الباحثة المتخصصة في الأرشيف الفرنسي الدكتورة ليليان زيدان:
القانون الفرنسي يمنع إتاحة الوثائق قبل مرور ستين سنة على تاريخها!
هي أستاذة تاريخ في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية – فرع الفنار، وقريبة المؤرخ والروائي اللبناني جرجي زيدان. فتحت الدكتورة ليليان زيدان عينيها على كتبه، قرأته بشغف، حتى زرع فيها روح القومية، وخصوصاً أنها من جيل الحرب التي راكمت عندها وعياً ثقافياً خاصاً بأهمية التاريخ، فكانت رحلتها مبكرة في الاطلاع على أهم السير التاريخية لقادة ورؤساء وزعماء. لا تزال تذكر كيف وقع كتاب “كفاحي” بين يديها، لتتعرّف إلى مسار الحروب، وكيف يرسمها الكبار، في حين يدعون أنّهم يصنعون العالم.
تخصَّصت زيدان في الأرشيف الفرنسيّ، وكانت رسالة الماجستير تحمل عنوان “لبنان في العهد الفيصلي تحت الانتداب الفرنسي 1918 – 1920م”، فيما كانت أطروحة الدكتوراه بعنوان “تطور الحياة السياسية والدستورية في لبنان تحت الانتداب الفرنسي 1926 – 1934م”.
البداية من الإرساليات الفرنسية
تتبَّعت زيدان الأرشفة التاريخية للحقبة التي سبقت الاحتلال الفعلي للبنان. كانت الإرساليات التبشيرية الفرنسية سابقة على وجود الاستعمار آنذاك، وكانت سوريا الكبرى تعجّ بمثل هذه الإرساليات، وكان جبل لبنان متخماً بالعديد منها.
يؤرخ الأرشيف الفرنسي وفق مراحل عديدة، إذ بدأت علاقات فرنسا بلبنان مع تلك الإرساليات في شكلها الديني، وكان يتخللها التبادل التجاري والاقتصادي، إلى جانب العلاقات السياسية وما فيها من مراسلات، والرحالة الَّذين خلّفوا وراءهم حكايات ونوادر صارت كلها اليوم وثائق تاريخية.
لا تفصل زيدان بين التغيرات التي أرستها الإرساليات في البنى الاجتماعية والدينية والعلمية، ودور العثمانيين في البلاد وإدارتهم لبلاد المشرق العربي، إذ إن نظام الملل الذي حافظوا عليه ساعدهم بشكل كبير على المحافظة على الطوائف من مختلف الأديان والثنائيات، فبقي الناس على مللهم، وكانوا يدفعون في المقابل الضريبة أو الجزية لتغذّي الإمبراطورية العثمانية جيشها وحروبها، وكان كبير كلّ طائفة أو إثنية يقوم بجمع الضرائب من مختلف الأقاليم التي راحت تتوسّع بفعل تلك السياسة المالية. في قلب هذا المحيط، كان لبنان يشبه “الموزاييك” من ناحية تركيب الطوائف، وكان بوابة الشرق في القرن السادس عشر، وكانت شطآنه مشرعة للسفر والترحال.
بدأ الأرشيف الفرنسي يتأسَّس مع الإرساليات التابعة لفرنسا، من بينها الإرساليات اليسوعية والكاثوليكية والإنجيلية، وكان لكل إرسالية أرشيفها الخاص، منذ لحظة وجودها في ربوع جبل لبنان إلى حين رحيلها، وبعضها تحوّل إلى جامعات وصروح علمية (جامعة القديس يوسف/ اليسوعية – الجامعة الأميركية في العاصمة بيروت).
تقول الدكتورة زيدان إنّها تعقّبت هذا الأرشيف، حتى وصل بها الأمر إلى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ومن ثم قادها إلى النمسا وإيطاليا أيضاً، فلم يكن الأرشيف في القنصليات كافياً لتشكيل فكرة مكتملة حول تلك الحقب التاريخية، ما اضطرها إلى السفر للبحث عن رسائل سياسية وإدارية كان يرسلها هؤلاء الدبلوماسيون إلى حكومات بلادهم. عندها، وجدت تناقضاً بين دفتي هذا الأرشيف الغربي.
كان حق الاطلاع على تلك الوثائق مقيداً دوماً، فكلّ بلد له رؤيته القانونية في الحفاظ على الأرشيف وإتاحته؛ ففي فرنسا، يمنع إتاحة أية وثيقة قبل ستين سنة على تاريخها، كي يضمن ذلك على الأقل ألا تثار أية مشكلة عند الكشف عنها، وخصوصاً إذا كانت تتعلق بكشف حقيقة موقف ما كان غامضاً، أو إذا كانت تؤكد تورط أحد الأطراف في أزمة شديدة تعرض لها هذا البلد أو ذاك.
