كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

ضد التبسيط.. بيان المثقفين الشيعة

للوهلة الأولى حين هاتفني الصديق محمد فاضل، يخبرني عن البيان الذي الذي أصدره مثقفون شيعة. قلت له كيف مثقفون وشيعة؟ المثقف لا صفة دينية له. قلت ربما هو التبسيط الذي يجعل من استخدامنا للصفات استخداماً متخففاً من العمق والجدية.
القراءة الأولى للبيان جعلتني أستحضر صفة التبسيط التي ظهر فيها بيان الليبراليين العرب الجدد الذي أصدره شاكر النابلسي في يوينو/ حزيران 2004 تحت عنوان ”من هم الليبراليون العرب الجدد، وما هو خطابهم؟”.
في يونيو/ تموز 2005 أصدر مجموعة من المثقفين الليبراليين العرب ”غير الجدد” بياناً عنوانه ”ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط” كانت ديباجة البيان ”ما نحاوله نحن الموقّعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا.. نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض”.
وهذه هي مؤاخذتي الرئيسة على بيان المثقفين الشيعة الذي اقترن في تلقيه بصفة الجرأة، والجرأة لا تقترن بالعمق والجدية، بقدر ما تتصل بالخفة والتبسيط. لكنها لا تلازمها دوما، فهناك جرأة تقترن بالعمق في الفهم، وهذا ما أشك فيه بالنسبة لهذا البيان، لذلك أقرن هذا البيان بالتبسيط لا بالجرأة.
علينا أن نلاحظ أن البيان في العادة يصدر في سياق عام، وهو يخاطب جمهوراً عاماً مُبيناً موقفا عاماً، وهو يحاكم في نقده وقراءته من قبل متلقيه بالحاظ هذا البعد. أي أن البيان وهو نوع أقرب إلى حقل السياسة، على خلاف المقال، يحاسب في ضوء قدرته على التعبير عن موقف عام مبني على قراءة الواقع العام قراء تفصّل التباساته. وهو يحاول ألا يتورط في إصدار أحكام إدانة ضد طرف من الأطراف المتصارعة في صياغة الواقع إذا ما كان هدفه إخراج الأطراف المتصارعة من دوامة الاقتتال والاحتراب.
مقدمة بيان المثقفين الشيعة الجدد لا ترفع التباساً بقدر ما تصدر حكم إدانة ”إن المتتبع لنشاط الطائفة الشيعية الكريمة في معظم أنحاء العالم وبالخصوص في الخليج العربي يلاحظ انشغالها شبه التام بالقضايا الطائفية والصراعات المذهبية ومناوشاتها التي لا تنقضي مع أختها الطائفة السنية الكريمة”.
البيان يصدر في موقفه من هذه الإدانة المستفزِة، ليس للعقل ولا للواقع، بل للمشاعر والمواقف. تحمّل جملة الإدانة التي يقوم عليها البيان، الطائفة الشيعية ما يحدث لأختها الطائفة السنية، وكأن هناك أختين إحداهما مشاكسة ومستفزة وتسبب المشاكل، وهناك أخت طيبة مسكينة تعاني من مناوشات أختها. وتبدو الأخت المناوشة لا همّ لها إلا استفزاز مشاعر أختها. هذا التبسيط المخل للواقع الذي تصوغه الأختان يجعل من البيان مبنياً على صورة مجازية لا تبين الواقع بقدر ما تزيده التباسا وغمامة، بل إنها صورة فقيرة ولا خيال خلاّق فيها يمكننا من رؤية الواقع المشحون بالصراعات رؤية نستبين فيها مواضع الخلل.
هل بالفعل الطائفة الشيعية في الخليج مشغولة انشغالا شبه تام بمناوشة أختها الطائفة السنية؟ أين نضع انشغالاتها واشتغالاتها السياسية الوطنية المطالبة بحياة ديمقراطية تقوم على المواطنة والحرية السياسية وتداول السلطة وعودة الحياة البرلمانية، وتجربة الإصلاح السياسي في البحرين، هي ثمرة من ثمرات هذه الاشتغالات والانشغالات السياسية، حتى قيل مسموح لكم أن تنشغلوا بالسياسة، لا أن تشتغلوا بها. مهما كانت نضالات الإسلام الحركي الشيعي مؤطرة بمنطلقات تصدر من تراث الطائفة السياسي والفقهي، فإننا لا يمكن أن نصادر على وطنيتها، ومهما كان اختلافنا السياسي ومهما كان اختلافنا الفكري أيضا. ولعل هذا الإقرار بوطنية المعارضة الشيعية، هو ما يجعل من تحالفاتها مع التيارات الوطنية أمرا واقعا ومقبولاً.
وهذا التحالف هو ما أزعج سياسات التشطير العمودي الذي مازال هو السياسة الفاعلة في نظام حكم الدولة، وهي السياسة نفسها التي تجعل المناوشات بين الأختين لا تنقضي دوما. لكن البيان لا ينص على هذه السياسة التي تمثل معطى موضوعيا يشكل ساحة الصراع السياسي والاجتماعي، هناك واقع موضوعي يشكله من يملك القوة، وعلى البيان أن يوضحه ويكشف دوره في صياغة شكل الصراع.
يبدو أن البيان يريد أن يتصالح مع هذه السياسية أكثر مما يتصالح مع فكرة الدولة وما تتطلبه من إصلاح ديني، فالبيان يدعو إلى التخلص من نظام التقليد والمرجعية في الفقرة 2 من البيان ”نعتقد بأن نظام التقليد والمرجعية الحالي لم يظهر إلا في المائتين عاما الأخيرة فقط ، وكان الناس قبلا يرجعون لأي رجل دين في مسائلهم الفقهية العبادية التقليدية من دون تخصيص ”لكنه يدعو في الفقرة 18 إلى إنشاء مرجعيات وطنية ”نطالب الشيعة العرب بالعمل الجاد لإنشاء مرجعيات دينية وطنية في كل البلدان العربية التي يتواجد فيها الشيعة”، كأنه يريد أن يجعل من المرجعية الدينية نظاماً بوحدة ضبط وطني (بمعنى محلي وليس بمعنى حقوقي دستوري) يسهل لهذه السياسة التي تقوم على التشطيرات العمودية التحكم فيها وإدارتها وتوجيهها بالطريقة التي تريدها.
من المعروف أن أنظمتنا (الوطنية) تريد هي وحدها أن تتحكم في استخدام الدين بما يحقق مصلحتها ويحفظ سلطتها ويسهل إدارتها للناس، وهي لا تريد مرجعيات دينية خارج نطاق نفوذ تحكمها، هذا ما تريده، لكن ليس هذا ما تريده حركة الإصلاح.
فالإصلاح لا يتحقق بجعل نظام المرجعية الدينية وطنيا محليا، بل بجعل المرجعية الدينية خارج لعبة الاستخدام والتوظيف من قبل السلطة السياسية التي مازالت دون فكرة الدولة بمعناها الحديث، ومن قبل التيارات السياسية والجماعات المتصارعة. أي لتكن الدولة خارج لعبة (طاعة ولاة الأمر) وخارج لعبة (ولي الأمر الفقيه).
إن هذا البيان قد وقع فيما وقع فيه بيان الليبراليين الجدد من تبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا، كما تقول صرخة بيان المثقفين الليبراليين غير الجدد، كعناوين: (انسجام الشيعة مع أوطانهم وأخوانهم في الدين والوطن) و(السقطة الحضارية المهولة التي تعيشها الأمة العربية) و(ولاؤنا فقط لأوطاننا وشعوبنا وأمتنا) و(عدم الانشغال بمناقشة القضايا التاريخية، ونطالبهم بالتفاعل مع قضايا أمتهم وواقعهم المعاصر ومستقبلها).
حين تتحول هذه العناوين إلى مقدمات لا تتوافر على حساسية مرهفة في قراءة الواقع والتباساته، فإنها تعجز عن بيانه لأنها تعجز عن رؤيته، فتزيده التباسا، وتكون عرضة للاستخدام والتوظيف من قبل الأطراف المتصارعة، كما بدا الأمر من خلال بعض الجهات التي تلقفت خفة البيان بخفة في التوظيف.
البيان صادر عن سياق سياسي غير معلن، يرى في المحور الإيراني الشر كله، والمشكلة في مكمنها، وكأن أزمة الشيعة والعرب ستحل بمجرد انفكاكهم من المرجعية الإيرانية، وهذا ما تشي به عبارات البيان التي تكثر من استخدام كلمات الشيعة العرب وأوطانهم المحلية ودولهم الوطنية وولاؤهم لأوطانهم. وهذه نبرة قادمة من سياق سياسي، وليس من سياق ثقافي ولا اجتماعي ولا إصلاحي، والسياق السياسي محكوم بمصالح القوى المتصارعة لا برغباتها الإصلاحية. وهذا السياق يتخذ من التشكيك في الوطنية والولاء ذريعة لمهاجة خصومه السياسيين، تماما كما يستخدم المتدينون الكفر ذريعة لمحاربة خصومهم. ولا يليق ببيان إصلاح ديني يقع ضحية استخدام سياسي لا يعيه، وهذا بسبب التبسيط المخل أيضا.
في التبسيط أنت لست ضد الفكرة في ذاتها، لكن ضد أفقها وضد استخدامها وتوظيفاتها وضد نتائجها وضد ما تؤول إليه من تقريرات فجة. مثلا أنت مع فكرة إصلاح ديني ومع فكرة قراءة التكوين الداخلي التاريخي والعقائدي للطوائف، ومع فكرة تفكيك فكرة النيابة، ومع فكرة الحل العلماني، ومع فكرة تحرير السياسة من الدين. لكنك لست مع فكرة توظيف كل ذلك توظيفا سياسيا من قبل قوى متصارعة، ولست مع تبسيط كل ذلك بقراءته خارج سياقات الوضع السياسي والحضاري الملتبس في العالم العربي، ولست مع فكرة توظيف ذلك كإعلان حسن سيرة وسلوك أمام الآخرين، ولست مع فكرة تلفيق خطاب إصلاحي مفصل على وضع سياسي فاسد ومستبد ويعيد إنتاج الأزمات الدينية بأشكال مختلفة.
وهذا البيان بتبسيطيته الشديدة تجاه عناوينا الأهم في حياتنا، ينتج أزمة أكثر مما هو يوضح أزمة، وإحدى جوانب هذه الأزمة أنه جعل من خطابه برسم خدمة ورضاء السلطة السياسية من حيث يقصد أو لا يقصد، وأنه جعل من خطابه الإصلاحي خطاب تشهير وإدانة وإصدار أحكام تستثير ردود فعل مستفزة المشاعر. فعلى سبيل المثال قائمة الأحكام الشرعية التي يقول البيان ”لا نعمل ببعض الأحكام الشرعية التي يقول بها الفقهاء والتي ثبت أنها تخالف كرامة الإنسان وحقوقه الأولية، وهي كثيرة منها ما يلي: جواز الرق وملك اليمين واستعباد البشر .وغزو الشعوب والبلدان الأخرى بعنوان الدعوة إلى الإسلام، جواز الزواج من الطفلة الرضيعة والتمتع بها سائر الاستمتاعات وإرغامها بعد بلوغها على الجماع مع عدم أحقيتها في فسخ العقد”.
معظم الأحكام التي ذكرها البيان، هي جزء من تاريخ الفقه، وتعتبر هامشية وغير معمول فيها. وإبرازها في البيان، سيقرأ كنوع من التشهير وسيستثر الطرف المُشهّر به لوضع قائمة أخرى بالأحكام الفقهية التي تشهر الطرف الآخر وتحرجه.

