كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

شــــــارع الشــــــارع..

‘’وإذا كان تعريف ‘’السياسة’’ في علم السياسة الغربي، يرتبط بمفاهيم الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، ويستبطن قيم الصراع والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع، فإن مفهوم ‘’السياسة’’ في الرؤية الإسلامية التوحيدية هو القيام على الشيء بما يصلحه، وهي إصلاح الخَلْق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة؛ وبذا تتسم بالعموم والشمول وتخاطب – كمفهوم – كل فرد مكلف في رسالة الإسلام بأن يرعى شؤونه ويهتم بأمر المسلمين، ويحكم بما أنزل الله وينصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وبذا يرتبط مفهوم السياسة بالتوحيد والاستخلاف والشريعة والمصلحة الشرعية والأمة، ويتكامل العمل السياسي من خلال مفهوم الواجب مع باقي مفاهيم الرؤية الإسلامية مستبطنًا القيم الإسلامية وأبرزها العدل’’ هبة رؤوف عزت، من مفهوم العمل الشرعي إلى ساحة العمل العام.

rode أعتذر عن هذا الاقتباس الطويل، لكني آثرت إيراده على طوله، لأنه سيمنحني بالاختلاف معه فرصة لمقاربة مفهوم الشارع وتفسير حركته.

يمكننا أن نفهم الشارع بشارعه، أي يمكننا أن نفهم الشارع بالشرع الذي يحتكم إليه. الشارع الذي يجد شرعه يحيل إلى الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، هو شرع أيضاً، بمعنى أن الشارع هنا هو مصدر للسلطة وهو الذي يمنح السلطة شرعيتها، ويحدد لها طريقها الذي تسير فيه، لذا فهو شارع بالمعنى الفقهي وشارع بالمعنى السياسي.

الشارع هنا يتبادل السلطة والقوة والحكم والإدارة واللعب والدور، لا توجد جهة تُهيمن عليه وتُملي عليه واجبها الشرعي .ليس هناك (أعلى) يُنزل عليه، بل هناك ما يجاوره ويبادله ويتعاطى معه. ليس لهذا الشارع مصدر غير ذاته وتجربته وفعله.

هذا الشارع وليد تجربة الحداثة، التجربة التي نحن مدينون لها في ابتكار مفهوم الدولة في شكلها الحديث، وهي التجربة التي جعلت من السياسة تجربة دنيوية نخوضها بأخطائنا التي نصححها على الدوام بأخطاء أخرى، ولأن تجربتنا لن تكف عن الخطأ، فلابد أن نبتكر نظاماً سياسيا يَحمي الخطأ ويُشرِّع له، ويُعطي الشارع الحق في تصحيحه. لذلك يمكن أن نقول ‘’يتشكل الشارع وفق مفهومنا للسياسة، فالسياسة التي تحيلنا إلى الشارع لا إلى السماء سياسة تُمد الشارعَ بفعل الحركة التي لا وصاية غيبية عليها، وهذا ما يجعل من الشارع شاهداً على تجربة الإنسان في الأرض’’.

هذا لا يعني أن هناك سياسة خالصة الوجه إلى السماء، وسياسة خالصة الوجه إلى الأرض، ولكن بقدر ما توجه السياسة وجهها إلى الأرض تحترم شارعها، وتُعطي له كينونته ووجوده وتجعله حاكماً عليها.

أما السياسة التي تحتكم إلى ما تَحسب أنها أحكام الله ومنزلاته والمصلحة الشرعية، فلا شارع لها، لديها الشارع (الشرع) وهذا يُسمى على لسان فقهاء السلطة والخلفاء الناس الذين لا يجدون لهم غير الشارع مكاناً للتعبير، يسميهم بالدهماء والعامة والسواد الأعظم والرعاع.

أما الشارع فهو اصطلاح حديث نطلقه على حركة الناس الذين ينزلون إلى الشارع لأنهم يجدون أنفسهم مسؤولون عن حركة فعلهم، وعن إدارة تجربتهم في الدنيا ويجدون أنفسهم مصدراً للسلطة وشرعاً لقراراتها وأفعالها.

الشارع هو الواجب، لأن السلطة لا تصح إلا به، لذلك هو من يشكل الطريق كي تسير فيه السلطة، ومتى حادت السلطة عن شارعها، فقدت شرعها، فلم يعد لها مكاناً يمنحها الشرعية. من هنا فالشارع ليس تسمية مجازية مستمدة فقط من حركة الناس في الطرقات العامة، بل هو من جانب آخر تسمية مجازية مستمدة من كونه طريقاً لتولي السلطة مكانها ومكانتها. أي أن الشارع مكان الناس ومكان السلطة، فالناس متى مارسوا دورهم السياسي صاروا شارعاً والسلطة متى مشت في طريق هذا الشارع صارت شرعية.

السياسة التي تجد وظيفتها في الإصلاح والنصيحة، لا يمكنها أن تجد في الشارع واجباً، بل هو مكلف بأداء واجب، لذلك فهو في ذاته لا قيمة له، بل قيمته تكمن في ما يؤديه من واجب. وهو واجب ينزل من السماء ولا يعرف حقيقته غير السلطة الخاصة القريبة من السماء، وهي السلطة التي تُحدد للعامة الواجب وترسم حدوده، وتطلب منهم فقط أن يُذكّروها بما تتلوه عليهم. في هذه السياسية لا يوجد شارع، فقط يوجد واجب مصدره الغائب (السماء) لا الشاهد (الشارع). ونموذج هذه السياسة هو (الآداب السلطانية) ومتبقياتها التي مازالت تشتغل في فقهاء سلطة اليوم.

هل هناك معنى لأن نسأل السياسة التي ليس في مفهومها مكان للشارع، أين حركة شارعك؟

التمثيل المسجوع.. السعيدي نموذجاً

السجع علامة على البلاغة الصوتية التي تحتفي بالقوالب والألفاظ والرنين والتهويل، هي بلاغة لا تقول شيئاً ولا تنجز حدثاً ولا فعلاً ولا تصل ولا تبلور فكراً ولا تصوغ معرفة ولا مفهوماً.هذه هي البلاغة المسجوعة، ويبدو أن حضرة النائب الساجع الشيخ جاسم بن أحمد السعيدي، قد استثمر تجربته البلاغية السجعية في خطب الجمعة، فراح يؤسس ما يمكن أن نطلق عليه بالتمثيل المسجوع.
كان السؤال الذي وجهته الوقت للسعيدي بوصفه ممثلاً (لا للبلاغة الساجعة بل للشعب) هو: ماذا مثلَّت أيها النائب؟ (1)
لم يكن السعيدي يقدم جواباً عن التمثيل، بقدر ما كان جوابه نفسه نموذجاً لما أسميته إساءة التمثيل، وليس هناك أكثر من اللغة فضحاً على هذه الإساءة. فلغة الجواب المسجوعة لا يمكن أن تمثل رسالة نيابية، بل إنها  لا يمكن أن تؤدي رسالة التمثيل الذي هو جوهر أي عملية ديمقراطية.
فاللغة المسجوعة يصوغها خطاب البلاغة 250010674_86959f1a5eالمسجوعة التي لا تنجز فعلاً بقدر ما تنجز جلجة وصوتاً وطحناً . الحياة التمثيلية أو النيابية أو الديمقراطية تحتاج لغة حية واللغة الحية هي اللغة التي تدب فيها الأفعال والإنجازات المفتوحة على الحياة المشتركة، هي اللغة التي تصل الناس بمختلف انتماءاتهم في فضاء وطن مشترك. وقد جاء جوابه عن تمثيله مطابق تماما لأدائه الصوتي .
متى فقد الصوت النيابي انسجامه وسط مجتمع متعدد الأصوات، فقد تمثيله لهذا المجتمع، وصار يمثل شقاً نشازاً في المجتمع.
لقد مثَّل السعيد أسئلة مسجوعة واقتراحات مسجوعة ومواقف مسجوعة ورسائل مسجوعة، لقد مثَّل بسجعه الضجيج. وويل لقبة يكثر فيها الضجيج.
سنسجل للسعيدي أن تمثيله قد صاغ لنا مفهوم ‘’التمثيل المسجوع’’، وسنحيل دوماً في تعريفنا لهذا النوع من التمثيل إلى تجربة السعيدي وهي تكرار ‘’اقتراحات تقدمت، وقوانين شرعت، وأسئلة توجهت، ومواقف اتخذت، ورسائل رفعت، وتزكيات طرحت، ومجالس شغلت، وما يستطاع فعل، والباقي أجل، والقادم آمل’’.