وفي الأرشيف الفرنسي أيضاً، لا يمكن الإفراج عن أي وثيقة، أو السماح لنا، نحن المؤرخين، بالاطلاع عليها، ما لم توافق الوزارة المعنية بالأرشيف. تقول زيدان: “قضيت في فرنسا سنتين أقرأ في هذا الأرشيف بشكل مرهق يومياً، حتى أعثر على ضالتي”.
الأرشيف يصنع التاريخ
من المراحل التي تتبَّعتها الدكتورة زيدان في الدراسة، مرحلة “وهن الإمبراطورية العثمانية”، حين ساهمت الأقليات في تدخل الدول الغربية بامتياز حصلت عليه لحماية تلك الأقليات والطوائف. في تلك الأثناء، تعالى الإحساس بالقوميَّة، وكانت كل قومية أو إثنية تحتمي بالقوى الكبرى التي حفرت لها مكاناً بين أقاليم الأمبراطورية، وهو ما سهّل تقسيم أراضي الإمبراطورية. تقول زيدان: “ما أريده قوله إنَّ الكثير من وثائق الأرشيف الفرنسي اليوم كشف الكثير من مجريات تلك الحقبة، سواء السياسية منها أو الأمنية”.
وجدت زيدان في الوثائق أنَّ الإرساليات الكاثوليكية كانت حريصة على علاقتها بالموارنة بشكل وطيد يتوافق والمسألة الشرقية. ومع انهيار الإمارة في جبل لبنان، قويت شوكتها، وأدت دوراً كبيراً، رغم أن ملامح هذه العلاقة بدأت ترتسم مع الحروب الصليبية منذ أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، وغيرها، كما تؤكّد الوثائق، ووصلت إلى الذروة في القرن التاسع عشر، عندما أصبح لدى الغرب مخططات للهيمنة على الشرق.
اليوم، نحن نفهم معظم تلك الأحداث من خلال الوثائق، إذ نعلم أن الإمبراطورية العثمانية ما كانت إلا حاجزاً أمام الروس الأرثوذوكس الذين كانوا يطمعون بالوصول إلى مياه دافئة، مثلما نشاهد اليوم، فعندما كانت تلك الإمبراطورية تعاني الضعف والوهن، أراد الغرب التدخل بواسطة تلك الامتيازات الدينية وغيرها. واللافت أنَّ الوثائق الفرنسية أيضاً تلفت إلى أن بريطانيا عندما وصلت إلى جبل لبنان، عرضت على الموارنة الحماية، ولكنهم رفضوا ذلك، لأنها كانت مسيحية إنجليكانية، ولم تكن كاثوليكية، وهم كانوا أكبر طائفة في جبل لبنان في القرنين الثامن والتاسع عشر.
توضح الدكتورة زيدان العلاقة بين الأرشيف والتاريخ بالقول: “نحن هنا نتحدَّث عن مصادر أولية، يُدوّن على أساسها التاريخ لدولة أو شعب ما. وأرشفة التاريخ علم يتعاطى مع الحقيقة/ الحدث على أنه معادلة رياضية، فعندما نبحث في تاريخ الماضي البعيد، فإننا بحاجة ماسة إلى معلومة تبيّن الأحداث التي جرت في الحقبة التي هي موضوع بحثنا. من هنا، فإنَّ التاريخ بصفته علماً هو مختبر هذا الباحث الذي يلهث خلف المعلومة/ المصدر، والمصدر هنا يختلف بحسب الفترات الزمنية المتعاقبة، ولكن الأولوية دوماً للوثيقة المكتوبة. من هنا، يبدأ دور الباحث في المراحل التاريخيّة”.
ولكن كيف يميّز الباحث التاريخي بين الحقيقة والأسطورة؟! تقول زيدان: “نعتمد الغربلة، إن صح التعبير، فعلينا البحث عن خبر/ مصدر آخر، وثانٍ وثالثٍ ربما، واللجوء إلى منطق ترابط الأحداث التاريخية، والمقاربة بين الأحداث المتشابهة في المنطقة ذاتها. كل ذلك يساعد على التحقق من صحة هذا الخبر / المعلومة التاريخية، إذا كان حقيقة أم أسطورة! إضافةً إلى ذلك، هناك القراءة المعرفية المستحدثة لكلّ أثر أو أرشيف قديم، ولو كان عمره ألفي عام، والذي نقارنه مع المعلومة الجديدة، لاستخلاص رؤية قد تكون مغايرة عن السابق”.