http://alwaqt.com/blog_art.php?baid=8786

 

 

خارطة مجازات الديري في دليل تدريبي

خارطة مجازات الديري في دليل تدريبي

19 حيلة لغوية تجاوز فيها نفسك والآخرين.. والأهم أن تلعب باقتدار

الوقت – حسين مرهون:

«العبور المبدع»، هو عنوان أحدث مؤلفات الزميل علي الديري، وقد صدر عن المطبعة الحكومية التابعة إلى وزارة الإعلام في 246 صفحة من الحجم الكبير. ويمثل الكتاب الذي حمل عنواناً فرعياً له «استراتيجية التفكير والتعبير باستخدام المجاز» حلقة متطورة في مشروع الديري الفكري القائم على الكشف عن ألاعيب اللغة، لاسيما تلك المتصلة بجوانب البلاغة والبيان.

وقد صدر له في هذا الشأن كتاب سابق «مجازات بها نرى» 2006 في حين يأتي كتابه الأحدث ليتوج هذه الرحلة بدليل تدريبي أقرب من جهة المحتوى إلى «البيداغوجيا» التعليمية، بل هو كذلك حقاً، حيث يتجه فيه إلى عرض الأفكار التي ثمّرها طيلة اشتغاله على مفاهيم المجاز في اللغة، بواسطة الشروحات المستفيضة وبسطها عبر وسائل الإيضاح بما في ذلك الرسوم، والكولاج، وعشرات الأمثلة، والنصوص ذات العلاقة.

الفكرة الأساس التي ينطلق منها الديري في كتابه الأحدث، هي ذاتها الفكرة التي مهرها في كتابه السابق «أن المجاز أداة تفكير»، وعلى ذلك فليس للإنسان أن يباشر عملية التفكير إلا بواسطة أدوات مشفرة استعارياً. فتغدو بذلك كل عدة البيان المعروفة في حقل اللغة العربية من استعارة وتشبيه وكناية وقصص وحكايات وأمثال وغيرها، بمثابة القنطرة التي يعبر بها العقل الإنساني إلى موضوعاته.

فاستحقت من جراء ذلك أن تكون عدّة الكائن في «العبور المبدع»، حسب عنوان الكتاب، وهو وصف يحمل شحنة قيمية، واضحة انحيازات المؤلف لها، وتأكيده عليها مرة بعد مرة. لكن ما كان مرتكزاً في الأساس النظري على مفاهيم جورج لايكوف وعبدالوهاب المسيري، مثلما كان ذلك من شأن كتاب «مجازات بها نرى»، توسع بشكل مذهل في «العبور المبدع». وقد حمل مسرد المراجع قائمة طويلة تضرب في شتى التخصصات من ابن عربي إلى أدونيس وأفلاطون وطه عبدالرحمن وعبدالله الحراصي وفنتجشتاين وبيير ماراندا وهاري ميلز وآخرين.

الكتاب الذي أهداه إلى ابنه البكر باسل مع إهداء طريف ذي علاقة بموضوعته الرئيسة «إلى باسل.. أنتظرك عابراً» هو «ورشة للكتابة» حسب الوصف الذي استخدمه المؤلف في تصديره له «هذا ليس كتاباً، لكنه ورشة تدريب تأخذك إلى جرأة الكتابة». ويحدد الديري الهدف المتوخى من هذه الورشة بأنه «يدخلك مباشرة إلى استراتيجية اللعب بالمجازات».