(1)http://www.alwaqt.com/art.php?aid=18388

أركون وحكاية الذات الخروج على الحس المشترك

” في العالم من الأصنام أكثر مما فيه من الحقائق “

نيتشه

“إنما الذات جملة شروطها، أي مجموعة العلاقات والنسب والإضافات التي تقوم بينها وبين الموضوعات “

علي حرب

“أرى طرقاً ستأخذني إلى طرق ستأخذني إلى طرق

وبحراً كالمدى فيما أرى”

قاسم حداد

 

PHOTO BY:MAHMOOD DASHTY

 

لا أتحدث عن ذاتي – هنا في التقائها بأركون – بوصفها مجموعة من المكونات الفطرية أو القدرات الطبيعية أو السجايا الأخلاقية أو الاستعدادات الذهنية، بل أتحدث عن ذاتي بما هي تركيب ثقافي، أي بما هي جهد وعمل يسعى إلى تشييد بناء غير معطى، بهذا المعنى يصبح الحديث عن الذات حديث عن تجربة فيها من الأحداث والوقائع والصدمات والمواجهات والصراعات والتحولات والسياقات الثقافية ما يمكن قراءته ونقده بإعادة حكيه وتأويله .

-1-

حين تروي الذات حكايتها، حكاية تشكلها وتركيبها تحت تأثير حدث ما، فإن هذا الحدث لا يلبث أن يتلبسها ويتولى الحكي بصوته بعد أن تتمثله الذات ضمن عالمها ووعيها. أشعر الآن أن حدث التقائي بأركون هو الذي يروي ذاتي ويركب أحداث ماضيها، ويعيد قراءة مناطق عبورها ما بين التخوم والحدود، ويصل تقطعاتها وانقطاعاتها . يحضر أركون فيَّ لا بوصفه صوتاً واحداً، بل مجموعة من الأصوات تنتمي إلى أزمنة مختلفة وسياقات متعددة وعلوم إنسانية متنوعة وحضارات متعاقبة، إنها أصوات أرسطو ومسكويه والجاحظ وأبوحيان التوحيدي ودريدا وبروديو وبروديل وجاك بيرك وفوكو وبارت وياوس وغيرهم .

تروي الذات هنا أحداث تشكلها التي انتظمت في وعيها قبل ثمانية أعوام حيث التقت خلالها بأركون، لكنها ترويها بوعي اللحظة الراهنة المهددة بالنسف فيما بعد وإعادة الحكي . كلما أعادت الذات رواية حكايتها أعادت تأويل سيرتها بتقطيع أحداثها أو تمطيطها أو الحذف منها أو الإضافة إليها .

كتيت هذه المقالة احتفاء بزيارة المفكر محمد أركون إلى البحرين في مارس2002م بدعوة كريمة من مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة .

كان أرسطو يعرف الحكاية بأنها الفعل “والفعل هو ما يمارسه أشخاص بإقامة علاقات في ما بينهم ينسجونها وتنمو بهم ، فتتشابك وتنعقد وفق منطق خاص بها “([1]) وفق هذا التعريف تصبح حكاية الذات فعلها، وفعلها هو ما تنسجه من علاقات وفق منطق وعيها، وحين يتحول هذا المنطق تتحول العلاقات؛ فتنشأ حكاية جديدة تروي ذاتاً جديدة .

ما الذي تقوله هذه الحكاية ؟

-2-

في صيف 1993م كنت للتو قد أنهيت بكالوريوس اللغة العربية في جامعة البحرين، كانت الخطة المؤجلة منذ انهائي المرحلة الثانوية في 1989م تقتضي أن أتوجه نحو الدراسات الدينية، يدفعني نحوها حس أخلاقي عميق بأهمية أن أبر بوعدي لأصدقائي الذين عاهدت هم أن أكون نموذجاً لرجل دين عصري يملك تأهيلاً علمياً عالياً، شغلتني فكرة الالتحاق بـ(الجامعة الإسلامية) الحديثة التأسيس في لندن، كان لدي إحساس عميق بأهمية البحث عن شيء مختلف، غير أن التكوين الديني الذي أحمله بين جنبات ذاتي لم يكن يملك القدرة على تبصيري بالخيارات الممكنة، أقصى ما كان يستطيعه هو أن يحرض في الدافعية نحو الحج إلى أي قلعة علمية دينية موثوق في إخلاصها وتدينها، أردت أن أكون متخصصا في العلوم الدينية بشكل حديث، لم تكن صفة الحديث تملك رصيدا دلاليا في مخيلتي يتجاوز المعاني الأيديولوجية التي تأخذ بأسباب ا لعصر وحاجاته، والمعاني النضالية ضد الجبهات غير الدينية التي تثير من منطلقاتها المعاصرة إشكالاتها التشكيكية ضد الاتجاهات الدينية السياسية، لم يتجاوز مفهومي لمعنى تحديث العلوم الدينية معاني الإسلام السياسي كما أفهمه الآن.في حينها كانت صفات الجديد والحديث والمعاصر أشبه شيء في تصوري بسديم لا يمكن أن تميز من خلاله شيئاً .

-3-

في سياق هذه الحيرة بكل ما تحمله ظلال الحيرة من معاني التخبط والتردد والقلق وعدم القدرة على الحسم وعدم الوضوح التقيت بأركون عبر كتابه ” من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ” . كانت صدفة – مازلت أفخر بها – حين عثرت على الكتاب مندساً بين رفوف إحدى المكتبات المحلية، لم أكن أعرف أركون، للوهلة الأولى أثار عنوان الكتاب – الذي طالما أرَّق أركون وهاشم صالح – حساسيتي الدينية، ظننته يقدم رؤية جديدة للاجتهاد عبر نقد الممارسات التقليدية للفقهاء الذين مازالوا لا يعيشون عصرهم ولا يلتفتون إلى مشاكله المستجدة .