تؤكد زيدان أهمية المعلومة التاريخية الموثقة بالنسبة إلى علم الأرشيف، فالمشكلة الأساسية تكمن في الرواية الشفوية أو المدوّنة. وتضيف: “إن التاريخ مختبر لكل المصادر، لفحص المعلومات وإعادة تصنيفها وفق أهميتها. هذه المعلومات التي تتراكم مع عمليات البحث والتنقيب تدخل ضمن الأرشيف الذي يحفظها من التلف، ويؤسّس لمفاهيم جديدة حول تطور الحياة الثقافية والفكرية لهذا الشعب أو ذاك”.
العلاقة بين الأرشيف والتوثيق
تشير الدكتورة زيدان إلى أنَّ العمل التوثيقي يمر بمرحلتين، فالبداية تكون بالبحث عن الوثائق والمعلومات من مصادرها الأصلية، ومن ثم يأتي توثيقها وفهرستها وأرشفتها. من هنا، وإذا أردنا الحديث عن الأرشيف الفرنسي الموجود اليوم في وزارة الخارجية، تضيف زيدان، فلا بدَّ من الإشارة إلى أنّ معظم الملفات موجودة في صناديق مليئة بالوثائق، ولكنها لمّا تُصنّف بعد، ويحتاج الباحث إلى الاطلاع عليها جميعاً، للوصول إلى غايته.
المعلومة الوحيدة التي يمكن أن يفيدك المعنيون بهذا الأرشيف، تتمثل بالإشارة إلى طبيعة الوثائق الموجودة في هذه الصناديق، سياسية كانت أم تاريخية أم دينية… ما يتطلَّب الكثير من الوقت أثناء البحث، ولكن قيمة البحث في النتيجة تتأتى من مضمون هذه الوئائق وما تكتنزه من حقائق ومعطيات تجعلنا نكتشف أموراً مغايرة كلياً لما نعرفه جيلاً بعد جيل.
ومن أجل التأكد من دقة الأرشيف، يأتي دور عملية التوثيق التي نتابعها من أرشيف إلى آخر، لنتأكد من صحة المعلومة. تقول زيدان: “كنت أسافر إلى أكثر من بلد غربي من أجل الوصول إلى غايتي، فقد كانت المراسلات السرية تتبادل بين القنصليات السياسية، وهنا يبرز الفرق بين عملية توثيق الفرنسي والنمساوي مثلاً، فالمعلومة التي يؤكّدها الأرشيف الفرنسي، يوثّقها النمساوي من زاوية أخرى، حتى تكاد تكون مناقضة للأول، إذ إنَّ كلاً منهما يرى الحدث من زاويته الخاصة، رغم أنه واحدٌ، فالإنكليز، مثلًا، كانوا ينظمون حملات “بروباغندا” ضد الفرنسيين، الذين كانوا يدافعون عن أنفسهم ويجمّلون صورتهم، وبالعكس. وفي فترة الانتداب، كان ثمة لاعب آخر هو عصبة الأمم، التي شرّعت “سايكس بيكو”، بإعطائها مهمة الانتداب لبريطانيا وفرنسا، فكانت هي أيضًا تمتلك أرشيفها وموظفيها الذين كانوا يرسلون إليها التقارير”.
ما هو دور الباحث في ظل هذه التناقضات؟ تجيب زيدان قائلة: “دورنا هنا أن نقابل بين كل هذه المراسلات والتقارير، وندقّق في كلٍّ منها على حدة، وندرس سياسة كل بلد في تلك الحقب، كي نتمكَّن من الوصول إلى رؤية محددة حول ما تحمله هذه الوثيقة المحفوظة في الأرشيف أو تلك، فقد نجد أنّ كل الوثائق الموجودة تتفق على تحميل جهة محددة بعينها المسؤولية عن أمر ما! ومن المتوافق عليه في هذا السياق، أنَّ الأرشيف الفرنسي الذي كان متقاطعاً مع الأرشيف الإنكليزي والبريطاني وغيره، كشفت لنا حقائق حول أحداث مختلفة مرّ بها جبل لبنان تحديداً، ومن ضمنها دور الإرساليات التبشيرية”.
ولكن لماذا لا تزال الصّناديق إلى اليوم مليئة بالوثائق والأرشيفات القديمة التي يعود تاريخها إلى القرن الماضي؟ لا تستغرب الدكتورة زيدان هذا الأمر، انطلاقاً من معرفتها العميقة بأهمية الوثيقة التاريخية التي توضع في الأرشيف كي يتمّ العمل عليها، فالأمر يتطلّب وقتاً دقيقاً لفحص كل وثيقة وفرزها في الملف المحدد المصنّف لها.