بيد أنه يستدرك «لن يقول لك الكتاب كيف تستخدمها، لكنه سيجعلك تستخدمها بطلاقة، ومرونة، وأصالة، وتلك هي شروط الإبداع».

ويمضي شارحاً «الكتابة بعين مجازية تتيح لتعابيرنا أن تتسع، وتمتد، وتتنوع بطلاقة، ومرونة، وأصالة (…) هذا الكتاب «الورشة» لايخضع لموضوع يقعد بك، بل لعين تعبر بك الموضوعات كلها» على حد تعبيره.

وفي تصدير آخر يروي الديري حيثيات حية من وقائع هذه الورشة التي انطلقت في إطار برامج التدريب التي تنظمها وزارة التربية لتحسين أداء المعلمين في المدارس. قال «بدأت هذه الورشة في ,2004 ومازلت أبلور أفكارها، وأصقل تطبيقاتها. هذا الكتاب هو حصيلة ما تراكم من هذه الورشة».

وقد حرص على تضمين مقدمته بعض العبارات المستلة من رسائل تلقاها من طريق بعض المشاركات ضمن الورشة وتعكس طبيعة التلقي «المندهش» لموضوعتها. خصوصاً لدى انكشاف الطاقة السحرية التي تختفي وراء استخدامات المجاز، تلك التي تلعب في دائرة السلطة والهيمنة وتلفّ حيث هما، أكثر من لعبها في حقل تزيين المعنى وتفخيمه. الأمر الذي يعد اشتغالاً حديثاً على خلاف اشتغال دروس البلاغة القديمة.

فنقل عبارة لمتدربة اسمها حنان «كنت أرى أن المجاز زينة الكلام، ومدخلاً لتفخيم المعنى»، وهي الحقيقة التي سيعاد تركيبها من جديد لدى انتهاء الورشة «في هذا المكان صارت حنان تعرف أن المجاز مدخل لاتساع العقل، ومرونة الفكر، وأصالة الكلام، وإعادة تركيب الحقيقة، وتفسير الواقع».

كما نقل عبارة أخرى لمتدربة اسمها فاطمة «لم أعلم أن المجاز بهذه الخطورة».

إلى ذلك، يقوم الكتاب على تسع عشرة فكرة نظرية تؤلف لدى تواشجها مع أزيد من تسعين تطبيقاً عملياً ما أسماه الكاتب «استراتيجية العبور المبدع».

في حين تمكن المتدرّب عند إتقانها من أن «يعبر عن أفكاره وأفكار الآخرين» و«يعبر بين أفكاره وأفكار الآخرين» و«يوسع أفكاره وأفكار الآخرين» و«يجتاز أفكاره وأفكار الآخرين» و«يتصل بذاته وذوات الآخرين» و«يلعب بطلاقة وأصالة ومرونة».

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=139365

حوار مع أهداف السويف

الروائية أهداف السويف لـ«الوقت» بعد مشاركتها في نشاط بمركز الشيخ إبراهيم:

أنا واحدة من هؤلاء.. بسبب «رشدي» وآخرين لم أواجه جفاء لندن المعهود

 

الوقت – حوار: على الديري – تحرير: حسين مرهون:

قد لا تكون حظوظ القارئ العربي من الاطلاع على تجربة أهداف السويف كبيرة. فهي تكتب باللغة الإنجليزية، وعيشها وتجربتها ارتبطا معاً بالعيش والتجريب ضمن حدود هذه اللغة. لكن العزاء، أنها هناك؛ حيث تصطخب ترددات اللغة الأكثر عالمية في عصرنا، حفرت اسمها. الكاتبة الإنجليزية من أصل مصري، والتي ربطتها وشاجة استثنائية بالمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، هي اليوم واحدة من قلة من الأسماء العربية التي تكافح على أرض ثقافة الآخر. باسم الأدب حيناً، وباسم القضايا العربية حيناً آخر. وهي واحدة من قلة من المثقفين أيضاً، الذين لم يكتفوا بجعل الآخر ”آخر” فقط، ويستريحون إلى المسافة البرزخية بينه وبينهم. فكان هذا الآخر إغناء للذات، وجزءاً تلقائياً منها، حتى لتكاد تمّحي آخريته تماماً. ”الوقت” التق أهداف السويف على هامش مشاركتها في سيمينار عن تجربتها مع جمهور مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. وفيما يلي مقتطفات:

حوار علي الديري مع أهداف السويف

حين تحدثت في محاضرتك عن ترجمة ”في عين الشمس” من قبل والدتك فاطمة موسى (1927 – 2007) التي هي أحد أبرز الأكاديميين و نقاد الأدب في مصر والعالم العربي، بدا وكأن في صوتك نبرة من الحزن والعتب، حزن على والدتك وعتب على المترجمين، وكأن ذهاب والدتك، ضياع للغة يمكنها أن تترجم رواياتك.هل تشعرين أن فرص ترجمة رواياتك قل بذهاب والدتك؟

– في الواقع، هناك عروض عدة لترجمتها. لكن المشكلة تكمن فيّ شخصياً. فأنا متلقية جيدة للعربية، الأمر الذي يخلق نوعاً من الصعوبة في قبولي للترجمة المقترحة. فأنا عربية أولاً وأخيراً. صحيح أنني لا أكتب بهذه اللغة، وربما لا أعرف حتى كيف يكون ذلك، ولكن لديّ حساسية حيال اللغة العربية، وأريد، حين تكون هناك ترجمة إليها ألا تجيء وكأنها عمل مترجم. عندما تتم ترجمة أعمالي إلى اليابانية أو الإنجليزية أو الألمانية، لا توجد أية مشكلة لديّ، فأنا في الأقل لا أعرف بهذه اللغات، وليست هناك فرصة لأن أفكر بها أو أعيش إحساسها، ولكن حين يتعلق الأمر بالعربية فإن الأمر مختلف، حيث إن لي رأياً هنا، ورأيي صعب جداً.

ألا تشعرين بأن حضورك في العالم العربي ليس بالقوة التي هي لك في العالم؟

لولا أمي لما أصبحت

– من جهتي، لا أرى الأمر بهذه الطريقة، كل مافي الأمر أنني غير متواجدة بالحجم المناسب بسبب ظروف كتابتي باللغة الإنجليزية. الأمر الذي يجعل من حضوري غير متاح، كمثل ذاك الذي يمكن أن يكون لو كنت كاتبة باللغة العربية.

