من يملك ذاكرة الأرض؟
في المدوّنات التاريخيّة، يكتب المؤرخون تاريخهم وتاريخ المؤسَّسات التي ينتمون إليها، ويمارسون تسوية الأحداث وتدويرها لتصبح صورة واحدة على مقاس تصوراتهم ومواقفهم، فالتاريخ الذي تعرضه الكتب، ليس مادةً خامًا بالضرورة، بل هو حزمة تفسيرات وإضافات، يقدّم من خلالها المؤرخ ما يشغله ويثيره، ويعكس فيها ما يراه ويؤمن به.
تستطيع المدوّنات التاريخيّة أن تهبنا النظر إلى حقبة ما، لكنها، في النتيجة، نظرات صغيرة، على غرار الناظر من ثقوب الخيمة، ضيّق المنهج، وضيّق الزاوية، وضيّق الرؤية الإيديولوجيّة التي تزيح الكثير عن مشهد الحقيقة، وهو ما يجعل من الكتابة التاريخية مختبرًا للأفكار أكثر منه للحقائق، هو تاريخ النخبة إن شئنا التمييز بينه وبين تاريخ الناس العاديين، وهذا الأخير غالبًا ما يندرج ضمن التاريخ غير المكتوب، والمهمل، والمنسي، الذي يبقى غالبًا تاريخًا شفهيًا يتداوله الناس، باعتباره روايةً بديلةً أو سيرةً أخرى للمجتمع والناس.
الخروج من سطوة التواريخ المهيمنة والبحث عن الموضوعات المنسيّة، كانا المحرّض للذهاب باتجاه توثيق التاريخ الشّفهيّ واستدماجه ضمن المدوّنات التاريخية، فالذاكرة الشفهية هي ذاكرة حيّة بطبيعتها، لأنها تتّصل برصد نبض الناس، بالانفتاح على زوايا ذكرياتهم، وسردها بنحو شفيف، ما يهبها طراوةً وحياةً متجددةً، فالماضي يصبح حاضرًا في لحظة البوح، وتصبح الحقب والأزمان متَّصلة بعضها ببعض.
هذه المرويات التي تتناقلها العوائل والجماعات جيلًا بعد جيل، وهذا الخزين من الخبرات الإنسانية التي يحفل بها كل مجتمع، هما مادة الذاكرة الشفهية، فهي كمشروع تتقصَّد توثيق التاريخ، من خلال الاتكاء على ذاكرة الأفراد، عبر إدراكاتهم وطرق تفاعلهم مع الحدث التاريخي الذي عاشوه، وربما شاركوا في صناعته.
لم تعد “الذاكرة الشَّفهية” معنيّة فقط برصد اللحظات الغائبة عن التدوين، بل هي معنية أيضًا باستحضار الناس العاديين، وجعلهم ضمن الشهود على تحوّلات الحياة، من أجل منحنا فرصةً لفهم أفضل وتفسير أكثر عمقًا للماضي، وهذا ما يهب ذاكرة الناس الشّفهية امتياز السّعة والتنوّع والقرب من روح الأحداث، ويجعلها، على حدِّ وصف البعض، موعدًا مستحقًا لمزيد من الديمقراطية في كتابة التاريخ، فالناس بهذا النحو شركاء في كتابة تاريخهم، الَّذي هو في مجموعه تاريخ حياة وتاريخ جماعة وتاريخ الأرض.
في المجتمعات المتحوّلة، والمجتمعات التي تشهد تهديدًا لذاكرتها، تصبح الذاكرة الشفهية واحدة من الأدوات التي تتحصَّن بها في مواجهة الوقت ومواجهة الآخرين، ويصبح الرواة الشفهيون سدنة الذاكرة وحراسها الأمناء، فهي، وإن بدت محاولة لموضعة المجتمع على خطِّ تجربة الفرد، إلا أنَّها نافذة أرحب لاستيعاب المزيد من الأفراد وتحويلهم إلى أبطال للذاكرة.
وبمثل ما سهَّلت تقنية الكاسيت مهمَّة تسجيل هذه الذاكرة وإدراجها ضمن مواد الأرشيف في السبعينيات وما بعدها، ستساهم الكاميرا الرقمية اليوم، بكلِّ إمكاناتها، في التحريض على توثيق هذه الذاكرة ورصدها، حيث تحظى الذاكرة الشفهية بمشاريع مهمَّة في دول مختلفة على مستوى العالم، كمادة خام لدراسة التاريخ والتحولات الاجتماعية، بالإفادة من أصوات المشاركين في هذا التاريخ والحاضرين في متنه. كما يجري استثمارها في الدراسات البحثيّة والعلميّة لأكثر من فرع من فروع العلوم الإنسانية، فسرديات الناس مادّة خصبة لاستكشاف الحياة والتعرف إلى تفاصيلها.