لم يتوقع أفق انتظاري أكثر من ذلك، فلم يكن يملك القدرة على أن يتوقع أن النقد يمكن أن يمتد إلى ممارسات الفقهاء المعاصرين المنخرطين في الشأن العام .

لقد كان أفقي مبنياً على تمجيد وتقديس أولئك المجتهدين الذين يملكون الإحاطة التامة بالعلوم الدينية التي لا يمكن لأحد غيرهم أن يمتلكها بهذه الكفاءة العالية، إن ممارساتهم العلمية لا يمكن أن يرقى لها النقد أو الشك، بل إننا غير مؤهلين أبداً لمعرفة هذه الممارسات ولا معرفة طبيعتها، إنها أشبه شيء بالسر المقدس الذي يجب الامتثال إليه بتسليم تام ، لم يعرف هذا الأفق أن هناك نقداً يمكن أن يتجاوز نطاق الممارسات الاجتماعية والعملية وطبيعة فهمها للإسلام , وهي ممارسات رجال الدين والكوادر الدينية القيادية والمثقفين المتدينين وعامة الناس .

بقدر ما في هذا الأفق من سذاجة بقدر ما في اصطدامه بأركون من تحولات كبرى، أحدث هذا الكتاب صدمة ثقافية عميقة في ذاتي أصبحت أكثر قدرة على الرؤية ، ما زلت أستغرب من شعور الحب الذي غمرني تجاه أركون، حين أستعيد الآن لحظات القراءة أتذكر بالضبط أوضاعي الجسمية والمكان الذي كنت أقرأ فيه والأحاديث النفسية التي كانت تراودني وأنا أقلب صفحاته ، قبل أن أتم قراءة الكتاب اتصلت بأحد الأصدقاء الذين شهدوا حيرتي بكل تقلباتها النفسية لأخبره أنني عرفت ما أريد، كان من الصعب أن أفهمه ما تبلور لدي، اكتفيت بإظهار مشاعر الارتياح واللذة الروحية العميقة التي انتشيت بها، وكأني للتو اكتشفت شيئاً جديداً .

-4-

إهداء محمد أركون

كان هذا هو التلقي الأول الذي استطعت من خلاله أن أحدد طبيعة الدراسة التي أسعى إليها، كان علي أن أنتظر القراءة الثانية حيث الاشتباكات النقدية التي تعمل في ذاتي تبحث عن حلول سلام ومصالحة، لقد تطلب الأمر سنتين قاسيتين كنت أحمل أركون في داخلي حاولت أن أكيفه مع ما أنا فيه فأبى، رفض أن أُأْدلجه داخلي، لم يكن لأجهزتي أن تتمثله على الرغم من كل المحاولات التوفيقية، كان علي أن أبحث عن ذات جديدة تستطيع أن تبني علاقاتها بالعالم وأشيائه وموضوعاته وقيمه وأحداثه بشكل مغاير لعلاقات ذاتي المبنية وفق مؤسسات التقديس الرمزية .

أت ساءل الآن لماذا لم أشعر بغربة مع أركون؟ غربة تدفعني لاستيحاشه أو للنفور منه أو للشعور بالغيض من تهديماته الرمزية لسلالم مقدساتي، لماذا كانت الدهشة وحدها المسيطرة على علاقتي به ؟ هل يمكن للذات أن تدخل على عالم آخر من دون ألم الغربة ؟ هل تكفي الدهشة وحدها لوصف ما حدث ؟ ألم يخالطها شيء ؟ كيف يتحول النقد بما يحمله من عنف رمزي إلى حب ، حب ناقد ؟

-5-

لتفسير هذا الحب المنبثق من وسط كومة من عنف النقد أحتاج إلى إعادة قراءة نهاية الحد الذي كانت فيه التجربة وقراءة بداية الحد الذي دخلته .ربما تسعفنا استعارة مفهوم الحد عند هيدغر في فتح الحدين على بعضهما بدلاً من اصطناع صدام ثنائي بينهما . الحد في مفهوم هيدغر ليس نهايةً بقدر ما هو بداية لشيء آخر جديد، بهذا المعنى الحد ليس اكتمالاً ولا انتهاء ولا امتلاء، بقدر ما هو شوق إلى بداية قريبة، ووصول إليها، ووصل بها، وتعطش إلى مائها. الحد بهذا المعنى منطقة عبور تنتقل خلالها الذات من وسط إلى وسط آخر، من دون انقلابات ثوروية تستدعي القيام بأفعال التصفية والإلغاء والقطع بكل مستلزمات هذه الأفعال العنفية في أبعادها المادية، بهذا الانتقال تستطيع الذات أن تحتضن العالم بمتضاداته وانقطاعاته وتنافراته، لتثري تجربتها الإنسانية بما تقوم به من عمليات صرف واستثمار لمدخراتها الرمزية .

بهذه الروح أستطيع أن استعيد قراءاتي الدينية الفكرية المبكرة لمطهري وفضل الله والشيرازي والصدر وشريعتي (على الرغم من اختلاف نموذجه ) لأقيم معها علاقة حدية (بالمعنى السابق ) تفتحني بما تحويه من معقولية دينية متقدمة على معقوليات ثقافية أخرى أوسع . وبهذه الروح أستطيع أن أستعيد قراءاتي الدينية الروحية والأخلاقية لـ(السيد دستغيب والفهري ) لأقيم أيضاً معها علاقة حدية تفتحني بما تحويه من قيم أخلاقية وروحية دينية على قيم أخلاقية أخرى أكثر اتساعاً .

-6-

لقد بلغ هذا الحد نهايته التي هي في الوقت نفسه بداية لحد آخر، لقد بنى هذا الحد في ذاتي يقيناً صلباً، وتسليماً حاداً، واعتقاداً أرثوذكسياً لا يشك أبداً في صحة الجماعة الدينية التي أنتمي إليها، ولا يخالطه الشك في فوزها الأخروي.

لقد بلور خطاب هذا الحد حسي المشترك الذي يجمعني مع جماعتي ضمن ما يسميه أركون بالسياج العقلاني المركزي الذي يبرمج عبر تشكيلته الفكرية الاستدلالية حساسيتنا وتصورنا وإدراكنا وتفكيرنا وممارساتنا العملية .

وقد عضَّد من فرط هذا الحس قراءتي المبكرة جدا ( المرحلة الثانوية ) كتاب محمد التيجاني ” ثم اهتديت ” الذي يروي فيه رحلته العقائدية في التحول من المذهب السني إلى المذهب الشيعي . وجدت في خطابه نموذجاً إقناعياً مبهراً لممارسة هذه العقلانية المركزية ولطريقة صناعتها للحس المشترك، فتحت تأثير هذا الحس، وتوجيهات أنساقه المضمرة تشكلت حساسية ذاتي فرأيتها نموذجاً للعقلانية الحقة ذات المنطق الحجاجي الذي يملك الحقيقة التي لا يمكن دحضها.

