كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

قبض وبسط الأخلاق

الأخلاق تقع ضمن المتغيرات. ليس بمعنى أن الكذب يصبح قيمة إيجابية، بعد أن كان من الثابت أنه قيمة سلبية، وليس بمعنى أن الغش يصبح من أخلاق الكرام بعد أن كان من أخلاق اللئام. الأخلاق متغيرة، بمعنى أن وصف المختلف معك في الدين بالضلال والكفر بعد أن كان قيمة دينية تحدد المهتدي والمؤمن، أصبح استخدام هذه الصفات غير مقبول في المجتمعات المتعددة الأعراق والأديان. والأخلاق المتغيرة، بمعنى أيضاً أن المبدأ الأخلاقي الذي يضع دين الشخص معياراً للقبول به، أصبح غير مقبول أيضاً. أخلاق التمييز والتفرقة وهي أخلاق تتبرأ منها الدولة الحديثة التي هي اليوم الجهة الحامية لأخلاق التعايش والقبول.
ARP_8322 هل نحتاج إلى أن نفهم مبحث الأخلاق بأخلاق جديدة؟ أقول نعم. ودعوني أوضح هذه الفكرة من خلال مؤتمر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية حول «أخلاقنا بين النظرية والسلوك»، الذي أقيم تحت رعاية الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء، في الفترة 3-4 نوفمبر/ شباط 2008 بفندق الدبلومات بالبحرين. من خلال استعراض أسماء المشاركين في هذا المؤتمر، سنلاحظ ثمة قيمة أخلاقية قد تغيرت في مفهوم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وهي قيمة التقارب بين أصحاب المذاهب المختلفة، فقد شارك في هذا المؤتمر الشيخ مرتضى واعظ جوادي، والشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني.
إذاً ثمة تغير في أخلاق القبول بعد أن كانت أخلاق الرفض أو الاستبعاد أو الإقصاء هي التي تحكم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وهذه الأخلاق ثابتة في مجالس الإسلام في بلدان إسلامية أخرى، لكنها حتماً ستؤول إلى التغيير. مقابل هذه القيمة الأخلاقية المتغيرة ثمة أخلاق أخرى لا تتغير بالنسبة للمجلس الأعلى، فالمجلس مثلاً، لم يشرك حقولا معرفية أخرى على صلة بمبحث الأخلاق، مثلاً أصحاب الاتجاهات الفلسفية، ومعلوم أن مبحث الأخلاق يقع ضمن مباحث الفلسفة الأصيلة.
والفلاسفة المسلمون كمسكويه وابن رشد والفارابي وابن طفيل، كانوا يستندون في مبحث الأخلاق في الفلسفة إلى الفلسفة اليونانية ممثلة في أرسطو خصوصاً وأفلاطون. والفلسفة الحديثة أيضاً لم تخرج الأخلاق من نطاق اهتمامها. بل هي تتحدث اليوم عما يسمى بالأخلاق التطبيقية، وهي الأخلاق الخاصة بالمهن وما يجب فيها من التزامات، كمهنة الطب، والصيدلة، والهندسة. وهناك أيضاً ما يسمى بأخلاق العناية وهي اتجاه فلسفي أخلاقي يركز على العلاقات بين الأفراد عوضاً عن ميولهم، وهي تضع أخلاق المحبة ضمن أهم الأخلاق التي تحدد العلاقة بين الأفراد، حتى إنها صارت تتحدث عما تسميه بعمل المحبة في الناس.
الأخلاق تندرج ضمن ما يسمى بالعقل العملي، وهي تحدد لنا الأفعال التي من الواجب أن نقوم بها والأفعال التي علينا أن نتجنبها، ليس تجاه الخالق فقط، بل تجاه أنفسنا والآخرين والبيئة والمهنة والدولة والجماعات. تجربة الأخلاق تحمل في طياتها تجربة الدولة، والتفكير في الأخلاق هو تفكير في الدولة والمجتمع، والدولة تكتسب صفة «مربية المربين» لأنها تحمل مشروع تربية وأخلاق وأدب [1].
لذلك اعتبر الفيلسوف السيد الطباطبائي الأخلاق من «سنخ المجازات» فهي في نظريته من جنس الاعتباريات، وليست حقائق نظرية قاطعة.
الدين مصدر من مصادر الأخلاق، لكنه ليس المصدر الوحيد، وليس هو المصدر النهائي. كما أن الخلاق المستمدة من الدين ليست واحدة، بل هي تتنوع وتتعدد باختلاف الناس وتغيرهم واتساعهم وضيقهم. واختلاف الجماعات الدينية يجد شيئا من تفسيره في اختلاف مفاهيمهم الأخلاقية ومفاهيمهم للأخلاق. وهذا ما تناولته في نقدي لحملة «ركاز» الأخلاقية[2]. فالأخلاق عند الجماعات الدينية، تكاد تكون محصورة في الموضوعات المتعلقة بالنهي عن الذنوب واقتراف السيئات والأمر بالطاعات وإيتاء ما يوجب الحسنات.
إن النصوص الدينية، غير كافية لوضع نظام قيمي أخلاقي يحكم الفرد الحديث الذي لم يعد مجرد عبد يطيع خالقه، كما فهمه الفقهاء. وغير كافية لوضع نظام أخلاقي يحكم الدولة الحديثة التي لم تعد «ولي أمر» مفترض الطاعة أو «ولي فقيه» واجب الانقياد.
هكذا إذاً، اتسعت أخلاق القبول في مؤتمر الأخلاق، لكنه اتساع لا يشي بتغير أخلاقي كبير، فمازالت دائرة المشاركة محصورة في دائرة الشأن الديني والشأن الإسلامي. ومازال هذا الضيق يحول دون فتح الأخلاق على الفلسفة الحديثة وعلوم الإنسان الحديثة، كما كانت في تراثنا مفتوحة على الفلسفة وبقية العلوم. وهذا ربما ما جعل من الأوراق المقدمة في المؤتمر تأخذ الطابع التقليدي والمحافظ والتكراري.
ستتسع أخلاقنا متى اتسعت رؤيتنا للأخلاق، والأخلاق تنقبض وتنبسط [3] بحسب رؤيتنا ومسبقاتنا وثقافتنا، أو بحسب معرفتنا الدينية التي هي غير الدين بحسب نظرية القبض والبسط عند سروش.