؟ كيف هو حضور والدتك ”فاطمة الموسى” في وعيك وأيضاً في وعي عالمك الروائي، وذلك بوصفها شخصية ثقافية وأكاديمية ونقدية وأدبية ورائدة من الرواد الذين فتحوا الشرق على الغرب؟

لو لم تكن هناك أمي، فاطمة موسى، لما أصبحت ما قد أصبحته الآن. قد تكون ملكة الكتابة موجودة لدي، فالإنسان يوجد بملكة معينة، وكنت سأكون كاتبة، لكن ربما لم أكن لأشتغل في حدود ما أنا مشتغلة به الآن. فقد تعلمت الإنجليزية منذ كان عمري أربعة أعوام، وذلك بسبب ظرف تحضير أمي للدكتوراه في لندن، وكنا معها. ولو لم يكن ثمة هذا السبب لما أصبحت الإنجليزية لغتي الأولى، وربما كانت ستصبح الثانية أو الثالثة، ولم أكن لأكتب رواياتي بالإنجليزية. أي أن المسار كان سيختلف تماماً. مع تنويهي هنا، إلى أنني لا أرى أن ثمة أفضلية للغة على أخرى، أو لأدب على أدب، كل ما في الأمر أن المسار كان سيكون مختلفاً. وأمي هي من أكسبتني عادة القراءة، فقد كانت تجلب لي الكتب، وقت لا أكون في المدرسة، من أجل إشغالي وجعلي أمكث جنبها في الوقت الذي تنهمك هي بأداء واجباتها المنزلية. وهكذا حتى ساعة عودة والدي. وكنت كلما أنهيت كتاباً ناولتني غيره. وحين كانت تنفد كتب الأطفال، تناولني بعفوية عادية أياً من الكتب الأخرى خاصتها. فكانت بذلك تكوّنني من حيث لم تكن تدري أو تقصد ذلك. حين أنهت الدراسة وعدنا إلى مصر، كنت في السابعة من عمري. ولم يكن متاحاً لي شيء آنذاك غير القراءة في مكتبتها، والقراءة، والمزيد من القراءة. فكانت هي تكتب النقد في الجرائد، وكنت ساعة إيابي إلى المسرح أقرأ المقالة التي كتبتها.

ماذا عن التكوين النضالي الذي ربطك بقضية فلسطين والعرب وإدوارد سعيد، هل هو جو العائلة الذي جعل من أختك الوسطى ليلى أستاذة الرياضيات في جامعة القاهرة، ناشطة حقوقية يسارية معروفة؟

لقد نشأ معظم أفراد عائلتي في فترة إرهاصات الثورة. فليلى كما ذكرت ناشطة يسارية. وأبي سجن نحو السنة الواحدة إبان الملكية. كما سجن خالي سنتين بسبب نشاطه في التنظيمات اليسارية. ولكن من جهتي لم أكن أكترث إلى السياسة وقت كنت طالبة، كنت أشارك فيها نظرياً، في النقاشات التي تجري، سواء في المدرسة أو على الغداء حين أجتمع وأهلي. ولكن عملياً، لم أرتبط بالنشاط السياسي على نحو مباشر كما فعلت أختي ليلى. ونشاطي في الخارج لأجل القضية الفلسطينية، بالكتابة في الصحف والأشياء الأخرى، جاء بسبب رغبتي في ملء فراغ شاغر يتعلق بالقارئ الغربي، كان ثمة الكثير هناك من يشغلونه. فكانت وجهتي بهذا الصدد.

في لندن كان حظي جيداً

في كتاب عبدالفتاح كليطو ”لن تتكلم لغتي” يطرح إشكالية إتقان لغة الآخر، وفكرته تقوم على أنك إذا أتقنت لغة الآخر لدرجة أن تكون قد امتلكت كل أدواتها وتفاصيلها الصغيرة، يشعر الآخر كأنك استوليت عليه، كأنك لم تترك له شيئا، فتتولد حالة من الامتعاض والضيق، وكأن الآخر، يقول لك تعلم لغتي لكنك لن تتكلم لغتي كما أنا أتكلمها، هو لا يريد الاعتراف لك بأنك تتكلم بجدارة لغته. هل الخمسون عاما التي عشتها مع الآخر وتكلمت لغته منذ كان عمرك 4 سنوات، شعرت خلالها أن هناك من يقول لك: (لن تتكلمي لغتي)؟

لا، في الفترة التي جئت فيها إلى لندن كان حظي جيداً. كان ثمة كتاب أصبحوا ذوي شهرة مثل سلمان رشدي وغيره. كان هناك نحو ست أو سبع شخصيات مثقفة ذات صيت، وقد أتت جميعها من مجتمعات وثقافات مختلفة. فاستحوذت على انتباه القراء كما حازت على كثير من الجوائز. لذا كان من الصعب تهميش هؤلاء، في حين تكتسب الإنجليزية صفة العالمية. الأمر الذي لم يكن ينطبق عليّ، ولا على هؤلاء، الحال الذي ذكرت. فإذن، كما أسلفت كان حظي جيداً.

في ”عين الشمس” كان يقال إنك كنت تداخلين عالمين مع بعضهما، كأنك كنت تكتبين العالم المصري العربي للإنجليزي، وتكتبين العالم الانجليزي للعربي، كأنك تتيحين لكل عالم أن يرى نفسه من خلال العالم الآخر. أنت تعرفين من خلال صلتك بعمل إدوار سعيد، أنه اشتغل على حقل ما بعد الاستعمار، وكان يتساءل عن المتبقي منه في الوعي. هل واجهتك هذه المسألة في أعمالك الروائية؟

بداية تشكل الوعي

– بالنسبة لي، فقد تشكل وعيي في فترة كان الاستعمار فيها يغادر المنطقة العربية. صحيح أنه كان موجوداً، ولكن لم أعايشه بشكل مباشر أو أحس به. جئت في زمن الثورة، وكان ثمة إحساس سائد آنذاك أننا قد انتصرنا عليه، أو أننا شعوب منتصرة ونعيش في عصر مغاير يحتم علينا أن نأخذ من ثقافة الآخر وأن يأخذ هو أيضاً من ثقافتنا.

ألم تراودك مسألة ما الذي بقي من الاستعمار؟

– نعم، بيد أن الاستعمار الذي لحق بمصر كان من النوع الذي يمكن وصفه بـ ”الخفيف”. صحيح أنه كان ثمة تدخل فظيع على المستويات السياسية والاقتصادي، وكان ثمة ظلم ومشانق، ولكن على المستوى الثقافي كان تأثير الاستعمار هو الأقل. حين وطأ المستعمر أرض مصر، كان موجوداً آنذاك مثقفون مثل محمد عبده وغيره. لذا فإن هؤلاء هم من كانوا يؤثرون في الثقافة، بأكثر مما هو الاستعمار في الحقيقة. لكن على المستوى الشخصي، فأنا متأثرة بالعالم الغربي كثيراً، ذلك بسبب طبيعة وجودي في لندن، وحين تقرأ رواية ”عين شمس” لن تستشعر أن ثمة مشكلة هناك بين منطقتنا ومنطقتهم.

ماذا عن التقائك بادوار سعيد؟

لقد التقيته وقت كنت أهم بكتابة ”خارطة الحب”. وقد تأثرت بلقائه كثيراً، إلى حد أنه يمكنني الزعم إن هذا العمل كتب على خلفية المشاعر التي تشكلت لدي في غضون هذا اللقاء. وكنت في أوقات كتابتي له دائمة التفكير في إنهائه، كيما يتمكن من قراءته. وهناك مقالة كتبتها ممثلة مصرية رأت فيها أن الشكل النهائي لمشروع ادوار سعيد قد تمثل في روايتي هذه.

رواية (رأيت رام الله) لمريد البرغوثي، هو العمل الروائي الوحيد الذي ترجمته إلى الإنجليزية وكتب مقدمته إدوارد سعيد، لماذا هو الوحيد؟

في الأصل، كان مريد البرغوثي على علاقة شخصية بإدوارد سعيد ويعرفان بعضاً منذ زمن. وحين شرعت بترجمة الرواية، لم أكن أعرف أن إدوارد سيتولى، في النهاية، عملية كتابة المقدمة. كما لم أكن أعرف أن كتابته للمقدمة كانت على أساس أنني أنا من قمت بترجمة الرواية، بما يمثل نوعاً من الرضى عن الترجمة. لكن في النهاية، كان ما حصل، وقد انتشرت الرواية انتشاراً كبيراً بسبب مقدمته. كانت هذه ربما إحدى مظاهر الالتقاء بيننا.