-7-

مع أركون رحت أعيد قراءة هذه التشكيلة العقلانية لأكتشف ما فيها من خيلات ومقدسات ومأثورات ومسلمات ورموز ومتعاليات . ربما يمثل هذا

علي الديري في مكتبة حسن أحمد سلمان في العام 1994

الاكتشاف سراً من أسرار حبي العاطفي والمعرفي لأركون . لقد وجدت أن أركون وهو يحفر في العقل الإسلامي أنه يحفر بقلبه ويديه في قلب المنطقة التي أنا فيها بكل ما فيها من خيالات ومقدسات وأوهام لأول مرة أقارب العقل بعقلانية لديها القدرة على قراءة حساسيته المطمورة تحت أوهام المنطق الكوني، لم يكن أركون علموياً بارداً ولا وضعياً متعجرفاً؛ لذا كانت حروفه حارة في عروق عاطفتي الدينية لفرط قدرتها على قراءة مخيلة عقلانيتي الدينية ، لقد تلقفت مفهوم المتخيل باحتفاء الفاتحين، فقد وجدت فيه أداة علمية لفتح مفهومنا للعقل على مساحات جديدة يمكنها أن تفتح فهماً أوسع لطبيعة الممارسة العقلانية التي تضطلع بها أي ثقافة أو دين أو جماعة .

-8-

رحت أقرأ مخيلتي الجماعية التي تشكلت طوال هذه القرون، أخذت أفكك مفاصلها الكبرى، فبدت لي مجازاً كبيراً منحه التاريخ والتقديس ما جعله يبدو في صيغة حقائق وثوابت لا يمكن أن تهز .

حين يهتز مجازك يهتز حسك المشترك، فتفقد أمان الحقائق الجمعية، وتفقد ألفتها الرمزية التي تمنحك إياها لتبدد غربتك الرمزية . لا يمكنك أن تبحث عن أمانٍ آخر، فكل الجماعات تبني أنظمتها الأمنية مجازياً؛ لذا لا يمكنها أن تعطيك أماناً حقيقياً . إنها تستطيع أن تعلمك شيئاً واحداً، وهو أن تكتشف ذاتك الجماعية عبرها، وهذا ما دفع الأنثروبولوجي الفرنسي ( كلود ليفي شتراوس ) إلى أن يعرف الأنثروبولوجيا بأنها ” رحلة سفر إلى ثقافاتك عبر ثقافة أخرى([2]) .

لقد فتح لي مفهوم أركون للانثروبولوجيا الدينية أفقاً آخر للتعرف لا على ذاتي الجماعية فقط بل على ذاتي الإنسانية، فالانثروبولوجيا الدينية كما يدرسها أركون تسقط الجدران الوهمية الفاصلة بين الأديان والمذاهب؛ لتدرس أنظمتها الرمزية في توليد المعنى وتقديس الأشياء ورؤية العالم والإنسان، تهتم هذه الانثروبولوجيا بالدراسة المقارنة لكل التجارب الروحية في كل المجتمعات البشرية، تفقد هنا التفاصيل الصغيرة أهميتها وتفقد الأسماء ضرورتها، فخلف كل ذلك ممارسات متشابهة تعبر عن طبيعة الإنسان وطريقة تشييد تمثلاته الرمزية للعالم .

فالتقديس على سبيل المثال كما تدرسه الانثروبولوجيا ظاهرة إنسانية يؤله عبره الإنسان الأشياء والأفكار والنظريات والشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة.

-9-

بهذه الروح الانثربولوجية يمكننا أن نقرأ سردية كل جماعة دينية أو غير دينية بوصفها تركيباً ثقافياً وتاريخياً يصنعه الإنسان ويصبغ عليه من معناه وقيمه ما يعطيه مكانة رمزية أو تقديسية، فيتعالى على النقد مانحاً نفسه، عبر ما يسميه (ماكس فيبر) بمسيري شؤون التقديس، حصانةً تخيف الآخرين من الاقتراب المعرفي منه .

لم أشعر أن أركون يعري ذاتي الجماعية عبر نقد جماعتي الدينية أو العرقية بقدر ما كان يعري ذاتي الإنسانية عبر نقد كل الجماعات التي تنهل قيمها ومعرفتها من المعنى المطلق، وهذا ربما يفسر من ناحية أخرى حبي له و شغفي بعبثه النقدي بمطلقاتي ومتعالياتي .

إن المدخل الانثروبولوجي يفتح الممارسة النقدية والمعرفية على تاريخ الجماعات الإنسانية كما تحقق وتعين في حياتهم اليومية المباشرة من دون اللجوء إلى الأحكام المجردة والتصنيفات القيمية والتفاضلات العرقية .إنه – المتخيل – يستمد من تجربة الإنسان الحياتية ما به يبلور مفاهيمه وأطروحاته وفرضياته من دون مسبقات ذهنية .

-10-

لقد جعلتني ممارسة أركون المعرفية المتعددة الأدوات والمنفتحة الآفاق على الذاكرة والخيال، أرى في تجربتي الدينية بممارساتها وعلاقاتها وإضافاتها موضوعاً للقراءة، خصوصاً وأن مشروع أركون الذي أطلق عليه تسمية (الإسلاميات التطبيقية ) ينطلق “من واقع الحياة اليومية للأفراد والجماعات والإحاطة بالمشاكل الحية المطروحة في كل مجتمع، لاستنباط ما يتعلق بها من تعاليم دينية وإبداعات ثقافية وأغراض سياسية واقتصادية وتصورات أيديولوجية “([3]) .

لا يمكن للإنسان أن يقرأ ذاته قبل أن تصبح شيئاً آخر، والذات لا يمكنها أن تتحول إلى آخر إلا حين تستبدل شبكة علاقاتها ومجموع إضافاتها بشبكة أخرى، حينها يمكنها أن تقرأ تجربتها التي غادرتها، وإن كان الإنسان لا يغادر أو ينفصل عن الأشياء والأفكار والمفاهيم التي تلبسته بالمطلق، فأطيافها تظل تلاحقه في نسخ مهجنة .

-11-

سأزعم أنني غادرت ذاتي الأولى؛ ليحق لي قراءتها؛ وسأؤكد هذا الزعم باستعادة قراءتي لمفهوم الأطر الاجتماعية للمعرفة . هذا المصطلح لعالم الاجتماع (جورج غورفيتش) ويعني به أن كل أنواع المعرفة ليس مسموحاً بها ضمن أي إطار اجتماعي([4]). مثلاً، الأطر التي كانت تسمح في فترة ازدهار العصر الكلاسيكي الإسلامي بالمناظرات الحرة التي تدور بين مفكرين مسلمين ويهود ومسيحيين، لم تعد هي الأطر نفسها التي تمنع اليوم المناقشات الحرة لقضايا العقل الإسلامي كما يقاربها أركون مثلاً.

تعرفت هذا المصطلح لأول مرة من خلال توظيف أركون له في قراءته للأطر المعرفية التي تحكم سياق المجتمعات الإسلامية، لقد كان لهذا المصطلح وقع خاص في نفسي، كنت أردده كثيراً بين الأصدقاء ترديد طالب العلم الذي يحرص على حفظ الأشياء الجديدة كي لا تهرب منه. الآن يمكنني أن أفسر ولعي الشديد بهذا المفهوم بوعي أفضل، لقد فتح لي هذا المفهوم مساحة للتفكير في ذاتي بعيداً عن سلطة الجماعة العقائدية، استطعت عبره أن أقيم مسافة بين ذاتي وجماعتي، أصبحت قادراً على رؤية أطرهم المعرفية التي تجعل منهم مجتمعاً متماسكاً، وحين تستطيع أن ترى نفسك خارج جماعتك، يمكنك أن ترى ذاتك الجماعية بمنظور نقدي، عندها يمكنك أن تعلن ولادتك الجديدة، ولادة الفرد فيك!