الهوامش
[1] انظر: صحيفة الوقت، «الدولة مربية المربين»، الأربعاء 21 يونيو/ حزيران ,2006 عبر الرابط:
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=238&hi
[2] انظر: جريدة الوقت، ركاز.. «نيو لوك» أو «نيو أخلاق»، الخميس 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2007 عبر الوصلة: http://www.alwaqt.com/art.php?aid=80624
[3] انظر عبدالكريم سروش، «القبض والبسط النظري للشريعة».

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=9736

حوار حول موت المثقف

 

نون تستوطن “موت المثقف” وتعلن إفلاسه الفكري

إعداد: هدير البقالي

 

كثيرًا، ما نراهن على مصداقية المثقف، وغالبًا ما نقر بوجوده بوصفه كائنًا بشريًّا ساميًّا عن بقية المخلوقات، فهو لا يخطئ إلا فيما ندر، ولا يرغب في إقحام نفسه في قضية مشكوك في أمرها، ولا ينساق مع الآخرين في الصراع المعرفي على كعكة تحدد مواقفه لكنه يتذوق قطعته من الكعك فقط، إذًا هو مبجل/ فيلسوف عصره/ مؤسس لأفكار تأجج الأطروحات الجديدة للسلطة وللمجتمع المدني.

مهلاً، مهلاً، أيها المثقف، فأنت اليوم تقف أمام شاكلتين: الموت الكيميائي، والموت الفيزيائي، ولا ترضى بأن تعيش على مقربة من السقوط بالتهميش الواقعي لنفسك، عندما تكرر/ تستنبط / تعلل/ تعالج/ وتستخلص بمثل نتيجة أسلافك المثقفين، ألا يدعنا ذلك إلى القول بأن كماشة المثقف بات أمرها محتومًا في نهايتها، فالمثقف لا يفنى/ يهمش/ يلغى/ يدفن أو يصبح ككائن نكرة إلا عندما يرى نفسه أنه قد توقف عن العطاء المعنوي بصورة كاملة وليس مؤقتة وذلك مرهون أيضًا بإنتاجيته الخاوية، فهل يعلن المثقف عن نهايته ويتناول الزرنيخ ويذهب إلى حتفه الأخير أم أنه ما زال يراهن/ يعول / يؤكد/ يستنكر؟ نون “البلاد” لا تنتقد المثقف، بل أرادت الخوض في غمار موت المثقف الذي مازال يتنفس هواءه بدفء غامض ويقبع بجسد حي، فيا ترى ماذا يقول المثقفون الأكاديميون في ذلك إلينا؟New Picture (2)

هل نستطيع القول إن موت المثقف يتحدد بموت “كيميائية الإبداع” لديه في ظل حضوره الفيزيائي؟

علي الديري: ليس المثقف وحده من يموت حين يفقد كيمياء إبداعه، كل الكائنات تموت حين تفقد كيمياءها، في الكيمياء سحر الأخلاط، وكلمة مثقف ملتبسة بسبب كيمياء الأخلاط المركبة فيها، لذلك يظل الجدل غير محسوم بشأن تعريف المثقف والثقافة، حتى إن أنسي الحاج قال: الثقافة في الحقيقة كلمة خاطئة حلّت في غفلة العقل محلّ كلمة فكر. والمفكر (المثقف) لديه شيء من حكيم وشيء من أديب وشيء من كاهن.

متى فقد المثقف (المفكر) شيئًا من هذه الأخلاط مات شيء فيه. وحياته مرهونة بقدرته على تركيب أخلاط هذه الكيمياء التي تتيح له أن يرى.