هل هناك مشاريع أو أنشطة معينة تم ترتيبها بينكما باعتباركما تشتركان في مهام ثقافية مشتركة؟

نعم، كانت أول رحلة لي قمت بها إلى فلسطين في العام 2000 قمت بها تحت غطاء من إدوارد سعيد. فهو أول شخص كلمني في الأمر. كما رشحني من جانبه لكتابة مقدمة أحد كتبه، لدى طباعته مرة ثانية. وهي من التجارب التي مازلت راضية عنها.

المنفى كان أختياري

ماذا عن زواجك من أزين هاميلتون وهو شخصية نقدية وشعرية إنجليزية معروفة؟

– لم أكن لأحب زوجي وأرتبط به فيما بعد لولا حبي للأدب الإنجليزي. وقد أحببته فعلاً بعد قراءة ديوان شعره. لقد جرى لقائي به من خلفية أدبية.

هل تبلورت مشاريع مشتركة من خلال هذا الزواج؟

– لا، ولكن زوجي كان قارئي الأول. كنت أكتب كي يعجب بما أكتب ويقول لي هذا رائع. كان لي بمنزلة الناقد الأدبي. فكان حين يقرأ الفصل الذي أنجزه، كنت أترقب من جهتي ردة فعله لأعرف ما إذا كان جيداً أو رديئاً. كان يصارحني بالأمرين معاً. وكانت هذه نقطة مهمة جداً على صعيد تجربتي.

وكيف كان طلاقك منه؟

– أنت تعرف أن الزواج قيد على المبدع، لكن على رغم من ذلك فقد بقينا أصدقاء وزملاء نحترم بعضنا. ”زمالة أدبية” كما صرت أسميها. لم يكن هناك طلاق بالمعنى التقليدي للطلاق، فقد استمرت الأسرة، ولكن كان هناك ثمة فراغ غير مملوء فيها. ذلك كان حالنا. إنني أفتقده الآن، فقد رحل منذ العام 2001 بعد سنة واحدة من ذهابي إلى فلسطين. وقد كان ذلك سبباً في جعله يكثف من اهتمامه بهذه القضية. وبدأ يراسل أصدقاءه في العالم الأدبي شارحاً لهم أبعادها. لكن لم يقدر له العيش ليواصل هذا الجهد. في الرؤية إلى الشرق، كان كمثقف بريطاني، مستعداً بشكل كبير لتغيير قناعاته. وقد ساعدته خلفيته اليسارية على ذلك. حتى تشكل رأي عام أنه من المساندين لقضية فلسطين.

؟ أخيراً، هل تعتبرين نفسك خارج المكان كما كان إدوار سعيد؟

– لا، لأن إدوارد كان فعلا خارج المكان بسبب كونه فلسطينيا. أما أنا فقد كنت دائماً متواجدة في مصر. أي لم تختف الأرض من تحت رجلي. هناك شعور بالمنفى، ولكن هذا المنفى اختياري تماماً. فأنا التي قررت أن أحب وأتزوج في لندن. وأنا التي وضعت نفسي في هذه الوضعية، في حين أن الأمر مختلف بالنسبة لإدوارد.

ببلوغرافيا أهداف السويف

– هي أديبة مصرية تكتب بالإنجليزية وتعيش بين القاهرة ولندن.

– تخرجت من كلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1971 بقسم الأدب الانكليزي ونالت الدكتوراه في العام .1978

– قامت بالتدريس في آداب القاهرة في بداية السبعينات ، ثم سافرت الى لندن للدراسة واستقرت هناك حيث تزوجت من الشاعر الإنجليزي المعروف أزبن هاميلتون.

– صدرت لها أول مجموعة قصصية في العام 1983 وهي باللغة الانكليزية بعنوان ”عائشة” ثم صدرت لها الرواية ذائعة الصيت ”في عين شمس” العام .1992

– ومن مؤلفاتها أيضاً ”زينة الحياة” و”زمار الرمل” و”خريطة الحب”، والأخيرة تتحدث عن بدايات الاستيطان اليهودي في أرض فلسطين.

أحدث إصداراتها هي «في مواجهة المدافع.. رحلة فلسطينية»، وهي مجموعة من المقالات الأدبية، وقد منحت الدكتوراه الفخرية من جامعتين بريطانيتين.

 

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=138226

حكم الطائفة

«الدين يَحْكُم ولا يُحاكَم، والدولة تَحكُم وتُحاكَم[1]» متى صارت الدولة تحكم ولا تُحاكم، صارت ديناً، وفقدت فكرة الدولة ومنطقها، وكذلك الجماعة السياسية، تَحكُم وتُحاكَم، ومتى صارت تحكم ولا تُحاكم، صارت طائفة دينية، وفقدت فكرة الجماعة السياسية ومنطقها القائم على المحاسبة والفوز والهزيمة.
يبدو أن الحكم باسم الطائفة وممارسة السياسة باسم الطائفة، قد غدا بديلاً رابحاً للجماعات السياسة، وملجأ آمنا لها، وقد فتح سوق السياسة على جنات لا نهاية لصورها وتداولاتها. الحكم باسم الطائفة وممارسة السياسية باسم الطائفة يأتي في صيغ عدة تبريرية: استنهاض الطائفة، الدفاع عن ظلامة الطائفة، استرداد حقوق الطائفة، مواجهة طائفية الطوائف الأخرى، استنفاد الحلول السياسية، تحصين الطائفة، مقاطعة أنظمة الجور، طائفية النظام السياسي.
ويبدو أن خصوبة التداول قد جعلت الحديث عن الطائفية، يدخل في مرحلة الفوضى الدلالية، فلم نعد نعرف ماذا تعني الطائفية، أو صارت تعني الشيء ونقيضه، أو لنقل صارت تستعمل في أغراض سياسية بين خصوم متباينين، من دون أن تعني شيئاً مناقضاً عند طرف من دون الطرف الآخر. باختصار، فقدت كلمة الطائفية قدرتها على أن تدل، وفقدت قابليتها على أن تُكذّب. هل تستطيع أن تكذّب أحداً أو جماعة تتبرأ من الطائفية؟
من هنا يأتي الحديث عن الطائفة لا عن الطائفية من أجل تجنّب هذه الفوضى الدلالية، محاولة للدخول عليها من زاوية تؤمن قدراً من الوضوح والتحديد. وقد اخترت أن أدخل على مفهوم الطائفة من خلال فؤاد إسحاق خوري، وذلك لما يتوفر عليه هذا الباحث من معالجة جديدة ودقيقة وحصيفة في قراءة الواقع الميداني.
من جانب آخر يبدو أن الحديث عن الطائفية قد صار بديلاً عن الحديث عن الطائفة، مع أنها مشتقة منها، فلا يمكننا أن نفهم هذا المشتق إذا لم نفهم المشتق منه، أي لا يمكننا أن نفهم الطائفية إذا لم نفهم مفهوم الطائفة. من هنا تأتي أهمية الدخول أو الرجوع، الدخول على موضوع الطائفية من خلال الطائفة، أو الرجوع إلى مفهوم الطائفة لفهم الطائفية.
الطائفة نظام اجتماعي وديني ودنيوي مركب، وما يفعله إسحاق خوري يتمثل في أنه يقدم مادة علمية لفهم هذا التنظيم المركب، وكيف يشتغل في المجتمع. وإذا كان الخطاب الاجتماعي والسياسي والديني قد جعل من الطائفة كياناً مقدساً لا ينبغي ذكره إلا بعبارات التبجيل والاحترام، فنقول الطائفة الكريمة، ونقول الطائفتين الكريمتين، ونقول مقدسات الطائفة، واحترام الطائفة، وحقوق الطائفة، ومصالح الطائفة، ودفع الضرر عن الطائفة، واستنهاض الطائفة.
تشتغل هذه التعبيرات كمسلمات في خطابنا الاجتماعي والسياسي، وهي توحي بأن كل ما يضاف إلى (طائفة) يصبح محصناً عن النقد. وحدها الطائفية فقط الشيطان الذي يتبرأ منه الجميع، وتبقى الطائفة وحدها التي يتحصَّن بها الجميع ويتذرعون. حتى إنها غدت وفق التعبير الانجليزي ملجأ للنذل. أي ملجأ يلتجئ إليه كل من يقومون بأعمال تخدم مصالحهم الشخصية وجماعتهم الحزبية ومرجعياتهم المسيسة، وهم بهذا اللجوء يسترون أفعالهم الشنيعة وفسادهم الأخلاقي، وكأنهم يخفون فسادهم بها.
الإضافة إلى الطائفة صارت آلية تبرير في تقرير المظنونات وإسكات الاعتراضات وتحويل الآراء إلى بديهيات غير قابلة للنقض.
وإذا كنا سنقبل على مضض مؤقت أن الطائفة أمر مقدَّس، والطائفية أمر مدنَّس، فإننا لن نقبل أن يكون تنظيم الطائفة أمر مقدس. ونعني بالتنظيم هنا الآليات التي تحكم بها الطائفة وتدير من خلالها جماعتها، وتنشئ سلطتها عليهم، وهذا المدخل هو ما أرى من خلاله مفهوم الطائفة، ومنه يأتي اشتقاق الطائفية، وفيه تتقاطع إرادات القوة والهيمنة والمصلحة والانفتاح والانغلاق والرغبة في التسلط والاستئثار.
الطائفية ليست مشتقا لغويا من الطائفة فقط، بل مشتقاً فكرياً منها، من نظام سلطتها الدنيوية، وحكمها وأمرها. فليست الطائفة مجموعة من المعتقدات الدينية البريئة من صراعات التاريخ والحاضر، بل هي تشكيلة من الآليات المركبة في هيئة سلطة تعمل على تثبيت هذه المعتقدات في جماعتها والدفاع عنها والترويج لها وتجسيدها في الواقع، فليس مضمون المعتقدات بريئاً من التورط في هذه الممارسة الدنيوية.
هناك «ما يجري في الحاضر من التاريخ[2]». (ما يجري) من صراعات سياسية وتنظيمات اجتماعية وسياسية للجماعات المتصارعة في التاريخ. قدرة هذه الصراعات وأشكال التنظيم على أن يستمر جريانها في الحاضر في صيغة طوائف كريمة، هو ما يُعطي للطائفة سلطتها في أن تَحكم، ولا تُحاكم.
[1]،[2] فؤاد إسحاق الخوري، إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي. بيروت: مركز دار الجامعة، ط، .198