تعدّد زيدان أكثر من سبب لذلك، أبرزها أنَّ هناك كماً هائلاً من الوثائق التي كانت تتدفَّق من مختلف السفارات والدول، وتظهر لدى الشخصيات والمؤسسات والجمعيات التي ترتبط بالحكم الفرنسي واحتلاله، مهما كانت طبيعة العلاقة التي تجمعها به.. وإذا رغبت الحكومات في الاستعانة بمؤرخ خبير لأداء هذا العمل، فالأمر سيكون مكلفاً جداً بالنسبة إلى أية دولة تهتمّ بأرشيفها، ولكن الكثير من الدول استطاعت أن تصنّف الوثائق الهائلة التي تحتفظ بها تصنيفاً محدداً وفق عنوانيْن هما: السنة والموضوع، وهو ما خفّف إلى حدٍّ ما عبء البحث بين هذه الصناديق “التوثيقية” في الأرشيف.
من يكتب التاريخ اليوم!
هل يصحّ تماماً القول إنَّ التاريخ يصنعه الأقوياء؟! هو سؤال لطالما طرح، ولكن زيدان لا توافق عليه، فاليوم، وفقاً لها، بإمكاننا الاطلاع على مختلف الأحداث والأخبار من مصادر مختلفة، ما سيقدّم للمؤرخ في المستقبل إمكانية كبرى لكشف الحقيقة بشكل أسهل بكثير مما نفعل اليوم مع وثائق القرون الماضية.
ولكن يحدث أحياناً أن يختلف مؤرخان حول معطيات محددة تتحدث عن حدث تاريخي كبير، مثلما يحصل في لبنان مثلاً. هنا، في رأي زيدان، يكمن الجواب في تقديم مثل حيّ يرد على هذه الإشكاليَّة، فتقدم لنا مثلاً عن حدث وقع في لبنان منذ فترة، حين رفع مؤرخان دعاوى على بعضهما البعض؛ كشف الأول عن معلومات من الوثائق الفرنسية اطَّلع عليها من الأرشيف، ولكنَّه أغفل جانباً من الحقيقة. أما المؤرخ الآخر، فعندما اطلع بدوره على الوثائق ذاتها، أعلن أن زميله أخفى تلك الحقيقة. وهنا وقع الإشكال المعرفي والتاريخي. وعندما تواجها في المحكمة، كانت وجهة نظر المؤرخ الأول “أننا في بلد يحكمنا الوفاق”، وقال: “بصفتي مؤرخاً، راعيت الأمر خوفاً من فتنة ما قد تحدث بين الطوائف في حال أعلنت عنها، فقررت حذفها حرصاً على الوفاق الوطني”.
أما المؤرخ الآخر، فقال إنه لا يمكن إغفال أية حقيقة، مهما كانت مرّة، عن الشعب والأجيال، وإلا أين مسؤولية العلم والجرأة! وأين دورنا كمؤرخين؟! هذه هي مهنية المؤرخ. طبعاً، أغلقت القضية فيما بعد، وطُوي الملفّ من دون حكم.
ويبقى السّؤال الذي يطرح نفسه دوماً على اللبنانيين: لماذا لا نكتب تاريخاً موحّداً؟ تتأسَّف زيدان لعدم تمكّن اللبنانيين من الاتفاق على هكذا مسألة مهمة، وتقول: “دولتان، مثل ألمانيا وفرنسا، حاربتا بعضهما البعض بشراسة في القرن الماضي، كتبتا اليوم تاريخاً مشتركاً إلى حدٍّ كبير، وأصدرتا كتاب تاريخ موحّداً، بعد أن ارتكزتا على العلم من منطلق جامع”.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: القانون الفرنسي يمنع إتاحة الوثائق قبل مرور ستين سنة على تاريخها!
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- جدليات تاريخية بنظرة مغايرة
- من الأرشيف المحلي إلى العالم.. وثائق تاريخيّة تُنشر للمرة الأولى
- ابن الحكاية الدرزية المتأصّلة منذ أيام الفاطميين
- حصاد الهجرة وأشتات الذاكرة
- المؤرخ حسن نصر الله.. من أعمدة بعلبك
- التّأريخ الّلبناني معظمه مختلف
- دار حفظ التراث البحراني..
- التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة”
- الشيخ الدكتور “جعفر المهاجر”
- العرائض السياسية البحرانية المفقودة في أرشيف الوكالة البريطانية