ضياء الكعبي: ابتداءً، لا أرى أنّ هناك “موتًا للمثقف”. يمكننا القول إنّ هناك “تغييبًا” أو “تهميشًا” أو “إقصاءً” في كثير من الحالات…

موته في وصوله إليه… هالة زائفة

وهل موت المثقف يتحدد بوصوله إلى قمة البرج العاجي؟

علي الديري: البرج العاجي إذا كان مكانًا يتيح للمثقف أن يرى أبعد مما يراه الآخرون، فحياته حيث هذا البرج، وإذا كان مكانًا يتيح له أن ينتحر سقوطًا منه، فموته في وصوله إليه. الأبراج لم تعد مكانًا للمثقفين، هي صارت اليوم أسواقًا يرى فيها المثقف مكانًا لموت الإنسان وتسليعه.

علينا أن نتذكر أن برج بابل كان المكان الذي بدأت منه اللغة الواحدة تصير لغات يصل عبرها البشر إلى السماء بطرق مختلفة ويمشون فيها في الأرض في شعب متباينة. البرج كان مكان حياة اللغات، والإنسان لا يحيا من غير لغة يثقف من خلالها العالم. على المثقف أن يصلح برجه ويجعله مكان حياة.

ضياء الكعبي: المثقف قد يصل إلى حالة أسميها حالة “التصنُّم” المعرفي وهي حالة لها مسببات كثيرة منها عائد للمثقف نفسه ومنها عائد إلى مريديه ومن هم حوله. أي تحوّل المثقف نفسه إلى “صنم مقدس” أو “بقرة مقدسة”، وتحوّل أطروحاته كذلك إلى مقدسات لا يجب المساس بها ولا الاقتراب منها بأي حال من الأحوال.

وعندما يصل المثقف إلى هذه المرحلة فمعناها أنه قد وصل إلى موته وأعلنه هكذا جهارًا على الملأ. والمثقف يكون مسؤولاً عن خلق هذه “الحالة” وكذلك المصفقون له يخلقون “هالته” الزائفة التي لا تلبث أن تنجلي عن سراب زائف. والوصول إلى هذه “الهالة” يعني خطابًا استعلائيًّا فحوليًّا متضخمًا يعجز عن قبول الخيارات والتعدد وقيم الاختلاف.

مدونتي “هوامل”… انشقاقات وتراكمات منجزة

في حال انتماء المثقف إلى جهة معينة، والتزامه بأدبياتها وخطوطها العريضة، هل سيبقى منتجًا بشكل صحيح، وهل من الممكن القول إن عروقه المعرفية قد جفت بعض الشيء؟

علي الديري: حين ينتمي المثقف إلى جهة معينة، يفقد خلطته المركبة بإبداعه وإرادته، ويصبح خطًّا مؤتلفًا في هذه الجهة، والمثقف حالة تستعصي على الخط المستقيم الواضح، هو يأتلف مع ظل الأشياء وضلالها.

وقد أطلقت على مدونتي بالإنترنت اسم “هوامل” التي هي النياق الشاردة الفالتة من طريق الجماعة. هذا الاسم يدفعني للخروج دومًا من عضوية الجماعات، حتى بمعنى المثقف العضوي الذي ابتكره غرامشي وجفت عروقه لفرط ما وظفه المثقفون المنتمون لجهات سياسية.

ضياء الكعبي: لنستحضر انتماءات المثقف العربي من تاريخ المشهد الإبداعي والفكري العربي المعاصر؛ فقد أنشئت كيانات أدبية وفكرية عربية كان نتاجها زخمًا ومنتجًا إبداعيًّا ضخمًا خصوصًا عندما نتحدث عن “الحداثة العربية والجهود البارزة لروادها في التنظير والممارسة. وفي المقابل شهدت هذه الانتماءات الوليدة خروجًا باكرًا عليها وانشقاقات أثمرت هي الأخرى وراكمت منجزات إبداعية فاعلة”. لا ضير من انتماءات بهذا المعنى شريطة ألا تتحول المؤسسة المعرفية إلى سلطة قامعة لأعضائها وللآخرين.

عمليات بطيئة ومركبة… ماراثون مضحك

معظم أفكار المثقف مجرد تراكم معرفة لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا يضيف شيئًا إلى تاريخ الثقافة سوى بناء ملاحظات وتمحيص بعضها والاستشهاد بما يتأتى عليها الدراسة، فهل هذه أيضًا علامة من علامات موت المثقف؟

New Picture (1)علي الديري: (موت المثقف) صيغة مجازية مثل (صيغة موت الإله) لنيتشه و(موت الإنسان) لمشيل فوكو، وقد ابتكر المثقف نفسه هذه الصيغ، كي يحمي نفسه من الموت، أي كي يذكر نفسه بأنه حي وقادر على أن يميت الأشياء ويحييها في صيغ مبتكرة.

