق العمل، وأخذت شمس السفن الشراعية بالغياب.
والحديث عن “حي النعيم”، لا يخلو أيضاً من الحسرة والألم، ولا سيما عندما ترى تراث وطن وتاريخ شعب يضيع عمداً وعن سبق إصرار وترصد، في محاولة لسلب الشّعب ذاكرته؛ إنه أمر يثير الشجن والأسى، أن يُبعد الأصيل عن مهنته، ويتسلّط عليها المتطفّل الدخيل.
عرفت المنطقة هذه الصناعة منذ آلاف السنين، وانطلق منها صُنّاع السفن “القلاليف” إلى أكثر من منطقة في الخليج، من أشهرها الكويت، حيث أسهموا في بناء أكبر أسطول بحري تجاري في منطقة الخليج، استمرّ العمل به إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت نماذج من تلك السفن موجودة. وما احترق منها أثناء الغزو الصدامي للكويت، أعيد بناؤه بأمر من أمير الكويت الراحل، الشيخ جابر الأحمد الصباح. وللقلاليف في الكويت مكانتهم؛ فلهم ديوانية معروفة وقرية تراثية تحت إشراف الدولة، يزورها السّياح ليطّلعوا على سير عملهم.
لقد توفّر لمنطقة النعيم موقع مثاليّ ورجال حافظوا على هذه المهنة جيلاً بعد جيل. فعلى يمين النعيم، مرسى للسفن شمال المنامة، قبل إنشاء الفرضة بمئات السنين، حيث كانت اﻷخشاب تُجلب من الهند ومن السواحل الشرقية للقارة اﻷفريقية. وتقع في شمالها مزارع شارع البديع، التي تمدّ ورش صناعة السفن بالكثير من الأخشاب التي تستخدم في عملية الربط “الأضلاع”، مثل “الشلامين” و”العطف”، وهناك سوق الحدادة في المنامة، يمدّهم بما يحتاجونه من مسامير وقطع حديدية أخرى. كلّ ذلك جعل من النعيم مصنعاً يزوّد البحرين وغيرها الكثير من مناطق الخليج، بشتّى أنواع السفن، على اختلاف أحجامها واستخداماتها.
النّعيم قطعة ذهبيّة من تاريخ هذا الوطن الغالي، لا بدّ من كشف كنوزها والحفاظ على تاريخها، وخصوصاً في هذه المرحلة؛ مرحلة التزوير وقلب الحقائق، والوضع والتدليس!
__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: حي النعيم.. حسراتٌ في نفوس كرام
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- شريط مار مخايل بالأسود والأبيض
- نهايات النّبع الكبير
- عن صورة تُكَوِّن نفسها في زوايا الذاكرة: “معتقل أنصار”
- حي الأميركان.. ذاكرة شفهيّة حيّة
- قصصٌ من “ذاك المكان”
- مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد
- من يملك ذاكرة الأرض؟
- بيروت القديمة استقلَّت الترامواي ورحلت إلى اللاعودة
- التأريخ بالصّور: الشّوير وبيروت مثالًا
- سند.. قصّة أرض بحرينية طيّبة
- المنامة مشي وسِيَر وصور ودكاكين
- سيهات …نورس يطلّ علينا من قلب القطيف
- “الدير” في صورة
- بيت جدي