تستمد بعض المفاهيم قوتها وتأثيرها من حضور الدلالات المادية المستعارة فيها، وهذا ما يمكن أن نستوحيه من الاستعارة المفهومية لـ(الأطر) فالإطار في معانيه اللغوية المادية المباشرة يستحضر معاني الحجز والحد والمنع والفصل، فالإطار يحجزك ويحدك ويمنع اختلاطك ويفصل بينك وبين الآخرين . تعمل الأطر الاجتماعية بمثابة حواجز وحدود تفصل بين مجتمع وآخر، وما لم تتمكن من الخروج عليها، لن تستطيع تقييم حجم العنف الرمزي الذي تمارسه على ذاتك الفردية، ولا ثقل الالتزامات التي تكبلك بها ، ولا الإكراهات التي تفرضها عليك، ولا العمى الذي تصيب به بصيرتك.

أستطيع اليوم أن أتحسس فداحة عنف هذه الأطر التي شكلتني طوال حياتي بعد أن أصبحتْ موضوعاً لقراءتي، الآن فقط بعد أن انفككت منها يمكنني تفكيكها وتفكيك كل موضوعات التي كنت أرها من خلالها : تراثي، ذاتي، ديني، مذهبي، جماعتي، هويتي، أنظمة تفكيري.

-12-

الأطر ليست مجرد حد نقف عنده، بل هي أكثر من ذلك؛ فهي مرجعنا الذي نرجع إليه حين نريد أن نصدر حكماً أو نمضي رأياً أو نميز شيئاً أو نأوَّل مجازاً أو نتوقع حدثاً أو نقرأ نصاً أو نتمثل جماعة.

تتجسد الأطر في أشكال مراوغة وتتخذ صوراً متعددة : مسلمات، معايير، نظريات، مفاهيم، سلطة، تجربة،مؤسسة،خطاب،نص ،سرديات ، مذاهب، أفكار، عقائد، بدهيات، أنساق مضمرة، أقوال مأثورة، شخصيات مقدسة، قيم سائدة…. إلخ .

الأطر بمختلف أشكالها، تمثل حسنا المشترك الذي يجمعنا، وحساسيتنا الثقافية التي نتلقى بها العالم.

والأطر بوظيفتها المرجعية التي تتيح للفرد إمكانية تأويل الأحداث والوقائع الخارجية، تمثل أنساقنا الذهنية، وتمثلاتنا الرمزية التي نقيم عبرها إنشاءاتنا الاجتماعية في إطار إيديولوجيا ما ([5]).

حين تستبدل الذات إطارها الجماعي، فإنها تستبدل ذاتها وحياتها وعالمها وحكايتها وسردياتها ويقينياتها الكبرى المتشكلة عن العالم والتاريخ والإنسان والله .

لا يمكن للذات أن تُحيِّد من سلطة الأطر الجماعية من دون أن تخضعها للحفر الأركولوجي أي للتعرية التاريخية؛ ذلك لأن هذه الأطر تقدم نفسها بوصفها تمثيلاً للطبيعة،أو للفطرة، أو للحق، أو للحقيقة، أو للعقل، أو لمعنى نقي، أو لحالة مثالية نموذجية، أو لحتمية لا بدَّ منها، وهي بهذا الوصف، تفرض نفسها، وتمارس عنفها، وتُأبِّد وجودها، وتُبعدُ عنها الأعراض التاريخية والدنيوية، بهذه المراوغة تتلبس الأطر الذات؛ فتحيلها سكوناً أبدياً يقاوم الحركة والتغيير والتحول.

إن ما يلقاها مشروع أركون الساعي إلى بلورة علمنة حرة ومنفتحة تدعو إلى إيمان جديد يقوم على الحرية والتسامح والبعد عن التعصب والتبجيل، من مقاومة من قبل رجال الدين التقليدين المحكومين بأطر ثقافية ساكنة، يمثل نموذجاً لتحكم الأطر في ذواتنا وسلوكنا ورؤيتنا .

بودي لو أسترسل في سرد الكيفية التي جسدت فيها هذه الأطر حياتي بكل ما فيها من ممارسات عملية وعلاقات شخصية واختيارات وذوق وقراءات وأماكن وفاعلية وإيمان وطقوس وعبادات ومقدسات وتمثلات، ولكن حساسية السياق الثقافي والاجتماعي لا يمكنها أن تتقبل ما هو خارج سلطة حسها . لأقل إنه الخوف من أن ألقى مصير الجمل الأجرب .

-13-

وبهذا المعنى يمكننا أن نفهم الثقافة، بوصفها مجموعة من الأعراف والتقاليد والقيم والقوانين المحكومة بإطار اجتماعي وجماعي يبرمج سلوك الإنسان ويحدد طريقة تفكيره ومعايير أحكامه ويرسم زاوية رؤيته إلى الحياة .

ويمكننا أن نفهم خطابها المنتج ضمن إطارها، بوصفه مؤسسة رمزية تحكمها شبكة خفية من المفاهيم والقوانين والمعايير الثقافية التي تَمتثل إليها أقوال أو ذوات الممثلين الرمزيين لهذا الخطاب.

مادامت هناك ثقافة تصوغ الإنسان، و أطر معرفية واجتماعية تحكم تفكيره، وأنظمة معرفية (الابستيم ) تحدد أفقه، فإن وضعية الإنسان التاريخية في كل سياق، ستبقى تتشكل عبر مستويين(([6]:

1. مستوى ما يمكن التفكير فيه للمتكلم وهو متعلق بتمكن المتكلم من اللغة التي يستعملها ، وبالإمكانيات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي اختارها المتكلم. كما أنه متعلق أيضاً بما يسمح به الفكر والتصورات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها المتكلم وبالفترة التاريخية من فترات تطور تلك الجماعة. ثم إنه يتعلق كذلك بما تسمح به السلطة القائمة في المجتمع أو الأمة التي يتضامن معها المتكلم .

2. مستوى ما لا يمكن التفكير فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة. وما لا يمكن التفكير فيه يعود أيضا إلى ما تمنعه السلطة السياسية أو الرأي العام ، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدسها وجعلها أساساً مُؤسِّساً لكينونته ومصيره وأصالته .

يخضع تراكب هذه المستويات ، داخل الممارسة النظرية لأي مذهب من المذاهب أو أية نظرية من النظريات أو أية ذات من الذوات إلى شروط تاريخية، يتداخل فيها المعرفي بالسياسي ، والدنيوي بالديني، ولا يمكن للإنسان أن يتجاوزها بسهولة؛ لذا نحتاج في فهم طريقة تشكل ذاوتنا، إلى قراءة تاريخية تستعين بمختلف العلوم لكشف صياغات هذين المستويين : مستوى المفكر فيه، ومستوى اللامفكر فيه، لخطابها ورؤيتها .

-14-

سيصبح اجتهاد الذات إذن، مهما بلغت حدة ذكائها، مادام داخل الأطر نفسها أسيراً لوضعية تاريخية معينة ، من هنا الحاجة إلى نقد العقل الإسلامي،إذ النقد هنا يكشف ويعري كل الممارسات والأطر التي تحكم سيطرتها على الذات، وتحول دون رؤيتها وتحولها .