المثقف لا يمكنه أن يقول شيئًا جديدًا من دون أن يراكم معارف كثيرة يسد بها جوعه أولاً ويسمن بها جسده ثانيًا وتتمثلها روحه ثالثًا. تلك عمليات بطيئة ومعقدة ومركبة، والمثقف الذي لا يهضم جيدًا، يفقد قدرته التمثيلية فيموت، كما يموت النبات حين يفقد قدرته على التمثيل الضوئي. المثقف كي يضيء يحتاج إلى زمن ضوئي.

ضياء الكعبي: هي علامة على “إفلاس المثقف”… وقد وجدنا عددًا من كبار المثقفين العرب يصلون إلى مرحلة الجدب الفكري فيبدأون بمساجلات مفلسة مع الخصوم المعرفيين، أو يكررون الخطابات في عصر “ثقافة الصورة: فيصبح المثقف هنا “نجمًا في الفضائيات العربية، ومتحدثًا في مؤتمرات الدرجة الأولى: عليه مواجهة نفسه والتوقف عن هذا الماراثون المضحك الذي لا يضيف جديدًا إلى المعرفة.

أو تكون… صفرًا إبداعيًّا

ألا يدعو تشابه الدراسات الفكرية في الطرح والتفسير، إلى الاستغراب من ضحالة الإنتاج الإبداعي للمثقف؟

علي الديري: تشابه الدراسات سببه أحيانًا تشابه أدوات التحليل وشيوع مناهج التفسير، وفي كل مرحلة تاريخية تكون هناك مجموعة من استراتيجيات القراءة والتأويل والتفسير مشاعة بين مجموعة من الباحثين، فتتشابه خطاباتهم. أو تكون هناك مفاهيم عن الشعر والحرية والإنسان تشكل اتجاهًا جديدًا وحياة جديدة بين مجموعة من المثقفين فتتشابه إنتاجاتهم. ماذا قال محمد العلي لحظة اكتشاف ديوان السياب (شناشيل ابنة الجلبي) في الستينيات؟ قال: “واكتشفت لحظتها أن علي أن أجدد نفسي أو أموت”، هكذا كل تجديد يؤول إلى موت ينتظر حياة جديدة.

– ضياء الكعبي: هناك خطاب استعلائي قامع يمارس العنف الرمزي ويعيد إنتاجه. وعندما تسود أجواء من الغيرة والرغبة في تغييب الطرف الآخر؛ لأنه مختلف ولا ينتج المعرفة التي أؤمن بها هنا نصل إلى مرحلة الجدب الفكري وسأكرر مقولات الحيز الضيق الذي أؤمن به، وسأحجب الإبداع والإضافة وهكذا يصبح إنتاجي صفرًا إبداعيًّا لا يضيف شيئًا.

لنحرر العقل… ولنتأمّل

كيف يعمل المثقف على بناء مجتمعه المدني في ظل الحداثة وما بعد الحداثة، وإلى أين سيصل مفهومه الشخصي بطريقة تتعاطى مع المشكلات الجمة التي تحصل هنا وهناك؟

علي الديري: لقد ابتكرت الحداثة مفهوم المثقف، وجعلت مهمته الخروج من قصوره الذي هو مسؤول عنه، قصوره عن استعمال عقله دون إشراف الغير، حررت عقله من أوهام المسرح والأصنام والكهف والسوق، وأوكلت إليه مهمة تنوير العالم بأنوار طبيعية دنيوية لا إلهية سماوية. وجاءت ما بعد الحداثة لتطيح بأنواره الحداثية وتعتبرها أوهامًا، فليس العقل نور العالم بعد أن دمره في حربين عالميتين، وليس العقل مركز الإنسان، وليست هناك مهمات كونية للمثقف. وليس هناك معنى واحد وحقيقة واحدة ينتدب المثقف نفسه إليها.

المجتمع المدني إحدى الصيغ التي ابتكرها المثقف ليحد من السلطة التي تمارسها الدولة باسم العقل الكلي المهيمن. وفي هذا المجتمع يمكن للمثقف أن يمارس مهمته في النقد والاحتجاج من أجل توسيع المجال العالم للحرية. من هنا فمهمة المثقف توسيع حرية المجال العام الذي تضيّقه السلطة السياسية والسلطة الدينية وجماعات المصالح.

ضياء الكعبي: المثقف الحقيقي هو الذي من واجبه بناء مجتمعه المدني في ظل الحداثة وما بعدها. عليه أن ينهض بدوره الفاعل في خلق استراتيجيات ثقافية ومنفتحة على الأطياف الفكرية كافة. ليس عيبًا أن أتحالف مع السلطة السياسية في بناء الشراكات الثقافية مادام هناك هامش ولو قليل للتحرك. العيب هو الانكفاء على الذات وجلدها والاكتفاء بخطابات لعن السلطة وتدبيج هجائيات الشتم والاستعراضات البلاغية.

وهنا لا أمجد المثقف النفعي الانتهازي الوصولي المتسلق، ولنتأمل فيما حولنا لنجد تحولات كبيرة طالت مثقفي الستينيات والسبعينيات عربيًّا: يتحول ذلك المثقف الثوري الشاتم إلى متحالف مع السلطة. والمثقف عليه احترام قيم التعدد والاختلاف الفكري مع الآخر.