 

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8645

حوار مع فواز طرابلسي1-2

على هامش محاضرته بمركز الشيخ إبراهيم.. فواز طرابلسي يتحدث لـ «الوقت»:

نشهد سقوط الأوهام.. وعلى «اليسار» استعادة بعض الثقة فالأيديولوجيا لم تمت

الوقت – علي الديري – تحرير – حسين مرهون:

ما من شك أن اليسار الآن يشهد أزهى فترات مجده منذ سقوط المعسكر الاشتراكي. أزمة مالية عالمية تؤكد كثيراً من تحليلاته. وعودة أثيرة إلى الخطاطة الماركسية من أجل استلهام الأجوبة على ما يحدث. والأهم من ذلك، تنامي بريق الحركات الاجتماعيةفواز طرابلسي في عدد من البلدان، وتسلمها مقاليد الحكم في نحو خمسة بلدان لاتينية. فما الذي يحدث* هل فعلاً العالم اليوم يتجه يساراً* هل الرأسمالية تتآكل* أم أنها تمتلك منطقها الخاص الذي تتجدد من خلاله، رغم الصعوبات التي تواجهها* هل آل الحل بين يدي الإسلاميين كما يجري تبسيط ذلك من بعض دعاة الإسلاموية* ربما مناقشة كل هذه الأفكار مع واحد من أهم وجوه اليسار العربي الآن، لكن غير التقليدي، كفيل بتوسيع أفقنا حيال هذا النوع من الأسئلة «الوثوقية» إلى حد ما. «فواز طرابلسي» كان ضيفاً أواسط هذا الأسبوع على مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وألقى محاضرة ذات صلة. «الوقت» التقت به في أثناء ذلك، وفيما يأتي مقتطفات:

 

* دعنا نبدأ من اللحظة الراهنة للدخول على عالمك الخصب بمشاربه الفكرية والسياسية والاقتصادية، إنها بالتأكيد لحظة السوق والانهيارات المالية. قلت أكثر من مرة إنك مازلت ماركسيا، وأريد أن أعرف بما تبقى من أطياف ماركس لديك، كيف تقرأ هذا الحدث العالمي اليوم*

– سبق وأن نشرت موضوعاً ذا صلة في جريدة السفير اللبنانية. بنظري، إن ما يتبقى من ماركس اليوم، هو النظرية، نظريته في نشوء رأس المال وتطوره ناهيك عن أزماته. ثم القوانين التي تحكم كل هذه العملية. كما ترى، ثمة قراءات عدة أخذت تنطلق من جراء الأزمة الأخيرة الناشئة عائدة إلى النظرية الماركسية، بما يمثل إعادة اعتبار إلى مفاهيم ماركس الرئيسة. أما أنا إن كنت تسأل عن رأيي، فأقول باستلهام كل هذه المفاهيم، إن رأس المال متعولم بالضرورة. وبالتالي فالعولمة التي يجري الحديث عنها ليست العولمة الأولى، كما قد يُتوهم، إنما هي العولمة الثالثة. العولمة الأولى كانت العولمة التجارية وانطلقت مع اكتشاف أميركا. العولمة الثانية هي العولمة الصناعية، وهي التي تحدث عنها ماركس. فكانت أفكاره بهذا الصدد عن أن هناك منطقاً داخلياً يحكم رأس المال، وهو ديمومة بحثه عن المنفعة، وتعميقها، وعن أسواق جديدة. أما العولمة الثالثة، فهي تلك الجارية مفاعيلها حالياً، وهي أرقى أشكال العولمة، خصوصاً لجهة ارتباطها بالمعلوماتية والإعلام، وكذلك بفتح الأسواق بعد أن كانت مقفلة نوعاً ما. على الأقل أخذاً باعتبار أن ثلث البشرية كانت تقع ضمن حدود المعسكر الاشتراكي. لكن ألفت النظر هنا إلى أن ماركس اكتشف الأزمات القصيرة المدى، أي ما ينتج عن الرأسمالية المتعولمة من أزمات من قبيل الركود الاقتصادي وتقلص الأسواق والبطالة إلخ. أما الأزمات بعيدة المدى، فلم يتطرق إليها ماركس، وتطرق لها مفكرون آخرون، مثل المفكر السوفييتي كونترال وغيره. وهناك بحوث حديثة تذهب إلى أننا الآن في طور انتهاء أزمة الثلاثين سنة، أي تلك الواقعة بين السبعينات؛ حيث الازدهار، والألفينات؛ حيث ما صرت تعرف الآن. كل هذه الأفكار وغيرها إنما تعيد الاعتبار إلى الوظيفة الأولى للماركسية بوصفها علماً في نشوء الأزمات الاقتصادية، وتطورها. وبالتالي فهي تمثل مصدراً خصباً لفهم عالمنا المعاصر.