ليس نقد العقل الإسلامي كما يتجلى في مشروع أركون، نقداً للإسلام ولا لتجربته الروحية، كما تجلت في الوحي، لكنه نقد لتجسداته التاريخية في ممارسات البشر، ونقد للأطر المعرفية والاجتماعية والجماعية التي صاغته وصاغت العلوم التي فهمته.

إننا مدينون اليوم لأركون بما فتحه من ساحات جديدة للتفكير، وبما خلقه من إمكانات معرفية للاستثمار. وأنا مدين له ولكل صوت ينطق عبره بذاتي الجديدة وحكايتها الحديثة.

هذا ما استطعت أن أرويه من حكاية ذاتي، وهي تعيد تشكيل العالم بداخلها وفق صدمتها الأركونية.

الهوامش


 

[1] ) يمنى العيد، تقنيات السرد الروائي، بيروت، دارالفارابي، ط1، 1990م، ص27.

[2] ) عبدالله يتيم، كلود ليفي ستروس: قراءة في الفكر الأنثروبولوجي المعاصر، المنامة، بيت القرآن، ط1، 1998م.

[3] ) ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر، الزواوي بغورة، بيروت، دار الطليعة، ط1، 2001م،ص68 .

[4] ) محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، دار الساقي ،ط2، 1993، ص 14.

[5] ) انظر تعريفات التمثلات الرمزية في :

– مجلة العلوم الاجتماعية، الجغرافيا والتمثلات الرمزية ، الكويت، خريف 2001،المجلد29 ، العدد 3.

([6] محمد أركون ، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ، دار الساقي ،ط1، 1999، ص 10.

الليبرالي النبي

   من هو الكاتب الليبرالي الجديد؟

هذا هو السؤال الذي طرحه شاكر النابلسي في 6أغسطس، في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، وبقدر ما كان جواب النابلسي يحيل إلى المفهوم، سأحيل أنا إلى الخطاب الذي يعرف من خلاله النshaker_alnabulsiابلسي مفهوم "الكاتب الليبرالي الجديد"، فالخطاب هو أرض المفهوم، وهذه الأرض هي التي تعطي للمفهوم معناه ونكهته وقوامه.

وبقدر ما كان خطا ب النابلسي في ظاهره غير معني في تعريفه "للكاتب الليبرالي الجديد" بموقفه السياسي، سأكون أنا أيضاً غير معني في قراءتي لخطابهم بموقف الكتاب الليبراليين الجدد الذين يتحدث باسمهم النابلسي، هل هم "متصهينون أشد من الصهاينة أنفسهم لا صلة لهم بمبادئ الليبرالية ولا بمُثل الحرية"؟ كما يذهب إلى ذلك أحمد دينين. هل هم هؤلاء المتحرقون ل “نعيم” الحرية الأمريكي المحمول على آلة الموت الصهيونية؟  كما يذهب إلى ذلك دكتور حسن مدن.هل هم أقرب للمحافظين الأمريكيين الجدد؟ كما يراهم مثقفون ليبراليون عرب في بيانهم "صرخة ضد التبسيط"

إذن، لست معنياً هنا بالموقف، قدر عنايتي بالخطاب الذي يصدر عنه شاكر النابلسي في تعريفه "الكاتب الليبرالي الجديد".

صرخة ضد التبسيط

في يونيو2005 أصدر مجموعة من المثقفين الليبراليين العرب بياناً عنوانه " ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط" ومن الأسماء التي وقعت على البيان: حازم صاغية، تركي الحمد، محمد الحداد، رشيد الخيون، ودلال البزري،  سيار الجميل… إلخ.

مما جاء في البيان "ما نحاوله نحن الموقّعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا… نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض… إن الديمقراطية تتويج لمسار وليست أول المسار، كما يشيع من يسمّون أنفسهم "ليبراليين جدداً" وهم أقرب إلى أن يكونوا "محافظين جدداً".

يبدو أن البيان لم يكتب له الرواج، على الرغم من ألمعية الأسماء التي وقعتها ورزانة الخطاب الذي صدرت عنه. ويبدو أكثر أن صرخته لم تصل لليبراليين العرب الجدد، كي يعيدوا النظر في بيانهم الركيك حد التبسيط الذي أصدره النابلسي في يوينو2004 تحت عنوان "من هم الليبراليون العرب الجدد، وما هو خطابهم؟". فلو كانت الصرخة قد وصلت في شكل مراجعة نقدية لما أصدر النابلسي بيانه "من هو الكاتب الليبرالي؟" في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، عل الأرضية البسيطة ذاتها من دون أن يكلف نفسه عناء حفرها أو تقليبها أو تخصيبها. فهل هو أصمّ أم أرضه صماء؟!

تبسيط الحقيقة

ما يفعله خطاب الليبراليين هو بالضبط ما وصفه البيان بحصافة، تبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا، وهو تبسيط يتم باسم الديمقراطية والليبرالية. كما يتم من جهات أصولية أخرى بأسماء تبسيطية أخرى. وهذا التبسيط هو ما يجعل من مأزق هذا الخطاب، هو نفسه مأزق الجهات الأصولية الأخرى. لنر كيف يقدم خطاب الليبراليين الجدد نفسه؟ وكيف يتمثل بهذا التقديم العناوين الأهم في حياتنا؟

ما يتعلق بعلاقته بالحقيقية، فهو يقدم نفسه "كاتب الحقيقة.. يسعى إلى كشف الحقيقة المُرَّة علاقات الكاتب الليبرالي مع الحقيقة فقط، ومن أجل الحقيقة فقط وليضرب الآخرون رؤوسهم في الحيط. فلا نزلَ القَطرُ.. يهمه قارئ الغد، الذي هو وحده سيكتشف الحقيقة"

هل يدير الأصولي علاقته بالحقيقة بغير هذا الخطاب؟ فدينه دين الحقيقة، ونبيه أو إمامه أو زعيمه أو فقيهه يموت دون الحقيقة المرة، وليس يهمه غير الحق، وطريقه طريق الحق مهمها قل سالكوه. وليست تهمه الدنيا، بل الغد حيث الجنة.

كيف يمكن للخطاب أن يكون ليبرالياً وجديدا وهو يدير علاقته بالحقيقة المعرفة بأل التعريف التي هي أل الإطلاق؟ لا يمكن ذلك إلا بتبسيط العناوين الأهم في حياتنا، وهل هناك أهم من الحقيقة؟!

ما دامت هي معرفة بـ(أل) فهي جاهزة وكاملة وعلينا فقط أن نعثر عليها، "عند العرب أو العجم، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه…." أو في البيت الأبيض!! والأرجح أن تكون هناك، وبقية الخيارات كلها وهمية أو خاطئة.

الحقيقة في هذا الخطاب ليست صيرورة تشكلها تجارب الأمم بإخفاقاتها ونجاحاتها بعلوها وهبوطها بتضادها وتكاملها باحترابها وسلمها بتقدمها وتأخرها بتدافعها الدائم.الحقيقة في هذا الخطاب تذهب لها في بيت أبيض فتعثر عليها نقية صافية مكتملة. الحقيقة في هذا الخطاب ليست مساراً يحتاج إلى حمل طويل ومخاض ذاتي عسير، الحقيقة موجودة وجاهزة وتحتاج فقط إلى قبول، ولو بولادة قيصرية، ورحم الله سقراط وأمه، فقد كانا يولدنا الناس ولادة طبيعية بالتدافع الذاتي، ولم يلجآ في أي يوم إلى استعمال أجهزة ذكية!!