نرجسية… طيف واحد

لماذا – برأيك – المثقف على خصومة دائمة مع المثقف الآخر، ولماذا يشغل نفسه في إثارة المشكلات بدلاً من البحث عن القضايا التي تساهم في بناء الوعي الفكري للمجتمع بشكل عام؟

علي الديري: المثقف كائن شديد الحساسية والغيرة والحسد في الحقل الذي يشتغل فيه، ويعتبر المثقفين الذي يشاركونه في الحقل منافسين لنرجسيته.

– ضياء الكعبي: الإجابة عن هذا السؤال هي عندما يصبح الجميع طيفًا واحدًا هنا تلغى قيم التعدد والاختلاف والتنوع وتسود سجاليات زائفة لا تضيف أي شيء إلى تاريخ المعرفة الإنسانية.

لا أعرف… يصم آذانه

وهل بات المثقف مفلسًا فكريًّا، وعاجزًا عن مواكبة التغيير، كما استطاع أن ينجز ذلك أسلافه؟

علي الديري: المثقف بأل التعريف يستعصي على التحديد والفهم. لا أعرف من هذا المثقف الذي تسألين عنه.

– ضياء الكعبي: يصل المثقف إلى الإفلاس الفكري عندما لا ينفتح على الآخر وعندما يصم آذانه عن سماع الأطروحات الأخرى المناهضة لفكره ولا يسمع إلا أطروحته هو.

جرعة الجنون… انعدام التواصل

البعض يصف المثقفين بالمجانين، ولا يمكن فهم ما يقولون في أطروحاتهم وكتبهم ومقالاتهم، فهل هم فعلا كذلك؟

علي الديري: في الجنون شيء من كيمياء المثقف، ويتفاوت المثقفون بمقدار جرعة الجنون.

– ضياء الكعبي: هذا وصف مجاني جدًّا وغير حقيقي، وما يخلقه هو انعدام التواصل الفاعل بين المنتجين الثقافيين ومتلقيهم، وقد يخلق هذه الحالة بعض المثقفين الذين يتعمدون إيجاد خطاب التعمية الفكرية للتغطية على ركاكة منجزاتهم المتهافتة التي لم تضف جديدًا يذكر.

كنت… ولا بد

يوصف المنتج الفكري الذي يقدمه بعض المثقفين أحيانًا بأنه منتج يشوبه غشاوة مهترئة وأوهام مهزوزة، بحجة اشتغاله على تجزيء وتفكيك خطابات أكل الدهر عليها وشرب، وابتعاده عن الاشتغال على نظريات محكمة وفاعلة يستثير من خلالها الشارع العربي، فما رأيكما؟

علي الديري: المثقف ليس إعلاميًّا، المثقف يفكك ما يأكله خطاب الإعلامي ويشربه، ويفكك ما تأكله خطابات التاريخ والحضارات والسلطات. في الخطاب تتوارى حقائق المجتمع وممارسة الإنسان وموقفه وحياته وأديانه وسلطاته. حين اشتغلت على خطاب ابن حزم الأصولي، كنت أفكك خطاب حقيقته الذي ما زالت تشربه وتأكله خطابات المتدينين اليوم.

– ضياء الكعبي: لا نستطيع التعميم: هناك مفكرون عرب اشتغلوا على تفكيك خطابات فكرية ووضعوا لأنفسهم إضافة جديدة في مسيرة الفكر: من ينكر على سبيل المثال الاشتغالات الحقيقية للمفكر العربي الفلسطيني إدوارد سعيد واشتغالات الجابري ومحمد جابر الأنصاري والعروي وطه عبدالرحمن وأبويعرب المرزوقي وغيرهم كثير. وفي مقابلهم لا بد من الاعتراف أن هناك أفرادًا انتحلوا اسم مثقف وبدأوا بإنتاج وإعادة ما أنتجه سواهم ونسبته إلى أنفسهم.

تحب المثقفين… وزائفين

المثقف بات يتعامل مع عقائده الفكرية من باب مصلحة ذاتية من جهة ويتملق بشهية كبيرة للسلطة؟

علي الديري: السلطة تحب المثقفين إذا كانوا مستشارين وليس مستثارين.

– ضياء الكعبي: من واجب المثقف الحقيقي خلق الشراكات الثقافية الفاعلة مع السلطة وعدم الانكفاء. فانكفاؤه يعني أنه يفسح مجالاً لغير الأصلح لأن يخلق أشباه مثقفين زائفين. فلنتأمل في كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع وهنا أستعير عبارة ابن النديم في كتاب الفهرست: كيف أصنف هذا الكتاب، هذا الكتاب في حقيقة الأمر يندرج في إطار مشروع إصلاحي هدف به ابن المقفع إلى إيجاد دور حقيقي وفاعل للمثقف في إطار المحافظة على النظام السياسي القائم ومخطئ من يظن أن هذا الكتاب هو خطاب معارضة سياسية في المقام الأول.

