قصصٌ من “ذاك المكان”

قصصٌ من “ذاك المكان”

*ريان الرمّال

لا تستطيع أن تذكر كلمة سجن في لبنان إلا وتتبعها فورًا بكلمة “رومية”. منسيّة هي السّجون الاثنتا وعشرون الأخرى. “ذاك المكان” نتجنّب الحديث عنه، كتجنّبنا ذكر “ذاك المرض”، لا لشيء، سوى أنّنا نظنّ أنّ تكتّمنا عن “المحرّمات” يبعد ظلّها القاتم عنّا.

يحاول الباحث والمحامي عمر نشّابة أن يُوثّق، للمرّة الأولى، صورًا وتجارب من السّجون اللّبنانيّة الثّلاثة وعشرين. هذه الفكرة بيّنة وواضحة في تقديم الوزير زياد بارود (تولى وزارة الداخليّة والبلديات المولجة إدارة السجون بين الأعوام 2008 و2011): “ربما كانت المرة الأولى التي تتم فيها مقاربة السجون وأوضاعها بهذه الدرجة العالية من العلميَّة والتخصّص والشّمول”.

زار المؤلف السّجون اللّبنانيّة بين العام 2010 والعام 2011، وجمع كمًّا من المعلومات حول وضع كلّ سجن على حدة، فكان “ذاك المكان” (دار الكتب) كتابًا مرجعيًا توثيقيًا، يتضمَّن بيانات وأرقامًا وتفاصيل مصدرها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ومواد وتشريعات ومراسيم قانونية من الدستور اللبناني، ووقائع عن أوضاع المساجين وظروفهم، رصدها خلال زيارته الدورية للسجون، مرفقةً بصور توثيقية باللون الأبيض والأسود وأخرى ملونة، التقطها المصور هيثم الموسوي، وهي المرة الأولى التي تُنشر فيها صور من داخل السجون اللبنانية كافة.

“يقال إن أحدًا لن يعرف أمة حقًّا حتى يدخل سجونها”، بهذا القول لنيلسون مانديلا، يفتتح كتابه. لا يأبه نشابة بمحرّماتنا، فيُواجهنا بصور قاسية لجدران مهترئة من الرّطوبة، لغرف لا تدخلها أشعّة الشّمس، لخمسة وعشرين سجينًا ينامون “رأسًا وذنب” على فرش لا أسرّة، في غرفة ضيّقة. من سجن النّساء، ينقل لنا مشهدين. امرأة امتلأ بطنها، وأخرى تحمل رضيعها بين يديها مع نقص واضح في الممرّضات والمرافقة الطّبيّة. يُرافق كلّ هذه الصّور وصفٌ دقيقٌ بأرقام المديريّة العامّة لقوى الأمن الدّاخليّ عن عدد السّجناء الفعليّ مقارنةً بقدرة السّجن الاستيعابيّة، وعن الظّروف الحياتيّة والصّحيّة للمساجين.

تبلغ مساحة سجن جزّين مثلًا 454م2. يستوعب الأخير، بحسب المديريّة العامّة، خمسةً وخمسين سجينًا، أمّا عدد نزلائه الفعليّ، فخمسةٌ وأربعون. السّجن عبارة عن غرفة واحدة، لا تحوي رفوفًا تحمل أغراض السّجناء، ولا غرفة يغسل فيها هؤلاء ثيابهم، ما يضطرّهم إلى الاستعانة بعائلاتهم لهذه الغاية. تنبعث من السّجن رائحة كريهة منفرة، لأنّ الشّفّاط معطّل. فلتر المياه أيضًا لا يبدّل. لا خيار أمام السّجناء إذًا إلا شراء مياه الشّرب على حسابهم الشخصي.