وتبلغ هذه الحقيقة حدا من الأصولية الأحادية أن تضعك بين اثنين، إما أن تكون كاتبا ليبراليا وجديدا أو أن تكون من القوم "النائمين الساهميين المخدرين بحشيش الشعارت". هذه الحدية تجد تفسيرها في خطاب الحقيقة الذي هو خطاب (أل) التعريف الذي يدير الحقيقة بعقلية الأصولي.

 النبي الجديد

يبدو الكاتب الليبرالي صاحب الحقيقة المرة، وهذه إحدى مقتضيات أصوليته وشواهدها، في إدارة للحقيقة والنظر إليها، نبياً صاحب دعوة جديدة وقبلة للحقيقة جديدة، لكنها لا تتجه هذه المرة للشرق، بل تتجه للغرب في أقصاه، هناك حيث الكعبة بيضاء.

يبthumbدو نبياً يكشف وحده الحقيقة المكتملة " حتى ولو رجموه بالحجارة، وبصقوا عليه، وشتموه، ورموه بأقذع الصفات السوقية" الحقيقة التي" تقضُّ المضاجع، وتنبشُ المواجع"، ومن يحمل رسالة الحقيقة النبوية لا يمكن أن يكون لسان حاله غير لسان اللاهج بالثبات "سنبقى غير مترددين، ولا تائبين، ولا متراجعين، ولا خائفين". إذا كان هو هكذا، فهل يحق أخلاقياً لخطابه الذي يقوم على هذه الروح الرسولية والأصولية حد المقاومة والصمود أن ينكر على خصومه أن يكونوا بالروح نفسها؟!! وهل هو بهذه الروح خطاب ليبرالي جديد أم هو خطاب محافظ جديد؟

النبي الجديد ليست لديه مشكلة مع رسالته، فهي تحمل الحقيقة كاملة وجاهزة وبسيطة ولا تنتظر سوى الدعوة والإبلاغ. مشكلته تبدأ لحظة احتكاكه بالجمهور، على عكس المفكر الذي تبقى مشكلته دوماً مع خطابه ومعيقاته الداخلية وسيروراته الذاتية في تشييد حقائقه غير المنتهية. هو يتحدى الإكراهات التي تحول دون نمو فكرته، هو يتحدى ذاته بالدرجة الأولى.

تبدو مشكلة خطاب شاكر النابلسي مشكلة نبوية، فالآخر الذي يشغله في خطابه والآخر الذي يتحداه هو الجمهور غير المؤمن بحقيقته التي عثر عليها في البيت الأبيض، يخترق هذا الآخر كل جملة من خطابه "ليس راعياً لقطعان الأغنام والأنعام، لا يطمع بتصفيق الجمهور، ولا بباقات ورودهم، ولا بقبلاتهم".

بقدر ما هو ينفي من جانب انشغاله بهذا الآخر، يؤكد من جانب آخر فرط حضور هذا الجمهور وفرط انشغاله به، وهذا ما يؤكده استداركه "ولكن غاية مُناه أن تصل رسالته إليهم، وتفعل فعلها فيهم. تحرق خشبهم القديم المسوّس، وتذري في الهواء قشهم العتيق، وتنفض من رؤوسهم بيوت العنكبوت، وتخرجهم من الكهوف المظلمة الباردة" إنها بهذه الغايات البعيدة، رسالة نبوية بامتياز.

ويؤكد هذا الحضور النبوي، إننا لا نعثر على أثر لمن يختلف معه من الليبراليين الذين هم ضد التبسيط، في حين أن خطاب المفكر يكون مشغولا دوما بأنداده المختلفين معه أو القريبين منه أو الذين يشاركونه في جزء من أرضيته المعرفية. فهو يدير معهم حوارا واختلافا وجدلا، وبهذا الشكل تنمو حقائقه، لكن يبدو أن ليس لدى النابلسي غير حقيقة واحدة وهي مكتملة وجاهزة ومكانها معروف. ولا وقت لديه يضيعه مع أنداد يشككونه في رسالته النبوية، لذلك من الأفضل أن ينشغل بظلاماته من الجمهور، فهي دليل الأنبياء على صدق ما يدعون.

اللغة البسيطة

ويبلغ الكاتب الليبرالي منتهى تبسيطاته ومنتهى أصوليته ومنتهى أحاديته ومنتهى سذاجته ضد العنوان الأهم في حياتنا، حين يصادر على اللغة حقها في النظر إلى العالم بحقائق متعددة. ويصادر عليها حقها في سياسة حقائقها ويصادر عليها حقها في تصيير حقائقها. ويصادر على حقيقة أن اللغة حين تصوغ الحقيقة عند "العرب أو العجم ، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه" تسميها بعدد أسماء الله وتسوسها بعدد أنفاس خلائقه وتواريها وتداريها وتجاريها وتراوغها وتعمهمما وتضيقها. هكذا تشتغل اللغة في بناء عوالم الحقيقة غير المنتهية.

في قبال حقيقة عمل اللغة التي تتوسط بيننا وبين حقائق عوالم الكائنات والأشياء، يزعم خطاب النابلسي إن علاقته بالحقيقة بدون وسيط، كعلاقة الأصولي بالله بدون وسيط وباسم هذه العلاقة المباشرة يحضر الله أو تحضر الحقيقة في كل الأشياء التي يمتلكها هذا الأصولي أو الليبرالي الجديد في أصوليته.

هكذا ينفي الكاتب الليبرالي عن خطابه وعن نفسه آثم اللغة ومستخدميها وآثم حقيقتها في صياغة العالم "الكاتب الليبرالي ليس سياسياً في كلامه وفي أقواله، يداري ويجاري ويواري. يزوغ من الحقيقة كما يزوغ السياسيون، ويراوغ كما يراوغ السياسيون، ويعممون الكلام، ويطلونه بطبقة من العسل السام. السياسيون يقولون عن الأعور، إنه يبصر بعين واحدة، أما الكاتب الليبرالي فيقول للأعور: أعور"

لو

هكذا تكتمل النبوة الجديدة، بالقدرة على تصيير اللغة تصييرا يجعلها تتطابق تماما والحقيقة، تقول عن الأعور أعور، من دون مواربة ولا مخاتلة ولا زيادة ولا نقص ولا حجب ولا ستر ولا مراوغة. لغة الكاتب الليبرالي لغة الحقيقة!!

وبالتعويل على هذه اللغة التي تقول للأعور أعور، ولا تترك مجالا لبناء حقيقة أخرى له، بهذه اللغة يمكننا أن نحل مشكلة الإنسان. ومشكلة الشرق الأوسط الجديد.وبغير هذه اللغة سنبني عوالم مختلفة للشرق الأوسط وهذا سيؤدي إلى الفوضى غير الخلاقة.