متى يُعلن المثقف موته؟ وما النهاية التي يتجلى بها لختام حياته؟

علي الديري: إذا سمع بإنصات أسطوانة زياد الرحباني (مثقفون – نون:(

مثقفون يفكرون بانتظام يشرحون يحللون مفاصل الأزمات

يتسلّقون الألف ينبطحون – نون

مثقفون قلقون ينتظرون الحزن والجنون

حتى في الأعماق يكذبون يفلسفون العجز يرتاحون

– ضياء الكعبي: إذا كان رولان بارت قد أعلن “موت المؤلف” فإن موت المثقف: لن يعلن أبدًا،المثقف العربي سيتشبث بالبقاء… وسنرى كثافة إعلامية بارزة لأشباه مثقفين سيصعدون ويصنعون الخطابات المتسلطة القامعة؛ لأن لا ثوابت لديهم تقيدهم. أما المثقف الحقيقي فسيستمر تهميشه وتغييبه؛ لأنه لا يجيد لعبة التوازنات السلطوية. ولن تتغير هذه الصورة إلا بخروج المثقف الحقيقي عن انكفائه ومساهمته ولو بالقليل في خلق مشهد فكري متميز: هنا فقط ستتغير الصورة!

جذب فكري

“عدد من كبار المثقفين العرب وصلوا إلى مرحلة الجذب الفكري، وبمساجلات مفلسة مع الخصوم المعروفين، فعلى المثقفين التوقف عن الماراثون المضحك، ومواجهة أنفسهم”.

ضياء الكعبي

كائن حساس

“المثقف شديد الغيرة والحساسية، ولا ضير في تفاوت جرعة الجنون لديه، وبصيغة أخرى إن لم يهضم جيدًا فسيفقد قدرته التمثيلية ثم يموت”.

علي الديري

طرح آخر

المثقف لا يقف حائرًا/ متوجسًا/ مترنحًا، بل يحاول أن يلاقح الأفكار ويستولد خلايا جديدة عقلية تقرب من الأطروحات في التقابل والتعاكس؟ لكن أنا هنا في محل مراوغة لسؤال يلح بقوة في مكانه، فهل أفني المثقف في عالم البرزخ أم أنه مازال يتنفس الصعداء؟

المحررة

http://www.albiladpress.com/

جريدة البلاد. العدد 130 السبت 21 فبراير 2009

كتاب العبور المبدع

في أحدث مؤلفاته «العبور المبدع»
الديري يضع استراتيجية للتفكير والتعبير باستخدام المجاز

الوسط – منصورة عبدالامير

الكتابة بعين مجازية تتيح لتعابيرنا أن تتسع، وتمتد، وتتنوع بطلاقة، ومرونة، وأصالة (…) كذلك هذا الكتاب «الورشة» لا يخضع لموضوع يقعد بك، بل لعين تعبر بك الموضوعات كلها.
هكذا ذيل الكاتب والناقد علي الديري مقدمة أحدث مؤلفاته «العبور المبدع – استراتيجية التفكير والتعبير باستخدام المجاز» الذي صدر أخيراً عن المطبعة الحكومية التابعة لوزارة الإعلام في 246 صفحة من الحجم الكبير.
aldair book cover-1 الكتاب الذي يهدف إلى التدريب على الخيال «من أجل اكتشاف حقائق اللون والضوء والجمال والإنسان والعدل والحرية، من أجل جعل لغتنا تعبر عن هذه الحقائق التي نكتشفها نحن بتجربة حيالنا»، هو كما يقول كاتبه، في تصديره، «ورشة للكتابة تأخذك إلى جرأة الكتابة»، وهي ورشة كما يشير الديري لا نصائح فيها ولا تعليمات ولا خطوات ولا خطة، هناك فقط ديناميكة الكتابة، العملية الحيوية المليئة بالمتعة والخيال. أما الدخول إلى قلب هذه العملية الديناميكية، فيتم عبر اتباع استراتيجية اللعب بالمجازات (التشبيهات، الاستعارات، الكنايات، القصص، الحكايات، الأمثال).
ورشة الديري هذه، التي يتحدث عنها بإسهاب، هي ورشة بدأت في 2004، قدمها الديري لطالبات بالمرحلة الإعدادية يطلقن على قاعة درسهن «غرفة المجاز»، وعلى رغم ذلك، مازال الديري، «يبلور أفكار تلك الورشة ويصقل تطبيقاتها»، وكتابه ما هو إلا حصيلة عمل ما تراكم من هذه الورشة.
أما استراتيجية اللعب بالمجازات أو العبور المبدع فتتكون، كما يشير الديري، من 19 فكرة نظرية وأكثر من 90 تطبيقاً عملياً، وهي تهدف إلى «تمكينك من مهارات الكتابة المبدعة، التي تتوافر على الطلاقة والمرونة والأصالة» ويتطلب إتقانها «تدريباً مكثفاً على الكتابة، تحت إشراف مدرب يمارس فعل الكتابة».
يتألف الكتاب من مجموعة من الفصول منها «فرضية الاستراتيجية» التي يقول الديري إنها الفرضية الأساس التي تنطلق منها استراتيجية المجازات، وهي أن تفكيرنا في المجردات ليس مجرداً بل مجسداً.
وفي فصل العبور، يقول: «عابر الرؤيا يتأمل ناحيتي الرؤيا فيتفكر في أطرافها، ويمضي بفكره فيها، من أول ما رأى النائم، إلى آخر ما رأى، وبحركة هذا الانتقال يصل بين أطراف الرؤيا فيتمكن من بيانها وكأن الرؤيا سؤال يتطلب جوابه عبوراً»، والمجاز في ثالث فصوله «المجاز» هو عبور يحمل الدلالات نفسها التي يحملها مفهوم «العبور».
أما أغراض المجاز التي يسردها الديري، في باب يحمل الاسم نفسه «أغراض المجاز»، فتشمل قائمة طويلة من الأغراض من بينها الفهم والاتساع والعبور والتعبير واستثارة الفكر الابتكاري، والتنوير، وأنسنة الأشياء.