يبدو سجن جزين بكلّ ظروفه القاسية، نزلًا أمام سجن رومية، الذي لا يدين بشهرته فقط لقربه من العاصمة و”لمركزيته”، بل لكونه يضمّ أكبر عدد من سجناء لبنان، إذ تبلغ مساحته 3470 م2، مع قدرة استيعابيّة قد تصل إلى حد ألف سجين في حالات الذّروة. يضم السّجن اليوم خلف جدرانه ما يناهز ثلاثة أضعاف قدرته من السجناء، ما يضعه على رأس قائمة السّجون الأكثر ازدحامًا في لبنان. يترتّب على ذلك طبعًا، نقص في عدد الحرّاس، وبالتالي فقدان السّيطرة على المساجين، وإهمال خدماتيّ واضح.

لا يريد نشّابة من خلال الكتاب، أن “ينوح” على حال السجناء، ولكنه يريد أن يُقدّم طروحات واضحة وعمليّة لحلّ بعض مشاكل السّجون اللّبنانيّة. في تقديم وزير الداخلية (الأسبق) قد تبدو الغاية أكثر وضوحًا. يقول بارود: “حسبُ المؤلّف أنّه أضاء، بجرأة وبصورة علميّة، على واقع يرغب كثيرون في التعمية عليه. حسبُه أنّه يَعرف “ذاك المكان” معرفة الخبير المُلّم الموضوعي الرصين، وها هو ينقلنا مِن وإليه، مِن حيث هو راهنًا إلى حيث يجب أن يكون… يومًا”.

يطلّ الكتاب سريعًا على مشاكل هذه السّجون التي لا تتطابق والمعايير العالميّة. يُرجّح نشابة أسباب ذلك، فضلًا عن التّقصير الواضح، إلى الازدحام الخانق الذي يُصعب أيّ مساعٍ جدّيّة لرفعها إلى مستوى أفضل، فيقترح بناء سجون جديدة لمعالجة هذه المشكلة جذريًّا.

بعد جولته في السّجون اللّبنانيّة، يشير نشابة إلى أنّها بحاجة إلى “عمليّات تأهيل كبرى، بعدما باتت البنى التّحتيّة وكل الشّبكات والتّمديدات الصّحيّة والكهربائيّة والمائيّة متآكلة ومهترئة، ولا تفي بالحاجة المطلوبة”. يقوم الكاتب بمقارنة بين المراسيم القانونيّة ومفارقاتها على الأرض، فيظهر أنّ أغلب القوانين لا تُطبّق بالشّكل المرجوّ، كبرامج التّأهيل والتّعليم والعمل، فبينما تحترم القوانين حقّ السّجناء في أن يكونوا “أحرارًا” فكريًّا، نراهم يُسجنون “عقليًّا ونفسيًّا”، فالمكتبة ليست مجهّزة كما يجب لتشكّل نواة معرفيّة داخل السّجن، ولا يوجد مشاغل لاستثمار الوقت الضّائع في عمل منتج قد يهذّب أحيانًا سلوكًا عدوانيًّا، وليس ثمة باحة للتّنزّه وممارسة الرّياضة قد تنفّس غضبًا مكبوتًا. الحرمان هو العامل الذي تتشارك به كل السّجون وناسها.

يلحظ نشّابة إلى أيّ مدى تختلف القوانين عن الواقع في السجن، فعلى إدارة السّجن مثلًا انتداب عدد من المدرّسين التّابعين لوزارة التّربية الوطنيّة والفنون الجميلة، لإعطاء دروس داخل السّجن، وتعليم مادّة الموسيقى، بالتّعاون مع المعهد الوطنيّ للموسيقى. كلّ ذلك بعيد عن أرض الواقع، والصّمت هو الموسيقى الوحيدة التي تُسمع وراء القضبان.

لعلّ أبرز ما يلفت في الكتاب هو صور عدسة المصور هيثم الموسويّ، التي لا تلتقط فقط كليشيهات السّجون والأمور المعتادة فيها (الوشوم على جسد السّجناء، الغرافيتي، الكتابات على الجدران)، بل تُدخلنا بعينها الخاصة إلى زوايا سجن جبّ جنين مثلًا، حيث يحمل سجين في مطلع العشرينيات قفصًا صغيرًا لبلبل. تصدمنا صورة بلبل في قفص داخل زنزانة! في سجن زحلة، سجين صنع نرجيلته من وعاء شفّاف مثقوب. وفي سجن النّساء، سيدتان في الثّلاثينيّات، بأظافر أقدام مطليّة بلون بارز. إحداهنّ تضع مساحيق التجميل لصديقتها.