هناك الكثير من الوثائق التي ستضيع، وأخرى ستُتلف، ومثلها سيصبح عرضةً للمصادرة. وفي التجربة الفلسطينية ومحاولات جرف الذاكرة، خير مثال على الممارسات القهرية التي لا تغتصب الأرض وتحاصر الإنسان في هذا البلد المحتلّ فحسب، لكنّها تحاول أيضًا احتلال ذاكرته ومصادرتها، وإعادة كتابة هذه الذاكرة ضمن رؤية المحتلّ، الَّذي يمتلك اليوم جزءًا كبيرًا من أرشيف فلسطين، ويسخِّر الإمكانات لتوثيق كلّ شيء، ورصد كلّ شيء ضمن مؤسَّساته الرسمية التي تحتضن مراكز عدة للأرشيف، بينما تبدو ذاكرة الفلسطيني اليوم، إما بعيدة عن التوثيق وإما خاضعة لمبادرات صغيرة أو متعثّرة.
في ظلِّ غياب المدوّنات التاريخية للتغريبة الفلسطينيّة، تجلَّت الذاكرة الشفهية كمصدر مهمّ لاستعادة ذاكرة النكبة والفصول الأولى للمعاناة التي لا تشبه إلا عمليات التّطهير العرقيّ. من هنا، انطلقت تجربة “فلسطين في الذاكرة”، لجمع شهادات حيّة من الوجوه التي عاصرت النكبة؛ شهادات تحارب بها النسيان والتضليل، وتمنح الباحثين والمهتمين فرصة الاطلاع على فصول الوجع الفلسطيني في القرى التي دمّرتها بربرية المحتل. وبالمثل، انطلقت تجربة البروفيسور مصطفى كبها في “ذاكرة مكان”، واشتغالاته المتعددة على مستوى التاريخ الشفهي لفلسطين، والإصدارات التي تناولت وجوه ثورة ١٩٣٦م، ودفعت إلى استرداد صدارة القرى في مشهد التاريخ، في مقابل التهميش الذي نالهم من سيرة كتبها أبناء أعيان المدن وأحفادهم، على حدِّ وصفه.
هناك أيضًا محاولات متعدّدة على مستوى العالم اليوم لاستعادة سرديات المرأة واستدماجها ضمن بنية الكتابة التاريخية التي تَسيَّدَها الرجل، وهي تأتي في سياق المبادرات التي أطلقتها الحركات النسويّة، لتكون بذلك نصوصًا منها وعنها، كاشفة عن حضورها الإنساني وخبراتها في الحياة، أي أنها ممارسة لا تخلو من مقاومة لأشكال الاستبعاد الدائم لها من ساحة التدوين التاريخي، الّذي انتهى بها إلى هامش النصوص، وجعل سيرتها بعيدة عن التداول.
لعلّ حقبة التحوّلات التي مرت سريعًا بالمنطقة كافية للتحريض على تدوين ما أسميه “ذاكرة الأرض”؛ تلك السرديات التي تتصل بالمكان الَّذي كان عنوانًا لألوان ثقافية واجتماعية واقتصادية معيّنة، فأصبح يحمل عناوين جديدة بعد حقبة النّفط الَّتي ردمت الكثير من الصور الماضية وجرفتها، وأحالت المكان صورةً متحوّلةً عنها وعن أفعال التحديث التي أخرجتنا من طور إنسانيّ إلى آخر.
هذه المنطقة بحاجةٍ إلى مبادرات جادة تؤسِّس لأرشيف يدفع حكايا الناس من الهامش إلى المتن، ويحفظ للأجيال القادمة شهادات عن الحياة التي نهضت من هذه الأرض، وعن الأحلام التي تُركت وحيدة في مهبِّ التحولات، وعن صورة التحديات والصعوبات في أطراف الواحات المفتوحة على مواسم الحصاد، ومواسم النّهب أيضًا.
إنّ الَّذين كتبوا سطور الحياة في هذه الأرض، لا ينبغي أن يمضوا بِصَمْتِهم دون أن يسردوا للآخرين آثار خطوهم عليها، فالتاريخ يُكتب ناقصًا دائمًا، لأنه لا يخرج من عباءة الناس، ولا ينتمي بالضَّرورة إلى الأرض، فهناك من يكتب ويمحو من سطور هذا التاريخ، ليهبنا مسودّات ناقصة عن سيرتنا، وسيرة الزرقة والخضرة التي تلفّ بنا.
_______________________
المراجع:
1- صالح عبد الجواد، لماذا لا نستطيع كتابة تاريخنا المعاصر من دون استخدام التاريخ الشفوي؟ مجلة الدراسات الفلسطينية – العدد ٦٤، خريف ٢٠٠٥.
2- حوار “وجهًا لوجه مصطفى كبها”، مقطع فيديو على يوتيوب، ٢٠١٥.
__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: من يملك ذاكرة الأرض؟
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- شريط مار مخايل بالأسود والأبيض
- نهايات النّبع الكبير
- عن صورة تُكَوِّن نفسها في زوايا الذاكرة: “معتقل أنصار”
- حي الأميركان.. ذاكرة شفهيّة حيّة
- قصصٌ من “ذاك المكان”
- مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد
- بيروت القديمة استقلَّت الترامواي ورحلت إلى اللاعودة
- حي النعيم.. حسراتٌ في نفوس كرام
- التأريخ بالصّور: الشّوير وبيروت مثالًا
- سند.. قصّة أرض بحرينية طيّبة
- المنامة مشي وسِيَر وصور ودكاكين
- سيهات …نورس يطلّ علينا من قلب القطيف
- “الدير” في صورة
- بيت جدي