http://www.alwasatnews.com/Archive/Issue-2330/FDT/–/854022.aspx

أموات بغداد

الصديق جمال حسين يصدر رائعته (أموات بغداد)…

هذا بعض ما كتب عنها..

رواية أموات بغداد من مشرحة الطب العدلي

02/11/2008

http://www.aljeeran.net/wesima_articles/cultureandeducation-20081102-132927.html

الجيران – بيروت – صدرت عن دار الفارابي في بيروت رواية القاص العراقي جمال حسين علي التي حملت عنوان أموات بغداد وهي رواية ملحمية استثمر فيها الروائي كل معطيات العلوم الأخرى ليحيط بفاجعة الاحتلال الأمريكي لبغداد والعراق عبر حبكة روائية مزجت بيISBN_9953713540_Preview_Coverن الواقع والخيال والمعرفة العلمية والأدبية في أجرأ نص روائي عراقي عن الاحتلال الأمريكي كُتب حتى الآن .

ولا شك ان جمال حسين علي استثمر وجوده في بغداد كمراسل صحفي لجريدة القبس الكويتية واقترب من الفجيعة العراقية بعد غربة في موسكو دامت عشرين عاماً وهي الغ ربة التي أدت الى انقطاعه عن النشر طيلة تلك الأعوام ، لكنه يعود الآن بجدارة روائي محترف في ( أموات بغداد) برمزية عالية يوحيها العنوان بوصفه عتبة النص ومدخله .

أموات بغداد هي مشرحة بغداد في الطب العدلي – باب المعظم – وهنا تدور رحى الرواية وتكشف هول الفاجعة العراقية التي سببها الاحتلال والميليشيات الطائفية والعصابات الإجرامية التي وجدت طريقها الى الانفلات بغياب السلطة وتفكك الدولة.هذه الرواية الجريئة بتفصيلاتها الواقعية والفنية اضافة نوعية الى الرواية العراقية ، وهي احدى العلامات البارزة في ثقافة ما بعد التاسع من نيسان ؛ رواية يحق لنا أن نفخر بها ونطالعها ونرى ما لم نره في يوميات الاحتلال السوداء.