نقد الأوهام

* على مستوى المراجعة الذاتية، هل الرجوع إلى ماركس، سيتيح فرصة لقراءة الرأسمالية قراءة جديدة، غير أيديولوجية*

– إنها تتيح الفرصة لنقد الأوهام التي عمقتها الليبرالية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، والقائمة على النظر إلى السوق من زاوية إنها اليد الخفية التي توزع الخيرات بعدالة، وهي التي تحدد أعلى معدلات النمو و و… في حين أن الصحيح، هو أن السوق هي مصدر الأزمة. ذلك أن الوجه المالي المتضخم للرأسمالية المتعولمة هو منتج الأزمات الدولية. وأقول بالمناسبة، إن ما يجري حالياً لا يمثل الأزمة الأولى، كما قد يتوهم، صحيح أنها الأضخم والأكبر، لكن ثمة أزمات أخرى سبقتها لذات الأسباب. وذلك من قبيل بورصة نيويورك، وأزمة المكسيك، وأزمة الأسواق الآسيوية إلخ… فالعالم يشهد، منذ أن بدأت الرأسمالية المتعولمة، أزمات احتاجت وستحتاج دائماً تدخلاً من الدولة لإنقاذها. فالولايات المتحدة جمعت قرابة 50 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد البلجيكي من الانهيار. في الوقت الذي كان يعد هذا الاقتصاد نموذجاً للنجاح الليبرالي. بالتالي فإن تصوير الأمر حالياً على أنها المرة الأولى التي تتدخل فيها الدولة، فهذا غير صحيح. بهذا المعنى، فإننا نشهد الآن تساقط كثير من الأوهام، وعلى رأسها فكرة أن الدولة يجب ألا تتدخل في الاقتصاد. أبداً هذا غير صحيح، الدولة كانت ولاتزال مطالبة بأن تتدخل لإعادة توزيع رأس المال بعدالة. فالدول هي التي فرضت ما سمي بإعادة الهيكلة، وهي التي قامت بوضع التشريعات اللازمة، والأسواق أديرت بواسطة دول وكذلك رفع الحماية الجمركية. فلاشيء اسمه عدم تدخل. الولايات المتحدة تزعم أنها لا تملك ما يسمى «قطاعاً عاماً» في حين أنها تملك قطاع «البنتاجون» للسلاح والخدمة العسكرية الذي يمثل فخر الصناعة الأميركية اليوم. إنه قطاع عام لكن مغلف. ثم جاء الكشف حديثاً عن أن شركات النفط الأميركية – التي تربح مئات المليارات سنوياً – تتلقى الدعم من الحكومة. الأمر الذي وعد باراك أوباما في حملته الانتخابية بأنه سيلغيه. كل هذا ويقال إنه لا وجود لدعم حكومي أو لا دخل للدولة. لكن السؤال الأهم: تتدخل الدولة لصالح من* للرأسمال الكبير، كما هو الحال مع شركات النفط. أم لصالح أكثرية السكان المحتاجين*. إن ما يجري ليس الأخير للأسف، وهو ما يؤكد مقولة ماركسية ثانية، أن الدولة ليست سوى الجهاز التنفيذي لإدارة شؤون الطبقة المسيطرة.

* بقدر ما للحدث بضخامته من قدرة على أن يكتشف أوهاما ويحطمها، كما استعرضتها أنت الآن، فهو من جانب آخر، ينتج لنا أوهاما مقابلة أو يعود لإحياء أوهام شبه مندثرة. هل ترى أن اليسار الماركسي في العالم العربي سيعود إلى أوهامه أو ينتج أوهاماً جديدة، من دون أن يكون قادراً على أن يقرأ الحدث في عمقه*

– بداية، لا يجوز أن نستنتج من الأزمة المالية نتائج اجتماعية وسياسية لا تتحملها أو هي غير موجودة. فما يزال باكرا الحكم على النتائج المتمخضة عنها. هناك توقعات الآن تذهب إلى أن الأزمة يمكن أن تنتقل من الدائرة المالية إلى دائرة الإنتاج؛ حيث ستصاب الاقتصاديات الغربية بحالة من الركود. ما يمكن أن ينتج عنه انخفاض هائل في الاستهلاك والطلب، وبالتالي تسريح أعداد هائلة من العمال والبطالة. لكن هل سيؤدي ذلك إلى نمو حركات اجتماعية جديدة* نعم، أعتقد أن ذلك حتماً سيحدث في الغرب أما في بلداننا العربية فإن الأمر مختلف. فعلى رغم كوننا بلداناً نعيش في القلب من عملية العولمة، إلا أننا نتصرف وكأننا على هامشها. غريب ما يحدث.

الماركسية ليست مطلقة الصحة

* على مستوى التلقي الديني بدأت الاتجاهات الإسلامية تتحدث عن حلول إسلامية لمعالجة الأزمة المالية العالمية، وعن وجود بديل إسلامي لنظام السوق الرأسمالي، وعلى مستوى تلقي اليسار، بدت خطاباته تؤكد صحة الاقتصاد الماركسي وحتمية سقوط الرأسمالية، استنادا إلى دليل أزمة السوق الرأسمالية الحالية. هل يمكن أن نعد هذه من الأوهام المقابلة التي بعثتها أوهام أزمة الأسواق مطلقة الحرية*

– دعني أنبه أولاً إلى أن ثمة مقولات كثيرة في الماركسية لم تصح. بما في ذلك مقولات تتعلق بمصير الماركسية نفسها. فماركس توقع أن تزول الطبقات الوسطى ويتولد استقطاب بين رأس المال الذي يشكل أقلية مع العمال، وهؤلاء هم الأكثرية. وأن الانتقال إلى الاشتراكية يكون بواسطة عملية ديمقراطية. وكل هذا لم يحدث. لذلك أقول لا يوجد شيء اسمه، سقوط الرأسمالية. فالرأسمالية تطبع عالمنا، أما ما سقط فهو ذاك الادعاء بشأن أنها نهاية التاريخ، وتحديداً الرأسمالية المنتصرة التي تملك جواب مشكلات العالم. وقد تبين أن الرأسمالية لا تملك حلولاً للمشكلات التي تنشئها، سوى أنها تأخذ من الفقراء لتعطي الأغنياء. وذلك تحديداً ما فعله جورج بوش، حين أخذ المال من دافعي الضرائب وذهب إلى تزويد الأغنياء بها. وقد أسميت ذلك، تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح. أما ادعاءات الحركات الإسلامية، فهي لا أساس لها، والجواب على ذلك يأتي من معرفة أن هذه الحركات هي نفسها حركات ليبرالية رأسمالية. في لبنان مثلا، تجد أن الخصخصة الوحيدة التي حصلت، حصلت على يد وزير الكهرباء التابع لحزب الله. كذلك تجد أن البرامج الرئيسة للحركات الإسلامية تتحدث عن السوق وقدسية الملكية الفردية في مقابل الدولة والزكاة (التي تقوم على الإحسان) في مقابل النظام الضريبي و و…

* هل هذا ما عنيته في مقالتك «ما بين بوش وبن لادن من ليبرالية*»

يشتغل خطاب أسامة بن لادن بين «حد» الجهاد و«حد» الرأسمالية السوقية الصافية، رأسمالية الاقتصاد الحر و«اليد السحرية». فتنظيم «القاعدة» تنظيم «ليبرالي» في الاقتصاد بكل ما للكلمة من معنى. فهل تختلف عنه سائر التنظيمات الإسلاموية التي قد لا تشاركه رؤياه ولا وسائل فرضها*

حقيقة الأمر انه من جبال الجزائر إلى هضبات الأناضول التركية مروراً بحواري القاهرة والاسكندرية وسوق صنعاء وحتى ضاحية بيروت الجنوبية، قد لا تجد نغمة تشذّ جذرياً عن هذه النغمة. معظم التنظيمات الإسلاموية ليبرالية في الاقتصاد وإن لم تكن ليبرالية في السياسة. من اجل استظهار المشترك بينها يمكن القول إنها تتشارك في ما بينها في أربعة منطلقات:

ـ مبدأ السوق.