ولغة الحقيقة تماما كلغة الأنبياء لا يمكنها أن تستجيب للسلطة أو القوة التي تريد أن تفرض على اللغة معانيها للأشياء.لكن ما يتناساه الليبراليون الجدد هو أن قدرتهم على تسمية الأعور أعور قد خذلتهم في تسمية ما يجري الآن بعينين سليمتين، وهذا ما تفطن له نصر حامد أبوزيد في مقالته (العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء) حين خاطبهم "يؤسفني أيها العقلانيون الليبراليون الذين ينظرون بعين واحدة، فيتمتعون بحاسة نقدية مفرطة تجاه الأنا، وعمي كامل تجاه الآخر، أن أعلن تبرؤي منكم ومن مواقفكم"

دردشة حول طوق الخطاب

منقول عن مدونة اللامنتمي

http://lamontami.com/?p=38#more-38 

 

طازج من المطبعة: “طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم” – كتاب لا ينصح مؤلفه بقراءته..

(الطوق يقبض معاني و يغرق معاني أخرى…)

الطوق مجموعة الأدوات والمفاهيم التي نطوق بها معنى النص..

DSCN9365

ذهبنا الليلة قبل البارحة للسحور مع الصديق علي الديري، فجاءنا حاملاً خبزاً طازجاً في يد ونسخاً من كتابه الطازج من المطبعة “طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم” في اليد الأخرى، فكانت لمدونتنا معه هذه الدردشة عن الكتاب بعد السحور.

هل تعطينا فكرة موجزة عن الكتاب؟

الكتاب يتناول قوانين تفسير الخطاب في علم الأصول و يتخذ ابن حزم نموذجاً من خلال كتابه “الإحكام في أصول الأحكام”. يحاول الكتاب أن يقف على الأدوات والمفاهيم والآليات التي يُطوّق من خلالها ابن حزم النص الديني. لذلك عنونت الكتاب بطوق الخطاب، لكل مدرسة تفسيرية أو تأويلية أو فقهية طوق خطاب، ترى فيه تميزها وجمالها، لكنها لا ترى فيه أيضا انغلاقها وموتها.

يبدو أن “الطوق” مستوحى من كلمة “الإحكام” في عنوان كتاب ابن حزم، لكن أليس تفسير النص هو في فتحه لا في تطويقه؟

عادة ما يستل العنوان من موضوع الدراسة نفسها، و كلمة “الإحكام” التي استخدمها ابن حزم في عنوان كتابه تنسجم تماماً مع عنوان البحث إذ إن الطوق يمارس إحكاماً على معنى النص و لا يتيح للمعاني أن تتكاثر و هو يحكمها لصالح معنى واحد، بينما التأويل يذهب نحو فتح النص على معانٍ كثيرة متعددة. ابن حزم هنا هو ضد التأويل والطوق هنا مهمته أن يحد من امكانية التأويل. طوق ابن حزم هنا يريد أن يحيط بمعاني النص فيجعل له تفسيراً وحيداً. الطوق يحمل معاني متناقضة، فهو يمكن أن يكون علامة جمال حين نراه في الحمامة ويمكن أن يكون علامة قبح حين نراه في معلقاً في رقبة حيوان يقاد عنوة. لذلك فالطوق يمكننا من نقبض على معاني وهذا هو سر جماله، لكنه يقيد هذه المعاني ويحبسها وهذا هو سر قبحه. من هنا لا أستطيع أن أقول إن طوق ابن حزم لخطاب القرآن والسنة يدل على انغلاقه وتشدده ورفضه للتأويل، وثم أحكم عليه على أنه يمثل الجانب المظلم من تراثنا، ذلك لأني أرى في طوق خطاب ابن حزم استنارة عقلية منفتحة على المنطق والعلوم والفلسفة وهي عقلانية معتدة بقدرتها على سبر معاني النصوص من غير أن تلزم نفسها بتقليد السلف ولا تقديسه.

DSCN9367

  1. هل تفيد قراءة الكتاب في فهم الطرق التي يؤول بها الفقهاء النص، على أساس أن قوانين تفسير الخطاب عند ابن حزم تعد تمثيلاً لقوانين أصول الفقه؟

من حيث الفائدة، أنا لا أنصح بقراءة الكتاب لمن لا يستطيع تحمل مشقة القراءة، لأن قراءته ستكون متعبة و هو كتاب غير مسل.

الكتاب هو لمن يبحث عن الطريقة التي يفهم من خلالها علماء الأصول – الذين هم الفقهاء أنفسهم – أحكام النصوص القرآنية و السنة النبوية والآليات التي يستخدمونها لاستخراج الأحكام الفقهية. هو لمن يريد أن يفهم آلية التعامل مع النصوص، فهؤلاء كانوا يبذلون ما في وسعهم من أجل فهم النصوص الدينية واستخراج أحكامها الفقهية، وقد اكتسب عملهم قداسة من الموضوع الذي يشتغلون عليه، وهو النص الديني، وليس من الأدوات التي يشتغلون بها (الطوق). من يريد أن يرى الجانب الدنيوي من عملهم يمكنهم أن يستفيد من هذا الكتاب، هنا نجد ابن حزم يدافع عن طوقه (الذي اصطلح على تسميته بالمدرسة الظاهرية) وقدرته على أن ينجينا عبر الظفر بالمعنى الصحيح لحكم النص الديني. طوق ابن حزم ممكن أن نستخدمه في قراءة الخطابات غير الدينية، وأنا أنوي أن أعد كتاباً تطبيقياً أوضح فيه كيف يمكننا أن نحلل الخطابات غير الدينية باعتماد هذا الطوق، بما هو مجموعة أدوات قرائية.

هل تناول باحثون آخرون القضية التي شرحتها في كتابك و هي الربط عند ابن حزم بين فهم الخطاب و فهم القضية المنطقية على أساس الاشتراك في البناء المنطقي في منهما؟

طبعاً تناول باحثون آخرون هذه القضية، و ابن حزم هو من أهم العلماء الذين اهتموا بالمنطق الأرسطي، و أعاد كتابة منطق أرسطو باللغة العربية وبالأمثلة الفقهية وسمى كتابه «التقريب لحدّ المنطق» وكان يعتبر أن الفقيه الذي لا يعرف المنطق الأرسطي لا يمكن الثقة في فهمه للنص الديني.

DSCN937222

أين ترى إسهام هذا الكتاب إذاً؟

يتمثل إسهام الكتاب في ربط أصول الفقه بعلم تحليل الخطاب، اي اعتبار أن أصول الفقه تندرج تحت مايعرف اليوم بعلم تحليل الخطاب، و هو علم عابر للتخصصات، كما أن علم أصول الفقه كان علماً عابراً للتخصصات.

لقد اعتبرت علم (أصول الفقه) القارئ الأكبر للشريعة، وهو المستثمرَ الأكثر للعلوم فهي تصبُّ فيه ثمارها، فتنصهر في علم واحد مركَّب من مجموعة علوم.

كان ابن حزم يمثل نموذجاً للعالم الذي تتقاطع فيه المعرفة المنطقية والبلاغية واللغوية والأصولية والبلاغية واللاهوتية (علم الملل والنحل).

انتهت الدردشة

مع الشكر الجزيل للصديق علي الديري على السحور والدردشة و الإهداء الجميل على غلاف الكتاب الطازج:

العزيز محمد

الطوق يقبض معاني و يغرق معاني أخرى…

مع محبتي المطوقة..

علي الديري

20/9/2007م