هندسة الخروج

هندسة الخروج أو كوجيتو الذات الخارجة

الخروج يحتاج إلى هندسة أيضا، لا يمكنك أن تخرج من غير خارطة هندسية، وربما يكون كتاب أمين صالح (هندسة أقل خرائط أقل) أفضل بيان هندسي يقودك لخارطة الخروج من هندسات البرامج المعدة لاستقبال سقوطك في الدنيا وما قبله وما بعده.
يبدو أن(الخروج) من أكثر الأفعال ثورية وذماً في ثقافتنا، فالثورات قرينة الذم، لذلك لا عجب أن يشتق منه اسم (الخوارج) الذي أطلق على الجماعة التي شقت عصا الطاعة وخرجت على إمامها وخليفتها، بل إنها خرجت على فكرة الإمامة والخلافة نفسها، فهي الفرقة الوحيدة التي ذهبت إلى أن الخلافة حق من حقوق المسلمين يتساوى فيه العربي وغير العربي، كما يتساوى فيه الأحرار والأرقاء. والخلافة ليست للقرشيين وحدهم وإنما هي حق للأفضل من جميع المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم.
(أنا خارج طائفتي) هي صيغة مفهومية، أحاول عبرها أن أقرأ إطار الطائفة في تكوين الذات. وهي ليست إعلاناً ولا براءة ولا تمرداً ولا عقدة ولا استنكافاً.
حين أخرج من هذا الإطار، ما الذي سيحدث لرؤيتي وموقفي وذاتي وحريتي وعلاقاتي؟ الصيغ المفهومية لا نحكم عليها بالصحة والخطأ والحق والضلال والخيانة والشجاعة. هي صيغ تفسيرية ويمكنك أن تحكم عليها بأنها أكثر تفسيرا أو أقل تفسيرا وأكثر قدرة أو أقل، على أن ترينا الواقع.
صيغة (أنا خارج طائفتي) أراها تتيح لي أن أرى ذاتي بشكل مختلف، وأرى مواطنتي بشكل مختلف، وأرى تاريخي بشكل مختلف، وأرى دولتي بشكل مختلف. والاختلاف حق لا يمنحك إياه أي تشكيل ولا أي إطار ولا أي برنامج، عليك أن تخرج وتأخذ حقك بعقلك، عليك أن تهنّدس لك طريقاً يريك الأشياء خارج طائفتك.
لماذا صيغة ”أنا خارج طائفتي” ليست إعلانا، ولا براءة، ولا تمرداً، ولا عقدة ولا استنكافاً؟
هي ليست إعلانا، لأن الإعلان يتطلب خفة في الطرح. وصيغة ”أنا خارج طائفتي” تحمل ثقلاً في المفهوم وتعقيداً في الإشكال. وهذا ما أظهرته كثرة التأويلات التي دارت حول معنى الخروج في هذه الصيغة، وتباين وجهات النظر حول جدواها على صعيد الفكر والواقع. وهذا أيضاً ما أظهرته كثرة التداولات في المنتديات الالكترونية والمجموعات الحوارية والرسائل الشخصية.
وهي ليست براءة، لأن البراءة تتطلب قطيعة وجودية واجتماعية عن كل ما يتصل بطائفتك، وهذا ما لا تدعو إليه هذه الصيغة، ولا تفسيراتها التي تضمنتها مقولة ”خارج الطائفة”، بل هذه الصيغة هي أقرب إلى أن تكون مفتاح حل لتحقيق ”العيش المشترك الاجتماعي” الذي يتطلب اتصالاً، لا انفصالاً.
وهي ليست تمرداً، لأنها خروج من الطائفة وليست خروجاً على الطائفة. الخروج مرتبط بالعصيان والتمرد والثورة وشق الجماعة، وهي دلالات تحف بهذا الفعل، وتحضر في استخدامه حضوراً يكاد يكون ملازماً. لكن هناك استخدامين في لغتنا للفعل خرج، يفيدان في تنويع معنى الخروج، الأول هو (خرج على) والثاني هو (خرج من).
الاستخدام الأول يحيل على العصيان والثورة والحرب والعداوة. أما الاستخدام الثاني فهو لا يحمل هذه الدلالة المقترنة بالعداء والبراءة دوماً، بل هو أقرب إلى الحياد، أن تخرج يعني أن تغادر منطقتك ودائرتك التي كنت فيها، من دون أن تأخذ موقفاً معادياً. و”أنا خارج طائفتي” تحيل إلى المعنى الثاني، لا الأول، لكن ظلال الأول تحضر في التلقي، بسبب ارتباط الخروج في ثقافتنا بالتبرّؤ لا البراءة (الحياد).
لذلك لا يمكن أن نفهم صيغة (أنا خارج طائفتي) من خلال ما فعلته إحدى الرائدات البحرينيات حينما حرقت عباءتها وسط الشارع العام. وهي الحادثة التي استحضرتها إحدى الناشطات النسويات في سياق محاولة فهمها لمعنى (أنا خارج طائفتي) فهي ترى أن الخروج الحقيقي ليس مقولة نبتكرها لتغيير ذواتنا، بل فعل خارجي لا يدع مجالا للشك والتأويل، كما هو فعل إحراق العباءة في الشارع العام، فهو فعل يثبت أنها خارج العباءة، فالخروج في مفهومها يتحقق بقدر ما يكون (خروج على) لا (خروج من).
وصيغة (أنا خارج طائفتي) ليست عقدة ولا استنكافاً، لأن العقدة تتطلب نقصاً نفسياً، لا نقصاً معرفياً. في النقص المعرفي أنت تستكمل ذاتك بفتح مغلقاتها وأطرها على مصادر معرفة جديدة، وفي النقص النفسي، أنت تهرب مما يعيبك، وتتبرأ منه، وتستعيض عنه بتقليد الغالب، كما هي عبارة ابن خلدون ”إن المغلوب يميل إلى تقليد الغالب دائماً”.
وصيغة ”أنا خارج طائفتي”، تأتي في سياق إشكالية نقص الذات، حين تنغلق على إطار طائفتها، وليس في سياق ضعف الذات واستكانتها في بقائها داخل طائفتها، بل إنه بالنظر إلى سياقنا، فالذات خارج طائفتها لا قوة لها. كما هو الأمر بالنسبة لذاتي الخارجة، فأنا لا إطار اجتماعي ديني يسند ضعفي، ولا موقع لي في الدولة التي لا تعرف الفرد إلا بصفته الطائفية.
لكل ذلك، يمكنني أن أعتبر (أنا خارج طائفتي) كوجيتو الذات الخارجة، كما هي صيغة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) كوجيتو الذات الموجودة والمفكرة والحرة والفردية والحديثة.

 

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8861