في الكتاب أيضًا فصل أشبه ما يكون بتسريب لمذكّرات السّجناء الخاصّة، لكنه في الحقيقة “مقتطفات من شهادات شفهية ومكتوبة للبعض منهم في عدد من السجون في مختلف المحافظات، جُمعت بين العام 2007 والعام 2010”. فيه مثلًا “قصيدة” لعلي من سجن “جبّ جنين”، يقول فيها:

هدوء مرعب

حشرات وحيوانات صغيرة وكثيرة

تجري من حولي ومن فوقي

وداخل ملابسي

رائحة نتنة كرائحة الموت

حرارة شديدة

هواء لا يتغير

لا بدّ أنهم أخطأوا، فأنا لم أمت بعد

إنّها ليست زنزانة حبس انفراديّ

إنّها قبري

يروي سجين آخر من المبنى “دال” في السّحن المركزيّ في رومية، كيف وجد صرصورًا في الأرزّ. أمّا حسين من سجن النّبطيّة، وهو محكوم بتهمة اتجار مخدرات، فيُهرّب هاتفًا و”كروتة تشريج” (بطاقات لشحن الهواتف)، ليتّصل بحبيبته خارج السّجن.

ينقل نشابة مروياتهم حرفيًا، وبما ورد فيها من أخطاء. ويقول: “لم يتم التأكّد من صحة المعلومات التي تضمنتها هذه الشهادات. ومن المعروف أن السجناء يبالغون أحيانًا في وصف أوضاع السجن وطريقة تعامل الضابطة معهم، لكن هذا لا يلغي حقهم في نقل وجهة نظرهم من الظروف التي يعانون منها”.

يرينا نشابة بعدسة المصور الموسويّ وجهين للسّجون اللّبنانيّة، الأوّل باتت معالمه مألوفة؛ جدران متآكلة من الرّطوبة، مرحاض يُجاور أواني الأكل، حمّامات مظلمة ومهترئة. أمّا الوجه الآخر، الباعث على الأمل، ولو قليلًا، فيتمثل في صور لمكتبة متواضعة وسجين يقرأ، صورة خيّاط داخل السّجن، يجلس في مشغل وحوله أنسجته، وآخر يمسك بفخر سفينة خشبيّة يدويّة الصّنع. لا مهرب أمام الكاتب ذي الخلفيّة الحقوقيّة من أن يُضيء على الكثير من القوانين والمراسيم المتعلّقة بالسّجون، ليظهر حجم الهوّة التي تُبعد التّشريعات عن الحقيقة.

لا يكتفي مؤلّف الكتاب بملاحظة سطحيّة لأوضاع السّجون، بل يستخدم ما جمعه من معطيات ليقوم بعدّة توصيات لتحسين حالتهم: تمييز الموقوفين من المحكومين، وضع قانون جديد لتنظيم السّجون، بناء سجن مركزيّ في المحافظات اللّبنانيّة كافة، انتقال مسؤوليّة السّجون من المديريّة العامّة لقوى الأمن الدّاخليّ إلى مؤسّسة عقابيّة متخصّصة، كوزارة العدل.

“ذاك المكان” (دار كتب) ليس كتابًا معتادًا في بيئتنا، فقد جاء مزيجًا من مجموعة صوريّة، ورسائل من المساجين أنفسهم، وكثير من المعلومات الميدانيّة الدّقيقة عن سجون لبنانيّة تُدرس للمرّة الأولى، فضلًا عن القوانين والمراسيم الناظمة للسجون، منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم!

__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: قصصٌ من ذاك المكان

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  6 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>