ـ الملكية الفردية.

ـ الربح (مع الالتزام بتحريم الربا).

ـ ممارسة الإحسان.

قد يقال الكثير هنا. لكننا نريد التساؤل عن الفارق بين هذه المبادئ وبين مرتكزات العولمة الأميركية، عولمة لاهوت السوق وقدسية الربح والملكية الفردية وأوهام «اليد السحرية» للاقتصاد الحر تحقق التوزيع العادل بين فئات المجتمع.

والتساؤل هو بالتالي عن مقدرة الإسلاميين على التصدي لتحديات العولمة الأميركية، عولمة الشركات المتعددة الجنسية، والفقاعة المالية، وجزر الرفاه وسط عوالم مهمشة ونافلة، إلى آخره.

لذا أعتقد أن الحركات الإسلامية، كائناً ما كانت مذاهبها، لا تمتلك الجواب المختلف عن الرأسمالية. اللهم عدا تصورها ذاك لها بأنها مصدر الفساد الأخلاقي و و… في حين أعتقد أن اليسار على خلاف ذلك. ورغم كل ما يقال عن اليسار، إلا أن عليه الآن استعادة بعض معنوياته. هذه فرصة ليكشف بأن له دوراً في الحركات الاجتماعية، كما في إعادة الاعتبار للعامل الاقتصادي ودوره في حياة البشر.

هناك حاجة إلى النظرية

* خرجت من «منظمة العمل الشيوعي في لبنان» في ,1984 وتبنيت مبدأ النقد الذاتي وسعيت إلى إقناع العدد الأكبر من اليساريين بأن مهمة اليسار أن يعيد تأسيس نفسه لا أن يستمر حيث كان. إلى أي حد أتاح لك هذا الخروج المبكر، فرصة لقراءة الأزمة المالية الرأسمالية اليوم برحابة وموضوعية*

– إن جلد الذات موضوع مختلف عن نقد الذات. أنا أفهم أن النقد الذاتي هو مراجعة الأخطاء وإسقاط المفاهيم والأوهام الخاطئة لصالح إعادة إنتاج صورة جديدة لعالمنا. ثمة عصر جديد، هو بالدرجة الأولى عصر العولمة. بالتالي فهناك حاجة لفهمه بوسائل جديدة. وأعتقد هنا أن كثيراً مما يسمى بالنقد الذاتي إنما هو نوع من التخبط أو المعاندة أو الندم. فكان من جراء ذلك، الخيار السهل لعدد من المثقفين، سواء كانوا يساراً أم قوميين وحتى إسلاميين، الانتقال من عالم الالتزام الفكري إلى عالم آخر، وليكن ذلك العالم هو الليبرالية. هذا أسهل الخيارات بديلاً عن إعمال آلة النقد الذاتي. في حين أعتقد أن التحرر يجب أن يكون من الماركسية السوفييتية التي طبعت عالمنا في وقت من الأوقات. كما من تكرار التغزل بالماركسية. في قبال ذلك، أدعو إلى تشكيل جهاز نظري جديد في تصرفنا تكون الماركسية أحد روافده وليست كل الروافد. بالتالي فإن النظرية هي نقطة الانطلاق لتحرير الواقع الراهن، وليس العكس، أي الواقع يكون منطلق النظرية ومؤكداً لمبدئها. على ذلك فلا يمكن أن توجد حركات اجتماعية من غير أن تكون هناك فكرة. لذا فلا معنى لوقوع بعض اليساريين الآن تحت طائلة الفكرة التي تقول إن عصر الأيديولوجيات انتهى. هذه واحدة من التبسيطات الشديدة، لايزال ثمة أيديولوجيا في عالمنا، وربما أكبرها في عالمنا المعاصر الآن هي أيديولوجيا ثورة الاتصالات. فثورة الاتصالات كلها قائمة على الأيديولوجيا. لذلك، فإن الفكرة القائلة بأنه يمكن أن تنشأ حركات سياسية من غير إيديولوجيا محض وهم. كما أنه من الوهم أيضاً حصر وظيفة المثقف في وضع قائمة بالطالبات وتعداد التمنيات. ذلك أن وظيفته الحقيقية هي إنتاج المعارف.

رغم كل شيء.. بقي اليسار اللاتيني

* بدأت نقلة أميركا اللاتينية اليسارية منذ وصول الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز إلى الحكم قبل عشر سنوات، من ثم أكملت مع رؤساء جدد في البرازيل (لويز إيناسيو لولا دا سيلفا) والأرجنتين (كريستينا فيرنانديز) وأوروغواي (تاباري فاسكويز) وتشيلي (ميشيل باشيليه) وبوليفيا (إيفو موراليس) والإكوادور وغواتيمالا ونيكاراغوا. كيف تقرأ عودة اليسار في أميركا اللاتينية*

– أقرأها من جهة أنها تعد دليلاً على أن الأفكار لا تموت. نحن عندنا نفاذ صبر، وعندنا شيء يتسالم المثقفون العرب على تسميته «الرهان». ماذا يعني الرهان* أيضاً أتساءل.. لماذا على اليساري أن يظل ملتزماً بحد أدنى من الالتزامات* من وجهة نظري، أعتقد أن الأسباب التي أدت إلى الالتزام لم تتغير. في الوقت الذي يزداد فيه الفارق بين الأغنياء والفقراء. بينما الرأسمالية لا تجيب على المشكلات التي تعانيها أكثرية البشرية. بل وهي الآن أسوأ مما كانت عليه، حين كانت هناك ثمة منافسة مع الاتحاد السوفييتي. فوقتذاك كانت مضطرة لأن تقدم تنازلات وقد انتفى هذا العنصر الآن. الفارق الذي يؤدي إلى ما تشاهده الآن في أميركا اللاتينية من صعود إلى حركات اليسار الاجتماعية، هو أن هذه الحركات لم يجرِ تدميرها. لم تدمر النقابات ولا فئة الإنتجلنسيا التي ظلت تحظى بنفوذ واسع وحافظت على يساريتها. الأمر الذي قدّر لها أن تعيش مرحلة الكبوة، فالنهوض بعد ذلك. وما تمت زراعتها من أفكار «غيفارية» إبان الثورة الكوبية تلقفها الجيل اللاحق وأعطاها معنى جديداً، ومن ثم استطاع صوغها في برامج جديدة. المهم الآن أن ترتبط هذه البرامج بقواعد كبيرة من الفلاحين المحرومين وبمطالبات حقيقية. لقد بقيت في أميركا اللاتينية آثار الفترة الذهبية التي كانت فيها الحظوة للكفاح وللحركات السياسية والاجتماعية. في حين جرى تدمير كل ذلك في بلداننا. ما انعكس على الصفة التمثيلية لليسار. فهل يقوى على استعادة صفته التمثيلية الآن* هذا سؤال كبير.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=137262